فصل: تفسير الآيات (25- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 30):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويقولون} مِن فرط عتوهم وعنادهم استهزاءً: {متى هذا الوعدُ} أي: الحشر الموعود {إن كنتم صادقين} فيما تعدونه من مجيء الساعة؟ والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المشاركين له عليه السلام في الوعد، وتلاوة الآيات المتضمنة له، وجواب الشرط: محذوف، أي: إن صدقتم فيه فبيَّنوا وقته؟ {قل إِنما العلمُ} أي: العلم بوقته {عند الله} تعالى، لا يطلع عليه غيره {وإِنما أنا نذير مبينٌ} أُنذركم وقوع الموعود لا محالة، وأمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار.
{فلما رَأَوه} أي: العذاب الموعود. والفاء فصيحة مُعربة عن تقدير جملة، كأنه قيل: قد أتاهم الموعود فلما رأوه... إلخ، نزّل ما سيقع بمنزلة الواقع لتحقق وقوعه، و{زُلفةً}: حال من مفعول {رَأَوه} أي: قريباً منهم، وهو مصدر، أي: ذا زلفة، {سِيئَتْ} أي: تغيرت {وجوهُ الذين كفروا} بأن غشيها الكآبة ورهقها القَترُ والذلة. ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ لذمهم بالكفر، وتعليل المساءة به. {وقيل} توبيخاً لهم، وتشديداً لعذابهم: {هذا الذي كنتم به تَدَّعون}؛ تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكاراً واستهزاءً، وهو تفتعلون من الدعاء، وقيل: من الدعوى، أي: تدعون ألاَّ بعث ولا حشر. ورُوي عن مجاهد: أنَّ الموعود يوم بدر، وهو بعيد.
{قل أرأيتم} أي: أخبروني {إِن أهلكنيَ اللهُ} أي: أماتني. والتعبير عنه بالهلاك لِما كانوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، {ومَن معيَ} مِن المؤمنين {أو رَحِمَنا} باخير آجالنا، فنحن في جوار رحمته متربصون إحدى الحسنيين {فمَن يُجير الكافرين من عذاب أليم} أي: لا يُنجيكم منه أحد، متنا أو بَقينا. ووضع {الكافرين} موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر، وتعليل نفي الإنجاء به، أي: لابد من لحوق العذاب لكفركم، مُتنا أو بقينا، فلا فائدة في دعائكم علينا.
{قل هو} أي: الذي أدعوكم إليه {الرحمن} مولى النعم كلها، {آمَنَّا به} وحده؛ لعِلْمنا ألاَّ راحم سواه، {وعليه توكلنا} وحده؛ لعِلْمنا أنَّ ما عداه كائناً ما كان بمعزل عن النفع والضر. {فستعلمون} عن قريب {مَن هو في ضلالٍ مبينٍ} منا ومنكم، {قل أرأيتم}؛ أخبروني {إِن أصبحَ ماؤُكم غوراً}؛ غائراً في الأرض بالكلية، أو: لا تناله الدلاء {فمَن يأتيكم بماءٍ معين}؛ جارٍ أو ظاهر سهل المأخذ، يصل إليه مَن وصله؟. وفي القاموس: ماء معيون ومعين: ظاهر. اهـ. وقال مكي: ويجوز أن يكون معين فعيل من مَعَن الماء: كثر، ويجوز أن يكون مفعولاً من العَين، وأصله: معيون، ثم أعل، أي: فمَن يأتيكم بماء يُرى بالعين. اهـ. مختصراً.
وقرئت الآية عند مُلحدٍ، فقال: يأتي بالمعول والفؤوس، فذهبت عيناه تلك الليلة وَعمِيَ، وقيل: إنه محمد بن زكريا المتطبب، أعاذنا الله من سوء الأدب مع كتابه.
قال ابن عرفة: ذكر ابن عطية في فضل السورة أربعة أحاديث، وقد تقرّر أنَّ أحاديث الفضائل لم تصح إلاَّ أحاديث قليلة، ليس هذا منها. اهـ. وفي الموطأ: إنها تُجادل عن صاحبها.
الإشارة: ويقولون أي: أهل الإنكار على المريدين: متى هذا الوعد بالفتح إن كنتم صادقين في الوعد بالفتح على أهل التوجه؟ قل أيها العارف الداعي إلى الله: إنما العلمُ عند الله، وإنما أنا نذير مبين، أُنذر البقاء في غم الحجاب وسوء الحساب، فلما رأوه أي رأوا أثر الفتح على المتوجهين، بظهور سيما العارفين على وجوههم، ونبع الحِكَم من قلوبهم على ألسنتهم زلفةً، أي: قريباً، سيئت وجوه الذين كفروا بطريق الخصوص، وأنكروها أي ساءهم ذلك حسداً أو ندماً، وقيل هذا الذي كنتم به تَدَّعون، أي: تدَّعون أنه لا يكون، وأنه قد انقضى زمانه، وأهل الإنكار لا محالة يتمنون هلاكَ أهل النِسبة، فيُقال لهم: أرأيتم إن أهلكنا الله بالموت، أو رَحِمَنا بالحياة، فمَن يُجيركم أنتم من عذاب القطيعة والبُعد، أي: هو لا حق لكم لا محالة، متنا أو عشنا، قل هو، أي: الذي توجهنا إليه، الرحمن وضمّنا إليه، آمنّا به وعليه توكلنا في كفاية شروركم، فستعلمون حين يُرفع المقربون في أعلى عليين، ويسقط أهل الحجاب في الحضيض الأسفل من الجنة، مَن هو اليوم في ضلال مبين، قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم ماء حياة قلوبكم من الإيمان والتوحيد، غَوْراً، فمَن يأتيكم بماء معين؟ أي: فمَن يُظهره لكم، ما يأتي به إلاَّ أهل العلم بالله.
والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة القلم:

.تفسير الآيات (1- 4):

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ن}، هو من جملة الرموز، ك {ص} و{ق}، وكأنه والله أعلم يُشير إلى ما خصّ به نبيَّه من أسرار النبوة والخلافة، أي: نبأناك ونبَّهناك ونوّبناك خليفة عنا، أو نوّهنا بك في مُلكنا وملكوتنا، أو: أيها النبي المفخّم، والرسول المعظّم، وحق نون والقلم ما أنت بمجنون. وقيل: مختصر من نور وناصر ونصير، وقيل: من الرحمن، لكن ورد في الحديث: «أول ما خلق اللهُ القلم، ثم خَلَقَ النون»، وهو الدواة، وذلك قوله: {ن والقلم} فإن صَحّ الحديث فهو أولى في تفسير الآية، وقد رُوي عن ابن عباس وغيره، في تفسير الآية: أنه الدواة والقلم الذي بأيدي الناس، ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنه الحوت الأعظم، الذي عليه الأرضون السبع.
قال الكلبي ومقاتل: اسمه يهموت بالياء وقيل: ليُوثا، وقيل: باهوتا. رُوي: أنّ الله تعالى لمّا خلق الأرض وفَتَقَها، بعث مِن تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين، قابضتين على الأرضين السبع، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله من الفردوس ثوراً، له أربعون ألف قرنٍ، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأهبط الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها خمسمائة عام، فوضعها على سنام الثور إلى أذنه، فاستقرت قدما المَلك عليه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفّس مدَّ البحرُ، وإذا هدأ نَفَسُه جزرَ البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء، كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: {فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] الآية، فلم تستقر الصخرة، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره، وسائر جسده عارٍ، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة الأزلية، يُقلُّ الدنيا بما فيها حرفان «كن فيكون». اهـ. من الثعلبي، وهذا من باب عالَم الحكمة، وإلاّ فما ثَمَّ إلا تجليات الحق وأسرار الذات، والصفات الأزلية. وتفسير {ن} بهذا الحوت ضعيف.
قال ابن جزي: ويُبطل قول مَن قال: إنه الحوت أو الدواة، بأنه لو كان كذلك لكان مُعرباً، ولَكَان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليل على أنه حرف هجاء، نحو: {الام} وغيره. اهـ.
ثم أقسم بالقلم، فقال: {والقلم وما يسطرون}، قيل: هو القلم الذي كتب اللوح المحفوظ، فالضمير في {يسطرون} للملائكة، وقيل: القلم المعروف عند الناس، أقسم له بِما فيه من المنافع والحِكم.
قال ابن الهيثم: من جلالة القلم أنه لم يكتب الله كتاباً إلا به، ولذلك أقسم به. الأقلام مطايا الفِطن ورسل الكرام، وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بَنَان، ومِن فضل بيان البنان أنَّ ما تبيَّنته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدْرُسه الأعوام، ولبعض الحكماء: قِوام أمور الدين والدنيا: القلم، والسيف تحت القلم. وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
قَلَمٌ مِنَ القَصَبِ الضَّعيف الأجْوفِ ** أَمضَى من الرُّمْح الطويل الأهيَفِ

ومِن النِّصال إذا انْبَرَتْ لِقسِيِّها ** ومِن المُهَنَّد في الصِّقال المُرْهَفِ

وأَشَدُّ إِقدَاماً من الليْثِ الذي ** يَكْوِي القُلوبَ إذا بدا في الموقِفِ

وقال آخر:
قَوْمٌ إذا عَرَفوا عَداوةَ حَاسِدٍ ** سَفَكُوا الدِّمَا بأَسِنَّةِ الأَقْلامِ

ولَضَرْبَةٌ مِن كاتبٍ بِبَنَانِهِ ** أَمْضَى وأَبْلَغُ من رقيق حُسَامِ

فالضمير في {يَسْطُرون} على هذا لبني آدم، فالضمير يعود على الكتبة المفهومة من القلم اللازمة له.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: {ما أنت بنعمةِ ربك بمجنونٍ} أي: ليس بك جنون كما يزعمه الكفرة، ف {بنعمة ربك}: اعتراض بين {ما} وخبرها، كما تقول: أنت بحمد الله فاضل، وقيل: المجرور في موضع الحال، والعامل فيه معنى النفي، كأنه قيل: أنت بريء من الجنون، ملتبساً بنعمة ربك، التي هي النبوة والرسالة. والتعبير بعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معاريج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه تعالى يُتم نعمته عليه، ويُبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءه، والمراد: تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة، مع جزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الثابتة من حصافة العقل، ورزانة الرأي. {وإِنَّ لك} في مقابلةِ مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم، وتحمُّلك لأعباء الرسالة {لأجراً} عظيماً لا يُقادَر قدره {غيرَ ممنونٍ}؛ غير مقطوع، أو: غير ممنون به عليك من جهة الناس، بأن أعطاه تعالى لك بلا واسطة.
{وإنك لعلى خُلُقِ عظيم} لا يُدْرِك شأوَه أحدٌ مِن الخلق، ولذلك تَحْتَمِل من جهتهم ما لا يحتمله أحد من البشر. وسُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقة صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرأن، ألست تقرأ القرآن: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون...} [المؤمنون: 1] الآية. وقيل: المراد: التأدُّب بآداب القرآن، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
قال ابن جُزي: وتفصيل ذلك: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك: شرف النسب، ووفور العقل، وكثرة العلم والعبادة، وشدة الحياء، والسخاء، والصدْق، والشجاعة، والصبر، والشكر، والمروءة، والتوءدة، والاقتصاد، والزهد، والتواضع، والشفقة، والعدل، والعفو، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة، وحسن التدبير، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وحسن الصورة، وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسِيرَه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: «بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق»، قال الجنيد: سُمي خُلقه عظيماً؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله عزّ وجل. اهـ. والخُلق: السجية والطبع. قال في القاموس: الخُلْق بالضم وبضمتين: السجية، والطبع، والمروءة والدين. اهـ.
وعرَّف بعضهم حقيقة الخُلق، فقال: مَلكة للنفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير فكر ولا رَوية، فخرج الصبر؛ لأنه بصُعوبة، والفكرة؛ لأنها تكون بروية، ثم ينظر في تلك الأفعال الصادرة عن تلك المَلكة؛ فإن كانت سيئة، كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، سُمي خُلقاً سيئاً، وإن كانت تلك الأفعال حسنة، كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، سُمي خلقاً حسناً، الذي اتصف به صلى الله عليه سلم على أكمل الوجوه، ومَدَحه بقوله: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم» وبقوله: «أفضل ما أُعطي المرء الخلق الحسن» في أحاديث كثيرة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد يُقال: أشار بقوله: {ن} إلى سرعة إنفاذ أمره بين الكاف والنون، ثم أقسم بالقلم على تنزيه نبيه من الجنون، ويُقال مثل ذلك لخلفائه، إذا رُمُوا بالجنون أو السحر أو سخافة العقل، ويُقال لهم في إرشاد الناس وتذكيرهم ما قيل لنبيّهم: {وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}، فحُسن الخلق دليل على ثبوت الخصوصية، وعدمه دليل على عدم وجودها؛ لأنّ الخمرة إذا دخلت القلب والروح هَذّبت أخلاقهما، وطهّرت أكدارهما، وما تُبقي إلاَّ الذهب الإبريز.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: كان صلى الله عليه وسلم على خُلقٍ عظيم؛ لشرح صدره بالنور، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، ولحديث شرح صدره وشقه وتطهيره، ونزع حظ الشيطان منه، ثم إفراغ الحكمة والنور فيه، حتى مُلئ بذلك، فكان شيئاً محضاً لله تعالى، لا تعلُّق له بغيره، فناسب القرأن، وصار خُلقاً له، منقوشاَ فيه، من غير روية، ولا تكسب في ذلك، بل طُبع على ذلك، وسرى فيه أمر الوحي، وجرى على مقتضاه في جميع أحواله، ولذلك تجد السُنة مشرعة من القرآن، وخارجة منه خروج اللبن من الضرع، والزبد من اللبن، فصار متخلّقاً بالقرآن، وفي الحقيقة متخلّقاً بخُلق الله، ومظهرَ أوصافه، ومجلاة سره وشأنه، {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] الآية، ومَن رآه فقد رأى الحق. والله أعلم. اهـ. فعائشة رضي الله عنها احتشمت وسترت حيث عبّرت بالقرآن، ولم تقل كان خلقه خلق الرحمن.

.تفسير الآيات (5- 16):

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فسَتُبْصِرُ} يا محمد {ويُبصرون} أي: كفارُ قريش عاقبةَ أمرك وأمرهم، أو: مَن هو المجنون منكم. قال ابن عباس رضي الله عنه: فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبيّن الحق من الباطل. اهـ. وقيل: في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بظهور الإسلام، واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، ويبصرونك مُهاباً معظّماً في قلوب العالمين، وكونهم أذلةً صاغرين. قال مقاتل: هذا وعيد بعذاب يوم بدر.
والباء في قوله: {بأيِّكم المفتونُ} قيل: زائدة، أي: تُبصرون أيكم المفتون، أي: المجنون، وقيل: غير زائدة، أي: بأيكم الفتنة، فالمفتون مصدر، كقولهم: ما لك معقول، أي: عقل، وقيل: الباء بمعنى في، أي: في أي فريق منكم المفتون، هل في فريق المؤمنين أم المشركين؟ والآية تعريض بأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأضرابهما، وتهديد، كقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} [القمر: 26].
{إِنَّ ربك هو أعلمُ بمَن ضلَّ عن سبيله} تعليل لمضمون ما قبله، من ظهور جنونهم، بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لِما فيه من الوعد والوعيد، أي: هو أعلم بمَن ضلّ عن طريقه الموصلة إلى سعادة الدارين، وبمن هو في تيه الضلال، متوجهاً إلى ما يسوقه إلى الشقاوة الأبدية، وهذا هو المجنون الذي لا يُفرّق بين الضرر والنفع، بل يحسب الضررَ نفعاً فيؤثره، والنفعَ ضرراً فيهجره، {وهو أعلمُ بالمهتدين} إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل مرهوب، وهم العقلاء المراجيح، فيجزي كُلاًّ من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وإعادة {هو أعلم} لزيادة التقرير.
وإذا تقرّر أنك على الهدى، ومُكَذَبوك على الضلال {فلا تُطع المكذِّبين}، فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: دُم على ما أنت عليه، من عدم طاعتهم، وتَصَلّبْ في ذلك. وهذا تهييج للتصميم على عصيانهم، وقد أرادوه على أن يعبدوا الله مدة، ويعبد آلهتهم مدة، ويكفُّوا عنه غوائلهم، فنهاه عن ذلك، أو: نُهي عن مداهنتهم ومداراتهم، بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم؛ استجلاباً لقلوبهم. {وَدُّوا لو تُدْهِنُ}؛ لو تلين لهم {فيُدْهِنُون}؛ فيلينون لك، ولم ينصب بإضمار أن مع أنه جواب التمني؛ لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعله خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم مدهنون، أي: فهم الآن يُدهنون لطمعهم في إدهانك، فليس داخلاً في حيّز تمنيهم؛ بل هو حاصل لهم، وفي بعض المصاحف: {فيدهنوا} على أنه جواب التمني.
{ولا تُطعْ كلَّ حلاّفٍ}؛ كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به زجراً لمَن يُكثر الحلف، {مَهِينٍ}؛ حقير في الرأي والتدبير، من المهانة، وهي القلة والحقارة، أو: كذَّاب؛ لأنه صغير عند الناس، {هَمَّازٍ}؛ عيّابٍ طعَّان مغتاب {مشَّاء بنميم}؛ نقّال للحديث من قوم إلى قوم، على وجه السِّعاية والفساد بينهم، فالنميم والنميمة: السعاية في إفساد ذات البيْن، {مناعٍ للخير}؛ بخيل، والخير: المال، أو: منّاع أهلَه من الخير، وهو الإسلام، والمراد: الوليد بن المغيرة، عند الجمهور، وكان يقول لبنيه العشرة: مَن أسلم منكم منعته رفدي.
ه {مُعْتَدٍ}؛ مجاوز في الظلم حدّه، {أثيمٍ}؛ كثير الإثم، {عُتُلٍّ}؛ غليظ جافٍ، مِن عتله: إذا قاده بعنف وغلظةٍ، {بعد ذلك}؛ بعدما عدّ له من المثالب {زنيمٍ}؛ دَعِيّ، أي: ولد زنا، وكان الوليد دَعِياً في قريش، ليس من سِنْخهم، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده، وقيل: بغَت أمه ولم يعرف حتى فضحته الآية: والنطفة إذا خبثت خبث الناشئ عنها. رُوي: أنه دخل على أمه، وقال لها: إنَّ محمداً وصفني بشعرة أوصاف، وجدت تسعة فِيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته، وإلاّ ضربت عنقك، فقالت: إنَّ أباك عنّين، وخفتُ أن يموت، فيصل المال إلى غير ولده، فدعوت راعياً، فأنت من ذلك الراعي. اهـ. وقيل: هو الأخنس بن شريق، أصله من ثقيف، وعِدادُه في بني زهرة.
{أن كان ذا مالٍ وبنينَ}: متعلق بقوله: {لا تُطع} أي: لاتُطع مَن هذه مثالِبه لأن كان صاحب مال وبنينَ مستظهراً بهم، فإنه حظه من الدنيا، وقيل: متعلق بما بعده، أي: لأن كان ذا مال وبنين كذّب بآياتنا، يدل عليه قوله تعالى: {إذا تُتلى عليه آياتُنا} أي: القرآن {قال أساطيرُ الأولين} أي: أكاذيب المتقدمين، ولا يعمل فيه {قال}؛ لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. ومَن قرأ بكسر إن فشرط حُذف جوابه، أي: إن كان ذا مال فلا تُطعه، والمعنى: لا تُطع كل حلاّف شارطاً يَسَارَه. قيل: لمّا عاب الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كاذباً بأمر واحد، وهو الجنون، سمّاه اللهُ تعالى صادقاً بعشرة أسماء، فإذا كان مِن عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر، كان من فضله أن يجزي المُصلِّي عليه أو المادح له بعشر فأكثر.
{سَنَسِمُه على الخرطوم}؛ سنعلِّمه على أنفه بالكي بالنار إهانةً له، وتخصيص الأنف بالذكر؛ لأنَّ الوسم عليه أبشع، وقيل: خطم بالسيف يوم بدر، فبقيت سمة على خرطومه، وفيه نظر إذا قلنا هو الوليد، فإنه مات قبل بدر، لأنه من المستنصرين الخمسة، وقد ماتوا كلهم قبل وقعة بدر، وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة يُشوه بها من بين سائر الكفرة.
الإشارة: فستُبصر أيها العارف، والمتوجّه إلى الله، ويُبصر أهل الانتقاد من أهل الغفلة، أيكم المفتون، هل أنتم حين اجتمعت قلوبكم بالله، وجعلتم الهموم هَمًّا واحداً، فكفاكم الله همّ دنياكم، أو: هُم الذين تفرّقت قلوبهم، وتشعّبت همومهم، حتى ماتوا في أودية الفتن، فلم يُبالِ الله بهم في أيّ أودية الدنيا هلكوا، كما في الأثر.
إن ربك هو أعلم بمَن ضَلّ عن طريقه الموصلة إليه، وهو أعلم بالمهتدين إليها، السائرين فيها، حتى وصلوا إلى حضرة قدسه، فلا تُطع أيها المتوجّه المكذّبين لهذه الطريق، ودُّوا لو تلينون إليهم، وتشاركونهم فيما هم فيه من الحظوظ، فيميلون إليكم، طمعاً فيكم أن يصرفوكم عن طريق الجد والاجتهاد، ولا تُطع كل حلاّف مهين، قال القشيري: مّهين: هو الذي سقط من عيننا، فأقمناه بالبُعد عنا، همّاز مشاء بنميم، مُعذَّب بالوقيعة في أوليائنا. اهـ.
قال بعضهم: بُحث عن النمَّام فلم يوجد إلا ابن الزنا، واستدل بالآية في قوله: {بعد ذلك زنيم}. وقوله تعالى: {منَّاعٍ للخير}، وضده من أخلاق الصوفية، وهو أن يكون وصّالاً للخير لعباد الله، حسًّا ومعنىً، {معتد أثيم} وضده: كثير الإحسان والطاعة، {عُتل} وضده: سهل لين، {بعد ذلك زنيم} أي: لقيط، لا أب له، وكل مَن لا شيخ له يصلح للتربية فهو لقيط، لا أب له، فلا يصلح للاقتداء كما لا يؤم الناسَ ابنُ الزنا، وقوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال...} إلخ. أي: إنما حمله على التكذيب طغيانه بالمال، وهذه عادته تعالى: أنَّ المترفين لا ينالون من طريق السابقين شيئاً إلاَّ النادر. والله تعالى أعلم.