فصل: تفسير الآيات (11- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 14):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَ إلى الذين نافقوا} أي: ألم ترَ يا محمد، أو: يا مَن يسمع، إلى عبد الله بن أُبيّ وأشياعه؟ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين، من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة، بعد حكاية محاسن أقوال المؤمنين، وأحوالهم الحميدة، على اختلاف طبقاتهم. وقوله تعالى: {يقولون} استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو: لاستحضار صورته. واللام في قوله: {لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} للتبليغ، والمراد بالأخوة: أخوة الكفر، واللام في قوله: {لئن أُخرجتم} موطئة للقسم، و{لنَخَرُجَنَّ} جوابه، أي: والله لئن أُخرجتم من دياركم {لنَخْرُجَنَّ معكم}، رُوي أن ابن أُبي وأصحابه دسُّوا إلى بني النضير، حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، لا نخذلكم، ولئن أُخرجتم لنخرُجن معكم، {ولا نُطيعُ فيكم}؛ في قتالكم {أحداً أبداً}، يعني رسول الله والمسلمين، أو: لا نُطيع في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة أحداً، وإن طال الزمان، {وإن قُوتلتم لننصرنكم}، قال تعالى في تكذيبهم: {واللهُ يشهد إنهم لكاذبون} في مواعدهم المؤكدة بأيمانهم الفاجرة.
{لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قُوتلوا لا ينصرونهم}، وكان الأمر كذلك، فلم يقدر أحد أن يرفع رأسه لنصرتهم، ففيه معجزة واضحة، {ولئن نصروهم} على الفرض والتقدير، {ليُوَلُّنَّ الأدبارَ} فراراً {ثم لا يُنصرون} أبداً، إما المنافقون أو اليهود، أي: لا تكون لهم شوكة أبداً. وإنما قال: {ولئن نصروهم} بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم، أي: على الفرض والتقدير كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، والحق تعالى كما يعلم ما يكون، يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
{لأنتم أشدُّ رهبةً} أي: أشد مرهوبية، مصدر: رُهِبَ، المبني للمفعول، أي: أنتم أشد خوفاً {في صُدورهم من الله} دلالة على نفاقهم، يعني: إنهم يُظهرون لكم في العلانية خوفَ الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله، {ذلك} أي: ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله {بأنهم قوم لا يفقهون} شيئاً حتى يعلموا عظمة الله تعالى، فيخشوه حق خشيته.
{لا يُقاتلونكم} أي: اليهود والمنافقون، أي: لا يقدرون على قتالكم {جميعاً}؛ مجتمعين متفقين في موطن من المواطن، {إلاّ في قُرىً محصنةٍ}، بالدُّروب والخنادق، {أو مِن وراء جُدُر} دون أن يصحروا ويبارزوكم؛ لفرط رهبتهم. وقرأ المكي: {جدار} بالإفراد. {بأسُهم بينهم شديدٌ}، بيان لِما ذكر من أنَّ رهبتهم ليس لضعفهم وجُبنهم في أنفسهم، فإنّ بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفُهم وجبنهُم بالنسبة إليكم، بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب.
{تَحْسَبُهم} أي: المنافقين واليهود {جميعاً} أي: مجتمعين ذوي أُلفة واتحاد، {وقلوبُهم شَتَّى}؛ متفرقة لا أُلفة بينها.
قال ابن عطية: وهذه حالة الجماعة المتخاذلة. اهـ. يعني: أنّ بينهم إحناً وعداوات، فلا يتعاضدون حقَّ التناصر ولا ينصرون أبداً. قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب أصلِ كل فساد، وموجب كل تخاذل، واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمّة، والتساوي في القصد، يُوجب كلٍّ ظفرٍ وسعادة. اهـ. وما وصف به الحق تعالى المنافقين واليهود كله تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. {ذلك} التفرُّق {بأنهم قوم لا يعقلون} شيئاً، حتى يعرفوا الحق ويتبعوه، وتطئمن به قلوبهم، وتتحد كلمتهم، ويَرمُوا عن قوس واحدة، لكن لّمَّا جهلوا الحق تشتتت طُرُقهم، وتشتتت القلوب حسب تشتُّت الطُرق، وأما ما قيل من أنّ المعنى: لا يعقلون أنّ تشتيت القلوب مما يُوهن قلوبهم، فبعيد.
الإشارة: إذا حاصر المريدُ قريةَ القلب ليُخرج منها الأوصاف المذمومة لتتهيأ لسكنى سلطان المعرفة، تقول الحظوظ والأهوية المنافقة للنفس، وأوصافها اليهودية: لا تخرجوا، فنحن نُعاونكم، وفي نصرتكم، لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولا نُطيع فيكم أحداً أبداً، وإن قوتلتم بالمجاهدة والرياضة؛ لننصرنكم بالتخاذل والتثُّبط، والله يشهد أنهم لكاذبون؛ إذ لا قدرة لشيء إلاّ بإذن الله. {لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم...} الآية. لا يقاتلونكم جميعاً، أي: لا يجتمع جند الهوى النفس على قتالكم، إلاّ في قلوب غافلة شديدة العلائق والمساوي محصنة من دخول النور بأسوار الشواغل والعلائق أو: تُوَسْوِس من وراء جُدُر الإيمان وأما القلوب الفارغة من الشواغل المطهرة من المساوئ، فإنما يقاتلها البعض الباقي فيها. بأسهم بينهم شديد، أي: الحرب بينهم سجال، إذا غلب جند النفس استولت ظلماتها على الروح، وإذا غلب جند القلب والروح استولى النورُ على ظلمة النفس، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، أي: تظنون أنَّ مهاوي الهوى ومهاوي النفس واحدة وقلوبهم شتى فالأهواء مختلفة، والحظوظ متفاوتة، والمساوي متفرقة، فلكل شخص حظ، ولكل نفس هوى غير ما يشتهي الآخر، وذلك بأنهم قوم لا يعقلون، ولو عقلوا لاتفقت أهواؤهم في محبة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئتُ به».

.تفسير الآيات (15- 17):

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}
يقول الحق جلّ جلاله: مَثَلهم، أي: مثل اليهود في حلول البأس بهم {كَمَثَلِ الذين مِن قبلهم} وهم أهل بدر {قريبًا} أي: استقر مِن قبلهم زمنًا قريبًا، فكانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من بدر، كما صدر به البخاري عن الزهري. ثم قال: وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأُحد. اهـ. قلت: وهو الموافق لِما تقدم في صدر السورة، وهو المشهور، {ذاقوا وبالَ أمرِهم} أي: ذاقوا سوء عاقبة أمرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القتل في الدنيا، {ولهم} مع ذلك في الآخرة {عذابٌ أليمٌ}.
ومَثَل المنافقين {كَمَثَلِ الشيطانِ إِذ قال للإِنسان اكْفُرْ فلما كفر قال إِني بريء منك إِني أخاف اللهَ ربَّ العالمين} أي: مثل المنافقين في أغوائهم اليهود على القتال، ووعدهم إياهم النصر، ثم مشاركتهم لهم وخذلانهم كمثل الشيطان إذ استغوى الإنسان بكيده، ثم تبرّأ منه في العاقبة. وقيل: المراد: استغواؤه قريشًا يوم بدر، وقوله: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] إلى قوله: {إِنِّي برياء مِّنْكُمْ} [الأنفال: 48]. قال أبو السعود: وقد أجمل في النظم الكريم، حيث أسند كُلاًّ من الخبرين إلى المقدّر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه، ثقةً بأنّ السامع يَرُد كُلاًّ مِن المثالين إلى ما يُماثله، كأنه قيل: مَثَل اليهود في حلول العذاب، كمَثَل الذين من قبلهم... إلخ، ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما تقدّم عنهم كمثل الشيطان... الخ. اهـ. {فكان عَاقِبتهما} أي: عاقبة الإنسان الكافر والشيطان، {أنهما في النار خالِدَيْن فيها}، ف {عاقبتهما}: خبر كان، و{أنهما} اسمها، و{خالِدَين}: حال. {وذلك جزاءُ الظالمين} أي: الخلود في النار جزاء كل ظالم. وذكر الثعلبي هنا قصة برصيصا الراهب الطويلة، فانظرها فيه، ففيها عبرة، وقيل: فيه نزلت الآية.
الإشارة: مثل الأوصاف المذمومة حيث ترد عليها أنوار الشهود؛ كمثل كفار قريش حين استولت عليها الأنصار والمهاجرون، وأمدّهم الله بملائكة السماء، فهزموهم وقتلوهم، ودفنوهم في القليب، ومثل النفوس الأمّارة وجنودها، كمثل الشيطان يوسوس بالمعاصي، ثم يرجع، فكان عاقبتهما إذا أطاعه الإنسان أنهما في النار القطيعة خالدَين فيها، وذلك جزاء الظالمين لنفوسهم، حيث حرموها الوصول. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (18- 20):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في كل ما تأتون وتذرون، {ولتنظرْ نَفْس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي: أيّ شيء قدمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة. سمّاه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له، أو عبّر عن الآخرة بالغد، كأنّ الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد، وتنكيره لتفخيمه وتهويله، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لغاية عِظمه. وعن مالك بن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدّمنا، خسرنا ما خلفنا. {واتقوا اللهَ}، كرر تأكيدًا للأمر بالتقوى، أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل، وهذا في ترك المعاصي، كما يؤذن به الوعيد في قوله: {إِنَّ الله خبير بما تعملون} أي: من المعاصي.
{ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ} أي: نسوا حقوقه تعالى أو: تركوا ذكره، {فأنساهم أنفسهم}؛ فأهملهم ولم يذكرهم بتوفيقِ ولا هداية، أو: جعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلصها، أو: أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم، {أولئك هم الفاسقون}؛ الكاملون في الفسق.
{لا يستوي أصحابُ النار} الذي نسوا الله فاستحقُّوا الخلود في النار {وأصحابُ الجنة} الذين اتقوا الله، فاستحقُّوا الخلود في الجنة، {أصحابُ الجنة هم الفائزون}، وهذا تنبيه وإيقاظ وإيذان بأن غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم، على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لايعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبَوْن العظيم بين أصحابها، وأنَّ الفوز العظيم لأصحاب الجنة، والعذاب الأليم لأصحاب النار، فمِن حقهم أن يعلموا وينتبهوا له، كما تقول لمَن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة مَن لا يعرفه؛ لتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطُّف. واستدل بالآية على أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر، وأنَّ الكفار لا يملكون أموال المسلمين، ورُدَّ بأنَّ عدم الاستواء إنما هو في الأحوال الأخروية، لا الدنيوية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}، أن تشهدوا معه سواه {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} من المعرفة، فإنّ الشهود يوم القيامة على قدر المعرفة هنا، {واتقوا الله} فلا تؤثروا عليه سواه، {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي: ذكره والتوجه إليه، {فأنساهم أنفسهم} أي: غيّبهم عن إصلاحها وعلاجها، حتى ماتت في أودية الخواطر والشكوك، {أولئك هم الفاسقون} الخارجون عن الحضرة المقدسة.{لا يستوي أصحاب النار} أي: نار القطيعة والحجاب {وأصحاب الجنة} أي: جنة المعارف {أصحاب الجنة هم الفائزون} بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب.

.تفسير الآية رقم (21):

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لو أنزلنا هذا القرآن} العظيم الشأن، المنطوي على فنون القوارع، {على جبلٍ} من الجبال، مع كونه علَماً في القسوة وعدم التأثير بما يُصادمه، {لَرَأيته خاشعًا}؛ خاضعًا متصدِّعًا متشققًا {من خشية الله} أي: من شأن القرآن وعظمته أنه لو جُعل في الجبل تمييز، ونزل عليه، لخضع وتطأطأ وتشقق من خشية الله، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن، وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، كما ينطق به قوله تعالى: {وتلك الأمثالُ نضربها للناس لعلهم يتفكرون}، وهي إشارة إلى هذا المثل، وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل. والمراد: توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشُّعه عند تلاوة القرآن، وتدبُّر قوارعه وزواجره.
الإشارة: قال ابن عطاء: أشار إلى فضله على أوليائه وأهل معرفته، أنَّ شيئًا من الأشياء لا يقوم لصفاته، ولا يبقى مع تجلَّيه، إِلاّ مَن قوّاه الله على ذلك، وهو قلوب العارفين. اهـ. قلت: وهذا في تجلِّي الصفات، فما بالك بتجلِّي الذات؟! فلا يطيقه إلاّ قلوب الراسخين المقربين، وقال العارف الورتجبي: لو كانت الجبالُ مقامَ الإنسان في الخطاب لتدكدكت الجبال، وتذرّرت، وانفلتت الصخور الصم، وانهدمت الشامخات العاليات، في سطوات أنواره، وهجوم سنا أقداره، وذلك بأنها عرفت حقيقةً، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم حيث قال سبحانه: {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72]. قلت: وكأنه يُشير إلى أن تجلي صفة كلامه من جملة الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبيْنَ أن يحملنها، وهذه الأمانة هي تجلِّي الذات وتجلِّي الصفات، فلم يطق حملها إلاَّ الإنسان الكامل، وهو العارف الحقيقي، أما عن تجلِّي الذات فقد أشفقت مِن حمله السمواتُ والأرضُ والجبالُ، حسبما تقدّم. أما تجلِّي الصفات؛ فذكر هنا أنه لو تجلّت للجبل لخضع وتشقّق ولم يطق حملها، فلو زالت حُجب الغفلة عن القلوب لذابت من هيبة تجلِّي صفة كلامه وخطابه تعالى، إلاَّ أنَّ الله تعالى قَوَّى قلوب أوليائه حتى أطاقوا شهود ذاته، وسماع خطابه، بعد انقشاع الحُجب عن قلوبهم. ثم قال الورتجبي: ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أنَّ الجبال ليس لها عقل، فإِنَّ هناك أرواحًا وعقولاً لا يعلمها إلا الله {يَآجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ولو لا هناك ما يقبل الخطاب لما خاطبها، فإنَّ ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله، قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74] والخشية: مكان العلم بالله وبخطابه. اهـ. قلت: أسرار المعاني القائمة بالأواني سارية في الجمادات وغيرها، فهي عاقلة عالمة في باطن الأمر. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (22- 24):

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
يقول الحق جلّ جلاله: {هو اللهُ الذي لا إِله إِلاّ هو} وحده {عَالِمُ الغيبِ والشهادة} أي: ما غاب عن الحس من الأسرار القديمة، وما حضر له من الأجرام الحسية. قال الورتجبي: أي: عالم بالمعلومات الغيبية قبل وجودها، وبعد وجودها، لا يزيد علمه بالغيب علمه بالعلانية، لا علمه بالعلانية علمه بالغيب. اهـ. وتقديم الغيب على الشهادة لتقدُّمه في الوجود، وتعلُّق العلم القديم به، أو: المراد بالغيب: المعدوم، وبالشهادة: الموجود، أو السر والعلانية، {هو الرحمنُ الرحيم} أي: الرحمن بجلائل النِعم، والرحيم بدقائقها، أو: الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيم بنعمة الإمداد.
{هو اللهُ الذي لا إله إلاّ هو}، كرر لإبراز الاعتناء بأمر التوحيد، {الملكُ}؛ المتصرف بالإطلاق، الذي لا يزول مُلكه أبدًا، {القدوسُ}؛ البليغ في النزاهة عما لا يليق به. وقرئ بالفتح وهي لغة فيه، {السلام} ذو السلامة من كل نقص، أو: الذي يَسلم الخلق من ظلمه، أو: ذو السلام على أوليائه يوم القيامة، {المؤمنُ}؛ واهب الأمْن، أو: المؤمن مِن عذابه مَن أطاعه، أو المصدِّق لعباده إذا وحّدوه أو: المصدِّق للرسل بالمعجزات، {المهيمِنُ}؛ الرقيب الحافظ لكل شيء مُفَيْعِل، من: الأمن، بقلب همزته هاء، {العزيزُ}، الغالب الذي لا يُغلب، {الجبَّارُ} الذي جَبَرَ خلقه على ما أراد، أو: جبر أحوالهم، أي: أصلحها، {المتكبّر} الذي تكبّر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصًا، أو: البليغ الكبرياء والعظمة. {سبحان الله عما يشركون}، نزَّه ذاته عما يصفه به المشركون إثر تعداد صفاته التي لا يمكن أن يُشارَك في شيءٍ منها أصلاً.
{هو اللهُ الخالقُ}؛ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته، {البارئ}؛ الموجد لها بريةً من التفاوت؛ وقيل: المميِز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة، {المُصَوِّر}؛ الموجد لصورها وكيفيتها كما أراد. قال الغزالي: الخالق من حيث إنه مُقدِّر، البارئ من حيث إنه مُوجد، المصوِّر، مِن حيث أنه مُصَوِّر صور المخترعات أحسن ترتيب، ومُزيّنها أحسن تزيين. اهـ. قلت: وحاصل كلامه: أن الخالق يرجع للإرادة، والبارئ للقدرة، والمُصَوِّر للحكمة، والأحسن: أن يُقال: إنّ الخالق: المخترع للأشياء من غير أصل، البارئ: المهيئ كلَّ ممكن لقبول صورته، فهو من معنى الإرادة؛ إذ متعلّقه التخصيص، المُصَوِّر: المُعطي كل مخلوق ما هيئ له من صورة وجوده بحكمته، فهو معاني اسمه الحكيم.
{له الأسماءُ الحسنى} لدلالتها على المعاني الحسنة، وتقدم عدها في آخر الإسراء. {يُسبح له ما في السمواتِ والإرض}؛ ينطق بتنزيهه عن جميع النقائص تنزيهًا ظاهرًا، {وهو العزيزُ} لا يُغلب، {الحكيمُ} الذي لايمكن الاعتراض عليه في شيء من تقديراته. ختم السورة بما بدأ به من التسبيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سألت حبيبي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم؟ فقال: «عليك بآخر الحشر، فأَكْثِر قراءته»، فأعدتُ عليه، فأعاد عليّ فأعدت عليه، فأعاد عليّ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن قال حين يُصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السيمع العليم، من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّلَ اللهُ سبعين ألف ملك يُصلُّون عليه حتى يُمسي، فإذا مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومَن قالها حين يُمسي كان بتلك المنزلة» رواه الترمذي. وأسند ابن جزي حديثًا إلى عبد الله بن مسعود: أنه قال: قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال: «ضع يدك على رأسك» قلت: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: «أقرأني جبريلُ القرآنَ، فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال: ضع يدك على رأسك يا محمد، قلت: ولمَ ذاك؟ قال: إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه، فلما انتهى إلى آخر الحشر، أمر الملائكة أن تضع يدها على رؤوسها، فقالت: يا ربنا ولِمَ ذلك؟ قال: لأنه شفاء من كل داء إلا السام» وسمعتُ من شيخنا الفقيه الجنوي أنه حديث ضعيب، يعمل به الإنسان وحده، فإذا كان مع الناس تركه، لئلا تعتقد العامة أنه مندوب أو واجب. اهـ.
الإشارة: قد ذكرنا في تفسير الفاتحة الكبير كيفية التعلُّق والتخلُّق والتحقُّق بهذه الأسماء. وقال الورتجبي: بيّن بقوله: {الأسماء} أنَّ لذاته النعوت والأسامي القديمة المقدسة عن الإشراك والإدراك، فلما ظهر بهذه الأوصاف أظهر أنوار صفاته في الآيات، وألبس أرواح نوره الأرواح والأشباح والأعصار والأدهار والشواهد والحوادث فسبّحه الكلُّ بألسنة نورية غيبية صفاتية، لقوله: {يُسبح له...} الآية، قلت: أرواح نوره هي أسرار ذاته اللطيفة السارية في الأشباح والأرواح والجمادات وجميع الموجودات، التي بها قامت. قال: ثم بيّن أنه منزّه بتنزيهه عن تنزيههم وإدراكهم وعلمهم بقوله: {وهو العزيز الحكيم} العزيز عن الإدراك، الحكيم في إنشاء الأقدار. تعالى الله عما أشار إليه الواصف الحدثاني واللسان الإنساني. اهـ.