فصل: تفسير الآيات (5- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 9):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة، بقوله: {ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة} [المائدة: 21] الآية، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عِصيان، حيث قالوا: {ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ...} [المائدة: 22] الآية، إلى أن قالوا: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ...} [المائدة: 24] الآية. وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال: {يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم}، فالجملة: حال، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً، مستمراً، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة، أني رسولُ الله إليكم، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي، وتُسارعوا إلى طاعتي، {فلما زاغوا} أي: أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به، واستمروا عليه {أزاغ اللهُ قلوبَهم}؛ صرفها عن قبول الحق، والميل إلى الصواب، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال، {واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين} أي: لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرِّين على الغواية، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب، والمراد بهم المذكورون خاصة، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أو جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} [المائدة: 25]، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. انظر أبا السعود.
{وإِذ قال عيسى ابنُ مريم يا بني إِسرائيلَ}، لم يقل: يا قوم، كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم من جهة الأب حتى يكونوا مِن قومه: {إِني رسولُ الله إِليكم}، كان رسولاً لهم ولمَن دخل معهم، كالنصارى، {مُصَدِّقًا لما بين يديَّ مِن التوراة}، وهو من إحدى الدواعي إلى تصديقهم إياه، {ومُبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي}، وهو من الدواعي أيضاً إلى تصديقه؛ لأنَّ بشارته به عليه السلام واقعة في التوراة، أي: أُرسلت إليكم في حال تصديقي للتوراة، وفي حال بشارتي برسول يأتي من بعدي، يعني: أنَّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه، مَن تقدّم ومَن تأخّر، وهذا الرسول {اسمُه أحمدُ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القشيري: كل نبيًّ بشّر قومَه بنبيِّنا صلى الله وعليه وسلم، وأفرد اللهُ عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه أخِرُ نبيِّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فبيّن أنّ البشارة به عَمَّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحدٍ حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام. اهـ. قال الكواشي: وأحمد بناء مبالغة، والمعنى: أنَّ الأنبياء كلهم حمّادون الله، وهو أكثر حمداً مِن غيره، وكلهم محمودون لِما فيهم جميل الأخلاق، وهو أكثرهم خِلالاً حميدة. ثم قال: وعن كعب: قال الحواريون: يا روح الله؛ هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد، حكماء، علماء، أبراراً، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى باليسير من العمل. اهـ.
وقال السهيلي: في اسمه أحمد ومحمد إشارة إلى كونه خاتماً؛ لأنَّ الحمد مشروع عند انقضاء الأمور واختتامها وتمامها. اهـ.
{فلما جاءَهم} أيك عيسى، أو محمد عليهما السلام {بالبيناتِ}؛ المعجزات الظاهرة، {قالوا هذا سِحرٌ مبين}؛ ظاهر سحريته، وقرأ الإخوان {ساحر} وصف للرسول.
{ومَن أظلمُ ممن افترى على الله الكذبَ وهو يُدْعَى إِلى الإِسلام} أي: أيّ الناس أشد ظلماً ممن يُدْعى إلى سعادة الدارين، فيضع موضع الإجابة الافتراءَ على الله عزّ وجل، بقوله لكلامه الذي دعا عباده إلى الحق: هذا سحر؟ أي: هو أظلم من كل ظالم، {واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين} أي: لا يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم؛ لعدم توجههم إليه. {يُريدون لِيُطفئوا نورَ الله بإفواههم} أي: دينه أو: كتابه، أو حجته النيِّرة، واللام مزيدة، أي: يُريدون إطفاءَ نور الله، أو للتعليل والمفعول محذوف، أي: يريدون الكذب ليُطفئوا نورَ الله، وهو تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام، بقولهم في القرآن: هذا سحر، مُثِّلت حالهم بحال مَن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، {والله مُتِم نُوره} أي: مبلغه إلى غاية يُنشره في الآفاق، ويُعليه على الأديان {ولو كَرِه الكافرون}.
{هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى}؛ بالقرآن، أو بالمعجزات، أو بالهداية {ودين الحق}؛ الملة الحنيفية {ليُظهره على الدين كلِّه} أي: ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عزّ وعلا وعده، حيث جعله بحيث لم يبقَ دين من الأديان إلاَّ وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد: إذا نزل عيسى لم يكن إلا دين الإسلام. اهـ. {ولو كَرِه المشركون} ذلك، قال الطيبي: قوله تعالى: {ومَن أظلم...} إلخ، حذَّر تعالى مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب، والحرمان من التوفيق، بسبب الأذى، وما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات من تكذيبه وقولهم فيه: {هذا سحر مبين}، ألاَ ترى كيف جمع الكل في قوله: {ومن أظلم...} الآية، قال: وقضية الدعوة إلى الإسلام توقير مَن يدعو إليه، وإجابة دعوته. ثم قال: وأمّا قوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين} هو تذييل لقوله: {ومَن أظلم ممن أفترى...} الآية؛ لأنّ الظلم هو: وضع الشيء في غير محله، وأيُّ ظلم أعظم من جعل إجابة الداعي إلى الله مفترياً؟! والكفر: التغطية ومحاولة إطفاء النور إخفاء وتغطية، ودين الحق هو التوحيد، والشركُ يقابله، ولذلك قال: {ولو كره المشركون}. اهـ.
الإشارة: سوء الأدب مع الأكابر، وإذايتهم، سبب كل طرد وبُعد، وسبب كلّ ذُل وهوان، وحسن الأدب معهم وتعظيمهم، سبب كُلِّ تقريب واصطفاء، وسبب كُلِّ عز ونصر، ولذلك قال الصوفية: اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقًا. ألآ ترى بنى إسرائيل حين أساؤوا الأدب مع نبي الله موسى بقولهم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلآ...} [المائدة: 24] إلخ كيف أذلَّهم الله وأخزاهم إلى يوم القيامة، وانظر أصحابَ نبينا صلى الله عليه وسلم حيث تأدّبوا غاية الأدب، وقالوا يوم بدر: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك، ولكن اذهب أنت وربك ونحن معك، والله لو خُضت بنا ضحضاح البحر لخضناه معك كيف أعزَّهم الله ونصرهم على سائر الأديان، ببركة حُسن أدبهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

.تفسير الآيات (10- 14):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنجِيكم من عذابٍ أليم}، وكأنهم قالوا: وما هذه التجارة، أو: ماذا نصنع؟ فقال: {تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم}، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: وجاهِدوا، وجيء به بصيغة الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقرئ {تؤمنوا} و{تجاهدوا} على إضمار لام الأمر. {ذلكم خير لكم}، الإشارة إلى الإيمان والجهاد بقِسْميه، أي: هو خير لكم من أموالكم وأنفسكم {إن كنتم تعلمون} أنه خير لكم، وقد قلتم: لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لسارعنا، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله، أو: إن كنتم من أهل العلم؛ فإنَّ الجهلة لا يعتد بأفعالهم.
{يَغفر لكم ذنوبكم}: جواب للأمر المدلول بلفظ الخبر، على قول، أو شرط مقدّر، أي: إن تُؤمنوا وتُجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم {ويُدْخِلْكم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً} ولا تطيب إلاّ بشهود الحبيب {في جناتِ عَدْن} أي: إقامة لا انتقال عنها. وجنة عدن هي مدينة الجنة ووسطها، يسكنها الصالحون الأبرار من العلماء والشهداء، وفوقها الفردوس، هي مسكن الأنبياء والصدِّيقين من المقربين، هذا هو المشهور، كما في الصحيح، {ذلك الفوزُ العظيمُ} أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز وراءه.
{وأُخرى} أي: ولكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمةٌُ أخرى عاجلة {تُحبونها} وترغبون فيها، وفيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل. ثم فسَّرها بقوله: {نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ} أي: عاجِل، وهو فتح مكة، والنصر على قريش، أو فتح فارس والروم، أو: هل أَدُلكم على تجارةٍ تُنجيكم، وعلى تجارةٍ تُحبونها، وهي نصر وفتح قريب، {وبَشِّر المؤمنين}: عطف على {تؤمنوا} لأنه في معنى الأمر كأنه قيل لهم: آمنوا وجاهِدوا يُثبكم الله وينصركم وبشر أيها الرسول بذلك المؤمنين.
{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله} أي: أنصار دينه {كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحواريين مَنْ أنصاري إِلى الله}؟ أي: مَن يكون مِن جندي ومختصاً بي، متوجهاً إلى الله. ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى: {مَن أنصاري إلى الله} ولكنه محمول على المعنى، أي: كونوا أنصارَ الله، كما كان الحواريون أنصارَ عيسى، حينما قال لهم: مَن أنصاري إلى الله؟ {قال الحواريون نحن أنصارُ الله} أي: نحن الذين ينصرون دينه، والحواريون: أصفياؤه، وهم أول مَن آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً. وحواري الرجل: صفوته وخاصته من الحَور، وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصّارين يُحوِّرون الثياب، أي: يُبيّضونها، وقيل: إنما سُمُّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون النفوس بإقامتهم الدين والعلم، ولمَّا كفرت اليهود بعيسى عليه السلام، وهَمُّوا بقتله، فرَّ مع الحواريين إلى النصارى بقرية يُقال لها: نصرى، فنصوره، فقاتل اليهودَ بهم مع الحواريين، وهذا معنى قوله تعالى: {فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ} به، فقاتلوهم {فإيَّدنا الذين آمنوا} بعيسى عليه السلام {على عدوهم} أي: قوّيناهم {فأصبحوا ظاهِرين}؛ غالبين عليهم.
الإشارة: هل أّدلُكم على تجارةٍ، وهي سلوك طريق التربية، على أيدي الرجال، تُنجيكم من عذاب أليم، وهو غم الحجاب على الدوام؛ تؤمنون بالله ورسوله أولاً، وتجاهدون هواكم وسائرَ العلائق بأموالكم وأنفسكم ثانياً فالأموال تدفعونها لمن يدلكم على ربكم، والأنفس تُقدمونها لمَن يُربيكم، يَتحكم فيها بما يشاء {في سبيل الله} في الطريق الموصلة إلى حضرته، {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي: إن كان لكم علم وعقل، فهذا خير لكم، يغفر لكم ذنوبكم، أي: يُغطي مساوئكم، فيُغطي وصفكم بصوفه، ونعتكم بنعته، فيُوصلكم بما منه إليكم، لا بما منكم إليه، ويُدخلكم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، ومساكن طيبة هي السكنى والأطمئنان في مقامات اليقين، مع شهود رب العالمين، أو روح الرضا وريحان التسليم، أو الإقامة في حضرة القدس، مع التنزُّه في المقامات، في جنات عدن، وهي الرسوخ والإقامة في جنات المعارف ذلك الفوز العظيم.
{وأُخرى تحبونها} عاجلة، {نصر من الله}: عِزٌّ دائم، {وفتح قريب} هو دخول بلاد المعاني. وقال القشيري: الفتح القريب: الرؤية والزلفة، ويقال: الشهود، ويقال: الوجود أبد الأبد. اهـ. {وبَشِّر} بأنهم ظافرون بهذا، إن فعلوا ما أُمروا به. وقال الورتجبي: نصر الله: تأييده الأزلي، الذي سبق للعارفين والموحِّدين، والفتح القريب: كشف نقابه وفتح أبواب وِصاله، بنصره ظهروا على نفوسهم، فقهروها وبفتحه أبواب الغيب شاهَدوا كل مغيب مستور من أحكام الربوبية وأنوار الألوهية. اهـ. وباقي الآية يُرغب في القيام في نصر الدين، وإرشاد العباد إلى الله، حتى تظهر أنوار الدين، وتخمد ظلمة المعاصي والبِدَع من أقطار البلاد، وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.

.سورة الجمعة:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يُسَبِّحُ لله ما في السموات وما في الأرض}، وهذا التسبيح إمّا أن يكون: تسبيح خِلقة، يعني: أنك إذا نظرت إلى شيء دلتك خِلقتُه على وحدانيته تعالى، وتنزيهِه عما لا يليق به، وإمّا أن يكون تسبيح معرفة؛ بأن يخلق في كل شيء ما يعرفه به تعالى وينزّهه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِحُ بحَمدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُون تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، أو: تسبيح ضرورة، بأن يُجري اللهُ التسبيحَ على كل جوهر من غير معرفةٍ له بذلك. قاله النسفي.
{الملكِ القُدُّسِ} أي: المنزَّه عما لا يليق به من الكمالات. ولا يُقال: المنزّه عن النقائص؛ إذ لا يصح اتصافه بها حتى تُنفى عنه، وربما يكون نقصاً في حقه، كما يُقال: الملِك ليس بجزار. {العزيزِ الحكيمِ} وقرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح.
{هو الذي بَعَثَ في الأميين رسولاً منهم} أي: بعث رجلاً أُميًّا في قوم أميين، وقيل: {منهم}: من أنفسهم، يعلمون نَسَبه وأحواله وصِدْقَه. والأُمي: منسوب إلى أميّة العرب؛ لأنهم لايقرؤون ولا يكتبون من بين الأمم. قيل. بُدئت الكتابة في العرب بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. {يتلو عليهم آياته}؛ القرآن {ويُزكِّيهم}؛ يطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية، {ويُعَلّمهم الكتابَ}؛ القرآن {والحكمةَ}؛ السُنَّة، أو الفقه في الدين، أو إتقان العلم والعمل، {وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين}؛ كفر وجهالة. و{إن} مخففة، أي: وإن الشأن كانوا في ضلال فظيع، وهو بيان لشدة افتقارهم لمَن يرشدهم، وإزاحة لِمَا عسى أن يتوهم مِن تعلُّمه صلى الله عليه وسلم مِن الغير؛ إذ كلهم كانوا مغروقين في الجهل والضلال، ليس فيهم مَن يعلم شيئاً.
{وآخرين منهم}: عطف على {الأميين} أي: بعث في الأميين، الذين في عصره، وفي آخرين من الأميين {لَمَّا يلحقوا بهم} أي: لم يلحقوا بهم بعدُ، وسيلحقون، وهم الذين يأتون بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل: هم العجم، أي: وآخرين من جنسهم، وقيل: عطف على {يُعلّمهم} أي: يُعلّم أخرين منهم، وعلى كلِّ فدعوته صلى الله عليه وسلم عامة. {وهو العزيزُ الحكيم}؛ المبالغ في العزة والحكمة، ولذلك مكَّن رجلاً أميًّا من ذلك الأمر العظيم، واصطفاه من بين كافة البشر.
{ذلك} الذي امتاز به محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر البشر {فضلُ الله} وإحسانه، أو: ذلك التوفيق حتى يؤمنوا من فضل الله، لا باستحقاق، أو الاعتناء بالبعث وعدم الإهمال، مع ما حصل منه من النتائج المذكورة، فضل من الله، وقطع الأسباب في الجملة في استحقاق الفضل؛ إذ علقه بالمشيئة في قوله: {يؤتيه مَن يشاء} تفضُّلاً وعطية، {والله ذو الفضل العظيم} الذي يُستحقر دونه نِعم الدنيا والآخرة.
الإشارة: كل مَن لم يعرف الله معرفةَ العيان، فهو من الأميين، فكما مَنَّ الله تعالى على عباده ببعثه الرسول، بعد أن كانوا في ضلالٍ مبين، كذلك مَنَّ على أمته بعده، فبَعَثَ مشايخَ التربية يتلو عليهم آياته الدالة على شهوده وظهوره، ويزكيهم من الرذائل التي تحجبهم عن الله، ويُعلّمهم أسرارَ الكتاب، وأسرارَ الحكمة، وهي الشريعة، إذ لا يوقف على أسرارهما إلاّ بعد تطهير القلوب، وتزكية النفوس، وإن كانوا من قبل ملاقاة المشايخ لفي ضلال مبين، حائدين عن طريق الشهود، وبعث أيضاً في آخرين منهم من يُذكِّرهم ويُعرفهم بالله، وهكذا لا ينقطع الداعي إلى يوم القيامة، لكن لا يصل إليه إلاّ مَن أراد الله أن يوصله إليه، ولذلك قال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء...} الآية.