فصل: تفسير الآيات (18- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 28):

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ...}
يقول الحق جلّ جلاله: {وأنَّ المساجدَ لله} أي: ومن جملة ما أُوحي إليَّ: أنَّ المساجد، أي: البيوت المبنية للصلاة فيها هي لله، وقيل: معناه: ولأنّ المساجد لله {فلا تدعوا}، على أنَّ اللام متعلّقة ب {تدعوا}، أي: فلا تدعوا {مع الله أحداً} في المساجد؛ لأنها خالصة لله ولعبادته، فلا تعبدوا فيها غيره تعالى، ولا تفعلوا فيها إلا ما هو عبادة. وقيل: المراد: المسجد الحرام، والجمع؛ لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة، أو لأنه قبلة المساجد، وقيل: الأرض كلها؛ لأن جُعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً، وقيل: أعضاء السجود السبعة التي يسجد عليها العبد، وهي: القدمان، والركبتان، واليدان، والوجه، يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد عليها لغيره، فتجحد نِعَمه، ولا تذلها لغير خالقها. فإن جعلت المساجد المواضع، فواحدها مسجِد بكسر الجيم، وإن جعلت الأعضاء، فبفتح الجيم.
{وأنه} أي: ومما أوحي إليّ أن الشأن {لمَّا قام عبدُ الله}، وهو محمد صلى الله عليه وسلم {يدعوه}؛ يعبده في الصلاة، ويقرأ القرآن في صلاة الفجر، كما تقدم في الأحقاف، ولم يقل: نبي الله، أو رسول الله؛ لأنَّ العبودية من أشرف الخصال، أو: لأنه لمّا كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسِه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو: لأنَّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد حتّى يجتمعوا عليه، كما قال: {كادوا} أي: كاد الجن {يكونون عليه لِبداً}؛ جماعات متراكبين من ازدحامهم عليه، تعجُّباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به، أو إعجاباً مما تلي من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا بنظيره. وقيل: معناه: لمَّا قام عليه السلام يعبد اللهَ وحدَه مخالفاً للمشركين، كادوا يزدحمون عليه متراكبين. واللبدّ: جمع لبدة، وهي ما تلبّد بعضه على بعض. وعن قتادة: تلبّدت الإنس والجن على أن يُطفئوا نوره، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُظهره على مَن ناوأه. قال ابن عطية: قوله تعالى: {وأنه...} إلخ، يحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى، وأن يكون إخباراً عن الجن.
{قال إِنما أدعو} أي أعبد {ربي ولا أُشرك به} في عبادتي {أحداً}، فليس ذلك ببدع ولا بمستنكر يوجب التعجُّب أو الإطباق على عداوتي، وقرأ عاصم وحمزه {قل} بالأمر، ثم تبرّأ من ملِك الضر والنفع لأحد ولا لنفسه، وأنَّ ذلك لله وحده، فلا يُعبد إلاَّ إياه، فقال: {قل إِني لا أملك لكم ضرًّا ولا رَشَداً} والأصل: لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، ولا غيًّا ولا رشداً فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر، أو أراد بالضر: الغي، أي: لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم؛ إذ ليس من وظيفتي إلاَّ الإنذار.
{قل إِني لن يُجيرني من الله أحدٌ} أي: لن يدفع عني عذابه إن عصيته، كقول صالح عليه السلام: {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63]، {ولن أجد من دونه مُلتحداً}؛ مُلتجئاً {إلا بلاغاً من الله}، استثناء من {لا أملك} أي: لا أملك لكم شيئاً إلا تبليغ الرسالة، و{قل إني لن يجيرني}: اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، وبيان عجزه، وقيل: {بلاغاً}: بدل من {ملتحداً}، أي: لن أجد من دونه ملجاً إلاّ أن أُبلّغ عنه ما أرسلني به، أي: لا ينجيني إلاَّ أن أُبلغ عن الله ما أُرسلت به فإنه ينجيني، وقوله: {ورسالاته}: عطف على {بلاغاً}، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، أي: إلاّ أن أُبلغ عن الله، فأقول قال الله كذا، ناسباً قوله إليه، وأن أُبلّغ رسالاته التي أرسلني بها، بلا زيادة ولا نقصان و{مِن} ليست صلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة {مِن} في قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] أي: بلاغاً كائناً من الله وتبليغ رسالاته قاله النسفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وأنَّ مساجد الحضرة لله، والحضرة: شهود الذات الأقدس وحدها، فلا تدعوا مع الله أحداً، أي: لا تَروا معه غيره، فتخرجوا من حضرته، وأنه لمّا قام عبدُ الله، وهو الداعي إلى الله في كل زمان يدعوه، ويدعو إليه، كادوا يكونون عليه لِبداً، إمّا متعجبين منه، أو مقتبسين من أنواره، قال: إنما أدعو ربي ولا أُشرك به شيئاً قل يا أيها الداعي لتلك اللبد، لا أملك لكم من الله غيًّا ولا رشداً، إلاَّ بلاغاً، أي إنذاراً وتبليغ ما كُلفت به، فإنما أنا أدعو، والله يهدي على يدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، قل يا أيها الداعي: إني لن يُجيرني من الله أحد إن قَصّرت في الدعوة أو أسأت الأدب، ولن أجد من دونه ملتجأ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال مَن ردّ الرسالة، فقال: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.
يقول الحق جلّ جلاله: {ومَ يعص اللهَ ورسولَه} في رد رسالته، وعدم قبول ما جاء به الرسول، {فإِنَّ له نارَ جهنمَ}، وقرئ بفتح الهمزة، أي: فحقه، أو فجزاؤه أنّ له نار جهنم، {خالدين فيها} أي: في النار {أبداً}، وحّد في قوله: {له} وجمع في {خالدين} للفظ {من} ومعناه. {حتى إِذا رَأَوا ما يوعدون}، متعلق بمحذوف، يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأمره صلى الله عليه وسلم، واستقلالهم لعدده، كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه، {حتى إّذا رَأَوا ما يُوعدون} من فنون العذاب في الآخرة {فسيعلمون} عند حلول العذاب بهم {مَن أَضْعَفْ ناصراً وأقلُّ عدداً} أهم أم المؤمنون؟ بل الكفار لا ناصر لهم يؤمئذ، والمؤمنون ينصرهم الله ويُعزّهم. وحُمل {ما يوعدون} على ما رأوه يوم بدر، ويُبعده قوله تعالى: {قل إِن أدرِي أقريب ما تُوعَدُون} من العذاب، {أم يجعل له ربي أمداً}؛ غاية بعيدة يعني: أنكم معذَّبون قطعاً، ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجّل؟
{عالِمُ الغيبِ} أي: هو عالم الغيب، {فلا يُظْهِر}؛ فلا يُطلع {على غيبه أحداً إِلاّ مَن ارتضى من رسولٍ} أي: إلاَّ رسولاً قد ارتضاه لِعلْمِ بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزةً له، والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم به، وإنما أخبر به بناءً على رؤيا، أو بالفراسة، أو بتجلِّ قلبي، على أنّ كل كرامة لوليّ فهي معجزة لنبيه. قال بعضهم: وفي هذه الآية دلالة على تكذيب المنجّمة، وليس كذلك، فإنَّ فيهم مَن يَصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يُعرف بالتأمُّل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق. قاله النسفي. فتحصّل: أنّ إطلاع النبي على الغيب قطعي، وغيره ظني.
وقال أبو السعود: وليس في الآية ما يدلّ على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف، فإنّ اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبةٍ ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاًن ولا يدعي أحدٌ لأحدٍ من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. اهـ. وفيه تعريض بالزمخشري، فإنه استدل بالآية على نفي كرامات الأولياء، قال: لأنَّ الله خصّ الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. قال بعض العلماء: ولا غرابة في إنكار معظم المعتزلة لكرامات الأولياء؛ إذ هم لم يُشاهدوا في جماعتهم الضالة المضلة ولياً لله تعالى قط، فكيف يعرفون الكرامة؟!!. اهـ.
{فإنه يَسْلُكُ}؛ يدخل {مِن بين يديه} أي: الرسول، {ومِن خلفه} عند إظهاره على غيبه، {رَصَداً}؛ حفظة وحَرَساً من الملائكة يحفظونه من تعرُّض الشيطان، لما أظهره عليه من الغيوب، ويعصمونه من وساوسهم، وتخاليطهم حتى يُبلغ الوحي، {ليعلم} اللهُ عِلْمَ شهادة {أن قد أَبلغوا} أي: الرسل {رسالات ربهم} كاملة، بلا زيادة ولا نقصان، إلى المرسَل إليهم، أي: ليعلم ذلك على ظهور، وقد كان يعلم ذلك قبل وجوده.
ووحّد الضمير في {يديه وخلفه}؛ مراعاة للفظ {مَن}، وجمع في {أَبلَغوا} لمعناه، و{أن} مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، والجملة خبرها، {وأحاط} الله تعالى {بما لديهم} أي: بما عند الرسل من العلم {وأحْصَى كُلَّ شيءٍ عَدَداً}، من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحر، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟! و{عدداً}: حال، أي: علم كلّ شيءٍ معدوداً محصوراً، أو مصدر، أي: أحصاه إحصاءً.
الإشارة: ومَن يعص اللهَ ورسولَه، أو خليفته الداعي إلى الله بطريق التربية النبوية، فإنَّ له نار القطيعة، خالدين فيها أبداً، وقد كانوا في حال حياتهم يستظهرون عليه بالدعاوى الفارغة، وكثرة الأتباع، حتى إذا رأوا ما يُوعدون من أمارات الموت، فسيعلمون مَن أضعف ناصراً وأقل عدداً، قل: إن أدري أقريب ما تُوعدون من الموت، أم يجعل له ربي أمداً، ولابد أن ينتهي، ويقع الرحيل إلى دار تنكشف فيها السرائر، ويُفضح فيها الموعود. عالم الغيب، أي: يعلم ما غاب عن الحس من أسرار ذاته وأنوار ملكوته، أي: يعلم أسرار المعاني القائمة بالأواني، فلا يظهر على غيبه أحداً، أي: لا يكشف عن اسرار ذاته في دار الدنيا إلاّ لمَن ارتضى من رسول، أو نائبه، وهو العارف الحقيقي، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَداً، أي: يحفظه من جميع القواطع، من كل جهاته، حتى يوصله إلى حضرة أسرار ذاته، ليظهر أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ودعوا الناس إلى معرفة ذاته، وقد أحاط تعالى بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة المزمل:

.تفسير الآيات (1- 10):

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها المزَّمِّلُ} أي: المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه، أي: التفّ بها، بإدغام التاء في الزاي. قال السهيلي: المزمّل: اسم مشتق من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم حين الخطاب، وكذلك المُدَّثِر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة؛ فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفةَ المخاطَب، وتَرْكَ عتابه، سَمَّوه باسم مشتق من حالته، كقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة: «قم أبا تراب» إشعاراً له أنه غير عاتب عليه، وملاطفةَ له. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمّل، راقد ليله، لينتبه إلى قيام الليل وذكرِ الله فيه؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطَب، وكل مَن عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة. اهـ.
وكان صلى الله عليه وسلم ذات ليلة متزمِّلاً في ثيابه نائماً، فنزل جبريل يأمره بقيام الليل بقوله: {قَمْ الليلَ} أي: قُم للصلاة بالليل، ف {الليل} نصب على الظرفية، و{إلاَّ قليلاً}: استثناء من الليل، و{نِصْفَه}: بدل من {الليل} الباقي بعد الثنيا، بدل الكل، أي: قُم نصفه، أو: مِن {قليلاً}، والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزاء المقارن للقيام، والإيذان بفضله، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب. {أو انقُصْ منه}؛ من النصف نقصاً {قليلاً} إلى الثلث، {أو زِدْ عليه}، على النصف إلى الثلثين، فالمعنى: تخييره صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصفَه أو أقلّ منه أو أكثر. وقيل: {نصفه} بدل من {الليل}، و{إلاّ قليلاً} مستثنى من النصف، فالضمير في {منه} و{عليه} للنصف، والمعنى: التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول. أنظر أبا السعود.
والجمهور: أن الأمر هنا للندب، وقيل: كان فرضاً وقت نزول الآية، وقيل: كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وبقي كذلك حتى تُوفي.
{وَرَتِّلِ القرآن} في أثناء قيامك بالليل، أي: اقرأه على تُؤدة وتبيين حروفٍ ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكن السامع مِن عَدٍّها، من قولهم: ثغر رَتَل: إذا كان مفلّجاّ. وترتيلُ القرأن واجب، فمَن لم يرتِّله فهو آثم إذا أخلَّ بشيء من أداء التجويد، كترك الإشباع أو غيره. والمقصود من الترتيل: تدبُّر المعاني، وإجالة الفكر في أسرار القرآن. قال في الإحياء: واعلم أنّ الترتيل أشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال، والمقصود من القرآن: التفكُّر، والترتيلُ مُعين عليه.
وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
{إِنَّا سنُلْقِي} أي: سنُنزل {عليك قولاً ثقيلاً} وهو القرآن العظيم، المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلّفين، أو: ثقيلاً على المنافقين، أو: ثقيلاً لرزانة لفظه، ومتانة معناه، أو: ثقيلاً على المتأمِّل؛ لافتقاره إلى مزيد تأمُّل وتفرُّغ للسر، وتجريدٍ للنظر، أو ثقيلاً في الميزان، أو ثقيلاً تلقيه من جبريل، فقد كان عليه السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ، فَيَفْصِم عنه، وإنّ جبينه لَيتَفَصَّدُ عَرَقاً.
{إِن ناشئةَ الليلِ} أي: قيام الليل، مصدر من نشأ إذا قام ونهض، على وزن فاعلة، كالعافية العاقبة، أو: إنَّ النفس التي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض، أو: إن العبادة التي تنشأ بالليل، أي: تحدث، أو: ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين يُصلّي بين العشاءين ويقول: هذه ناشئة الليل. قلت: وهذا وقت كان السلف يحرصون على عمارته بأنواع العبادات؛ لأنه يمحوا ظلمة النهار التي تُكتسب من شغل الدنيا. {هي أشَدُّ وَطْأً} أي: موافقة للقلب. وقرأ البصري والشامي {وِطاء} أي: وِفاقاً، أي: يوافق فيها القلبُ اللسانَ، وعن الحسن: أشدّ موافقة بين السر والعلانية؛ لانقطاع رؤية الخلائق وغيرها، أو: أشدّ ثباتَ قَدَم وكلفة، أي: أثقل على المصلي من صلاة النهار؛ لطرد النوم في وقته، من قوله عليه السلام: «اللهم اشْدُدْ وطْأَتَك على مُضَرَ» {وأقْوَمُ قِيلاً} أي: أصْوب مقالاً، وبه قرأ أنس، فقيل له: إنما هو أقوم فقال: أقوم وأصوب واحد، وإنما كانت قراءة الليل أصوب قولاً؛ لقلة خطأ اللسان فيها؛ لتفرُّغه من ثقل الطعام، وقيل: المعنى: أثبت قراءةً؛ لحضور القلب؛ لهدوّ الأصوات، وانقطاع الحركات.
{إِنّ لك في النهار سَبْحاً طويلاً} أي: تصرُّفاً وتقلُّباً في مهمّاتك واشتغالاً بتعليم أمتك، فتفرّغ بالليل لعبادة ربك. {واذكر أسْمَ ربك} أي: دُم على ذكره في الليل والنهار، على أي وجهٍ، من تسبيح وتهليل وتكبير، وقراءة قرآن، وتدريس علم. {وتبتلْ إِليه} أي: انقطع إلى عبادته عن كل شيءٍ، بمجامع الهمة، واستغراق العزيمة. والتبتُّل: الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره، وقيل: رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله. وأكّده بقوله: {تبتيلا} زيادةً في التحريض، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
{ربُّ المشرقِ والمعربِ} أي: هو رب، أو: مبتدأ خبره: {لا إِله إلاّ هو}، ومَن قرأه بالجر فبدل من {ربك}، وقيل: على إضمار القسم، وجوابه: لا إله إلاّ هو، أي: وربِّ المشرق لا إله إلا هو، كقولك: والله لا أحد في الدار. {فاتَّخِذْه وَكِيلا} أي: وليًّا وكفيلاً بما وعدك من النصر والعز. والفاء لترتيب ما قبله، أي: إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب، وأن لا إله إلا هو، فاتخذه كفيلاً لأمورك. {واصبرْ على ما يقولون} في جانبي من الصاحِبة والولد، وفيك مِن الساحر والشاعر، {واهجرهم هَجْراً جميلاً} بأن تُجانبهم وتداريَهم ولا تجافهم، بل كِلْ أمرهم إلى ربهم، كما يُعرب عنه ما بعده، أون: جانبهم بقلبك وخالطِهم بجسمك مع حسن المخالطة وترك المكافأة، وقيل: هو منسوخ بآية القتال.
الإشارة: يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى: {ورتِّل القرآنَ ترتيلا} خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له أبو عيسى التلمساني، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه: لون كان يقول: القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت: وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية: أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء؟!.
وقوله تعالى: {إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا}، قال القشيري: {ثقيلاً} أي: له خطْر ويقال: لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. اهـ. قال الورتجبي: وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. اهـ. المراد منه. {إنَّ ناشئة الليل} أي: نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي: موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس.
وكان الشيخ أبو يزيد يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك: دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... إلخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى: {إن لك في النهار سَبْحاً طويلا} السَبح هو العوم، أي: إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي: مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. {واهجرهم هجراً جميلاً}، قال القشيري: أي: عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال: الهجرُ الجميل: ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. اهـ.