فصل: تفسير الآيات (6- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 8):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} المتقدمين في أول السورة، {في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شَرُّ البريَّةِ} أي: الخليقة؛ لأنّ الله بَراهم، أي: أوجدهم. قرئ بالهمزة، وهو الأصل ويعدمه مع الإدغام، وهو الأكثر.
{إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيرُ البريَّةِ} لا غيرهم، {جزاؤُهم عند ربهم جناتُ عدنٍ} إقامة، {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورَضُوا عنه} حيث بلغوا من الأماني قاصيها وملكوا من المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {ذلك لِمَنْ خَشِيَ ربَّه}، فإنَّ الخشية التي هي مِن خصائص العلماء به مناطاة بجميع الكمالات العلمية والعملية، المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية. والتعرُّض لعنوان الربوبية، المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلو الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. قاله ابو السعود.
وقوله: {خير البرية} يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة. وفيه تفصيل تقدّم ذكره في النساء. قال القشيري: قوله تعالى: {خير البرية} يدل على أنهم أفضل من الملائكة. اهـ. قال في الحاشية: أي: في الجملة، ثم ذكر حكاية الرجل الذي أحياه الله بعد موته بدعوة عيسى، فقال: إنه كان في الجنة، وأنه مرّ بملأ من الملائكة، وهم يقولون: إنَّ من بني آدم لَمَنْ هو أكرم على الله من الملائكة. ثم ذكر عن نوادر الأصول: أنَّ المؤمن أكرم على الله من الملائكة المقربين، فانظره. وقال بعضهم: الملائكة عقل بلا شهوة، والبهائم شهوة بلا عقل، والآدمي فيه عقل وشهوة، فمَن غلب عقلُه على شهوته كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت شهوتُه على عقله كان كالبهائم أو أضلّ. اهـ.
الإشارة: مَن كفر بأهل الخصوصية مِن أهل العلم وغيرهم لهم نار الحجاب والقطيعة، ومَن آمن بهم، ودخل تحت تربيتهم له جنات المعارف خالداً فيها، رضي الله عنهم حيث قرَّبهم إليه، ورَضُوا عنه حيث سلّموا الأمر إليه، وخشوا بعُده وطرده. قال الإمام الفخر: اعلم أنَّ العبد مُركَّب من جسد وروح، فجَنّة الجسد هي الموصوفة في القرآن، وجنة الروح هي رضا الرب. والأُولى مبدأ أمره، والثانية منتهى أمره.
وقال الورتجبي: عن الواسطي: الرضا والسخط نعتان قديمان، يجريان على الأبد بما جرى في الأزل، يظهران الوسْم على المقبولين والمطرودين. فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم، كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم. ثم قال عن سهل: الخشية سر والخشوع ظاهر. اهـ. فالخشية محلها البواطن، والخشوع ظهور أثر الخشية في الظاهر. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

.سورة الزلزلة:

.تفسير الآيات (1- 8):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِذا زُلزلت الأرضُ} أي: حُركت تحريكاً عنيفاً مكرراً متداركاً، {زِلزالها} أي: الزلزلة المخصوصة بها على مقتضى المشيئة الإلهية، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه، أو: زلزالها العجيب الذي لا يُقادر قدره. قال ابن عرفة: المراد: الأرض الأولى؛ لأنّ الثانية ليس فيها أموات. ولكن السموات عند المنجِّمين متلاصقة بعضها مع بعض، وكذلك الأرضون، وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل، وهو ظاهر حديث الإسراء. اهـ.
وذلك عند النفخة الثانية لقوله تعالى: {وأخرجت الأرضُ أثقالها} أي: ما في جوفها من الأموات والدفائن، جمع: ثِقُل، وهو: متاع البيت، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها. وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو: للإيماء إلى تبدُّل الأرض غير الأرض. {وقال الإنسانُ} أي: كل فرد مِن أفراده، لِما يدهمهم من الطامة التامة، ويبهرهم من الداهية العامة: {ما لها} زُلزلت هذه الزلزلة الشديدة، وأخرجت ما فيها من الأثقال، استعظاماً لِما شهدوه من الأمر الهائل، وقد سُيرت الجبال وفي الجو فصارت هباءً. وهذا قول عام يقوله المؤمن بطريق الاستعظام، والكافر بطريق التعجًّب.
{يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها} يوم إذا زلزلت الأرض تُحَدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها، قيل: يُنطقها اللهُ وتُحدِّث بما وقع عليها خيرٍ وشر، رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: «أنها تشهد على كل أحدٍ بما عمل على ظهرها» {بأنّ ربك أوْحى لها} أي: بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن تُحَدِّث أي: أَمَرَها بذلك. والحديث يستعمل بالباء وبدونها، يقال: حدثت كذا وبكذا، و{أوحى} يتعدى باللام وب إلى.
{يومئذٍ} أي: يوم إذ يقع ما ذكر {يَصْدُر الناسُ} من قبورهم إلى موقف الحساب {أشتاتاً} متفرقين طبقات منهم بِيض الوجوه آمنين، ومنهم سُود الوجوه فزعين، كما في قوله تعالى: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ: 18] وقيل: يصدرون غن الموقف أشتاتاً، ذات اليمين إلى الجنة، وذات الشمال إلى النار، {لِيُرَوا أعمالَهم} أي: جزاء أعمالهم خيراً أو شراً.
{فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَرَهُ}، والذرة: النملة الصغيرة. وقيل: ما يرى في شعاع الشمس من البهاء. و{خيراً}: تمييز، {ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يَرَهُ} قيل: هذا في الكافر، والأُولى في المؤمنين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس مؤمن ولا كافر، عَمِلَ خيراً ولا شرًّا في الدنيا إلاّ يراه في الآخرة، فأمّا المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر اللهُ سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأمّا الكافر فيَرُدُّ اللهُ حسناته ويُعذبه بسيئاته. وقال محمد بن كعب: الكافر يرى ثوابه في الدنيا، في أهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، والمؤمن يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر.
وفي الحديث: «إذا تاب العبدُ عن ذنبه أَنْسَى الله الحفظةَ ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض، حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب».
قال ابن جُزي: هو على عمومه في الكافر، وأمّا المؤمنون فلا يُجْزَون بذنوبهم إلاَّ بستة شروط؛ أن تكون ذنوبهم كِبار، وأن يموتوا قبل التوبة منها، وألاَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها وألاّ يُشفع فيهم، وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعملٍ، كأهل بدر، وإلاّ يعفو الله عنهم، فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له. اهـ.
الإشارة: إذا زُلزلت أرضُ النفوس زلزالها اللائق بها، وحُركت بالواردات والأحوال وتحققت الغيبة عنها بالكلية، أشرقت شمس العرفان، فغطّت وجودَ الأكوان، كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه مُنشِداً:
فلوا عاينت عيناك يوم تزلزلت ** أرض النفوس ودُكت الأجبال

لرأيتَ شمس الحق يسطع نورها ** يوم التزلزل والرجال رجال

وأخرجت حينئذ ما فيها من العلوم يومئذ تُحَدِّث أخبارها: أخبار الأسرار الكامنة فيها، بأنّ ربك أوحى لها إلهاماً. يومئذ يَصْدُر الناسُ من الفناء إلى البقاء، أشتاتاً، فمنهم الغالب حقيقته، ومنهم الغالب شريعته، ومنهم المعتدل. أو: فمنهم الغالب عليه القبض والقوة، ومنهم الغالب عليه البسط والليونة، وهذا أعم نفعاً. والله أعلم. وذلك لِيُروا أعمال مجاهدتهم بالتنعُّم في مشاهدتهم، فمَن يعمل مثقال ذرة خيراً بأن ينقص من نفسه عادةً في سيره يرَ جزاء ذلك، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا بأن يزيد من الحس شيئاً في الظاهر يره، فإنه ينقص من معناه في الباطن، إلاّ إذا تمكّن من الشهود. وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة العاديات:

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
يقول الحق جلّ جلاله: {والعادياتِ ضَبْحاً}، أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عَدَون، وحكى صوتها ابنُ عباس، فقال: أحْ، أحْ. وانتصاب {ضبحاً} على المصدر، أي: يضبحن ضبحاً، أو: بالعاديات، فإنَّ العَدْو يستلزم الضبح، كأنه قيل: والضابحات ضبحاً، أو: حال، أي: ضابحات. {فالمُورِيات قَدْحاً} الإيراء: إخراج النار والقدح: الصكّ يقال: قدح فأوْرى، أي: فالتي تُوري النارَ من حوافرها عند العَدْو. وانتصاب {قدحاً} كانتصاب ضبحاً. {فالمُغيراتِ} التي تغير على العدوّ، {صُبْحاً} أي: وقت الصبح، وهو المعتاد في الغارات، يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون عليهم صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون. وإسناد الإغارة التي هي متابعة العدو، والنهب والقتل والأسر إلى الخيل، وهي حال الراكب عليها، إيذاناً بأنها العمدة في إغارتهم.
وقوله تعالى: {فأثَرْنَ به نَقْعاً} أي: غباراً، عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، إذا المعنى: واللاتي عدون فأَوْرَين فأغرن فأثرن، أي: هيّجن به غباراً، وتخصيص إثارته بالصُبح لأنه لا تظهر إثارته بالليل، كما أنَّ الإيراء الذي لا يظهر بالنهار واقع بالليل. والحاصل: أنّ العَدْو كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر، ولا يظهر النقع إلاّ في الصبح. {فَوسَطْنَ به} أي: فوسطن بذلك الوقت {جَمْعاً} من جموع الأعداء والفاء لترتيب ما بعد كل على ما قبله، فإنَّ توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتب على الإغارة، المترتبة على الإيراء، والمترتب على العدْو.
وجواب القسم: قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسانَ لِربه لَكَنُود} أي: لَكفور، من: كند النعمة: كَفَرها. وقيل: الكنود هو الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده. وقيل: اللوّام لربه، يَعْد المحنَ والمصائبَ، وينسى النعم والراحات. وعلى كل حالٍ فلا يخرج عن أن يكون فسقاً أو كفراً أو تقصيراً في شكر الله على نعمه، وتقصيراً وتفريطاً في الاستعداد للقائه، وفي التعظيم لجنابه، وبالجملة فهو القليل الخير، ومنه: الأرض الكنود، التي لا تُنبت شيئاً. قال: في الحاشية الفاسية: والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو مَن اهتمامه بدنياه دون آخرته، ولذلك كان حريصاً على المال، ويرتكب المشاق في جمعه، ولا يُبالي بآخرته، ولا يستعد لمآله ولا لآخرته، ولا يُقَدِّم لها، وذلك لغفلته وجهله بربه وما أراده منه، وطلبه من السعي للآخرة، وقد ضَمِنَ له رزقه، فلذلك بعد أن عدّد مذامّه هدّده ورهّبه بقوله: {أفلا يعلم...} الآية. اهـ.
والآية إمّا في جنس الإنسان إلاَّ مَن عصمه الله، وهو الأظهر، أو في مُعَيَّن، كالوليد أو غيره. قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المُنذر بن عمرو الأنْصاريّ، وكان أحد النقباء، فأبطأ خبره عنه صلى الله عليه وسلم شهراً، فقال المنافقون: إنهم قُتلوا، فنزلت السورة بسلامتها، بشارةً له صلى الله عليه وسلم ونعياً على المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية، وهو خلاف قول الجمهور، كما تقدّم.
{وإِنه} أي: الإنسان {على ذلك} أي: على كنوده {لَشَهِيدٌ} يشهد على نفسه بالكنود، لظهور أثره عليه، {وإِنه لِحُبّ الخير} أي: المال {لَشَدِيدٌ} أي: قويٌّ مُطيق مُجد في طلبه، متهالك عليه، وقيل: لشديد: لبخيل، أي: وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَخِيل مُمْسِك، ولعل وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أنَّ مِن جملة الأمور الداعية المنافقين إلى النفاق حب المال؛ لأنهم بما يُظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم، ويحوزون من الغنائم نصيباً.
ثم هدّد الكَنود، فقال: {أفلا يعلمٌ إِذا بُعْثِر ما في القبور} أي: بُعث فيها، و{ما} بمعنى من، {وحُصِّلَ ما في الصدور}؛ مُيِّز ما فيها من الخير والشر، أي: أفلا يعلم مصيره، وأنَّ الله مُطلع عليه، في سيرته وسريرته، فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه وشهواته، فآثر العاجلةَ على الآخرة، وحظوظَه على حقوق ربه والقيام بعبوديته. {إِنَّ ربهم بهم يومئذٍ لَخبير} أي: عالم بظواهر ما عمِلوا وباطنه، عِلماً موجباً للجزاء، متصلاً به، كما يُنبئ عنه تقييده بذلك اليوم، إلاَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون. وقوله: {بهم} و{يومئذ} يتعلقان ب {بخبير} قُدما لرعاية الفواصل واللام غير قادحة، وذلك لما يغتفر في المجرورات، وقرأ ابن السمّاك: {أن ربهم بهم يومئذ خبير}.
الإشارة: أقسم تعالى بأرواح المتوجهين، التي تعدو على الخواطر الردية، فتمحوها بقهرية المراقبة، وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة، وتُغِير على أعدائها من الدنيا والهوى والنفس والشيطان، فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة، وتُثير غبار المساوي والذنوب بريح الهداية والتوبة، فيذهب في الهواء، وتوسط جمعاً من العلوم والأسرار، فتحوزهم في خزانة قلبها وسِرها، غنيمةً وذخيرةً، وجوابه: إنّ الإنسان لربه لكنود، مع أنه مغروق في النعم، وهو لا يشعر ولا يشكر، لغفلته وعدم تفكُّره، وهذا الإنسان هو الغافل الجاهل.
قال الورتجبي: الإنسانُ لا يعرف ما أعطاه الله من نعمه بالحقيقة، وإنه لكفور إذ لا يعرف مُنعمه، ثم قال عن الواسطي: الكنود يعدّ ما مِنه من الطاعات، وينسى ما مّن الله به عليه من الكرامات. اهـ. وإنه على ذلك لشهيد؛ يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته، وإنه لِحُب الخير لشديد يأثره على معرفة مولاه، فخسر خسراناً مبيناً، أفلا يعلم ما يحلّ به إذا بُعثر ما في القبور، فتظهر الأبطال من الأرذال، وحُصِّل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال، إنّ ربهم بهم يومئذ لخبير، فيُجازي أهلَ الإحسان وأهل الخذلان، كُلاًّ بما يليق به. وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة القارعة:

.تفسير الآيات (1- 11):

{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}
يقول الحق جلّ جلاله: {القارعةُ ما القارعةُ} القرع هو الضرب باعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى، ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق، سُميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وهي مبتدأ، خبرها: قوله: {ما القارعةُ} على أنَّ {ما} استفهامية خبر والقارعة مبتدأ، لا بالعكس؛ لما مرّ من أنَّ محط الإفادة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو {ما القارعة} أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. {وما أدراك ما القارعةُ} هو تأكيد لهولها وفضاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، أي: أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ومن أين علمت ذلك؟ وأدري يتعدى إلى مفعولين علقت عن الثاني بالاستفهام.
ثم بيّن شأنها فقال: {يومَ يكونُ الناسُ كالفراش المبثوثِ} أي: هي يوم، على أنَّ {يوم} مبني لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعاً على رأي الكوفيين، والمختار أنه منصوب باذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. والفراش: صِغار الجراد، ويسمى: غوغاء الجراد، وبهذا يوافق قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] وقال أبو عبيدة: الفراش: طير لا بعوض ولا ذباب، والمبثوث: المتفرق. وقال الزجاج: الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. اهـ. والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في النار، ولا يزال يقتحم على المصباح، قال الكواشي: شبّه الناسَ عند البعث بالفراش لموج بعضهم في بعض، وضعفهم وكثرتهم، وركوب بعضهم بعضاً؛ لشدة ذلك اليوم، كقوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتِشِرٌ} [القمر: 7] وسمي فراشاً لتفرُّشه وانتشاره وخفته. اهـ. واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيه للكفار؛ لأنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر.
{وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنفوشِ} كالصوف الملون بالألوان المختلفة في تفرُّق أجزائها وتطايرها في الجو، حسبما نطق به قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً...} [النمل: 88] الآية، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، يُبدِّل الله الأرضَ غير الأرض بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة الأولى، لكن تسيير وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية، كما ينطق به قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] الآية، ثم قال: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي} [طه: 108] وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48]، الآية، فإنَّ اتباع الداعي وهو إسرافيل، وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلاَّ بعد النفخة الثانية.
قاله أبو السعود. قلت: دكّ الأرض كلها مع بقاء جبالها غريبَ مع أنَّ قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال...} [الحاقة: 14] إلخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك الأرض قبل البعث، ويمكن الجمع بأن بعضها تدك مع دك الأرض، وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر وبعضها تبقى ليشاهدها أهلُ المحشر، وهو ما كان جانباً، والله تعالى أعلم بما سيفعل وسَتَرِد وترى.
ولمّا ذكر ما يَعُمّ الناس ذَكَر ما يخص كل واحد، فقال: {فأمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه} باتباعه الحق، وهو جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله أو جمع ميزان، قال ابن عباس رضي الله عنه: هو ميزان له لسان وكفّتان، تُوزن فيه الأعمال، قالوا: تُوضع فيه صحائف الأعمال، فينظر إليه الخلائق، إظهاراً للمعدلة، وقطعاً للمعذرة. قال أنس: «إنَّ ملكاً يوُكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم، يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان، فيُوزن عمله، فإن ثقلت حسناته نادى بصوت يُسْمِع جميعَ الخلائق باسم الرجل: إلاَ سَعِدَ فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفّت موازينه نادى: شَقِيَ فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً» وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السَّوي، والحكم العَدْل، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين، قالوا: الميزان لا يتوصل به إلى معرفة مقادير الأجسام، فكيف يُمكن أن يعرف مقادير الأعمال. اهـ. والمشهور أنه محسوس.
وقد رُوي عن ابن عباس أنه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتُوضع في الميزان فمَن ترجحت موازين حسناته {فهو في عيشةٍ راضيةٍ} أي: ذات رضاً، أو مرضية، {ومَن خَفَّتْ موازينُه} باتباعه الباطل، فلم يكون له حسنات يُعتد بها، أوترجحت سيئاته على حسناته، {فأُمُّهُ هاويةٌ}، هي من أسماء النار، سُميت بها لغاية عمقها وبُعد مداها، رُوي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً. وعبَّر عن المأوى بالأم لأنَّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه، وعن قتادة وغيره: فأم رأسه هاوية، لأنه يُطرح فيها منكوساً. والأول هو الموافق لقوله: {وما أدراك مَا هِيَهْ} فإنه تقرير لها بعد إبهامها، وللإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل، وهي ضمير الهاوية، والهاء للسكت، ثبت وصلاً ووقفاً، لثبوتها في المُصحف، فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها، ثم فسَّرها فقال: {نارٌ حامية} بلغت النهاية في الحرارة، قيل: وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية؛ فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها، كما في الحديث.
الإشارة: القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند الاستشراف على مقام الفناء، لأنها تقرع القلوب بالحيرة والدهش في نور الكبرياء، ثم قال: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} أو كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجده شيئاً ووجد الله عنده، يعني: إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في نظر العارف، فلم يبعد في قلبه منهم هيبة ولا خوف.
وتكون الجبال، جبال العقل، كالعهن المنفوش، أي: لا تثبت عند سطوع نور التجلِّي؛ لأنّ نور العقل ضعيف كالقمر، عند طلوع الشمس، فأمّا مَن ثقُلت موازينه بأن كان حقاً محضاَ؛ إذ لا يثقل في الميزان إلاَّ الحق، والحق لا يُصادم باطلاً إلاَّ دمغه، فهو في عيشة راضية، لكونه دخل جنة المعارف، وهي الحياة الطيبة، وأمّا مَن خفّت موازينه باتباع الهوى فأُمُّه هاوية، نار القطيعة ينكس فيها ويُضم إليها، يحترق فيها بالشكوك والأوهام والخواطر، وحر التدبير والاختيار. ورُوي في بعض الأثر: إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله في الدنيا وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلاَّ الحق أن يَثقل، وإنما خفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينُهم باتباعهم الباطلِ وخفته في الدنيا، وحُق لميزان لا يُوضع فيه إلاَّ الباطل أن يخف. اهـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.