فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (64):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
قلت: {سواء}: مصدر، نعت للكلمة، والمصادر لا تثني ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضمت أو كسرت قصرت، كقوله: {مكاناً سوى} أي: مستوٍ. وسواء كل شيء: وسطه، قال تعالى: {فَرَءَاهُ في سَوَآءِ الْجَحِيمِ} [الصَّافات: 55]، أي: وسطه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد: {يا أهل الكتاب} اليهود والنصارى، {تعالوا}: هلموا {إلى كلمة سواء} أي: عدل مستوية، {بيننا وبينكم}؛ لا يختلف فيها الرسل والكتب والأمم، هي {ألا نعبد إلا الله} أي: نوحده بالعبادة، ونقر له بالوحدانية، {ولا نشكر به شيئاً} أي: لا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة، {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} أي: لا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، لأنهم بشر مثلنا.
ولمّا نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ...} [التّوبَة: 31] قال عدي بن حاتم: ما كُنَّا نعبدهم يا رسول الله، قال: «أَلّيْس كانُوا يُحِلُّون لَكُمْ ويُحرِّمون، فتأخُذُون بقَوْلِهم؟» قال: بلى، قال: «هُوَ ذَاكَ» {فإن تولوا} وأعرضوا عن التوحيد {فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}، فقد لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنتم كافرون بما نطقت به الكتبُ وتواطأت عليه الرسل.
تنبيه: انظر ما في هذه الآية من المبالغة وحسن التدرج في الاحتجاج، بيِّن أولاً أحوال عيسى وما تطاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد، عاد عليهم بالإرشاد، وسلك طريقاً أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى وسائر الأنبياء والكتب، ثم لمّا لم يُجد ذلك فيهم شيئاً، وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم شيئاً أعرض عنهم، وقال: {قولوا اشهدوا بأنا مسلمون}. قاله البيضاوي.
الإشارة: الطرق كثيرة والمقصد واحد، وهو التوحيد الخاص، أعني مقام الفناء والبقاء. فالداعُون إلى الله كلهم متفقون على الدعوة إلى هذا المقصد، فكل طريق لا توصل إلى هذا المقصد لا عبرة بها، وكل داع لا يُبلغ إلى هذا الجمال فهو دجال، فإنْ رضي بتعظيم الناس، ولم يَبْنِ طريقه على الأساس، فليس لصاحبه إلا الإفلاس، وكل مَن أطاع المخلوق في معصية الله فقد اتخذه ربّاً من دون الله، وكل مَن تولى عن طريق الإرشاد فقد استوجب لنفسه من الطرد والبعاد، فيقول له الواصلون أو السائرون: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما قدم وفدُ نجران المدينة، التقوا مع اليهود، فاختصموا في إبراهيم عليه السلام فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا اختلفنا في إبراهيم ودنيه، فقالت النصارى: كان نصرانيّاً، وقالت اليهود: كان يهوديّاً، وهم أولى الناس به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من إبراهيم، بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً، وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإسلام».

.تفسير الآيات (65- 68):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
قلت: {ها أنتم}: أصله: أنتم، دخلت عليه هاء التنبيه، وقال الأخفش: أصله: أأنتم، فقلبت الهمزة الأولى هاء، كقوله: هرقت. وتوجيه القراءات معلوم في محله، و{أنتم}: مبتدأ، و{هؤلاء}: خبره، و{حاججتم}: جملة مبينة للأولى، أو {حاججتم}: خبر، و{هؤلاء}: منادى بحذف النداء، و{حنيفاً}: حال، أي: مائلاً عن الأديان إلا دين الإسلام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أهل الكتاب لم تُحاجون في إبراهيم}، ويدعي كل فريق أنه كان على دينه، {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده}، فكيف يكون يهوديّاً، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة؟! وكيف يكون نصرانيّاً، ودين النصارنية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفي سنة؟! {أفلا تعقلون} فتدعون المحال، {هاأنتم} يا {هؤلاء} الحمقى {حاججتم فيما لكم به علم} من أمر محمد- عليه الصلاة والسلام- ونبوته، مما وجدتموه في التوراة والإنجيل، فأنكرتموه عناداً وحسداً، فَلِمَ تجادلون فيما لا علم لكم به، ولا ذكر في كتابكم من شأن إبراهيم؟ {والله يعلم} ما خصمتم فيه، {وأنتم لا تعلمون}، بل أنتم جاهلون.
ثم صرّح بتكذيب الفريقين فقال: {ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً} مائلاً عن العقائد الزائفة، {مسلماً} منقاداً لأحكام ربه. وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام، وإلا لكان مشترك الإلزام، لأن دين الإسلام مؤخر أيضاً، فكان إبراهيم إمام الموحدين، {وما كان من المشركين} كما عليه اليهود والنصارى والمشركون. ففيه تعريض بهم، ورد لادعائهم أنهم على ملته.
ثم ذكر مَنْ أولى الناس به، فقال: {إن أولى الناس بإبراهيم} أي: أخصهم به وأقربهم منه، {للذين اتبعوه} من أمته في زمانه، {وهذا النبيّ} محمد صلى الله عليه وسلم، {والذين آمنوا}؛ لموافقتهم له في أكثر الأحكام، قال صلى الله عليه وسلم: «لكُلِّ نَبيَ وُلاة مِنَ النَّبيِّينَ، وإنَّ وَلِيِّي منهم أبِي وَخَلِيل ربِّي» يعني إبراهيم عليه السلام، {والله ولي المؤمنين} أي: ناصرهم على سائر الأديان، ومجازيهم بغاية الإحسان.
الإشارة: ترى كثيراً من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم، ويخاصمون في طريق غيرهم، وهي نزعة أهل الكتاب، حائدة عن الرشد والصواب، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية، وتخلق بالأخلاق المرضية، وزهد في الدارين، ورفع همته عن الكونين، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه، حتى أشرقت عليه أنوار ربه، واتصل بأهل التربية النبوية، فزجوا به في بحار الأحدية، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل، فيا له من مقام جليل، فهذه ملة إبراهيم الخليل، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن، وقطب دائرة الزمان، سيد المرسلين، وإمام العارفين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين.

.تفسير الآيات (69- 71):

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}
قلت: {لو}: مصدرية، أي: تمنوا إضلالكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: لبعض المسلمين- وهم حذيفة وعمار ومعاذ- دعاهم اليهود إلى دينهم وطمعوا فيهم: {ودت طائفة} أي: تمنت طائفة {من أهل الكتاب لو يُضلونكم} أي: يفتنونكم عن دينكم، ويتلفونكم عن طريق الحق، {وما يُضلون إلا أنفسهم}؛ لأن المسلمين لا يقبلون ذلك منهم، فرجع الضلال عليهم، وعاد وباله إليهم، وتضاعف عذابه عليهم، {وما يشعرون} أن وباله راجع إليهم.
ثم صرّح الحق تعالى بعتابهم، فقال: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} المنزلة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتجحدون رسالته؟ {وأنتم تشهدون} أنها من عند الله، وأنه نبيّ الله، وهو منعوت عندكم في التوراة والإنجيل، والمراد أحبارهم، أو تشهدون أنه نبيّ الله بالمعجزات الواضحات. {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل} بالتحريف وإبراز الباطل في صورة الحق، حتى كتمتم نعت محمد وحرفتموه، وأظهرتم موضعه الباطل الذي سولت لكم أنفسكم؟ {وتكتمون الحق}؛ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، {وأنتم تعلمون} أنه رسول الله حقّاً وأن دينه حق، أو: وأنتم عالمون بكتمانكم.
الإشارة: ترى كثيراً من أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين، وممن ينتسب لهم، إذا رأوا من ظهر بالخصوصية في زمانهم يتمنون إضلالهم وإطفاء أنوارهم، خوفاً على زوال رئاستهم، {وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون}، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، وهذه نزعة يهودية سببها الحسد، والحسود لا يسود، وبعضهم يتحقق بخصوصية غيرهم، فيكتمها وهو يشهد بصحتها، فيقال لهم: {لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون}؟ و{لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}؟

.تفسير الآية رقم (72):

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}
قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر رجلاً من يهود خيبر- يعني من أحبارهم- وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان لا بالاعتقاد، واكفروا به آخره، وقولوا: نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وإنما نفعل ذلك حتى نشكك أصحابه. اهـ. فحذَّر الله المسلمين من قولهم، فقال جلّ جلاله: {وقالت طائفة من أهل الكتاب} يعني: أحبارهم: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} وأظهروا الدخول في دينهم، {وجه النهار وكفروا آخره} وقولوا: نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فلم نجد محمداً بالنعت الذي في التوراة، لعل أصحابه يشكون فيه- لعنهم الله وأضلّ سعيهم.
وقيل: نزلت في شأن الكعبة، فإنَّ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف- من اليهود- قالا لأصحابهما: صلّوا معهم إلى الكعبة أول النهار، ثم صلّوا إلى الصخرة آخره، لعلهم يقولون: هم أعلم منا، وقد رجعوا، فيرجعون، ففضحهم الله وأبطل حيلهم الواهية.
الإشارة: ترى كثيراً من الناس يدخلون في طريق القوم، ثم تثقل عليهم أعباؤها، فيخرجون منها؛ إما لضعفهم عن حملها، أو لكونهم دخلوا مختبرين لها، أو على حرف أو حيلة لغيرهم، فإذا رجع أحد منهم قال الناس: لو كانت صحيحة ما رجع فلان عنها، ويصدون الناس عن الدخول فيها والدوام عليها، وهذه نزعة إسرائيلية، قالوا: آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لتَسْلُكن سَنَنَ مَنْ قَبْلكم شِبْراً، وذِرَاعاً بذرَاع، حتى لَوْ دَخلُوا جُحْر ضَبٍّ لدخلْتُموه، قالوا: اليَهُود والنًّصَارَى؟ قال: نعم، فَمنْ إذن» وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (73- 74):

{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
قلت: يحتمل أن يكون قوله: {أن يؤتى}: مفعولاً ب {تؤمنوا}، و{قل إن الهدى هدى الله}: اعترض، واللام في {لمن} صلة، {أو يحاجوكم}: عطف على {يؤتى}، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من كان على دينكم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، بل أنتم تحاجون غيركم. فردَّ الله عليهم {قل إن الهدى هدى الله}، و{إن الفضل بيد الله}. ويحتمل أن يكون قوله: {أن يؤتى} مفعولاً لأجله، والعامل فيه محذوف، التقدير: أدبَّرتم ما دبرتم كراهية أن يؤتى أحد ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم؟.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكياً عن اليهود: {و} قالوا {لا تؤمنوا} أي: لا تقروا أو تصدقوا {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل، {إلا لمن تبع} دين اليهودية، وكان على {دينكم}، ولا تؤمنوا أن {يحاجوكم عند ربكم}؛ لأنكم أصح ديناً منهم. قال الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {إن الهدى هدى الله} يهدي به من يشاء، و{إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: وقالوا: لا تصدقوا ولا تذعنوا {إلا لمن تبع دينكم} وكان من جلدتكم، فإن النبوة خاصة بكم. فكذبهم الحق بقوله: {قل إن الهدى هدى الله}، يخص به من يشاء من عباده، فكيف تحصرنها فيكم؟ لأجل {أن يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم} قلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم، حسداً وبغياً، {أو} خوفاً أن {يحاجوكم عند ربكم}، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم، {قل} يا محمد: {إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}؛ فلا ينفع في رده حيلة ولا خدع.
أو يقول الحقّ جلّ جلاله: للمؤمنين، تثبيتاً لهم وتشجيعاً لقلوبهم: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطي أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق، وجاء به من عند الحق، ولا تصدقوا {أن يحاجوكم} في دينكم {عند ربكم} أو يقدر أحد على ذلك، فإن الهدى هدى الله والفضل بيد الله، {يؤتيه من يشاء والله واسع} الفضل والكرم، {عليم} بمن يستحق الخصوصية والفضل، {يختص برحمته من يشاء} كالنبوة وغيرها، {والله ذو الفضل العظيم}؛ لا حصر لفضله، كما لا حصر لذاته.
الإشارة: يقول الحق- جلت ذاته، وعظمت قدرته- لأهل الخصوصية: ولا تقروا بالخصوصية إلا لمن كان على دينكم وطريقكم، وتزيّاً بزيكم، وبذل نفسه وفلسه في صحبتكم، مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الخصوصية، وهو ليس أهلاً لها، فيأخذها علماً، فإما أن يتزندق أو يتفسق، أو يحاجوكم بالشريعة فيريق دماءكم؛ كما وقع للحلاج رضي الله عنه وفي ذلك يقول الشاعر:
ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا ** وَإِلاَّ سَوْفَ يُقْتلُ بالسَّنَانِ

كَحَلاَّجِ الْمَحَبَّةِ إِذْ تَبَدَّتْ ** لَهُ شَمْسُ الْحَقِيقَةِ بالتَّدَاني

وقال آخر:
بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ ** وكَذَا دِماءُ البَائِحينَ تُبَاحُ

وقل أيها العارف، لمن طلب الخصوية قبل شروطها أو أنكر وجودها عند أهل شرطها: إن الهدى هدى الله يهدي به من يشاء- والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والرحمة- التي هي الخصوصية- في قبضة الله، يخص بها من يشاء، {والله ذو الفضل العظيم}؛ فمن أراد الخصوصية فليطلبها من معدنها، وهم العارفون بها، فيبذل نفسه وفلسه لهم حتى يُعرفوه بها. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (75- 76):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
قلت: الباء في {بقنطار}، بمعنى على، و{يؤده}: جواب الشرط مجزوم بحذف الياء، ومن قرأ بإسكان الضمير فلأنه أقامه مقام المحذوف، فجزمه عوضاً عنه، وقال الفراء: مذهب بعض العرب: يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضرباً شديداً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن أهل الكتاب} من أسلم وآمن فصار من أهل الإيمان {إن تأمنه} على {قنطار} من المال أو أكثر أداه إليك، ولم يخن منه شيئاً. وفي الحديث: «من ائتمن على أمانة فأداها، ولو شاء لم يؤدها، زوجه الله من الحور العين ما شاء» {ومنهم} من بقي على دينه من أهل الخيانة والخسران، {إن تأمنه} على {دينار} فأقل {لم يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} على رأسه، مبالغاً في مطالبته. نزلت في عبد الله بن سلام، استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً، فأداها إليه، وفي فنحاص بن عازوراء اليهودي، استودعه قرشي آخر ديناراً، فجحده. وقيل: في النصارى واليهود، فإن النصارى: الغالب عليهم الأمانة، واليهود الغالب عليهم الخيانة.
وذلك الاستحلال بسبب أنهم {قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} أي: ليس علينا في شأن من ليسوا أهل كتاب، ولم يكونوا على ديننا، حرج في أخذ مالهم وجحدها، ولا إثم، {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} أنهم كاذبون؛ لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم، وقالوا: لم يجعل لهم في التوراة حرمة.
وقيل: عَاملَ اليهودُ رجلاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم، فقالوا: سقط حقكم حيث تركتم دينكم. وقال صلى الله عليه وسلم: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللّهِ، مَا مِنْ شَيءٍ فِي الجاهِلية إلاّ وَهُو تَحْتَ قَدَمَي، إِلاَّ الأمَانَةَ فإِنهَا مُؤداةٌ إلى الْبَر والفَاجِر».
ثم كذَّبهم الحقّ- تعالى- فقال: {بلى}؛ عليهم في ذلك سبيل، فإن {من أوفى بعهده واتقى} الشرك والمعاصي {فإن الله يحب المتقين} ومن أحبّه الله كيف يباح ماله وتسقط حرمته؟! بل من أسقط حرمته فقد حارب الله ورسوله، أو {من أوفى}، بعهد الله من أهل الكتاب، فآمن بمحمد- عليه الصلاة والسلام- {واتقى} الخيانة، وأدى الأمانة، {فإن الله يحب المتقين}. وأوقع المظهر موقع الضمير العائد إلى من؛ لعمومه، فإن لفظ المتقين عام يصدق برد الودائع وغيره، إشعاراً بأن التقوى ملاك الأمر وسبب الحفظ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد رأينا بعض الفقراء دخل بلد الحقيقة فسقطت من قلبه هيبة الشريعة، فتساهل في أموال الناس وسقطت لديه حرمة العباد، حتى لا تثق به في حفظ مال ولا أهل، فإذا أودعته شيئاً أو قارضته لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. وهذه زندقة ونزعة إسرائيلية. لا يرضاها أدنى الناس، فما بالك بمن يدعي أنه أعلى الناس، وفي بعض الحكم: كَمَالُ الديانة ترك الخيانة، وأعظم الإفلاس خيانة الناس، وفي الحديث: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُواَ مُنَافقٌ، وإنْ صَلَّى وإن صَامَ وزَعم أنه مُؤْمن، إذ حدَّثّ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائتُمِنَ خَانَ» فإذا احتج لنفسه الأمارة، وقال: لا سبيل علينا في متاع العوام، فقد خلع من عنقه ربقة الإسلام، واستحق أن يعلو مفرقه الحُسام. والله تعالى أعلم.