فصل: تفسير الآيات (17- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 33):

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا بلوناهم}؛ أهل مكة، أي: امتحنّاهم بالقحط والجوع، حتى أكلوا الجِيفَ الرِّممَ، بدعاء النبي صلى الله عليه سلم حيث قال: «اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ، واجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ» {كما بلونا أصحابَ الجنةِ}، وهم قوم من أهل الصلاة، قيل: كانوا مؤمنين، أهل كتاب، بعد رفع عيسى عليه السلام وكانوا ب ضرْوان على فراسخ من صنعاء اليمن. قال ابن جزي: كانوا من بني إسرائيل. اهـ. والجنة، قال ابن عباس: هو بستان، يقال له: الضّروان، دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غَرَسه رجل من أهل الصلاح، فورثه ثلاثة بنين، فإذا أصرموه كان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل والقِطاف، فإذا طرح من فوق النخل إلى البساط، فكل شيء سقط عن البساط؛ فهو للمساكين، فكان أبوهم يتصدّق منها على المساكين، فكان يعيش من ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، وفي رواية: كان يأخذ قوت سنة، ويتصدّق بالباقي، وكان ينادي على الفقراء وقت الصرام، فلما مات أبوهم؛ قالوا: لقد قلَّ المال، وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدوا غدوة قبل خروج الناس، ويصرمونه، ولا يشعر المساكين، وهو قوله تعالى: {إِذْ أقسَموا}؛ حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين}؛ ليقطفنّها داخلين في الصباح، قبل انتشار الفقراء، {ولا يستثنون}؛ لا يقولون إن شاء الله، وسمي استثناء، وإن كان شرطاً صورةً؛ لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء؛ لأنّ قولك: لأخرجنّ إن شاء الله، و: لا أخرج إلاّ أن يشاء الله، واحدٌ، أو: لا يستثنون؛ حصة المساكين، كما كان يفعل أبوهم.
{فطاف عليها} أي: على الجنة {طائف من ربك} أي: نزل عليها بلاء من جهته تعالى، قيل: أنزل الله عليها ناراً فأحرقتها، وقيل: طاف بها جبريل، لأنه الموكل بالخسف، فاقتلعها، وطاف بها حول البيت، ثم وضعها بالطائف، وليس بمكة وما قرب منها بستان غيرها، وهي مدينة الطائف. انظر اللباب. {وهم نائمون} أي: في حال نومهم، أو: غافلون عما جرت به المقادير، {فأصبحتْ} أي: فصارت الجنة {كالصَّرِيم}؛ كالبستان الذي صرمت ثماره، بحيث لم يبقَ فيها شيء، وقيل: كالليل المُظلم، احترقت فاسودّت، أو: كالصبح، أي: صارت أرضاً بيضاء بلا شجر. وفي القاموس: الصريم: الأرض المحصود زرعها، والصبح والليل. اهـ.
{فَتَنَادَوا} أي: نادى بعضُهم بعضاً {مصبحين}؛ داخلين في الصباح: {أَنِ اغْدوا} أي: اخرجوا غدوه {على حَرْثِكم}؛ بستانكم وضيعتكم، وتعدية الغدو ب على لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء، {إِن كنتم صارمين}؛ قاصدين الصرم. {فانطلقوا وهم يتخافتون}؛ يتساررون فيما بينهم بطريق المخافتة، لئلا يسمع المساكين {أن لا يدخلنَّها} أي: الجنة، و{أن} مفسرة، أي: قائلين في تلك المخافتة: لايدخلنها {اليومَ عليكم مسكين}، والنهي عن دخول المساكين نهي عن التمكين على وجه المبالغة، أي: لا تُمكنوهم من الدخول.
{وغَدَوا على حَرْدٍ}؛ على جِدٍّ في المنع {قادرين} عند أنفسهم على المنع، كذا عن نفطوية، من قولهم: حردت الإبل إذا قلَّت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة إذا كانت شهباء، من قلة مطرها، أو: الحرد: القصد والسرعة، يقال: حَرَدَ حَرْده، أي: قصد قصده، قال الشاعر:
أقْبَلَ سَيْلٌ جاء من أَمْرِ الله ** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنةِ المُغِلَّهْ

أي: يقْصد قصدها، أي: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين على صِرامها عند أنفسهم، وقيل: معنى الحرد: الغضب، يقال: حَرِدَ الرجل حَرْداً: غضب، أي: غدوا على غضبٍ على المسكين قادرين على المنع، أو على صِرامها في زعمهم، وقيل: الحرد: اسم للجنة، أي: غدوا على تلك الجنة قادرين على صِرامها عند أنفسهم.
{فلما رَأَوها} أي: جنتهم محترقة {قالوا إِنَّا لضالون} أي: ضللنا جنتنا، وما هي بها، لِما رأوا من هلاكها، فلما تأمّلوا وعرفوا أنها هي، قالوا: {بل نحن محرومون}؛ حُرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، {قال أوسطُهم} أي: أعدلُهم وخيرُهم رأياً، أو: أكبرهم سنًّا: {ألم أقل لكم لولا تُسبِّحون}؟ تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نياتكم، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله، وتوبوا إليه من هذه الجريمة الخبيثة من فوركم، وسارِعوا إلى حَسْم شرها قبل حلول النقمة، فَعَصوه. وقيل: المراد بالتسبيح: الاستثناء؛ لأنه تعظيم لله تعالى في الجملة؛ لأنَّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم، والأول أنسب بقوله: {قالوا سبحان ربنا إِنَّا كنا ظالمين} فيما عزمنا عليه من المنع، أو: في عدم الاستثناء، فتكلّموا بعد نزول العذاب بما كان يدعوهم إلى التكلُّم به قبل نزوله.
{فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون} أي: يلوم بعضُهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويُحيل كلُّ واحد منهم اللائمة على الآخر، ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله: {قالوا يا ويلنا إِنَّا كنا ظالمين}؛ متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء حقهم، وتَرْكِ الاستثناء، {عسى ربُّنا أن يُبْدلنا خيراً منها} أي: يعطينا خيراً من جنتنا ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، {إِنَّا إِلى ربنا راغبون}؛ طالبون منه الخير، راجون العفو منه. وعن مجاهد: ثابوا فأُبدلوا خيراً منها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا، فأبدلهم الله جنة تُسمى الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً، وعن أبي خالد اليماني أنه رآها، ورأى كل عنقود منها كالرجُل الأسود القائم، وقد تقدّم أنهم مؤمنون، إمّا من بني إسرائيل أو غيرهم، فلا معنى لمَن توقف في قولهم: {إِنَّا إِلى ربنا راغبون} هل يكون إسلاماً أم لا؟ نعم، قد قيل: إنهم كانوا كفاراً، فيحتمل أن يكون قولهم هذا إسلاماً، أو يكون على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم شدة.
قال تعالى: {كذلك العذابُ} أي: مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه في حق أصحاب الجنة هو عذاب الدنيا لمَن تخالف أمرنا، ولم يشكر نِعمنا، {ولَعذابُ الآخرة أكبرُ}؛ أعظم منه وأشد، {لو كانوا يعلمون} أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه.
قال الطيبي: قال الإمام أي الفخر: المقصود من القصة أنه تعالى قال: {أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال...} الخ؛ أي: لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمّر الله عليه؛ لأنّ أصحاب الجنة لَمَّا أَتوا بهذا القدر اليسير من المعصية، دمَّر الله على جنتهم، فكيف حال مَن عاند الرسولَ، وأصرّ على الكفر والمعصية؟ أو: لأنَّ أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة، ويمنعوا الفقراء منها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل ممكة، حَردُوا إلى بدر أرادوا الكيد بمحمد وأصحابه صلوات الله عليه فأخلف الله ظنّهم، فقُتلوا وأُسروا. اهـ.
الإشارة: مَن كان يفعل الإحسان، ويُوسع في العطاء، ثم قبض يده، فإنَّ الله يقبض فيضه عنه، كما قبض هو إحسانه عن عباده، فما دام يُوسّع فإنَّ الله يُوسّع عليه، فإذا قبض قبض الله عنه، {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139]، وكذلك مَن خالف عادة أسلافه في العطاء وشدّ يده؛ فإنَّ الله يُخالف عنه ما كان يفعل مع أسلافه، من فَيْض الأرزاق الحسية أو المعنوية، فإن تاب ورجع إلى فعل ما كان عليه أسلافه؛ أعاد الله عليه إحسانه، كما فعل بأصحاب الجنة حين تابوا، وهذا صريح الآية، وتَصْدق أيضاً بمَن كان يُنفق من سعة علومه ومواهبه، ثم قبض ذلك من غير عذر، فإنَّ الله تعالى يقبض عنه زيادة المواهب، وربما يطوف على باطنه طائف من الله، فيُصبح خالياً من ثمار المواهب، حتى يتوب ويرجع إلى ما كان عليه، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (34- 43):

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ للمتقين عند ربهم} في الآخرة، أو: في جوار القدس {جناتِ النعيم} أي: جنات ليس فيها إلاَّ التنعُّم الخالص عن شائبة ما ينقصه من المكدّرات، وخوف الزوال، بخلاف جنات الدنيا ونعيمها، وقال بعضهم: لهم جنات النعيم، مِن صفتها: أنَّ العبد فيها مُقيم، والنبي فيها نديم، والمضيف فيها الكريم، والثواب فيها عظيم، والعطاء فيها جسيم، والحزن فيها عديم. اهـ.
{أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين}، تقرير لِما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم، ورَدٌّ لما يقوله الكفرة عند سماعهم لحديث الآخرة، وما أعدّ للمسلمين، فإنهم كانوا يقولون: إن صحّ أنَّا نُبعث كما يزعم محمد ومَن معه، لم يكن حالنا وحالهم إلاَّ مثل ما هي في الدنيا، لم يزيدوا علينا، ولم يفضلونا، فرَدّ الله عليهم. والهمزة للإنكار، والعطف على مُقدّر يقتضيه المقام، أي: أنحِيفُ في الحُكم، فنجعل المسلمين الذين كابدوا مشاقَ الطاعات، وترك المخالفات، كالكافرين الذين عُجِّلت طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم قيل لهم بطريق الالتفات؛ لتأكيد الرد والتشديد: {ما لكم كيف تحكمون} هذا الحُكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأنَّ أمر الجزاء مُفوض إليكم، تحكمون فيه كيف شئتم! وهو تعجيب واستبعاد وإيذان بأنه لا يصدر عن عاقل. {أم لكم كتاب} نازل من السماء {فيه تدرُسُون}؛ تقرؤون في ذلك الكتاب، {إنَّ لكم فيه} أي: في ذلك الكتاب {لَمَا تخيَّرون} أي: إن ما تختارونه وتشتهونه حاصل لكم! والأصل: تدرسون أنَّ لكم ما تتخيرون، بفتح {أنّ} لأنه مدروس، لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس بلفظه، كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين سلام عَلَى نُوحٍ فِي العالمين} [الصافات: 78، 79] أي: تركنا عليه السلام على قولٍ. وتخيّر الشيء واختاره: أخذ خيره.
{أم لكم أَيْمَانٌ علينا} أي: عهود مؤكدة بالأيمان {بالغةٌ}؛ متناهية في التوكيد {إِلى يوم القيامة} متعلق بالمقدّر في {لكم} أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو: ب {بالغة}، أي: تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين، إلى أن يحصل المقسَم عليه من التحكيم، {إِنَّ لكم لَمَا تحكمون} به لأنفسكم، وهو جواب القسم، لأنَّ معنى {أم لكم أَيمان علينا}: أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقلنا والله إنَّ لكم لَمَا تحكمون {سَلْهُمْ} أي: المشركين، وهو تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، أي: سَلْهم مبكتاً لهم: {أَيُّهُم بذلك} الحكم {زعيمٌ}؛ كفيل بأنه لابد أن يكون ذلك.
{أم لهم شركاءُ} أي: ناس يُشاركونهم في هذا القو، ويذهبون مذهبهم فيه؟ {فليأتوا بشركائهم إِن كانوا صادقين} في دعواهم، إذ لا أقل من التقليد فيه، يعني: أنَّ أحداً لا يسلّم لهم هذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم بعد عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله هذا، وإنما هو اختلاق وأماني من أنفسهم.
وقيل: المراد بالشركاء: الأصنام، أي: أم لهم أصنام يعبدونها تضمن لهم ذلك؟ فليحضروها حتى يسمعوا منهم ذلك، وهو تهكُّم به.
واذكر {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ}، وجمهور المفسرين على أن الكشف عن ساق عبارة عن شدة الأمر، وصعوبة الخطب، أي: يوم يشتد الأمر ويصعب، وقيل: ساق الشيء: أصله الذي به قوامه، كساق الشجرة وساق الإنسان، أي: يوم يُكشف عن أصل الأمر، فتظهر حقائق الأمور وأصولها، بحيث تصير عياناً. وتنكيره للتهويل العظيم. قال النسفي: ولا كشف ثمَّ ولا ساق، ولكن كنّى به عن شدة الأمر؛ لأنهم إذا ابتلوا بالشدّة كَشفوا عن الساق، وقال: كشفت الحرب عن ساقها، وهذا كما تقول للشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثَمَّ ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل، وأمّا مَن شبّه فلِضيق عِطفه وقلّة نظره في علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبَّه؛ لكان من حقِّ الساق أن يُعرَّف؛ لأنها ساق معهودة عنده. اهـ. قلت: انظر الثعلبي، فقد نقل أحاديث الحشر، وكلها تدل على أنَّ كشف الساق حقيقة، وذكر حديث أبي موسى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{يوم يُكشف عن ساق} قال: عن نور عظيم، يخرُّون له سجداً»، ثم ذكر حديث الحشر بتمامه، ومَن كحّل عينيه بإثمد التوحيد الخاص لم يصعب عليه أمثال هذه المتشابهات؛ إذ الحق جلّ جلاله غير محصور، بل يتجلّى كيف شاء، وقد ورد أنه يتجلّى لفصل عباده، فيجلس على كرسيه، وورد أيضاً في حديث كشف الساق: أنه يتقدّم أمامهم بعد كشف الساق وسجود المؤمنين له، ثم ينطلق بهم إلى الجنة. ذكر الحديث المنذري وغيره، ونقله المحشي الفاسي في سورة البقرة، عند قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلآ أّن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210] الآية، وليس هذا تجسيم ولا حصر؛ إذا ما في الوجود إلاّ تجليات الحق، ومظاهر ذاته.
ثم قال تعالى: {ويُدْعَون إِلى السجود} توبيخاً وتعنيفاً على تركهم له في الدنيا، وتحسُّراً لهم على تفريطهم في ذلك، لا تكليفاً، إذ ليست دار تكليف، {فلا يستطيعون} ذلك؛ لأنَّ ظهورهم تصير كصياصي البقر، وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم ذلك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: تَفقُم أصلابهم، أي: تُرد عظماً بلا مفاصل، لا تثنى عند الرفع والخفض. وفي الحديث الصحيح: «يخرُّون لله سُجداً أجمعون، ولا يبقى أحد كان يسجد لله رياء وسمعة ونفاقاً إلاَّ صار ظهره طبقاً واحداً، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه».
{خاشعةً أبصارُهم} أي: ذليلة، حال من الضمير في {يُدْعَون}، أي: يُدعون في حال خشوع أبصارهم، ونسبة الخشوع إلى الأبصار؛ لظهور أثره فيها، {تَرْهَقهم} أي: تلحقهم وتغشاهم {ذلَّةٌ} شديدة، {وقد كانوا} في الدنيا {يُدْعَون} على ألسنة الرسل {إِلى السجود}، والأصل: إليه، وإنما أظهر لزيادة التقرير، أو: لأنَّ المراد به الصلاة بما فيها من السجود، والدعوة دعوة تكليف، {وهم سالِمون} متمكنون منه أقوى تمكُّن، فلا يُجيبون إليه ويأبونه، وإنما لم يذكره معه لظهوره.
الإشارة: إنَّ للمتقين ما سوى الله عند ربهم؛ في حضرة قدسه، جناتِ النعيم، وهي جنات المعارف في نعيم دوام الشهود والرؤية، أفنجعل المسلمين المنقادين لأحكامنا القهرية والتكليفية، كالمجرمين العاصين، ثم وبَّخ مَن سوَّى بينهم وطالبه بالحجة. وقوله تعالى: {يوم يُكشف عن ساق} أي: يوم يتجلّى لعباده بنور من نور ذاته، على صورة آدم، تشريفاً لهذا الآدمي، وفي الحديث: «إن الله خلق آدم على صورته» أي: على صورته التي يتجلّى بها لعباده في المحشر وفي الجنة، ولا يفهم هذا إلاَّ الغواصون في بحر الأحدية، وحسْب مَن لم يبلغ مقامهم التسليم ونفي التشبيه، فالعارفون يعرفون الله في جميع تجلياته، ولا ينكرونه في شيء منها، وأمّا ما ورد في حديث التجلِّي الأول لأهل المحشر فيُنكرونه، ويقولون: حتى يأتينا ربنا، فإنما يقول ذلك علماء الظاهر، أهل الدليل، وأما العارفون فقد عرفوه وأقرُّوه، وسكتوا ستراً للسر الذي عرّفهم به، ولذلك كتب ابن العربي الحاتمي إلى الفخر الرازي فقال: تعال نعرِّفك بالله اليوم، قبل أن يتجلّى لك يوم القيامة، فتُنكره فيمن يُنكره. اهـ.
وقال الورتجبي: أخبر الله سبحانه أنه يكشف يوم الشهود لعشاقه وأحبابه ومُشتاقيه وعُرفائه عن بعض صفاته الخاصة، ويتجلّى منها لهم، وهو كشف في ستر الغَيرة عن أسرار القِدَم، فيُشاهدونها، فيُدعَون إلى السجود من حيث غشيتهم أنوار العظمة، حتى لا يحرقوا في كَشفِ سر الصفة؛ فإنها موضع العظمة والكبرياء، وبُدُوّ لطائف أنوار أسرار الذات تظهر في لباس الالتباس، حتى لا يفنيهم فناء لا بقاء بعده، والمقصود منه زوائد المحبة، والنظر إلى وجود العظمة. اهـ. قلت: وحاصل كلامه: أنّ الحق تعالى إنما تجلّى لعباده في الصورة الآدمية، حتى كشف عن ساقه غِيرةَ على سر الربوبية أن يظهر، وهو المراد بقوله: يكشف لعشاقه عن بعض صفاته، ويتجلى منها أي: من تلك الصورة لهم، وهو كشف في ستر الغيرة. وأيضاً: لو كشف لهم عن أسرار جبروته بلا واسطة لاحترقوا، لكن تجلّى بأنوار صفاته ليطيقوا رؤيته، يظهر لهم في لباس الالتباس، وهو إظهار الصورة الآدمية، ليبقوا بين فناء وبقاء، بين سكر وصحو، ولو تجلّى بأسرار ذاته الأصلية لاحترقوا، أو سكروا بلا صحو، وفنوا بلا بقاء. والله تعالى أعلم.