فصل: تفسير الآية رقم (77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (77):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين يشترون بعهد الله} أي: يستبدلون بالوفاء بعهد الله كالإيمان بالرسول- عليه الصلاة والسلم- الذي أخذ على بني إسرائيل في التوراة وبيان صفته، وأداء الأمانة، فكتموا ذلك واستبدلوا به {ثمناً قليلاً}؛ حطاماً فانياً من الدنيا، كانوا يأخذونه من سفلتهم، فخافوا إن بيَّنوا ذلك زال ذلك عنه، وكذلك الأيمان التي أخذها الله عليهم لئن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فنقضوها، خوفاً من زوال رئاستهم، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمناً فانياً، {أولئك لا خلاق لهم} أي: لا نصيب لهم، {في الآخرة ولا يكلمهم الله} بما يسرهم، أو بشيء أصلاً، وإنما الملائكة تسألهم، {ولا تنظر إليهم يوم القيامة} نظرة رحمة، بل يعرض عنهم، غضباً عليهم وهواناً بهم، {ولا يزكيهم}؛ لا يطهرهم من ذنوبهم، أو لا يُثني عليهم، {ولهم عذاب أليم} أي: موجع.
قال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحُيي بن أخطب، وغيرهم من رؤساء اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيان صفته، فكتموا ذلك وكتبوا غيره، وحلفوا أنه من عند الله، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم.
وقال الكلبي: إن ناساً من علماء اليهود كانوا ذا حظ من علم التوراة، فأصابتهم سنة، فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه، أي: يطلبون منه الميرة- وهو الطعام-، فقال لهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول في كتابكم؟ قالوا: نعم، أو ما تعلمه أنت؟ قال: لا، قالوا: فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله، قال كعب: لقد قدمتم عليَّ، وأنا أريد أن أميركم وأكسوكم، فَحَرَمَكُم الله خيراً كثيراً، قالوا: فإنه شُبه لنا، فرُوَيْداً حتى نلقاه، فانطلقوا، فكتبوا صفة غير صفته، ثم أتوا نبيّ الله- عليه الصلاة والسلام- فكلموه، ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا: قد كنا نرى أنه رسول الله، فأتيناه فإذا هو ليس بالنعت الذي نُعت لنا، وأخرجوا الذي كتبوه، ففرح كعب، ومارهم. فنزلت الآية. قلت: انظر الطمع، وما يصنع بصاحبه والعياذ بالله.
وقيل: نزلت في رجل أقام سلعته في السوق، وحلف لقد أعطى فيها كذا وكذا، وقيل: نزلت في الأشعث بن قيس، كانت بينه وبين رجل خصومة، فتوجهت اليمين على الرجل، فأراد أن يحلف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره، ولا يميلوا إلى شيء سواه، فكل من مال إلى شيء، أو ركن بالمحبة إلى غير الله، فقد نقض العهد مع الله، فلا نصيب له في مقام المعرفة، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه. والله- تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن من أهل الكتاب لفريقاً}، وهو كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، ومالك بن الصيف، وأبو ياسر، وشعبة بن عامر، {يلوون} أي: يفتلون {ألسنتهم بالكتاب} أي: التوراة عند قراءته، فيميلون عن المنزل إلى المُحرف، {لتحسبوه من الكتاب} أي: لتظنوا أن ذلك المحرف من التوراة، {وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب} فيما نسبوا إليه، {وهم يعلمون} أنه ليس من عند الله.
قال ابن عباس: نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، حرفوا التوراة والإنجيل، وألحقوا به ما ليس منه، وأسقطوا منه الدين الحنيف، فبيَّن الله كذبهم، وقيل: في الرجم، حيث كتموا الرجم، وألقى قارئ التوراة يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له ابنُ سلام: ارفع يديك، فإذا آية الرجم تلوح. والله أعلم.
الإشارة: هذه الآية تنسحب على علماء السوء، الذي يفتون بغير المشهور، لحظ يأخذونه من الدنيا، وعلى قضاة الجور الذين يحكمون بالهوى، ويعتمدون على الأقوال الواهية، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
وكذلك بعض المنتسبين من الفقراء، يتصنعون إلى العامة، يطمعون فيما في أيديهم من الحطام، فيظهرون لهم علوماً ومعارف وحكماً، يلوون ألسنتهم بها وقلوبهم خاوية من معناها، فظاهر حالهم يُوهم أن ذلك موافق لقلوبهم، وأنهم عاملون بذلك، وباطنهم يكذبهم في ذلك، {وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البَقَرَة: 213].

.تفسير الآيات (79- 80):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
قلت: البشر: اسم جمع لا مفرد له، يطلق على الجماعة والواحد. والرباني: هو الذي يُربي الناس ويؤدبهم ويُهذبهم بالعلم والعمل. وقال ابن عباس: (هو الذي يُربي الناس بصغار العلم قبل كباره)، والنون فيه للمبالغة، كلحياني ورقباني. و{ولا يأمركم} بالرفع، استئناف، وبالنصب: عطف على {يقول}، و{لا} مزيدة: أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة أرباباً. أو غير مزيدة، والتقدير: ليس له أن يأمر بعبادته ولا باتخاذ الملائكة أرباباً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ما كان} ينبغي {لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكْمَ} أي: الفصل بين العباد، {والنبوة} أي: الوحي بالأحكام، {ثم يقول} بعد ذلك {للناس كونوا عباداً لي من دون الله} أو مع الله، أو يرضى أن يُعبد من دون الله، {ولكن} يقول لهم: {كونوا ربانيين} أي: علماء بالله، فقهاء في دينه، حلماء على الناس، تُربون الناس بالعلم والعمل والهمة والحال، بسبب {ما كنتم تعلمون} من كتاب الله {وبما كنتم تدرسون} منه، أو {بما كنتم تُعَلِّمُون} الناس من الخير بكتاب الله، وما كنتم تدرسونه عليهم. ولما مات ابن عباس- رضي الله عنهما- قال محمد ابن الحنيفة: (مات ربَّاني هذه الأمة).
{ولا يأمركم} ذلك البشر الذي خصه الله بالنبوة، {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} من دون الله، {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} أي: مناقدون لأحكام الله. قيل: سبب نزول الآية: أن نصارى نجران قالوا: يا محمد؛ تريد أن نعبدك ونتخذك ربّاً؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن نعبد غيرَ الله، أو نَأمُرَ بعبادة غيره» وقيل: إن رجلاً قال: يا رسول الله: نُسلِّم عليك كما يُسلِّم بعضُنا على بعض، أفلا نسجُد لك؟ فقال: «لا يَنْبَغِي ان يسجد احدٌ لأحدٍ من دُونِ اللهِ، ولكنْ أكْرِموا نَبِيَّكُمْ، واعْرِفُوا الحقَّ لأَهْلِه».
الإشارة: ما زال الفقراء يعظمون أشياخهم، ويبالغون في ذلك حتى يُقبِّلون أرجلهم والترابَ بين أيديهم، ويجتهدون في خدمتهم، فإذا رءاهم الأشياخ فعلوا ذلك سكتوا عنهم، لأن ذلك هو ربحهم وسبب فتحهم، وفي ذلك قال القائل:
بذَبْح النفوس وحط الرؤوس تُصفى الكؤوس

لكنهم يرشدونهم إلى الحضرة حتى يفنوهم عن شهود الواسطة، فيكون تعظيمهم وحط رأسهم إنما هو لله لا لغيره، وحينئذٍ يكونون ربانيين، علماء بالله مقربين، وكان شيخنا يقول: لا تزوروني على أني شيخكم، ولكن اعرفوا فينا، وافنوا عن رؤية حسناً، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا. اهـ. فدلالة الأشياخ للفقراء على التعظيم والأدب ليس ذلك مقصوداً لأنفسهم، وحاشاهم من ذلك. ما كان لبشر أن يؤتيه الله الخصوصية ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن يقول لهم: كونوا ربانيين عارفين بالله، حتى يكون تعظيمكم إنما هو لله، ولا يأمر أيضاً بالفرق حتى يتخذوا الأشياء أرباباً من دون الله، ولكن يأمر بالجمع حتى يغيبوا عما سوى الله، وكيف يأمرهم بالفرق، وهو إنما يدلهم على الجمع؟ أيأمرهم بالكفر بعد أن كانوا مسلمين. ولله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (81- 82):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
قلت: اللام في {لما}، موطئة للقسم؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، و{ما}: يحتمل الشرطية، و{لتؤمنن}: جواب القسم، سد مسد الجواب، أي: مهما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول الله لتؤمنن به. ويحتمل الموصولية، و{لتؤمنن}: خبر عنه، وحذف شرط يدل على السياق؛ أي: للذي آتيناكم من كتاب وحكمة، ثم إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به. ومن قرأ بكسر اللام كان تعليلاً للأمر بالإيمان بالرسول، أي: لأجل الذي خصصتكم به إذا جاءكُمْ رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، وإذا كان أخذ الله الميثاق على الأنبياء كان على الأتباع أولى، أو استغنى بذكر الأنبياء عن ذكر أتباعهم؛ لأنهم في حكمهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {إذ أخذنا} الميثاق على النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام. وقلنا لهم: والله للذي خصصتكم به {من كتاب وحكمة}، ثم إن ظهر رسول {مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} أنتم وأممكم، أو: لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمداً لتؤمنن به ولتنصرنه. قال سيدنا عليّ- كرّم الله وجهه-: (لم يبعث اللّهُ نبيّاً، آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد، وأمره بأخذ العهد على قومه ليُؤْمنُنَّ به، ولئن بُعث وهم أحياءٌ لينْصُرُنَّه).
{قال} الحقّ جلّ جلاله لمن أخذ عليهم العهد: {أأقرتم} بذلك وقبلتموه، {وأخذتم على ذلكم إصري} أي: عهدي وميثاقي؟ {قالوا أقررنا} وقبلنا، {قال فاشهدوا} على أنفسكم، أو ليشهدْ بعضكم على بعض بالإقرار، أو فاشهدوا يا ملائكتي عليهم، {وأنا معكم من الشاهدين}، وفيه توكيد وتحذير عظيم، {فمن تولى بعد ذلك} الإقرار والشهادة، وأعرض عن الإيمان به، ونصره بعد ظهوره، {فأولئك هم الفاسقون} الخارجون عن الإيمان المتمردون في الكفران.
الإشارة: كما أخذ الله العهد على الأنبياء وأممهم في الإيمان به عليه الصلاة والسلام، أخذ الميثاق على العلماء وأتباعهم من العامة، لئن أدركوا وليّاً من أولياء الله، حاملاً لواء الحقيقة، مصدقاً لما معهم من الشريعة، ليؤمنن به ولينصرنه، من تولى وأعرض عن الإذعان إليهم فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن دائرة الولاية، محرومون من سابق العناية، فإن الحقيقة إنما هي لب الشريعة وخلاصتها، فإنما مثل الحقيقة والشريعة كالروح للجسد، فالشريعة كالجسد، والحقيقة كالروح، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح، والحقيقة بلا شريعة روح بلا جسد، فلا قيام لهذا إلا بهذا، فنم تشرَّع ولم يتحقَّق تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق، ومن خرج عنهما فقد خرج عن دين الله وطلب غيره، وإليه توجه الإنكار.

.تفسير الآية رقم (83):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
قلت: {أفغير}: مفعول مقدم، و{يبغون}: معطوف على محذوف، أي: أتتولون فتبغون غير دين الله، وقدم المعمول؛ لأنه المقصود بالإنكار، و{طوعاً وكرهاً}: حالان، أي: طائعين أو كارهين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: للنصارى واليهود، لمَّا اختصموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم، فقال لهم- عليه الصلاة والسلام: «كِلاكما بَرِيءٌ مِنْ دِينه، وأنا على دِينه، فخذوا به»، فغضبوا، وقالوا: والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله- منكراً عليهم-: أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه، وقد انقاد له تعالى {من في السماوات والأرض} طائعين ومكرهين، فأهل السموات انقادوا طائعين، وأهل الأرض منهم من انقاد طوعاً بالنظر واتباع الحجة أو بغيرها، ومنهم من انقاد كرهاً أو بمعاينة ما يُلجئ إلى الإسلام؛ كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت، أو: طوعاً كالملائكة والمؤمنين، فإنهم انقادوا لما يراد منهم طوعاً، {وكرهاً} كالكفار فانقادوا لما يراد منهم كرهاً، وكلٍّ إليه راجعون، لا يخرج عن دائرة حكمه، أو راجعون إليه بالبعث والنشور. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الدين الحقيقي هو الانقياد إلى الله في الظاهر والباطن، أما الانقياد إلى الله في الظاهر فيكون بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأما الانقياد إلى الله في الباطن فيكون بالرضى بحكمه والاستسلام لقهره. فكل من قصَّر في الانقياد في الظاهر، أو تسخط من الأحكام الجلالية في الباطن، فقد خرج عن كمال الدين، فيقال له: أفغير دين الله تبغون وقد انقاد له {من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً}، فإما أن تنقاد طوعاً أو ترجع إليه كرها. وفي بعض الآثار يقول الله تبارك وتعالى: «منْ لم يَرْضَ بقضائي ولم يَصْبِرْ على بَلائِي، فليخرجْ من تحت سَمَائي، وليتخذْ ربّاً سِوَاي».
وسبب تبرّم القلب عن نزول الأحكام القهرية مرضُه وضعف نور يقينه، فكل من استنكف عن صحبة الطبيب، فله من هذا العتاب حظ ونصيب، فالأولياء حجة الله على العلماء، والعلماء حجة الله على العوام، فمن لم يستقم ظاهره عُوتب على تفريطه في صحبة العلماء، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صُحبة الأولياء، أعني العارفين. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (84):

{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
قلت: {أُنزل}: يتعدى بإلى؛ لأنه ينتهي إلى الرسل، ويتعدى بعلى، لأنه يأتي من ناحية الحلو والاستعلاء، وفرَّق بعضهُم بين التعبير هنا بعلى وفي البقرة بإلى، فقال: لأن الخطاب هنا للرسول بالخصوص، وقد أنزل عليه الوحي مباشرة، وهناك الخطاب للمسلمين، وإنما أنزل الوحي متوجهاً إليهم بالواسطة، ولم يكن عليهم بالمباشرة. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد لأهل الكتاب الذين فرقوا في إيمانهم بين الرسل: أما نحن فقد آمنا بالذي {أنزل علينا وما أنزل} على جميع الأنبياء والرسل {لا نفرق بين أحد منهم} كما فرَّقتم أنتم، فَضَلَلْتُم، {ونحن له مسلمون} أي: منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة، أو مخلصون في أعمالنا كلها، وقدَّم المنزل علينا على المنزل على غيرنا، لأنه عيار عليه ومُعَرَّفٌ به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للفقير أن يبالغ في تعظيم شيخه، ويسوغ له التغالي في شأنه ما لم يخرجه عن طَوْر البشر، وما لم يؤد ذلك إلى إسقاط حُرمة غيره من الأولياء بالتنقيص أو غيره، فحرمة الأولياء كحرمة الأنبياء، فمن فرّق بينهم حُرِم بركة جميعهم. وبالله التوفيق.