فصل: تفسير الآيات (4- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 18):

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أعتدْنا}؛ أعددنا {للكافرين سلاسلاً} يُقادون بها إلى النار {وأغلالاً} يُقيَّدون بها {وسعيراً} يُحرقون بها. و{سلاسل} لا ينصرف؛ لصيغة منتهى الجموع، ومَن صرفه فليناسب أغلالاً، إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب. وتقديم وعيد الكفرة مع تأخرهم في الجمع على طريق اللف والنشر المعكوس، كقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ...} [آل عمران: 106] الآية ليتخلّص إلى الكلام على الفريق الأول بطريق الإطناب، فقال: {إِنَّ الأبرارَ} جمع بر وبار، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد، وهو مَن يبر خالقه، أي: يُطيعه وقيل: الأبرار هم الصادقون في الإيمان، أو: الذين لا يؤذون الذر، ولا يعمدون الشر. {يشربون من كأس} وهو الزجاجة إذا كان فيها خمر، ويُطلق على نفس الخمر، ف {مِن} على الأول ابتدائية، وعلى الثاني تبعيضية، {كان مِزاجُها} أي: ما تمزج به {كافوراً} أي: ماءٌ كافورٌ، وهو عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور ورائحتِه وبردِه. وفي القاموس: الكافور: نبت طيب، نَوره كنَور الأُقحوان، وطِيب معروف، يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين، يُظل خلقاً كثيراً، وتألفه النمور، وخشبه أبيض هش، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع، ولونها أحمر، وإنما يبيّض بالتصعيد، والتصعيد: الإذابة. اهـ. وقوله تعالى: {عيناً}: بدل من {كافور}، وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك، وقيل: يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه ويرده، فكأنها مزجت بالكافور، وهذا أنسب بأحوال الجنة، ف {عيناً} على هذين القولين: بدل من محل {من كأس} على حذف مضاف، أي: يشربون خمر عين، أو: نصب على الاختصاص، وقوله تعالى: {يشرب بها عبادُ الله}: صفة لعين، أي: يشربون منها، أو: الباء زائدة، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة: {يشربها}، أو: هو محمول على المعنى، أي: يتلذذون بها، أو يروون بها، وإنما عبّر أولاً بحرف {من} وثانياً بحرف الباء؛ لأنَّ الكأس مبتداً شرابهم وأول غايته، وأمّا العين فيها يمزجون شرابهم. قاله النسفي. وقيل: الضمير للكأس، أي: يشربون العين بتلك الكأس، {يُفجِّرُونها تفجيراً} أي: يُجْرُونَها حيث شاؤوا من منازلهم إجراءاً سهلاً، لا يمتنع عليهم، بل يجري جرياً بقوة واندفاع.
{يُوفُون بالنَّدْرٍ} بما أَوجبوا على أنفسهم من الطاعات، وهو استئناف مسوق لبيان ما لأجله رُزقوا ما ذكر من النعيم، كأنه قيل: ماذا كانوا يفعلون حتى نالوا تلك الرتبة العالية؟ فقال: يُوفون بما أوجبوا على أنفسهم، فكيف بما أوجبه اللهُ عليهم؟ {ويخافون يوماً كان شَرُّه}؛ شدائده أو عذابه {مُسْتَطِيراً}؛ منتشراً فاشياً في أقطار الأرض غاية الانتشار، من: استطار الفجر: انتشر. {ويُطعِمون الطعامَ على حُبه} أي: كائنين على حب الطعام والحاجة إليه، كقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أو: على حب الإطعام، بأن يكون ذلك بطيب النفس، أو: على حب الله، وهو الأنسب بقوله: {لوجه الله}، {مسكيناً}؛ فقيراً عاجزاً عن الاكتساب أسكنه الفقرُ في بيته، {ويتيماً}؛ صغيراً لا أب له، {وأسيراً} أي: مأسوراً كافراً. كان عليه السلام يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول له: «أحسِن إليه» أو: أسيراً مؤمناً، فيدخل فيه المملوك والمسجون، وقد سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيراً فقال: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك».
ثم علّلوا إطعامهم فقالوا: {إِنما نُطعمكم لوجه الله} أي: لطلب ثوابه، أو: هو بيان من الله تعالى عما في ضمائرهم من الإخلاص، لأنَّ الله تعالى عَلِمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً، وفيه نظر؛ إذ لو كان كذلك لقال: يطعمهم بضمير الغيب، فالجملة على الأول محكية بقول محذوف، حال من فاعل {يُطعمون} أي: قائلين بلسان الحال أو المقال؛ لإزاحة توهم المنّ المبطل للصدقة، وتوقع المكافآت المنقصة للأجر: {إنما نُطعمكم...} إلخ. وعن الصدّيقة رضي الله عنها كانت تبعث بالصدقة، ثم تسأل الرسولَ ما قالوا، فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله، ليبقى لها ثواب الصدقة خالصاً. {لا نُريد منكم جزاءً ولا شُكوراً} أي: لا نطلب على طعامنا مكافأة هدية ولاثناءً، وهو مصدر: شكر شكراً وشُكوراً.
{إِنَّا نخافُ من ربنا} أي: إنا لا نُريد منكم المكافأة لخوف عذاب الله على طلب المكافأة في الصدقة، أو: إنا نخاف من ربنا فنتصدّق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف، {يوماً عَبُوساً قمْطريراً}، وصف اليوم بصفة أهله، نحو: نهاره صائم. والقمطرير: الشديد العبوس، الذي يجمع ما بين عينيه، أي: نخاف عذاب يوم تعبس فيه الوجوه أشد العبوسة.
{فوقاهم اللهُ شَرَّ ذلك اليوم}؛ صانهم من شدائده، لسبب خوفهم وتحفُّظهم منه، {ولَّقاهم} أي: أعطاهم بدل عبوس الفجار {نضرةً}؛ حُسناً في الوجوه {وسُروراً} في القلب، {وجزاهم بما صبروا}؛ بصبرهم على مشاق الطاعات، ومهاجرة المحرمات، وإيثار الغير بالعطاء في الأزمات، {جنةً}؛ بستاناً يأكلون منه ما يشاؤون {وحَرِيراً} يلبسونه ويتزينون به.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مَرِضا فعادهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أّناس معه، فقالوا لعليّ رضي الله عنه: لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمةُ وجاريتهما يقال لها: فِضة إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشُفيا، فاستقرض عليّ من يهودي ثلاث أصُوع من الشعير فطحنت رضي الله عنها صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني، أطعمكم اللهُ من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم، فوقف عليهم يتيم، فأثروه، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير، ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون، كالفراخ من شدة الجوع، قال عليه السلام: «ما أشد ما يسوؤني مما أرى بكم»، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد هنّاك الله في بيتك، فأقرأه السورة. هكذا ذكر القصة الزمخشري وجمهور المفسرين، وأنكر ذلك الترمذي الحكيم في نوادره، وجزم بعدم صحتها لمخالفتها لأصول الشريعة، وعدم جريه على ما تقتضيه من إنفاق العفو، وكذا «ابْدَأ بمَن تَعُولُ» و«كفى بالمرء إثماً أن يَضيّع مَن يقوت»، وغير ذلك. اهـ.
قلت: ويُجاب بأنَّ هذا من باب الأحوال، وللصحابة في الإيثار أحوال خاصة بهم؛ لشدة يقينهم رضي الله عنهم، وقد خرج الصدّيق رضي الله عنه عن ماله مِراراً، وقال: (تركت لأهلي الله ورسوله)، وكذلك فعل الصحابي الذي قال لامرأته: نوِّمِي صبيانك ليتعشّى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه، {وَيُؤْثِرُون عَلَى أَنفُسِهِمْ...} [الحشر: 9] الآية، وصاحب الأحوال معذور، غير أنه لا يُقتدى به في مثل تلك الحال، فإنكار الترمذي بما ذَكَر غير صحيح.
{متكئين فيها}؛ في الجنة، حال من {جزاهم}، والعامل جزاء، {على الأرائك}؛ على الأسِرة في الحجال، {لا يَرَون فيها شمساً ولا زمهريراً} لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير أي: بردٌ فظِلها دائم؛ وهواها معتدل، لا حرَّ شمس يحمي، ولا شدّة بردٍ يؤذي، فالزمهرير: البرد الشديد، وقيل: القمر، في لغة طيء، أي: الجنة مضيئة لا يُحتاج فيها إلى شمس ولا قمر. وجملة النفي إمّا حال ثانية، أو: من المستكن في {متكئين}.
{ودانيةً}: عطف على {جنة}، أي: وجنة أخرى دانية {عليهم ظِلالها}؛ قريبة منهم ظلال أشجارها؛ قال الطيبي: إنما قال: {دانية عليهم} ولم يقل منهم؛ لأنَّ الظلال عالية عليهم. اهـ. فظلالها فاعل بدانية، كأنهم وُعدوا جنتين؛ لأنهم وُصفوا بالخوف، وقد قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، {وذًللت قُطوفُها تذليلا} أي: سُخَّرت ثمارها للقائم والقاعد، والمتكئ، وهو حال من {دانية} أي: تدنو عليهم ظلالها في حال تذليل قطوفها. وقال في الحاشية: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية؛ وفيه لطيفة: أنَّ استدامة الظل مطلوبة هناك، وأمّا الذليل للقطْف فهو على التجدًّد شيئاً بعد شيء، كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذل لهم، ودنا لهم، قعداً كانوا أو مضطجعين. اهـ.
وظاهر كلامه: أنَّ {ظلالها} مبتدأ، و{عليهم} خبر، وظاهر كلام الطيبي: أنه فاعل. والقطوف: جمع قِطْف، وهو ما يجتنى من ثمارها.
{ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ} أي: يدير عليهم خَدَمُهم كؤوس الشراب، وكأنه تعالى لَمَّا وصف لباسهم، وهيئة جلوسهم، وطعامهم، ذكر شرابهم، ثم يذكر خدمهم، وما هيأ لهم من المُلك الكبير، و{آنية}: جمع إناء، وهو: وعاء الماء {وأكواب} أي: مِن فضة، جمع كوب، وهو الكوز العظيم الذي لا أُذن له ولاعروة، {كانت قواريراً} كان تامة، أي: كُونت فكانت قوارير بتكوين الله. و{قواريرَ}: حال، أو: ناقصة، أي: كانت في علم الله قوارير، {قواريرا من فِضةٍ}: بدل من الأول أي: مخلوقة من فضة قال ابن عطية: يقتضي أنها من زجاج ومن فضة وذلك ممكن؛ لكونه من زجاج في شفوفه، ومن فضة في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة. اهـ. فهي جامعة لبياض الفضة وحُسنها، وصفاء القوارير وشفيفها، حتى يُرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس: قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة. اهـ. و{قوارير} ممنوع من الصرف، ومَن نَوّنه فلتناسب الآي المتقدّمة والمتأخّرة، {قدَّروها تقديراً}؛ صفة للقوارير، يعني: أنَّ أهل الجنة قدَّروها في أنفسهم، وتمنوها، وأرادوا أن تكون على مقادير وأشكال معينة، موافقة لشهواتهم، فجاءت حسبما قدَّروها، تكرمةً لهم، أو: السُّقاة جعلوها على قّدْر ريّ شاربها؛ لتكون ألذّ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد: لا تُفيض ولا تَغيض، أو: قَدَّروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها.
{ويُسقون فيها كأساً}؛ خمراً {كان مِزَاجُهَا زَنجبِيلاً} أي: ما يشبه الزنجبيل في الطعم والرائحة. وفي القاموس: الزنجبيل: الخمر، وعُروق تسري في الأرض، ونباته كالقصب والبرد، له قوة سخنة هاضمة ملينة.. الخ. قلت: وهو السكنجيبر بالراء ولعل العرب كانت تمزج شرابها به للرائحة والتداوي. وقوله تعالى: {عيناً}: بدل من {زنجبيلا}، {فيها} أي: في الجنة {تُسمى سلسبيلا}، سُميت العين زنجبيلاً؛ لأنَّ ماءها فيه رائحة الزنجبيل، والعرب تستلذه وتستطيبه، وسميت سلسبيلاً لسلاسة انحدارها، وسهولة مساغها، قال أبو عُبيدة: ماء سلسبيل، أي: عذب طيب. اهـ. ويقال: شراب سلسبيل وسَلسَال وسلَسيل، ولذلك حُكم بزيادة الباء، والمراد: بيان أنها في طعم الزنجبيل، وليس فيها مرارة ولا زعقة، بل فيها سهولة وسلاسة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إِنَّا أعتدنا للكافرين بطريق الخصوص، وهم أهل الحجاب سلاسل الأشغال والعلائق، وأغلال الحظوظ والعوائق، فلا يرحلون إلى الله وهم مكبّلون بشهواتهم، مغلولون بعوائقهم. وأعتدنا لهم سعير القطيعة والطرد. إنَّ الأبرارَ، وهم المطهرون من درن العيوب، المتجرَّدون من علائق القلوب، يشربون من كأس خمر المحبة كان مزاجها كافورَ بردِ اليقين، عيناً يشرب منها عبادُ الله المخلصون، يُفجِّرونها على قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم تفجيراً، فتمتلئ محبةً ويقيناً، يُوفون بما عقدوا على أنفسهم من المجاهدة والمكابدة إلى وضوع أنوار المشاهدة ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً، إذ فيه يفتضح المدّعون، ويظهر المخلصون ويُطعمون طعام الأرواح والأسرار من العلوم والمعارف، على حُبه إذ لا شيء أعز منه عندهم، إذ هو الإكسير الأكبر والغنى الأوفر، مسكيناً، أي: ضعيفاً من اليقين ويتيماً لا شيخ له، وأسيراً في أيدي العلائق والحظوظ وإنما نفعل ذلك لوجه الله، لا يريدون بذلك جزاء، أي: عِوضاً دنيوياً ولا أخروياً، ولا شكوراً؛ مدحاً أو ثناءً؛ إذ قد استوى عندهم المدح والذم، والمنع والعطاء، قائلين: إنا نخاف من ربنا، إن طلبنا عوضاً، أو قَصَّرنا في الدعاء إلى الله، يوماً شديداً تُعبّس فيه وجوه الجاهلين، وتُشرق وتتهلّل وجوه العارفين.
فوقاهم اللهُ شرَّ ذلك اليوم، فصبروا قليلاً، واستراحوا كثيراً، ولقَّاهم نضرةً؛ بهجة في أجسادهم، وسُروراً دائماً في قلوبهم وأسرارهم. وجزاهم بما صبروا في أيام سيرهم جنة المعارف والزخارف، متكئين فيها على الأرائك؛ على أَسِرة القبول، وفُرُش الرضا وبلوغ المأمول، لا يَرون فيها حَرّ التدبير والاختيار ولا زمهرير الضعف والانكسار؛ لأنَّ العارف باطنه قوي على الدوام، لأنَّ مَن عنده الكنز قلبه سخين به دائماً.
وقال القشيري: لا يؤذيهم شمس المشاهدة؛ لأنَّ سطوة الشهود ربما تفني صاحبها بالكلية، فيغلب عليه السُكْر، فلا يتنعّم بلذة الشهود، ولا زمهرير الحجاب والاستتار. اهـ. باختصار. ودانية، أي: وجنة أخرى دانية، وهي جنة البقاء والأُولى جنة الفناء، عليهم ظلالها، وهي روح الرضا ونسيم التسليم، وذُللت قُطوفها من الحِكَم والمواهب، تذليلاً، فمهما احتاجوا إلى علم أو حكمة أجالوا أفكارهم، فتأتيهم بطرائف العلوم وغرائب الحِكَم، ويُطاف عليهم بأواني الخمرة الأزلية، فيشربون منها في كل وقت وحين، كيف شاؤوا وحيث شاؤوا. جعلنا الله مِن حزبهم، آمين.

.تفسير الآيات (19- 22):

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويطوفُ عليه ولدان} أي: غلمان ينشئهم اللهُ لخدمة المؤمنين. أو: ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة. {مخلَّدون} لا يموتون، أو: دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، {إِذا رأيتهم حَسِبْتَهُم لؤلؤاً منثوراً} لحُسْنهم، وصفاء ألوانهم، وإشراق وجوههم، وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلهم. وتخصيص المنثور لأنه أزين في المنظر من المنظوم.
{وإِذا رأيتَ ثَمَّ} أي: وإذا وقعت منك رؤية هناك، ف {رأيت} هنا: لازم، ليس له مفعول لا ملفوظ ولا مُقدّر، بل معناه: أنَّ بصرك أينما وقع في الجنة {رأيتَ نعيماً} عظيماً {ومُلكاً كبيراً} أي: هنيئاً واسعاً. وفي الحديث: «أَدْنَى أهل الجنةِ منزلاً مَن ينظرُ في مُلكه مَسيرة ألف عام، ويَرَى أقصاهُ كما يرى أدناه»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أدنى أهل الجنة منزلاً الذي يركبُ في ألف ألف من خَدَمه من الولدان، على خيل من ياقوت أحمر، لها أجنحة من ذهب»، ثم قرأ عليه السلام: {وإذا رأيت ثَمَّ...} إلخ. وقيل: مُلكاً لا يعقبه زوال، وقال الترمذي: مُلك التكوين، إذا أرادوا شيئاً كان. اهـ. وقيل: تستأذن عليهم الملائكة استئذان الملوك. رُوي: إنَّ الملائكة تأتيهم بالتُحف، فتستأذن عليهم، حاجباً بعد حاجب، حتى يأذن لهم الآخر، فيدخلون عليهم من كل باب بالتُحف والتحية والتهنئة. اهـ.
ثم وصف لباس أهل الجنة فقال: {عَالِيَهُم ثِيَابُ سُندُسٍ} فمَن نصبه جعله حالاً من الضمير في {يطوف عليهم} أي: يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثيابُ سندس، ومَن قرأه بالسكون فمبتدأ، و{ثياب} خبر، أي: الذي يعلوهم من لباسهم ثياب سندس، وهو رقيق الديباج، {خُضْرٌ}؛ جمع أخضر، {وإِستَبرقٌ}؛ غليظ الديباج، فمَن رفعهما حملهما على الثياب، ومَن جَرَّهما فعلى سندس. {وحُلُّوا أساوِرَ من فضةٍ} وفي سورة الملائكة: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر: 33]، والجمع بينهما: بأنه يجمع في التحلية بينهما. قال ابن المسيب: (لا أحدٌ من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسْوِرة، واحد من فضة، وآخر من ذهب، وآخر من لؤلؤ) أو: يختلف ذلك باختلاف الأعمال، فبعضهم يُحلّى بالفضة، وبعضهم بالذهب، وبعضهم باللؤلؤ.
{وسقاهم ربُّهم}، أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص، وقيل: إنَّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب، فيأبون قبولَه منهم ويقولون: قد طال أخْذُنا مِن الوسائط، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواههم بغير أكفٍّ من غيبٍ إلى عَبْدٍ. اهـ. قلت: ولعل هؤلاء كانوا محجوبين في الدنيا، وأمّا العارفون فالوسائط محذوفة في نظرهم مع وجودنا. فيسقيهم {شراباً طهوراً} أي: ليس برجْسٍ كخمر الدنيا، لأنَّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، أو: لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضِرة، وتدوسه الأرجل الوسخة، والوضر: الوسخ.
قال البيضاوي: يريد به نوعاً آخر، يفوق النوعين المتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله، ووصفه بالطهورية، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرّد لمطالعة جماله، ملتذًّا بلقائه، باقياً ببقائه، وهو منتهى درجات الصدِّيقين، ولذلك خُتِم به ثواب الأبرار. اهـ. ويُقال لأهل الجنة: {إِنَّ هذا} أي: الذي ذكر من فنون الكرامات {كان لكم جزاء} في مقابلة أعمالكم الحسنة، {وكان سعيُكم مشكوراً}؛ مرضياً مقبولاً عندنا، حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير: لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.
الإشارة: ويطوف على قلوبهم وأسرارهم جواهر العلوم، ويواقيت الحِكَم كأنها اللآلئ المنثورة، وإذا رأيتَ ثَمَّ إذا جالت فكرتك، وعامت في بحار الأحدية، رأيت ببصيرتك نعيماً من نعيم الأرواح، وهي لذة الشهود والفرح برؤية الملك الودود ومُلكاً كبيراً، وهي عظمة الذات الأولية والآخرية، والظاهرة والباطنة. وإذا رأيتَ ذلك كان الوجود كله تابعاً لك، ينبسط ببسطك، وينقبض بقبضك وحكمه حكمك، وأمره عند أمرك، تتصرف بهمتك على وفق إرادة مولاك، عاليَهم ثياب العز والبهاء، وثياب الهيبة والجلال؛ وحُلُّوا أساورَ من مقامات اليقين، وسقاهم ربُّهم شراباً طهوراً، وهو شراب الخمرة، فإنها تطهر القلوب والأسرار من البقايا والأكدار.
وقال القشيري: ويقال: يُطهرهم من محبة الأغيار، ويقال: من الغل والغِشِّ والدعوى. ثم قال ويقال: مَن سقاه اليوم شرابَ محبَّتِه لا يستوحِش في وقته من شيء، ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كل أحدٍ بالكونين من غير تمييز، لا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار، ومَن آثر شربه بذل كله لكل أحدٍ لأجل محبوبه؛ فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم، لا يتحرك فيه للتكبُّر عرقٌ، وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضاً في بعض الأحيان أن يَتِيه على أهل الدارين، وأن يَمْلِكَه سرورٌ، ولا يَتَمَالَكُ معه عن خَلْع العذارِ، وإلقاء قناع الحياء وإظهار ما به من المواجيد. ومن موجبات ذلك السُكْر: سقوطَ الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لطف السكون بما لا يستخرج منه في حال صَحْوه شُبهة بالمناقيش،، وعلى هذا قول موسى: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قالوا: سَكِرَ مِن سماع كلامه، فَنَطَقَ بذلك لسانُه، وأمّا حين يسقيهم شرابَ التوحيد فينتفي عنهم شهود كلِّ غَيْرٍ، فيهيمون في أودية العِزِّ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء، وتتلاشى جملتُهم في هوى الفردانية، فلا عقلَ ولا تمييز، ولا فهمَ ولا إدراك. والعبد يكون في ابتداء الكشفِ مستوعباً، ثم يصير مستغرقاً، ثم يصير مُسْتَهلَكاً {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} [النجم: 42]. اهـ. وقال الورتجبي: فتلك الكائنات المروقات عن علل الحجاب والعتاب دارت عليها في الدنيا حتى ترجع إلى معادنها من الغيب. ثم قال: فإذا شَرِبوا تلين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله، سقاهم ذلك في الدنيا، في ميدان ذكره، بكأس محبته، على منابر أُنسه بمخاطبة الإيمان، وسقاهم في الآخرة، في ميدان قربه، بكأس رؤيته، على منابر مِن نورٍ بمخاطبة العيان. اهـ. قلت: تفريقه بين الدنيا والآخرة غير لائق بمقام المحقِّقين من العارفين، فالعارف لم تبقَ له دنيا ولا آخرة، لم يبقَ له إلاّ الله، تتلوّن تجلياته فما هناك هو حاصل اليوم، لولا تكثيف الحجاب. ثم يُقال لأهل التمكين: إنَّ هذا كان لكم جزاء على مجاهدتكم وصبركم، وكان سعيكم مشكوراً، وحضكم منه موفوراً. وبالله التوفيق.