فصل: تفسير الآيات (52- 54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (52- 54):

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
قلت: {من أنصاري إلى الله}: الجار يتعلق بحال محذوفة، أي: ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه، أو مُضيفاً نفسه إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، أو يتعلق ب {أنصاري}؛ مضمِّناً معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصره. وحواري الرجل: خاصته، الذي يستعين بهم في نوائبه، وفي الحديث عنه- عليه الصلاة والسلام-: «لكلِّ نبي حَوَاري، وحَوارِيي، الزُّبَيْر» وحواريوا عيسى: أصحابه الذين نصروه، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. والحَوَرُ: البياض الخالص، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته، ويقال للبيضاء من النساء: حوارية. وقيل: كان الحواريون قًصَّارين، يُحَوِّرُون الثياب، أي: يبيضونها، وقيل: كانوا ملوكاً يلبسون البياض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فلما أحسن عيسى} من بني إسرائيل {الكفر}، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس، بعدما بُعث إليهم، وأرادوا قتله، فرَّ منهم واستنصر عليهم، و{قال من أنصاري} ملجئاً {إلى الله}، أو ذاهباً إلى نصر دينه، {قال الحواريون نحن أنصار الله} أي: أنصار دينه، {آمنا بالله وأشهد} علينا بأننا {مسلمون}؛ لتشهد لنا يوم القيامة، حين يشهد الرسل لقومهم، {ربنا آمنا بما أنزلت} على نبيك من الأحكام، {واتبعنا الرسول} عيسى عليه السلام، {فاكتبنا مع الشاهدين} بوحدانيتك، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- فإنهم شهداء على الناس.
قال عطاء: سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً، واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها: كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون.
ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطؤوا عليه، {ومكروا} أي: دبروا الحيل في قتله، {ومكر الله} بهم، أي: استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل: هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تُسند إلى الله إلى على حسب المقابلة والازدواج: كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النِّساء: 142]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، {والله خير الماكرين}. أي: أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة؛ لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه.
تنبيه: قيل للجنيد رضي الله عنه: كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية:
فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ ** ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ

أُحِبّك لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي ** وإن يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا

وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي ** وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ

فقال له السائل: أسألُك عن القرآن، وتجيبني بشعر الطبرانية؟ قال: ويحك، قد أجبتك إن كنت تعقل. إنَّ تخليته إياهم مع المكرية، مكرٌ منه بهم. اهـ.
قلت: وجه الشاهد في قوله: (وتفعله فيحسن منك ذاك)، ومضمن جوابه: أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان، لا عيب فيه ولا نقصان، كما قال صاحب العينية:
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ ** أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ

يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ ** فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

وتخليته تعالى إياهم مع المكر، تسبب عنه الرفع إلى السماء، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان، حتى ينزل خليفة عن نبينا- عليه الصلاة والسلام-، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان.
الإشارة: يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين، الذين يجعلهم الله حواري الدين، ففي الحديث الصحيح: «خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ» فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال، يهربون من حس الدنيا وشغبها، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله، وهم أهل التجريد، الذي اصطفاهم الله لخالص التوحيد، فروا إلى الله فآواهم الله، قالوا: {آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون} منقادون لما تريد منا، {ربنا آمنا بما أنزلت} من الأحكام الجلالية والجمالية، قد عرفناك في جميع الحالات، {فاكتبنا مع الشاهدين} لحضرتك، المنعمين بشهود ذاتك، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية، وانصرنا فإنك خير الناصرين، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين.

.تفسير الآيات (55- 58):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}
قلت: {إذ قال}: ظرف لمقدر، أي: اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، و{متوفيك} أي: رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم: توفيت كذا واستوفيته: قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك؛ بدليل قوله تعالى: {وَهُوَا الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} [الأنعَام: 60]، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت، قال تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم}، وقوله: {ذلك} مبتدأ، و{نتلوه}: خبر، و{من الآيات}: حال، أو {من الآيات}: خبر، و{نتلوه}: حال، أو خبر بعد خبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: اذكر {إذ قال الله} لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه: {يا عيسى إني متوفيك}، أي: قابضك إليّ ببدنك تامّاً، {ورافعك إليَّ} أي: إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، {ومطهرك من الذين كفروا} أي: من مخالطة دنس كفرهم، {وجاعل الذين اتبعوك}؛ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين، وقال قتادة والشعبي والربيع: هم أهل الإسلام. اهـ. فوالله ما اتبعه من ادعاه ربا، فمن تبع دينه حقّاً وقد حقق الله فيهم هذا الأمر، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا.
ثم قال تعالى: {ثم إليَّ مرجعكم} بالبعث، {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين وأمر عيسى. {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة} أي: فأجمع لهم عذاباً الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي. {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم} في الدارين بالنصر والعز في الدنيا، وبالرضا والرضوان في الآخرة، {والله لا يحب الظالمين}؛ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه.
{ذلك} الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما، {نتلوه عليك من الآيات} أي: العلامات الدالة على صدقك، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب، بل هي من {الذكر الحكيم}، وهو القرآن المبين.
الإشارة: كل ما طهر سره من الأكدار، وقدس روحه من دنس الأغيار، ورفع همته عن هذه الدار، عرج الله بروحه إلى سماء الملكوت، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت، وبقي ذكره حيّاً لا يموت، وجعل من انتسب إليه في عين الرعاية والتعظيم، وفي محل الرفعة والتكريم، قال- عليه الصلاة والسلام-: «هَاجِرُوا تكسبوا العز لأولادكم»، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات، والركون إلى العوائد والمألوفات، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس، وتمكن من العز الذي لا يفنى، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه؛ إلى أن يرث الأرض ومن عليها، {وهو خير الوارثين}. هذه سنة الله في خلقه، لأنهم نصروا دين الله ورفعوا كلمة الله، فنصرهم الله، ورفعهم الله، قال تعالى: {إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محَمَّد: 7]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هي الْعُلْيَا} [التّوبَة: 40]. وفي الحكم: (إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى). والله تعالى أعلم.
وقال القشيري: الإشارة فيه: إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. اهـ. وقال الورتجبي: متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. اهـ.

.تفسير الآيات (59- 60):

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن مثل عيسى عند الله} أي: إن شأنه الغريب في كونه وجد من غير أب {كمثل آدم}. ثم فسر شأن آدم فقال: {خلقه من تراب} أي: خلق قالبه من تراب، {ثم} نفخ فيه الروح، و{قال له كن فيكون} أي: فكان، فشأنه أغرب من شأن عيسى، لأنه وجد من غير أب ولا أم، بخلاف عيسى عليه السلام، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طبع الله على قلبه، فاستعجز القدرة الإلهية، {وكان الله على كل شيء مقتدراً}. هذا هو {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} أي: الشاكين في مخلوقيته، وهذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، على طريق التهييج لغيره، أو لكل سامع.
وسبب نزول الآية: أنَّ وفد نجران قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا، فتقول: إنه عبد؟ قال: أجل، هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول، فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم}. أي: فهو أعجب من عيسى، لكونه بلا واسطة أصلاً. رُوِيَ أن مريم حملت بعيسى وهي بنت ثلاث عشر سنة، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين.
قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، فإنه نازل بأمتي وخليفتي فيهم، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وليسلكن الروحاء حاجّاً أو معتمراً، أو ليَثْنِينَّهما جميعاً، ويقاتل الناس على الإسلام، حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة، الكذاب الدجال، وتقع في الأرض الأمنة، حتى ترتفع الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتزوج ويولد له ثم يتوفى.، ويصلي المسلمون عليه» ويدفنونه في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- أظهر هذا الآدمي في شكل غريب، وسر عجيب، جمع فيه بين الضدين، وأودع فيه سر الكونين، نوراني ظلماني، روحاني جسماني، سماوي أرضي، ملكوتي ملكي، معنوي حسيّ، أودع فيه الروح نورانية لاهوتية في نطفة ناسوتية، فوقع التنازع بين الضدين، فالروح تحن إلى وطنها اللاهوتي، والنطفة الطينية تحن إلى وطنها الناسوتي، فمن غلب روحانيته على طينته التحق بالروحانيين، وكان من المقربين في أعلى عليين، فصارت همته منصرفة إلى طاعة مولاه، والارتقاء إلى مشاهدة نوره وسناه، فانياً عن حظوظه وهواه، من غلبت طينته على روحانيته التحق بالبهائم أو الشياطين، وانحط إلى أسفل سافلين، وكانت همته منصرفة إلى حظوظة وهواه، غائباً عن ذكر مولاه، قد اتخذ إلهه هواه.
وتأمل قضية السيد عيسى عليه السلام لمَّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية، كيف غلبت روحانيته، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلاً، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها في الأصالة، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة، كيف صارت أرواحهم لا تشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار، فانية في محبة الواحد القهار، حتى لحقت بوطنها، ورجعت إلى أصلها، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين في إدراك الروح المقام، إن لم يغلب عليها عالم الصلْصَال. والله- تعالى- أعلم.

.تفسير الآيات (61- 63):

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
قلت: {أصل} {تعالوا}: تَعالَيُوا، على وزن تفاعلوا، من العلو، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها، ثم حذفت، ومن قرأ بالضم نقل، وأصل معناها: ارتفع، ثم أطلق على الأمر بالمجيء. والابتهال: التضرّع والمبالغة في الدعاء.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فمن} خاصمك يا محمد في شأن عيسى عليه السلام، وكان الذي خاصم في ذلك السيد والعاقب، لما قدموا مع نصارى نجران على النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أسلما»، قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما عيسى لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير»، قالا: إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه؟ فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيِّم كل شيء، ويحفظه، ويرزقه؟ قالوا: بلى، قال: فهل ملك عيسى شيئاً من ذلك؟ فقالوا: لا. قال: ألستم تلعمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدث، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يُغَذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: كيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا». فأنزل فيهم السورة إلى هنا.
فقال الحقّ لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {فمن حاجّك فيه} أي: في عيسى من النصارى، {من بعد ما جاءك من العلم} بعبوديته، {فقل} لهم: {تعالوا} نَتَلاَعَنُ، أي: نلعن الكاذبَ منا؛ {ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي: يدعون كل واحد منا نفسه وأعزّة أهله وألصفهم بقلبه إلى المباهلة، وإنما قدَّمهم على النفس؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه دونهم، فكان تقديمهم أبلغ في الابتهال، {ثم نبتهل}، أي نجهد في الدعاء على الكاذب، {فنجعل لعنة الله على الكاذبين}.
فلما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران، ودعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا، فقالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم-: ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من أمر صاحبكم، والله ما لاعن قومٌ قط نبيّاً فعاش كبيرُهم، ولا نبت صغيرُهم، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن، فوادِعُوا الرَّجُلَ: وانصرفوا، فأتوه وهو محتضنٌ الحسن آخذ بيد الحسين، وفاطمةُ تمشي خلفه، وعَلِيّ خلفها، وهو يقول لهم: «إِذَا دَعَوْتُ فَأمِّنُوا»، فقال الأسقُف: يا معشر النصارى، إني لأرى وجُوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً من ماكنه لأزاله، فلا تتباهلوا فتهلكوا جميعاً إلى يوم القيامة.
فقالوا: يا أبا القاسم، نرى ألا نلاعنك، فقال النبيّ صلى لله عليه وسلم: «أسْلِمُوا يَكُنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم»، فأَبَوا، فقال: «إني أُنابذكم»، فقال: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تَرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفَيْ حلة، ألفاً في صَفَر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً من حديد. فصالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبيّ: «والذي نفسي بيده لو تلاعنوا لمُسِخُوا قِرَدَة، وخَنَازِيرَ، ولأضْرَمَ عَلَيْهِمْ الوَادِي نَاراً ولاستأصَل اللّهُ نَجْرَان وأهْلَهُ، ولَمَا حَالَ الحَوْلُ على النَّصَارى كُلِّهِْ حَتى هَلكوا».
قال الله تعالى: {إن هذا} الذي أوحينا إليك {لهو القصص الحق وما من إله إلا الله}، خلافاً لما يزعم النصارى من التثليث، {وإن الله لهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه، فلا أحد يساويه في قدرته التامة، ولا في حكمته البالغة، {فإن تولوا} وأعرضوا عن الإيمان، {فإن الله عليم بالمفسدين}، الذي يعبدون غير الله. ووضع المظهر موضع الضمير، ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين، بل يؤدي إلى فساد العالم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للمريد، الذي تحقق بخصوصية شخيه، أن يلاعن من يخاصمه فيه، ويبعد عنه كل البعد، ولا يهي له لئلا يركبه، ويدفع عن شيخه ما استطاع، فإنَّ هذا من التعظيم الذي هو سببٌ في سعادة المريد، ولا يصغي إلى المفسدين الطاعنين في أنصار الدين. قلت: وقد جاءني بعض من ينتسب إلى العلم من أهل فاس، فقال لي: قد اتفقت علماء فاس على بدعة شيخكم، فقلت له: لو اتفق أهل السماوات السبع والأرضين السبع، على أنه من أهل البدعة، لقلت أنا: إنه من أهل السنّة، لأني تحققت بخصوصيته، كالشمس في أفق السماء، ليس دونها سحاب. فالله يرزقنا حسن الأدب معهم والتعظيم إلى يوم الدين. آمين، فمن أعرض عن أولياء الله من المنكرين؛ {فإن الله عليم بالمفسدين} ثم دعاهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه سائر الأديان.