فصل: تفسير الآيات (191- 194):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (191- 194):

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: في وصف أولي الألباب: هم {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}، أي: يذكرونه على الدوام، قائمين وقاعدين ومضطجعين، وعنه- صلى الله عليه وسلم-: «منْ أرادَ أن يَرْتَع في رِيَاضِ الجَنة فليُكثْر ذِكرَ الله» وقيل: يُصلّون على الهيئات الثلاث، حسب الطاعة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين، وكان مريضاً: «صَلِّ قائِماً، فإِنْ لَمْ تَسْتَطْع فقاعِداً، فإنْ لَمْ تَسْتَطعْ فقاعِداً، فإنْ لَمْ تَستطِعْ فعلى جَنْبِكَ وتُومئ إيماء».
{ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات قال صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كالتفكر»؛ لأن المخصوص بالقلب، والمقصود من الخلق، وعنه صلى الله عليه وسلم: «بينَمَا رجلٌ مُسْتَلقٍ على فِرَاشهِ فَنَظَر إلى السماءِ والنُجومِ، فَقَال: أشْهدُ أن لَكِ خَالِقًَ، اللُهمَّ اغفرْ لي، فَنَظَر اللّهُ إِليه فَغَفر لَهْ» وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. قاله البيضاوي. وسيأتي مزيد من كلام على التفكر في الإشارة إن شاء الله.
فلما تفكروا في عجائب المصنوعات، قالوا: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} أي: عبثاً من غير حكمة، بل خلقته لحكمة بديعة، من جملتها: ان يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسبباً لمعاشه، ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك، لينال الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية في جوارك، {سبحانك} تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل، {فَقِنَا عذابَ النار} التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار، وأخلّ بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار، {وما للظالمين من أنصار} يمنعونهم من دخول النار. ووضع المظهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار، وانقطاع النصرة عنهم في دار البوار.
{ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان}، وهو الرسول العظيم الشأن، أو القرآن؛ قائلا: {أن آمنوا بربكم} ووحدوه، فأجبنا نداءه وآمنا، {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} الكبائر، {وكفر عنا سيئاتنا} الصغائر، {وتوفنا مع الأبرار} المصطفين الأخيار، مخصوصين بصحبتهم، معدودين في زمرتهم، وفيه تنبيه على أنهم يُحبون لقاء الله فأحب الله لقاءهم، {ربنا وآتنا ما وعدتنا على} تصديق {رسلك} من الثواب، أو على ألسنة رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب، سألوا ما وُعدوا على الامتثال، لا خوفاً من إخلاف الوعدن بل مخافة ألاَّ يكونوا موعودين لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال، أو تعبداً، أو استكانة. قاله البيضاوي.
{ولا تخزنا يوم القيامة} أي: لا تُهِنَّا بسبب تقصيرنا، {إنك لا تخلف الميعاد} بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، أو ميعاد البعث والحساب، وتكرير {ربنا}؛ للمبالغة في الابتهال، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها، ففي بعض الآثار: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا، أنجاه الله مما يخاف.
قاله البيضاوي.
الإشارة: قدَّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير، فإن المريد يُؤمَر أول أَمرِهِ بذكر اللسان، حتى يفضي إلى الجنان، فينتقل الذكر إلى القلب، ثم إلى الروح، وهو الفكر، ثم إلى السر، وهو الشهود والعيان، وهنا يخرس اللسان، ويغيب الإنسان في أنوار العيان، وفي ذلك يقول القائل:
مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي ** سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ

حَتَّى كَأنَّ رقيباً مِنكَ يَهْتِفُ بِي ** إيَّاكَ وَيْحَكَ والتَّذْكَارَ إيَّاكَ

أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ ** وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ

فإذا بلغ العبد هذا المقام- الذي هو مقام الإفراد- اتحدت عنده الأوراد، وصار ورداً واحداً، وهو عكوف القلب في الحضرة بين فكرة ونظرة، أو إفراد القلب بالله، وتغيبه عما سواه.
قال في الإحياء في كتاب الأوراد: الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى: {ففرّوا إلى الله}، وتحقق فيهم قوله: {إني ذاهب إلى ربي}، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة!. اهـ.
قلت: قوله: لا يخطر بقلبه معصية غير لازم؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن.
وقال في موضع آخر: وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه؛ حُبّاً لجلاله وجماله، وسار الأعمال تكون مؤكدات. قال: والعامل لأجر الجنة؛ درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. اهـ. وقال في كتاب كيمياء السعادة: وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية: من رأني في الابتداء، قال: صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال: صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة، وهيهات هيهات!!، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغياتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس. اهـ.
قال شيخ شيوخنا- سيدي عبد الرحمن العارف- بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى: وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد: أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب؛ لأنه أجمع لهمه، قال: وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث؛ لئلا يتغير حاله. اهـ. قلت: ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر: «تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة».
وقال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال: يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه التفكر نعت كل طالب، وثمرته: الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. اهـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت: كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول: طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. اهـ. وقال في الحكم: (ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة). وقال أيضاً: الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له. وقال أيضاً: الفكرة فكرتان؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار.
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر:
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي ** قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه

فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء، وفي أمثاله قال القائل:
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ ** لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ

حققنا الله بمقامهم، وسقانا من منالهم، آمين.
وقوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول- عليه الصلاة والسلام. وقوله: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا} أي: كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، {ربنا وآتنا ما وعدتنا} وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (195):

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
قلت: {استجاب}: أخص من أجاب، لأن استجاب مُستلزم لفعل ما طلب منه، وأجاب يصدق بالوعد، ويتعدى بنفسه وباللام، و{بعضكم من بعض}: جملة معترضة. قاله البيضاوي فانظره.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فاستجاب لهم ربهم} فيما طلبوه؛ لأنه لا يرد السؤال، ولا تخيب لديه الآمال، ولذلك قال: {أني} أي: بسبب {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى}؛ لأنكم {بعضكم من بعض}؛ لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، ولأنهما من أصل واحد، ولفط الاتصال والاتحاد والاتفاق في الدين.
رُوِيَ «أَنَّ أمَّ سَلَمَة قالتْ: يا رَسُولَ اللّهِ، أني أَسْمَعُ الله يَذكُر الرجَالَ في الهِجْرَةِ ولم يَذكُر النساء، فنزلت: {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عِمرَان: 195]» إلخ.
ثم فصل أعمال العمال، وما أعد لهم من الثواب فقال: {فالذين هاجروا} دار الشرك، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر، {وأخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي} بسبب إيمانهم بالله، {وقاتلوا} الكفار، و{قُتلوا} أي: ماتوا في الجهاد. وقرئ بالعكس؛ لأن الواو لا ترتب، أو قتل بعضهم، وقاتل الباقون ولم يضعفوا، {لأكفرنّ عنهم سيئاتهم} أي: لأمحونها، {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله} أي: أثيبهم من عند الله تفضلاً وإحساناً، {والله عنده حسن الثواب} لا يعجزه شيء.
الإشارة: لما توجهوا إليه بهممهم العلية، وعزائمهم القوية، فقرعوا بابه بدوام ذكره، والتفكر في عظمة ذاته، وجميل إحسانه وبره، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار، وحال الخضوع والاضطرار، أجابهم ففتح في وجوههم الباب، وأدخلهم في حضرته مع الأحباب، لأنه يجيب السؤال، ولا يخيب الآمال، بعد أن هاجروا الأوطان، وفارقوا العشائر والإخوان، إلا من يزيد بهم إلى الرحمن، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال، إلى جوار الكبير المتعال، قال الشاعر:
إنْ تُردْ وَصْلنَا فَمَوتكَ شَرْطٌ ** لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه

فمحا عن عين بصائرهم سيئات الأغيار، وطهَّر قلوبهم من درن الأكدار، حتى دخلوا جنة المعارف، التي لا يحيط بوصفها وصف واصف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وتنفتح منها مخازن الفهوم، ثواباً من عند الحيّ القيوم والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (196- 198):

{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
قلت: النُزل- ويسكن-: ما يقدم للنازل من طعام وشراب وصلة، وانتصابه: على الحال من {جنات}، والعامل فيه: الظرف، أو على المصدر المؤكد، أي: أُنزلوها نزلاً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا يغرنك} أيها السامع أو أيها الرسول، والمراد: تثبيته على ما كان عليه، كقوله: {فلا تطع المكذبين}، أي: دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط في الدنيا، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات، وما هم عليه من الخصب ولين عيش، فإن ذلك {متاع قليل} بلغة فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة. قال صلى الله عليه وسلم: «ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إصْبَعَهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعَ» فلابد أن يرحلوا عنها قهراً، {ثم مأواهم} أي: مصيرهم {جهنم وبئس المهاد} ما مهدوا لأنفسهم.
والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس، قال تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} وخافوا عقابه، {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}، هيأ ذلك لهم وأعده {نزلاً من عند الله} هذا النزول الذي يقدم للضيف، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يُعتبر عن لسان، ولذلك قال: {وما عند الله} من النعيم الذي لا يفنى، جسماني وروحاني، {خير للأبرار} مما ينقلب إليه الفجار. قيل: حقيقة البر: هو الذي لا يؤذي الذر.
الإشارة: لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة، والفرش الممهدة، فإن الدنيا متاعها قليل، وعزيزها قليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، واعتبر بحال نبيك- عليه الصلاة والسلام.
قال أنس رضي الله عنه: دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط- أي: مضفور به- وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيكَ يا عمر»؟ فقال: مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ» رواه البخاري.
وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، {وما عند الله خير للأبرار}، ولاسيما العارفين الكبار. قال الورتجبي: بيِّن الحق- تعالى- رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله: {وما عند الله خير للأبرار} أي: ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم الجنة، وأيضاً: صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى: تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة. اهـ.