فصل: تفسير الآيات (38- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (38- 56):

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
يقول الحق جلّ جلاله: {كلُّ نفس بما كسبتْ رهينةٌ} أي: مرهونة، محبوسة عند الله تعالى بكسبها. ورهينة: فعلية، بمعنى مفعولة، وإنما دخلتها التاء، مع أن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول: رجل جريح، وامرأة جريح؛ لأنها هنا لم تتبع موصوفاً اصطلاحياً، ومَن قال: إنَّ الخبر في معنى الصفة فهي تابعة له، جعل {رهينة} اسماً بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، وقيل: إنَّ التاء في رهينة للنقل مع الوصفية للاسمية، لا للتأنيث، كما في نصيحة وذبيحة. اهـ. فكل واحد مرهون بذنبه.
{إِلاَّ أصحابَ اليمين} فإنهم فاكُّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، كما يفك الراهن رهنه بأداء الدَّين، وقيل: هم أطفال المسلمين؛ لأنهم لا أعمال لهم يُرهنون بها، وقيل: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، {في جنات}، لا يُكتَنَهُ كُنهها، ولا يُدرك وصفها، أي: هم في جناتٍ، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل: ما بالهم؟ فقال: هم {في جناتٍ يتساءلون}؛ يسأَل بعضهم بعضاً {عن} أحوال {المجرمين}، فيقول بعضهم لبعض: قد سألناهم فقلنا له: {ما سلككم في سقرٍ}؟ ف {قالوا لم نك من المصلين...} إلخ. قاله النسفي، ورده أبو السعود، فقال: وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضُهم بعضاً، على أن يكون كل واحد منهم سائلاً ومسؤولاً معاً، بل صدور السؤال عنهم مجرداً عن وقوعه عليهم، فإنَّ صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدد، ووقوعه عليه معاً، بحيث يصير كل واحد فاعلاً ومفعولاً معاً، كما في قولك: تراءى القوم، أي: رأى كُلُّ واحد منهم الآخر، لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني، ويقصد بها الدلالة على الأول فقط فيُذكر للفعل حينئذ مفعول، كما في قولك: تراءوا الهلال، فمعنى {يتساءلون عن المجرمين}: يسألونهم عن أحوالهم، وقد حذف المسؤول لكونه عيَّن المسؤول عنه، أي: يسألون المجرمين عن أحوالهم، وقوله تعالى: {ما سلككم في سقر}: مقول لقول هو حال من فاعل {يتساءلون} أي: يسألونهم قائلين: أيُّ شيء أدخلكم في سقر؟ فتأمل ودع عنك ما يتكلّف المتكلفون. اهـ.
{قالوا} أي: المجرمين مجيبين للسائلين: {لم نكُ من المصلِّين} للصلوات الواجبة، {ولم نك نُطعم المسكين} كما يُطعم المسلمون، وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة، {وكنا نخوض مع الخائضين} أي: نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، فنقول الباطل والزور في آيات الله، {وكنا نُكذِّب بيوم الدين}؛ بيوم الجزاء والحساب. وتأخير ذكر جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل؛ لتفخيمها، كأنهم قالوا: وكنا بعد ذلك مكذِّبين بيوم الدين، ولبيان كون تكذيبهم به مقارناً لسائر جناياتهم المعدودة مستمراً إلى آخر عمرهم، حسبما نطق به قوله تعالى: {حتى أتانا اليقينُ}؛ الموت ومقدماته، {فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين} من الملائكة والنبيين والأولياء والصالحين، لأنها خاصة بالمؤمنين، وفيه دلالة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وفي الحديث: «إن من أمتي مَن يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر».
{فما لهم عن الذكرةِ}؛ عن التذكير والوعظ بالقرآن {معرِضين}؛ مولّين، والفاء لترتيب ما قبلها من موجبات الإقبال عليه، والاتعاظ به من سوء حال المعرضين، و{معرضين}: حال من الضمير الواقع خبراً ل ما الاستفهامية، كقولك: ما لك قائماً؟ أي: فإذا كان حال المكذّبين به على ما ذكر من سوء الحال. فإيُّ شيء حصل لكم حال كونكم معرضين عن القرآن، مع تعاضد الدواعي إلى الإيمان؟ {كأنهم حُمُرٌ}؛ أي حُمر الوحش {مُستنفِرَةٌ}؛ شديدة النفار، كأنها تطلب النفار من نفوسها. وقرأ نافع والشامي بفتح الفاء، أي: استنفرها غيرُها، وجملة التشبيه حال من ضمير {معرضين} أي: مشبّهين بحُمر نافرة {فرّتْ من قسورة} أي: من أسد فَعْولة من القَسر، وهو القهر، وقيل: هي جماعة الرماة الذين يصطادونها، شُبِّهوا في إعراضهم عن القرآن، واستماع ما فيه من المواعظ، وشرودهم عنه بحُمر حدث في نفارها ما أفزعها. وفيه مِن ذمهم وتهجين حالهم من تشبيههم بالحُمر ما لا يخفى.
{بل يُريد كل امرئٍ منهم أن يُؤتَى صُحفاً مُنَشَّرةً}: عطف على مُقدّر يقتضيه الكلام، كأنه قيل: لم يكتفوا بتلك التذكرة، ولم يَرضوا بها، بل يُريد كل امرئ منهم أن يُؤتى {صُحفاً مُنشَّرة}؛ قراطيس تُنشر وتٌقرأ، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلَّ واحدٍ منا بكتاب من السماء، عنوانها: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، يؤمر فيها باتباعك، وهذا كقوله: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]. وقيل: قالوا: إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة، فيها براءته وأمنه من النار.
{كَلاَّ}، ردع لهم عن تلك الجرأة، وزجر عن اقتراح الآيات، {بل لا يخافون الآخرة} فلذلك يُعرضون عن التذكرة، لاَ لامتناع إيتاء الصُحف. {كَلاَّ إِنه تذكرةٌ} زجَرهم عن إعراضهم عن التذكرة، وقال: إن القرآن تذكرة بليغة كافية، {فمَن شاءَ ذكرَه} أي: فمَن شاء أن يذكره ذكره، وحاز سعادة الدارين، {وما يَذْكُرُون} بمنجرد مشيئتهم {إِلاّ أن يشاء اللهُ} هدايتهم فيذكرون، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: وما يذكرون لِعلةٍ من العلل، وفي حال من الأحوال، إلاَّ أن يشاء الله ذلك، وهو تصريح بأنَّ أفعال العباد كلها بمشيئة الله تعالى، وقرأ نافع ويعقوب بتاء الخطاب للكفرة. {هو أهلُ التقوى} أي: حقيق با، يُتقى عقابه، ويؤمن به ويُطاع، {وأهلُ المغفرةِ}؛ حقيق بأن يَغفر لمَن آمن به وأطاعه، وعنه عليه السلام في تفسيرها: هو أهل أن يُتّقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه.
وفي رواية ابن ماجه والترمذي: «قال الله تعالى: أنا أهل أن أُتَّقَى، فلا يُجعل معي إله آخر، فمَن اتقى ذلك فأنا أهل أن أغْفر له» قال ذلك عليه السلام لَمّا قرأ الآية. اهـ.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة...} إلخ، كلُّ واقفٍ مع حال، وملاحظ لمقام، فهو مرتهن، إلاّ مَن تجرّد مما دون الله، وهم أصحاب يمين مشاهدة الحق، فإنهم في جنان قُربه ووصاله. اهـ. أي: كل نفس واقفة مع حالها أو مقامها مرتهنة معه، إلاّ مَن ينفذ إلى شهود الحق، إنه يكون من قبضة اليمين الذين اختارهم الله بمحض الفضل، فهم في جنات المعارف يتساءلون عن الغافلين: ما سلككم في سقر السقوط من درجة القُرب والوصال؟ قالوا: لم نك من المُصلِّين الصلاة الدائمة، ولم نك نُطعم المسكين، بل كنا بُخلاء بأموالنا وأنفسنا، وكنا نخوض في أودية الدنيا مع الخائفين، وكنا نُكذّب بيوم الدين؛ لأنَّ أفعالهم كانت فعل مَن لا يُصدّق بيوم الحساب، حتى أتانا اليقين بعد الموت، فندمنا، فلم ينفع الندم وقد زلّت القَدَم، فما تنفع فيهم شفاعة الشافعين، حيث ماتوا غافلين؛ لأنَّ الشفاعة لا تقع في مقام القُرب والاصطفاء، فمَن مات بعيداً بسبب الغفلة لا يصير قريباً، ولو شفع فيه ألف نبي وألف وَلِيّ، إذ القُرب على قدر الكشف، وكشف الحجاب عن الروح إنما يحصل في هذه الدار، لقوله عليه السلام: «يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه» وإنما تقع الشفاعة في النجاة، أو في الدرجة الحسية، والله تعالى أعلم. فما لهم، أي: لأهل الإعراض عن المذكِّر، عن التذكرة منه مُعرضين، كأنهم حُمر الوحش فرّت من قسورة، وتشبيههم بالحُمر في البلادة والجهل، وكل مَن طلب الكرامة من الأولياء فهو كاذب في الطلب، إذ لو صدق في الطلب لأراه الله الكرامات على أيديهم كالسحاب، كلاَّ بل لا يخافون الآخرة، ولو خافوها وجعلوها نُصب أعينهم لما توقّفوا على كرامة ولا معجزة، والأمر كله بيد الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. وبالله التوفيق، وصلّى الله سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة القيامة:

.تفسير الآيات (1- 15):

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}
يقول الحق جلّ جلاله: {لا أُقسم} أي: أُقسم. وإدخال {لا} النافية على فعل القسم شائع، كإدخاله على المقسم به في {لا وربك} و{لا والله}، وفائدتها: توكيد القسم، وقيل: صلة، كقوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 25] وقيل: هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث، فقيل: لا، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: أُقسم {بيوم القيامة} إنَّ البعث لواقع. وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى. وقيل: أصله: لأُقسم، كقراءة ابن كثير على أنَّ اللام للابتداء، و{أٌقسم}: خبر مبتدأ مضمر، أي: لأنا أُقسم، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف.
{ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة}، الجمهور على أنه قسم آخر، وقال الحسن: الثانية نفي، أي: أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة، فيكون ذمًّا لها، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها، أي: أقسم بالنفس المتقية، التي تلوم صاحبها على التقصير، وإن اجتهدت في الطاعة. أو: بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة، وقيل: المراد الجنس، لِما رُوي أنه عليه السلام قال: «مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة، إنْ عَملت خَيْراً، قالت: كيف لم أزدْ؟! وإِنْ عملت شرًّا قالت: ليتني كُنتُ قصرتُ» وذكره الثعلبي من كلام البراء: قال أبو السعود: ولا يخفى ضعفه؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس، وقيل: بنفس آدم عليه السلام فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة.
وجواب القسم: لتُبعثنّ، دليله: {أيَحْسَبُ الإِنسانُ} أي: الكافر المنكرِ للبعث {ألَّن نجمعَ عِظامه} بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب، أو: نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض، أو: ألقتها في البحار. وقيل: إنَّ عَدِيّ بن ربيعة، خَتنَ الأخنس بن شريق، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفني جارَيْ السوء، عَدياً والأخنس» قال عَدِيّ: يا محمد، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره عليه السلام، فقال: يا محمد؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك، ولم أُومِنْ بك، أَوَيجمعُ الله هذه العظام؟ فنزلت. {بلى} أي: نجمعها حال كوننا {قادرين على أن نُسَوّي بنانه} أي: أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها، فكيف بكبار العِظام؟! {بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه}: عطف على {أيحسب} إمّا على أنه استفهام توبيخي، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو: على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام، أي: بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه.
قال القشيري: {لِيفجُر أمامه} أي: يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه، فلا تصحّ توبتُه؛ لأنّ التوبة من شرطها: العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه. اهـ. وقيل: {ليفجُرَ أَمامَه} أي: يكفر بما قُدامه، ويدل على هذا قوله: {يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ} أي: متى يكون؟ استبعاداً واستهزاءً.
{فإِذا بَرِقَ البصرُ} أي: تحيَّر، من: برق الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرأ نافع بفتح الراء، وهي لغة، أو من البريق، بمعنى لمع من شدة شخوصه، {وخَسَفَ القمرُ}؛ ذهب ضوؤه أو غاب، من قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ} [القصص: 81] وقرئ: خُسف، بضم الخاء. {وجُمعَ الشمسُ والقمرُ} أي: جُمع بينهما، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار، أو يُجمعان أسودين مكورين، كأنهما ثوران عقِيران. وفي قراءة عبد الله: {وجمع بين الشمس والقمر}. وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، أو: جمع بينهما في الطلوع من المغرب. {يقول الإِنسانُ يومَئذٍ} أي: حين تقع هذه الأمور العظام: {أين المفَرُّ} أي: الفرار من النار، يائساً منه، والمراد بالإنسان: الكافر، أو: الجنس، لشدة الهول. قال القشيري: وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، فيقول الإنسان: أين المفر؟ فيقال: لا مهرب من قضاء الله، {إلى ربك يومئذ المستقر}، أي: لا محيد عن حكمه. اهـ. والمفر: مصدر، وقرأ الحسن بكسر الفاء، فيحتمل المكان أو المصدر.
{كلاَّ}؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه، {لا وَزرَ}؛ لا ملجأ ولا حصن، وأصل الوَزر: الجبل الذي يمتنع فيه. قال السدي: كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال تعالى: لا جبل يعصمكم يومئذ مني، {إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ} أي: إليه خاصة استقرار العباد ومنتهى سيرهم، أو: إلى حُكمه استقرار أمرهم، أو: إلى مشيئته موضع قرارهم، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار، {يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ} أي: يُخبر كل امرئ، برًّا كان أو فاجراً، عند وزن الأعمال {بما قَدَّم} من عمله خيراً كان أو شرًّا، فيُثاب على الأول، ويُعَاقب على الثاني، {وما أخَّرَ} أي: لم يعمله خيراً كان أو شرًّا، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني، أو: بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته، أو: بما قدّم في أول عمره، وأخَّرَ عمله في آخر عمره، أو: بما قَدَّم من أمواله أمامه، وأخَّرَ آخره لورثته، نظيره.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5].
{بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ} أي: شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة، كما يُعرب عنه التعبير ب {على} وما سيأتي من الجملة الحالية، والتاء للمبالغة، كعلاّمة، أو: أنّثه لأنه أراد به جوارحه؛ إذ هي التي تشهد عليه، أو: هو حُجّة على نفسه، والبصيرة: الحُجة، قال الله تعالى: {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ} [الأنعام: 104] وتقول لغيرك: أنت حُجّة على نفسك. ومعنى {بل}: الترقي، أي: يُنبأ الإنسان بأعماله، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأنّ جوارحه تنطق بذلك. و{بصيرة}: مبتدأ، و{على نفسه}: خبر مقدّم، والجملة: خبر {الإنسان}، {ولو أَلْقَى معاذِيرَه}: حال من الضمير في {بصيرة}، أو: من مرفوع {ينبأ} أي: ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي: هو بصيرة على نفسه، تشهد عليه جوارحُه، ويُعمل بشهادتها، ولو اعتذر بكل معذرة، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر.. الخ. والمعاذير: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير اسم جمع للمنكَر، لا جمع؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر، وقيل: جمع مِعْذار وهو: الستر، أي: ولو أرخى ستوره. وقيل: الجملة استئنافية، أي: لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره، وهي جوارحه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة، لمشاركتها له في التعظيم، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية، ثم تكون مطمئنة، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة، بل تستدل بالله على غيره، فلا ترى سواه، فحينئذ ترجع إلى أصلها، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها، وهو القِدَم والأبد، فيتلاشى الحادث ويبقى القديم وحده، كما كان وحده. فالنفوس أربعة: أمّارة، ولوّامة، ولهّامة، ومطمئنة، وهي في الحقيقة نفس واحدة، تتطور وتتقلب من حال إلى حال، باعتبار التخلية والتحلية، والترقية والتردية فأصلها الروح، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة ثم لوّامة، ثم لهّامة، ثم مطمئنة.
قال القشيري: أيحسب الإنسان، أي: الإنسان المحجوب بنفسه وهواه، ألَّن نجمع عِظامه؛ أعماله الحسنة والسيئة، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي: صغار أفعاله الحسنة والسيئة، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه، بحسب الاعتقاد والنية، قبل الإتيان بالفعل، أي: يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل، يسأل أيَّان يوم القيامة؟ لطول أمله، ونسيان آخرته، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء. فإذا بَرِقَ البصرُ: تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي، وخسَف القمر أي: ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح، وجُمع الشمس والقمر، أي: جُمع شمس الروح وقمر القلب، بالتجلِّي الأحدي الجمعي، يعني: فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين، بعد الفرار إلى الله، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات: 50]. اهـ. بالمعنى.
يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة، حيث يرى ثمرتها، وما أَخَّرَ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها، فالمشاهدة على قدر المجاهدة، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ. بل الإنسان على نفسه بصيرة، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه، ويشعر بضعفه وقوته، إن صحّت بصيرته، وطهرت سريرته، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره، ولو ألقى معاذيره. وبالله التوفيق.