فصل: تفسير الآيات (11- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 30):

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ذَرْنِي ومَنْ خلقتُ} أي: كِلْ أمره إليَّ فأنا أكفيك أمره، وهو الوليد بن المغيرة، وقوله: {وحيداً}: حال من عائد الموصول، أي: خلقته منفرداً، لا مال له ولا ولداً، أو من الياء، أي: ذرني وحدي معه، فأنا أكفيكه، أو من التاء، اي: خلقته وحدي ولم يشاركني في خلقه أحد، والأول أنسب بقوله: {وجعلتُ له مالاً ممدوداً}؛ مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء، وكان له الزرع والضرع والتجارة، وعن مجاهد: له مائة ألف دينار، وكان له أرض بالطائف، لا تنقطع ثمارها صيفاً وشتاءً، {وبنينَ شُهوداً}؛ حضوراً معه بمكة لغناهم، يتمتع بشهودهم، لا يفارقونه لعمل، لكونهم مكُفيين، أو حضوراً في الأندية والمحامل لوجاهتهم، واعتيادهم، وكانوا عشرة، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: سبعة، كلهم رجال، الوليد بن الوليد، وخالد، وعمار ة، وهشام، والعاصي، وقيس، وعبد شمس، أسلم منهم خالد وهشام وعمارة، وجعل السهيلي بدل عمارة الوليدَ بن الوليد، وهو الصحيح، وفيه قال عليه السلام: «اللهم أنج الوليد بن الوليد» حين كان يُعذّب بمكة على الإسلام، والوليد هذا كان سبب إسلام أخيه خالد، وكان خالد فارًّا منه صلى الله عليه وسلم، فسمع الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أتانا لاأكرمناه»، فكتب إليه، فوقع الإسلام في قلبه، وسمّاه سيفاً من سيوف الله، به فتح الله كثيراً من البلدان، وأما عُمارة فذكر غيرُ واحد أنه مات مشركاً عند النجاشي، ويروى أنَّ النجاشي قتله بسبب اختلافه إلى زوجته، ووشى به عَمْرُو بن العاص، كما ذكره الطيبي. انظر المحشي.
{ومَهَّدتُ له تمهيداً} أي: بسطت له الجاه العريض، والرياسة، حتى كان يُلقَّب ريحانة قريش، فأتممت عليه نعمتَي الجاه والمال، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، {ثم يطمعُ أن أزيدَ} على ما أوتيه من المال والولد والجاه من غير شكر، وهور استبعاد واستنكارٌ لطمعه وحرصه. وعن الحسن: يطمع أن أزيده الجنة، فأعطيه فيها مالاً وولداً، كما قال العاصي: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم: 77]، وكان من فرط جهله يقول: إن كان محمد صادقاً فما خُلقت الجنة إلاَّ ليَ.
{كلاَّ}: ردع وزجر عن طمعه الفارغ، وقطع لرجائه الخائب، أي: لا نجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النِّعم، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه، وانتكاس، حتى هلك، {إِنه كان لآياتنا}؛ القرآن {عنيداً}؛ معانداً جاحداً، وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأنّ قائلاً قال: لِمَ لا يُزاد؟ فقال: إنه عاند آيات المنعِم، مع وضوحها، وكَفَرَ نعمته مع سُبُوغها، وهو مما يوجب حرمانها بالكلية، مع أن ما أوتيه إنما هو استدراج يوجب مزيد العذاب، كما قال تعالى: {سأُرهقه صَعوداً}؛ سأُغشيه بدل ما يطمعه من الجنة عقبة شاقة المصْعد، وهو مثل لِما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يُطاق، وفي الحديث: «الصعود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً».
ثم علّل استحقاقه لهذا العذاب بقوله: {إِنه فَكَّر} ما يقول في شأن القرآن، {وقَدَّر} في نفسه ما يقوله وهياه، كأنه تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده، ويُعاقبه في الآخرة بأشد العذاب، لبلوغه بالعناد غايته، حيث قال في كلامه تعالى المعجِز: سحراً، وفي رسوله عليه السلام: ساحراً، {فقُتل} أي: لُعن {كيف قَدَّر ثم قُتل كيف قَدَّر}؟ كرّر للتأكيد، و{ثم} للإشعار بأنَّ الدعاء الثاني أبلغ، وقيل: هو تعجيب من تقديره وإصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش، قاتلهم الله، كما يقال: قاتله الله ما أشجعه، وأخزاه الله ما أشعره! رُوي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ {حم} غافر، أو فُصلت، ثم رجع إلى بني مخزوم فقال: والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لَطلاوة، وإنَّ أعلاه لمُثمر، وإنَّ أسفله لمُغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتَصْبُوَنّ قريش كلها، فقال ابن أخيه أو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق إليه حزيناً، فقال له: ما لي أراك حزيناً؟ فقال: وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كِبر سنك، يزعمون أنك زيّنت كلام محمد، تدخل على ابن أبي كبشة وأبي قحافة، لِتنال من طعامهم، فغضب الوليد، وقصدهم، وقال: تزعمون أنَّ محمداً مجنون، فهل رأيتموه يُخْنِقُ قط؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالو: لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن قط؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كذّاب، فهل جريتم عليه من الكذب قط؟ قالوا: اللهم لا، ثم قالوا له: فما هو؟ ففكَّر فقال: ما هو إلاَّ ساحر، أمّا رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن أهل بابل، فارتجّ النادي فرحاً، وتفرّقوا معْجبين بقوله متعجبين منه، وهذا معنى قوله: {إنه فكَّر...} إلخ.
{ثم نَظَرَ} أي: في القرآن مرة بعد مرة، أو نظر بأي شيء يَرُدُّ الحقَّ، أو فيما قدّر، {ثم عَبَسَ}؛ قطَّب وجهه لمَّا لم يجد فيه مطعناً، ولم يدرِ ماذا يقول، وقيل: نظر في وجوه الناس، ثم قطَّب وجه، {وبَسَرَ}؛ زاد في العبوسة والكلوح، {ثم أدبرَ} عن الحق، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، {واستكبر} عن اتباعه، و{ثم نظر}: عطف على {قَدَّر}، والدعاء اعتراض، وإيراد {ثم} في المعطوفات لبيان أنَّ بين الأفعال والمعطوفة تراخياً أو تفاوتاً، {فقال إِنْ هذا إِلاّ سِِحْر يُؤثَرُ} أي: يُروى ويُتعلم، والفاء للدلالة على أنَّ هذه الكلمة لمّا خطرت بباله تفوَّه بها من غير تَلعثم ولا تلبُّث وقوله: {إِنْ هذا إِلاَّ قولُ البشرِ} تأكيد لِما قبله، ولذلك أخلى عن العاطف.
قال تعالى: {سأُصليه}؛ سأُدخله {سَقَر}، وهو بدل من {سأُرهقه صَعُوداً} وسقر: علم لجهنم، ولم ينصرف للتعريف والتأنيث، {وما أدراك ما سَقَرُ}، تهويل لشأنها، {لا تُبقي ولا تَذرُ}، بيان لحالها، أي: لا تُبقي شيئاً يُلقى فيها إلاَّ أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يُعاد، أو: لا تُبقي لحماً، ولا تّذرُ عظماً، أو: لا تُبقي لحماً إلاّ أكلته، ولا تدع أن تعود عليه أشد ما كانت، وقال الضحاك: إذا أخذت فيهم لم تُبق منهم شيئاً، وإذا أُعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم، ولكل شيء فترة ومَلالة إلاّ جهنم. اهـ.
{لوَّحاةٌ للبَشرِ} أي: مغيّرة للجلود حتى تُسوّدها، تقول العرب: لاحته الشمس ولوَّحته، أي: غيَّرته، قيل: تلفح الجلد لفحة، فتدعه أشد سواداً من الليل، وقال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، نظيره: {وَبُرِزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] والبشر: اسم، جمع بشرة، وهي ظاهر جلد الإنسان، ويجمع أيضاً على أبشار، {عليها تسعةَ عشرَ} أي: على أمرها تسعة عشر ملكاً، خزنتُها، وقيل: تسعة عشر صِنفاً من الملائكة، وقيل: صفًّا، وقيل: نقيباً. قيل: الحكمة في تخصيص هذا العدد لخزنة جهنم؛ أن ذكرهم الذي يتقوَّون به البسلمة، وذلك عدد حروفها. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هذه الآية تَجُر ذيلها على كل مَن آتاه الله المالَ والجاه البنين، ثم جعل ينتقد على أولياء الله، ويحتقر أهل النسبة، بل على كل مَن يُطلق لسانه في أهل النسبة يناله ما نال الوليد؛ لأنه كان لآيات الله وهم خاصة أوليائه عنيداً جاحد القلب، وحاسداً، سأُرهقه صَعُوداً، أي: عذاباً متعباً له، في الدنيا بالحرص والطمع، وفقر القلب، وكذا العيش في الآخرة بسدل الحجاب، والطرد عن ساحة المقربين، إنه فَكَّر فيما يكيد به أولياءه، وقَدّر ذلك، فلُعن كيف قَدّر، ثم نظر إليهم فعبس وبسر. قلت: وقد رأيتُ بعض المتفقهة المتجمدين، إذا رأوا أحداً من أهل التجريد، عبسوا وقطَّبوا وجوههم، ولووا رؤوسهم، لشدة حَنقهم على هذه الطائفة، نعوذ بالله من الحرمان. وكل ما رُمي به صلى الله عليه وسلم من السحر وغيره قد رُمي به خلفاؤه، فيُقال لمَن رماهم وعابهم: سأُصليه سقر، نار القطيعة والبُعد، لا تٌبقي له رتبة، ولا تذر له مقاماً ولا جاهاً عند الله، تُزيل عنه سيما العارفين ومهجة المحبين وتغير بشريته بالكآبة والحسرة، والتأسُّف عن التخلُّف عن مقام المقربين، عليها، أي: على النار المحيطة بهم، تسعة عشر حجاباً؛ حجاب المعاصي القلبية والقالبية، ثم حجاب الغفلة، ثم حُب الدنيا، ثم حب الهوى، ثم الحسد، ثم الكفر، ثم الحقد، ثم الغضب، ثم حب الظهور، ثم حب الجاه، ثم الطمع، ثم الحرص، ثم خوف الفقر، ثم هَم الزرق، ثم خوف الخلق، ثم التدبير والاختيار، ثم العَجَلة، ثم الرعونة، ثم حجاب الحسد والوهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (31- 37):

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما جعلنا أصحابَ النار} أي: خزنتها، المدبّرين لها، القائمين بتعذيب أهلها، {إِلاَّ ملائكةً} لأنهم خلاف جنس المعذّبين، فلا تأخذهم الرأفة والرقّة، ولأنهم أشد الخلقِ بأساً، فللواحد منهم قوة الثقلين، ونَعَتهم صلى الله عليه وسلم فقال: «كَأَنَّ أعْيُنَهُمُ البَرقُ، وكأنَّ أفْواهَهم الصَّيَاصِي، يَجرُّون أشعَارَهم، لأحدِهم قوةُ الثَّقَلَيْنِ، يَسوقُ أحدُهُم الأُمَّةَ، وعَلَى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ فَيَرْمِيهم في النَّارِ، ويَرْمي الجبلَ عَلَيْهم» وفي رواية: «بيد كُلِّ واحدٍ منهم مِرْزَبَّة مِن حَديدٍ» وفي رواية عن كعب: «مَعَ كُلِّ واحد مِنْهم عَمودٌ وشعبتَان يَدْفع به الدَّفَع يصرع به في النَّارٍ سَبعمَائَة أَلْفٍ، وبَيْن مِنْكَبَي الخازِنِ مِن خزَنَتِها مسيرةُ مَائةِ سَنَة» وفي حديث آخر: «ما بَيْن منكبي أَحَدهِم كَما بَيْن المشرقِ والمغرب، وليس في قلوبِهِمْ رَحْمَةٌ، يَضْربُ أحدُهم الرجلَ ضَربةً، فيتْركه طَحيناً من لَدُن قَرْنِه إلى قَدَمِهِ» وعن كعب: «يؤمر بالرجل إلى النار، فيبتدره مائة ألف ملك» قال القرطبي: المراد بقوله: {عليها تسعة عشر} رؤساؤهم، وأما جملة الخزنة فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى. انظر البدور السافرة.
رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} قال أبو جهل: أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، وأنتم ألدَّهم، أي: الشجعان؟ فقال أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، اكفوني أنتم اثنين، فنزلت الآية، أي: وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يُطاقون.
{وما جعلنا عِدَّتهم} تسعة عشر {إِلا فتنةً} أي: ابتلاء واختباراً {للذين كفروا} حتى قال أبو جهل ما قال، أي: وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم، فعبّر بالأثر عن المؤثّر، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة؛ بل جعله في القرآن أيضاً كذلك، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر، إذ بذلك يتحقق افتتانهم، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين إيماناً. انظر أبا السعود. وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل: أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة منهم يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد، والآخر خازن جهنّم، وهو مالك، وهو الأكبر. وقيل: في النار تسعة عشر دركاً، قد سلّط على كل درك مَلك، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب، وعلى كل لون ملك موكّل، وقيل غير ذلك.
{لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب}، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله، وهو متعلق بالجعل المذكور، أي: جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم، وصِدْقِ القرآن، لموافقته لِما في كتبهم، {ويزداد الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {إِيماناً} لتصديقهم بذلك، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل، أو: يزداد إيمانهم تيقُّناً؛ لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم، {ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون}، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب، حيث لم يقل: ولا يرتابوا؛ للتنبيه على تباين النفيين حالاً، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان، وكم بينهما؟ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث؛ للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك.
قاله أبو السعود.
وعطف على {يستيقن} ايضاً قولَه: {ولِيقولَ الذين في قلوبهم مرض}؛ شك؛ لأنَّ أهل مكة كان أكثرهم شاكين، أو: نِفاق، فيكون إخباراً بما سيكون بالمدينة بعد الهجرة، {والكافرون}؛ المشركون بمكة، المُصرُّون على الكفر: {ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً}؟ أي: أيُّ شيءٍ أراد بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل؟ وقيل: لمّا استبعدوه حسبوا أنه مَثَل مكذوب، أو: أيُّ حكمة في جعل الملائكة تسعة عشر، لا أكثر أو أقل؟ وإيراد قولهم هذا بالتعليل، مع كونه من باب فتنتهم؛ للإشعار باستقلاله بالبشاعة. و{مثلاُ}: تمييز، أو حال، كقوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً} [الأعراف: 73]. {كذلك يُضل اللهُ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء} أي: مثل ذلك الضلال وتلك الهداية يُضل الله مَن يشاء إضلاله، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق، ويهدي مَن يشاء هدايته بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهُدى، فمحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، إضلالاً وهدايةً كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية.
{وما يعلمُ جنودَ ربك} أي: جموع خلقه، التي من جملتها الملائكة المذكورون، {إلاّ هو}، إذ لا سبيل لأحد إلى حصر مخلوقاته، والوقوف على حقائقها وصفتها، ولو إجمالاً، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها، من كَم وكيف ونسبة، فلا يَعِز عليه جعلُ الخزنة أكثر مما هو عليه، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، {وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر} هذا متصل بوصف سقر، أي: ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر؛ لينزجروا عن القبائح.
{كَلاَّ}؛ ردع لمَن أنكرها، أو نفي لأن يكون لهم تذكُّر، بعد أن جعلها ذِكرى، أي: لا يتذكرون لسبق الشقاء لهم، {والقمرِ}، أقسم به لِعظم منافعه، {والليلِ إِذْ أدبرَ} أي: ذهب، يقال: أدبر الليل ودبر: إذا ولّى، ومنه قولهم: صاروا كأمس الدابر، وقيل: أدبر: ولّى، ودَبَر جاء بعد النهار، {والصُبحِ إِذا أسفر}؛ أضاء وانكشف، وجواب القسم: {إِنها} أي: سقر {لإِحدَى الكُبَرِ} جمع كبرى، أي: لإحدى الدواهي أو البلايا الكُبْر، ومعنى كونها إحداهن: أنها من بينهن واحدة في العِظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء.
{نذيراً للبشر}: تمميز لإحدى، أي: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك: هي إحدى النساء جمالاً، أو حال مما دلّت عليه الجملة، أي: عظمت منذرة، {لمَن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر}: بدل من البشر، بإعادة الجار، أي: نذيراً لمَن شاء منكم أن يسبق إلى الخير أو يتأخر عنه، وعن الزجاج: أن يتقدّم إلى ما أمر به، ويتأخر عما نهى عنه، وقيل: {لمَن شاء}: خبر، و{أن يتقدّم}: مبتدأ، فيكون كقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. قال المحَشي: وحاصله: أنّ العبد متمكن من كسب الخير وضده، ولذلك كلّفه؛ لأنه علّق ذلك على مشيئته، وليس حجة؛ لكونه مستقلاً غير مجبور؛ لأنَّ مشيئته مُعلقة على مشيئة الله، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [الإنسان: 30] {كَلاَّ إِنَهُ تَذْكِرَةُ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [المدثر: 54-56]، وما نبهت عليه من التمكُّن والاختيار في الظاهر هو فائدة بدل {لمَن شاء} من البشر. اهـ.
الإشارة: من أسمائه تعالى الجليل والجميل، فوَكَّل بتنفيذ اسمه الجليل جنوداً يَجرُّون الناسَ إلى أسباب جلاله، من الكفر والعصيان، ووكَّل بتنفيذ اسمه الجميل جنوداً يَجرّون الناسَ إلى أسباب جماله من الهدى والطاعة، وما جعل ذلك إلاّ اختباراً واتبلاءً، لمن يُدبر عنه أو يُقبل عليه، وما جعلنا أصحابَ نار القطيعة إلاّ ملائكة، وهم حُراس الحضرة يملكون النفس، ويقذفونها في هاوية الهوى، وما جعلنا عدتهم تسعة عشر حجاباً كما تقدّم، إلاّ فتنة لأهل الغفلة، الكافرين بوجود الخصوصية، اختباراً لمَن يقف معها، فتحجبه عن ربه، ولمَن يتخلّص منها، فينفذ إلى ربه، ليستيقن أهل العلم بالله حين يطَّهروا منها، ويزداد السائرون إيماناً بمجاهدتهم في التخلُّص منها، ولا يبقى في القلب ريب ولا وَهْم، وليقول الذين في قلوبهم مرض من ضعف اليقين: ماذا أراد الله بخلق هذه الأمراض في قلوب العباد؟ فيُقال: أراد بذلك إضلال قوم عن حضرته، بالوقوف مع تلك الحُجب، وهداية قوم، بالنفوذ عنها، وما يعلم جنود ربك القاطعة عنه بقهره تعالى، والموصلة إليه برحمته، إلا هو. وقال الورتجبي: جنوده: عظمته وكبرياؤه وسلطانه وقهره، الذي صدرت منه جنود السموات والأرض، وله جنود قلوب العارفين، وأرواح الموحِّدين، وأنفاس المحبين، التي يستهلك بها كل جبّار عنيد، وكل قهّار عتيد. قيل: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تقفون على المخلوقات، فكيف تقفون على الأسامي والصفات؟!. اهـ.
ثم حذَّر من سَقَر الحظوظ، والسقوط في مهاوي اللحوظ، وأقسم أنها من الدواهي الكُبَر لِمن ابتُلي بها، حتى سقط في الحضيض الأسفل من الناس، فمَن شاء فليتقدّم إلينا بالهروب منها، ومَن شاء فليتأخر بالسقوط فيها، والغرق في بحرها. والعياذ بالله.