فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
قلت: {إذا جاءكم المؤمناتُ} إنما حُذفت تاء التأنيث للفصل بالمفعول، ورُدّ بأنّ الحذف مع الفصل بغير إلاّ مرجوح، والصواب: أنه على حذف الموصوف، أي: النساء المؤمنات، وهو اسم جمع، يجوز في الأمران، كقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ...} [يوسف: 30].
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ} أي: مُشْرِفات على الإيمان ونَطَقْن بالشهادة، وإنما ظهر بعد الامتحان، {مُهاجراتٍ} من بين الكفار، {فامْتَحِنُوهن}؛ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن. كان صلى الله عليه وسلم يستحلفهن: ما خرجن من بُغض زوْج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماسَ دُنيا، ولا عشقًا لرجل منا بل حبًّا لله ورسوله. وقد كان صلى الله عليه وسلم صالح أهلَ مكة على أنَّ مَنْ أسلم منهم يَرُده إليهم، فجاءت سُبيْعَةُ بنت الحارث مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب، فقال زوجها: اردد عليّ امرأتي، فنزلت، فاستحلفها صلى الله عليه وسلم بما تقدّم، فحلفت، فلم يردها عليه، وأعطى مهرها زوجَها، فتزوجها عمرُ، فكان صلى الله عليه وسلم يَرُد مَن جاء من الرجال، ولا يَرُد النساء. وعن ابن عباس: امتحانها: أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله.
{اللهُ أعلم بإِيمانهن}، لأنه المُطّلع على قلوبهن. وفيه إشارة إلى التخفيف في الامتحان، وأنه ليس المطلوب غايته لتصلوا إلى العلم، بل ما يحصل به الظن القوي، وأما العلم فخاص بالله تعالى. {فإِن عَلِمْتُموهن مؤمناتٍ}، العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن القوي، بظهور الأمارات. وتسمية الظن علمًا يُؤذن بأنَّ الظن الغالب، وما يفضي إليه القياس، جارٍ مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله: {وَلآ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ} [الإسراء: 36]. قاله النسفي. {فلا تَرْجِعُوهنَّ إِلى الكفار} أي: إلى أزواجهن الكفرة، {لا هُنَّ حِلٌّ لهم ولا هم يَحِلُّونَ لهن}، تعليل للنهي أي: حيث خرجت مسلمة حَرُمت على المشرك. والتكرير إما لتأكيد الحرمة، أو الأول: لبيان زوال النكاح الأول، والثاني: لبيان امتناع النكاح الجديد، ما دام مشركاً، فإنْ أسلم في عِدتها كان أولى بها.
{وآتوهم ما أنفقوا} أي: أعطوا أزواجَهن مثلَ ما دفعوا من المهور، {ولا جُناحَ عليكم أن تَنكحوهن}، فإنَّ إسلامهن حالَ بينهن وبين أزواجهن الكفار، {إِذا آتيتموهن أُجورهنَّ}؛ مهورهن؛ لأنّ المهر أجر البُضْع، وبه احتجّ أبو حنيفة على ألاّ عِدَّة على المهاجِرة. قال الكواشي: أباح تعالى نكاحهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب؛ لأنَّ الإسلام فرّق بينهن وبين أزواجهن بعد انقضاء العدة، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي امرأته عند مالك والشافعي وأحمد، خلافًاً لأبي حنيفة في غير الحامل. اهـ. {ولا تُمسكوا بِعِصَم الكوافرٍ}، العصمة: ما يعتصم به من عقدٍ وسبب.
والكوافر: جمع كافرة، وهي التي بقيت في دار الحرب أو: لحقت بدار الحرب مرتدةً، أي: لا يكن بينكم وبين النساء الكوافر عصمة ولا عُلقة زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنه: مَن كانت له امراة كافرة بمكة فلا يعتَدنَّ بها من نسائه؛ لأنَّ اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. ولمّا نزلت الآية طلَّق عمرُ رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة، قُرَيْبَة بنت أبي أمية، وأم كلثوم الخزاعية.
{واسألوا ما أنفقتم} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار، أي: اطلبوه من الكفرة، {وَلْيَسْألوا ما أنفقوا} من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا. {ذلكم حُكْمُ الله} أي: جميع ما ذكر في هذا الآية. وقوله: {يحكم بينكم}: كلام مستأنف أو: حال من {حُكم الله} على حذف الضمير، أي: يحكمه الله، وجعل الحُكْم حاكماً على المبالغة وقال: {يحكم} مستقبلاً، مع أن الحكم ماضٍ باعتبار ظهور متعلقة {واللهُ عليم حكيمٌ} يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة.
رُوي أنه لمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أُمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن من المشركين، وأبى المشركون أن يردُّوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله تعالى: {وإن فاتكم} أي: سبقكم وانفلت منكم {شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار} أي: أحَدٌ من أزواجكم، وقرئ به. وإيقاع {شيء} موقعه للتحقير والتعميم، {فعاقبتم}، من المعاقبة، لا من العقوبة، أي: صرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجهم، شبّه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء هؤلاء مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. {فآتوا الذين ذهبتْ أزواجُهم} منكم إلى الكفار {مثلَ ما أنفقوا}، تُعطوه من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تؤتوا زوجها الكافر شيئًا، أي: ما كنتم تُعطونه للكفار من مهور أزواجهم المهاجرات أعطوه لمَن فاتت زوجته ولحقت بالكفار، فأزال الله دفعها إليهم، حين لم يرضوا بحُكمه، على أنّ هذا حكم قد نُسخ. قال ابن عطية: وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها. اهـ. وذكر الكواشي الخلاف في النسخ وعدمه، وأنَّ رد المال مستمر، وذكر الخلاف في أنَّ الإنفاق كان على الوجوب أو الندب. اهـ.
وقيل: معنى {فعاقبتم} من العقوبة، أي: فأصبتموهم في القتال، حتى غنمتم، فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم، ولحقْن بدار الحرب مهورَ زوجاتهم من هذه الغنيمة. قال ابن عباس: خمس نسوة رجعن عن الإسلام، ولحقن بالمشركين، من نساء المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت عند عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية، أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، وعزةُ بنت عبد العزى، كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر أيضًا، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. اهـ.
{واتقوا اللهَ الذي أنتم به مؤمنون} أي: احذروا أن تتعدُّوا ما أُمرتم به؛ فإن الإيمان يقتضي فعل ما أمر به صاحبه.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص، وهم المشايخ العارفون؛ إذا جاءكم النفوس المؤمنه بطريقكم، وأرادوا الانخراط في سلككم، فامتحنونهن هل هي صادقة الطلب، أو تريد حرفًا من حروف الهوى، فإن علمتم صدقهن، فلا تردجعوهن إلى أهل الغفلة، سيما أهل الإنكار؛ إذ لا يحل مخالطتهم في طريق الخصوص، وآتوهم من العلوم والمعارف عِوض ما أنفقوا من أنفسهم وأموالهم، ولاجناح عليكم أن تعقدوا عليهم عقدة الإرادة، التي هي كعقدة النكاح إذا آتيتموهن أجورهن، وهو أن تبذلوا لهم ما عندكم من السر، قدر ما يطيقون، ومن نقض العهد ورجع عن الإرادة فلا تُمسكوا بعصمته، وأطلقوه مع نفسه، فإن سألكم شيئًا مما كان بذل فسلوه عوض ما بذلتم له من العلم، وإن رجع أحد منكم إلى أهل الإنكار، ثم جاء أحد منهم إليكم فآتوه من العلم ما آتيتم مَن فرّ منكم، واتقوا الله الذي توجهتم إليه، فلا تُعطوا السر مَن لا يستحقه، ولا تمنعوه من مستحقه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

.تفسير الآية رقم (12):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبي إِذا جاءك المؤمناتُ} حال كونهن {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُن}، يريد: وأد البنات، {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}، كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنَّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلد منه بين الرِجلْين. {ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ} أي: فيما تأمرهن من معروف، وتنهاهن عن منكر. والتعبير بالمعروف مع أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلاّ به؛ للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن؛ لكثرة وقوعها فيهن. {فبايعْهُنَّ} على ما ذكر وما لم يذكر؛ لوضوح أمره، {واسْتَغفِرْ لهنَّ اللهَ} فيما مضى، {إِنَّ الله غفور رحيمٌ} أي: مبالغ في المغفرة والرحمة، فيغفر لهن ويرحمهن إذا وَفَّيْن بما بايعن عليه.
رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعُمرُ قاعد أسفل منه، يُبايعهنّ عنه بأمره، وهند بنت عتبة امراة أبي سفيان متقنّعه متنكّرة مع النساء، خوفًا من النبي صلى الله عليه سلم أن يعرفها، فقال صلى الله عليه وسلم: «أبايعكن على ألا تُشركن بالله شيئًا» فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا شيئًا ما رأيتك أخذته على الرجال لأنه عليه السلام بايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تسرقن» فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصَبتُ منم ماله هَنَاتٍ، فقال أبو سفيان: هو لك حلال، فقال: «ولا تزنين» فقالت هند: أَوَتزني الحُرّة؟ فقال: «ولا تقتلن أولادكنّ»، فقالت هند: رَبيناهم صغارًا وقتلتموهم كبارًا، وكان ابنها قُتل يوم بدر، فقال: «ولا تأتين ببهتان...» إلخ، فقالت هند: والله إنّ البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق! فقال: «ولا تعصين في معروف» فقالت: وما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسان أن نعصيك في شيء، فأقرّ النسوةُ بما أخذ عليهن.
وقالت أميمة: يا رسول الله، صافحْنا؟ فقال: «إني لا أُصافح النساء، إنما قَوْلي لامرأة كقولي لمائة امرأة»، قالت عائشة: ما مست يدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأةٍ قط، إنما بايعهن كلامًا، وقيل: لفّ على يده ثوبًا، وقيل: غمس يده في قدح، فغمسْن أيديهن فيه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الشيخ في قومه كالنبي في أمته، فيُقال له: إذا جاءك النفوسُ المؤمنةُ يُبايعنك على ألا ترى مع الله شيئاً، ولا تميل إلى الدنيا، ولا إلى الهوى، ولا تهمل ما تنتج أفكارُها من الواردات، ولا تأتي ببهتان تفتريه؛ بأن تنسب فعلاً إلى غير الله، أو بأن تكذب في أحوالها وأقوالها، ولا تعصي فيما تأمرها وتنهاها، فإن جاءت على ما ذكر فبايعها واستغفِر لها الله فيما فرّطت فيه، إنّ الله غفور رحيم.

.تفسير الآية رقم (13):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تَتَولوا قومًا غَضِبَ اللهُ عليهم}، وهم اليهود. رُوِي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين، كانوا يُواصلون اليهود، ليُصيبوا من ثمارهم. وقيل: عامة الكفرة؛ إذ كلهم في الغضب. قال ابن عرفة: كيف نهى عن مطلق الموالاة بعد قوله: {لا ينهاكم الله...} الآية؟ قلنا: المراد بتلك المسالمة والمتاركة، لا الموالاة. اهـ.
{قد يَئِسُوا من الآخرة} أي: مِن ثوابها؛ لعلمهم بأنهم لا خلاق لهم فيها، لِعنادهم الرسول المنعوت في التوراة، المؤيَّد بالمعجزات، أو: لفعلهم فعل مَن يئس مِن الآخرة، فحالهم حال اليائس، وإذا قلنا: هم الكفرة فيأسهم ظاهر، لإنكارهم البعث. والأول أظهر؛ لقوله؛ {كما يئس الكفارُ} أي: المشركون {من أصحاب القبور} أن يرجعوا إليهم. أو: كما يئس منها الذين ماتوا منهم؛ لأنهم وقفوا على حقيقة الحال، وشاهدوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وابتلاءهم بعذابها الأليم. والمراد: وصفهم بكمال اليأس منها، وقيل: المعنى: كما يئسوا من موتاهم أن يُبعثوا أو يرجعوا أحياء. وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بعلّة يأسهم، وهو الكفر. قال ابن عرفة: إنْ أُريد المشركون فهم يئسوا منها حقيقة، أي: مِن وجودها، وإنْ أُريد اليهود، فهم يئسوا من نعيمها. فأن قلت: كيف وهم يزعمون أنّ نعيمها خاص بهم؟ قُلتُ: كفرهم عناد. وإسناد الإياس إليهم مجاز، فإذا أراد اليهود، فيكون التشبيه بالكفار حقيقة، وإنْ أُريد العموم فالتشبيه باعتبار اختلاف الصفة والحال، كقولك: هذا بسْراً أطيب منه رطباً. أي: كما يئسوا من أصحاب القبور أن يرجعوا إلى الدنيا، أو يتنعّموا بالجنة. اهـ. وعلى كل حالٍ، فقد ختم السورة بما افتتحها به، تأكيداً لِما نهى عنه.
الإشارة: قد تقدّم مراراً النهي عن مخالطة العامة للمريد، حتى يتمكن من الشهود، فيفعل ما يشاء. وكل مَن حُجب عن الله فله قسط من الغضب، وكل مَن لم يتزوّد للآخرة التزوُّد الكامل، فقد نسيها نسيان اليائس. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

.سورة الصف:

.تفسير الآيات (1- 4):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
يقول الحق جلّ جلاله: {سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم}. ولمَّا قال بعضُ الصحابة: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبذلنا في أموالنا، فنزلت أية الجهاد، فتباطأ بعضُهم، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون}. وقيل: لمَّا أخبر الله بثواب شهداء بدر، فقالوا: والله لئن شَهِدنا قتالاً لنُفْرِغَنَّ فيه وُسْعَنا، ففرُّوا يوم أُحُد فنزلت. وقيل: نزلت فيمن يمدح كذباً، حيث كان يقول: قتلتُ، ولم يقتل، وطعنتُ، ولم يطعن، وقيل: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكأ فيهم، فقتله صُهيب، وانتحل قتله آخر، فنزلت في المنتحِل. أي: لأيّ شيء تقولونه من الخير والمعروف، على أنّ مدار التوبيخ إنما هو عدم فعلهم، وإنما وجّه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعيف معصيتهم، لبيان أنَّ المنكَر ليس ترك الخير الموعود فقط، بل الوعد به أيضاً، وقد كانوا يحسبونه معروفاً، ولو قيل: لِمَ لا تفعلون ما تقولون، لفُهم منه أنّ المنكَر إنما هو ترك المفعول.
{كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}، هو بيان لغاية قُبح ما فعلوا، وفرط سماحته، و{كَبُرَ} جارية مجرى نعم، بزيادة معنى التعجُّب، ومعنى التعجُّب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأنّ التعجُّب لا يكون إلاّ مِن شيءٍ خارج عن نظائره، وفي {كَبُرَ} ضمير مبهَم مفسَّر بالنكرة بعده، و{أن تقولوا} هو المخصوص بالذم، وقيل: قصد فيه التعجُّب من غير لفظه، وأُسند إلى {إن تقولوا}، ونصب {مقتاً} على تفسيره، دلالةً على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقتٌ خالص لا شوب فيه، كأنه قيل: ما أكبر مقتاً قولهم بلا عمل.
ثم بيَّن ما هو مَرْضِي عنده، بعد بيان ما هو ممقوت بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحب الذين يُقاتِلون في سبيله}، وهو المقصود بالذات من السورة؛ وقوله: {صفًّا} أي: صافِّين أنفسهم، أو مصفوفين، مصدر وقع موقع الحال، {كأنهم بُنيان مرصُوص}؛ لاصق بعضه ببعض، وقيل: أريد: استواء نيّاتهم في حرب عدوّهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض، وهو حالٌ أيضاً، أي: مشبّهين بالبنيان الملاصق. قال ابن عرفة: التشبيه في الثبات وعدم الفرار كثبوت البناء ولزومه. اهـ.
الإشارة: {سَبَّحَ لله}، قال الورتجبي: لمَّا عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله، فوجدوا في نفوسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله، فقدَّسُوه أنه باين بوجوده من الحدثان. اهـ. قوله تعالى: {كَبُرَ مقتًا}... إلخ، قال القشيري: خُلفُ الوعد مع كلِّ أحدٍ قبيحٌ، ومع الله أقبح، ويُقال: إظهارُ التجلُّدِ من غير شهودِ مواضعَ الفقر إلى الحقِّ في كل نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء مع ما حصل به الدعوى، واللهُ يحب التبرِّي من الحول والقوة.
ويقال: لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا، بقوله: {كَبُرَ مقتًا عند الله}. اهـ. ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير، وآثروا السكوت، كما قال بعضهم:
لو كان ينفعني وعظي وعظتُكم ** أنا الغريق فما خوفي مِن البلل

قال أبو زيد الثعالبي: وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت. قال الباجي في سنن الصالحين، عن الأصمعي: بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول: إني لأعظكم، وإني لكبير الذنوب، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير، واقتُصر على الشر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير مِن النسيان. وقال أبو حازم: إني لأعظ الناسَ، وما أنا بموضع الوعظ، ولكن أُريد به نفسي. اهـ. قلت: وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر: نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا. اهـ.
ثم قال: وقال الحسن لِمطرف: عِظ أصحابك، فقال: أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل، فقال: يرحمك الله، وأيّنا يفعل ما يقول، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر. اهـ. وفي حديث الجامع: «مُروا بالمعروف وإنْ لم تَفعلُوه، وانْهَوْا عن المنكرِ وإن لم تَتجنبُوه» وقال الغزالي: مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص. اهـ. قلت: ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل القلوب، أشد تأثيراً من غيرهم، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان، وفي الحِكَم: (تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير). فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا، وربما انتفع الناسُ بصمتهم، كما ينتفعون بكلامهم، وأمّا أهل الظُلمة وهو مَن في قلبه حُب الدنيا فكلامهم قليل الجدوى، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين، فلا ينتفع إلاّ القليل.