فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}
قلت: أوقع {ما} على ما يعقل لقلة عقل النساء، كما تقدم، أو مصدرية، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغه في التحريم، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف لآبائكم إن قدرتم عليه، فهو كقول الشاعر:
لا عَيُبَ فِيِهمْ غيَر أَنَّ سُيُوفَهُم بِهِنَّ ** فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

يقول الحقّ جلّ جلاله: ولا تتزوجوا ما تزوج به {آباؤكم من النساء} بالعقد في الحرائر والوطء في الإماء، {إلا ما قد سلف} فإن الله قد عفا عنكم بعد فسخه وردَّه، {إنه كان فاحشة} عظيمة عند الله، ما أحله لأحد من الأمم قبلكم، {ومقتًا} أي: ممقوتًا فاعله عند الله عند ذوي المروءات من عباد الله، وكان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه مَقيتًا ومقتيًا. {وساء سبيلاً}، وبئس طريقًا لمن يريد أن يسلكه بعد التحريم.
فالمراد بالنكاح في الآية: العقد، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور، قال في الرسالة: ولا يحرم بالزنا حلال. اهـ.
الإشارة: ما جرى في آباء البشرية يجري في آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع، فلا ينبغي للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه، مات عنها أو طلقها، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس، وقد تزوج سيدنا علي كرم الله وجهه بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن السلامة في الترك أكثر.
وهنا إشارة أخرى أرق، وهي أن يشير بالنساء إلى الأحوال، فلا ينبغي للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ، ويفعل مثله. فإن الشيخ في مقام وهو في مقام، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات، فلا يقتدى به. إلا أن يدرك مقامه، وكان شيخ شيخنا يقول: (لا تقتدوا بالأشياخ في أفعالهم، وإنما اقتدوا بهم في أقوالهم، فإن أقوالهم لكم ولهم، وأفعالهم خاصة بهم). إلا ما قد سلف لهم من الأحوال في حال سيرهم، فخذوها وسيروا من حيث ساروا، حتى تدركوا ما أدركوا، وافعلوا ما شئتم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (23- 24):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...}
قلت: {كتاب الله عليكم}: مصدر مؤكد. أي: كتب الله ذلك كتاباً، أو على الإغراء.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {حرمت عليكم} من النساء أصنافٌ: منها بالنسب ومنها بالرضاع ومنها بالمصاهرة: فأما التي تحرم بالنسب فهي {أمهاتكم}، وهي الأم، والجدة من الأم ومن الأب ما عَلَوْن، {وبناتكم} وهي البنت وبنت الابن، وبنت البنت ما سفلن، {وأخواتكم} وهي الأخت الشقيقة والتي للأب والأخت للأم، {وعماتكم} وهي أخت الوالد وأخت الجد ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، {خالاتكم} وهي أخت الأم وأخت الجدة ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، {وبنات الأخ} الشقيق، أو للأب، وما تناسل منهم. {وبنات الأخت}، فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقه أو للأب أو للأم.
والضابط في ذلك: أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت، وفصوله وإن سفلت، وفصول أبويه ما سفلت، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه.
ثم ذكر ما يحرم بالرضاع، فقال: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} ذلك تعالى صنفين، وحرمت السُّنَّةُ كل ما يحرم من النسب. قال صلى الله عليه وسلم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فيدخل الأصناف السبعة، وهي الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبن الأخ وبنت الأخت.
ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة، فقال: {وأمهات نسائكم}، وتقدمت زوجة الأب، وسيأتي حليلة الابن، {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} لا مفهوم لهذا القيد، لكنه جرى مجرى الغالب، فهي محرمة، كانت في حجره أم لا، على قول الجمهور، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره. وأما قوله: {اللاتي دخلتم بهن} فهو معتبر إجماعًا، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها، فله طلاقها ويأخذ ابنتها، ولذلك قال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} أن تنكحوهن.
{وحلائل أبنائكم} وهي التي عقد عليها الابن فحلت له، فتحرم على الأب بمجرد العقد. والحاصل: أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها، فالعقد على البنات يُحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يُحرم البنات. وقوله تعالى: {الذين من أصلابكم} احترز به من زوجة المتبنِّي فلا تحرم حليلته، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وأن تجمعوا بين الأختين}، شقيقتين أو للأب أو للأم، وهذا في النكاح، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس، أما في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأجازه الظاهرية، {إلا ما قد سلف} أي: في الجاهلية، فقد عفا عنكم، {إن الله كان غفورًا رحيمًا}، قال ابن عباس: (كانت العرب تُحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلذلك ذكر الحق تعالى: {إلا ما قد سلف} فيهما).
{و} حَرم الله تعالى {المحصنات من النساء} وهُنَّ اللاتي في عصمة أزواجهن، فلا يحل نكاحهن ما دُمْنَ في عصمة الزوج، {إلا ما ملكت أيمانكم} من الغنيمة، فإذا سُبيت الكافرة، ولها زوج، جاز لمن ملكها أن يطأها بالملك بعد الاستبراء، قال في المختصر: وهدم السبيْ النكاحَ، إلا أن تُسبى وتُسلْم في عدتها فهو أحق بها، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى أَوْطَاس، فأصابوا سبيًا من العدو، ولهن أزواج من المشركين فتأثموا من غشيانهن، فنزلت الآية مُبيحة لذلك، {كتاب الله عليكم} أي: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، وهو ما حرّم في الآية من النساء.
الإشارة: اعلم أن الإنسان لا يصير كاملاً عارفًا حتى يولد ثلاث مرات بعد الأم الحسية، أولها: خروجه من بطن حب الدنيا الدنية، ثم من الغفلة والشهوات الجسمانية، ثم من ضيق الأكوان الظلمانية، إلى فضاء المشاهدة والمعاينة، وقال بعض الأولياء: (ليس منا من لم يولد مرتين): فاعتبر الأولى والثالثة، فإذا خرج الإنسان من هذه البطون حرَّم الله عليه نكاحها والرجوع إليها.
وكذا يحرم عليه الرجوع إلى ما تولد منه من الزلات، والأحوال الظلمانية، وما كان ألفه وتواخى معه من البطالات والمألوفات، وما وجد عليه أسلافه من التعصبات والحميات والرئاسات، ولا فرق بين ما واجهه من ذلك من قبل الآباء والأمهات، وكذلك ما ارتضع من ثدي الشهوات من لِبان الغفلة، وتراكم الأَكِنَّات، فليبادر إلى تحريمها، وفطام نفسه عنها، قبل تحكمها، كما قال البوصيري رضي الله عنه:
والنَّفْسُ كالطِّفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ ** عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم

وكذا يحرم عليه، صحبة من ارتضع معه في هذا الثدي قبل الفطام؛ من الأخوة والأخوات، وكذا أمهات الخطايا، وهي حب الدنيا والرياسة والجاه، وكذلك حرمت عليكم ربائب العلائق والعوائق، لتدخلوا بلاد الحقائق، فإن لم تكونوا من أهل الحقائق فلا جناح عليكم إذ كنتم من عوام الخلائق، وكذلك يحرم عليكم ما حل لأبناء جنسكم من تعاطي الأسباب والاشتغال بها عن خدمة رب الأرباب، وأن تجمعوا بين حب الدنيا ومحبة المولى. قال الشافعي رضي الله عنه: (من ادَّعى أنه جمَعَ بين حب الدنيا وحب خالقها، فقد كذب).
إلا ما قد سلف في أيام البطالة، وكذا يحرم على المريد المتجرد المستشرف على المعاني تعاطى العلوم الظاهرة، التي دخل بها أهل الظاهر وأفتضوا بكارتها إلا ما ملكه قبل التجريد، فلا يضره إن غاب عنها في أسرار التوحيد، والله تعالى أعلم بأسرار غيبه.
ثم ذكر الحق تعالى ما يحلّ من النساء، فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}
قلت: {وأُحِلَّ} عطف على الفعل العامل في {كتاب الله عليكم} أي: كتب الله عليكم تحريم ما ذكر، وأحل ما سوى ذلك. ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على {حُرمت}. و{أن تبتغوا} مفعول لأجله، أي: إرادة أن تبتغوا. أو بدل من {وراء ذلكم}، و{محصنين} حال من الواو. والسفاح: الزنا، من السفح وهو الصب، لأنه يصب المنيّ في غير محله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأُحل لكم} أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع، كما تقدم، والجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فقد حرَمتْه السُنة، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال، فتصرفوها في مهور النساء... حال كونكم {مُحصنين} أي: أعفة متحصنين بها من الحرام، {غير مسافحين} أي: غير زناة، تصبون الماء في غير موضعه، {فما استمتعتم به منهن} أي: من تمتعتم به من المنكوحات {فآتوهن أجورهن} أي: مهورهن، لأن المهر في مقابلة الاستمتاع {فريضة}، أي: مفروضة مقدرة، لا جَهْلَ فيها ولا إبهام، {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به} من زيادة على المهر المشروط، أو نقص منه، {من بعد الفريضة}، التي وقع العقد عليها، {إن الله كان عليمًا} بمصالح خلقه، {حكيمًا} فيما شرع من الأحكام.
وقيل قوله: {فما استمتعتم به...} إلى آخره. نزل في نكاح المتعة، التي كانت ثلاثة أيام في فتح مكة، ثم نُسِخَ بما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أباحه، ثم أصبح يقول: «أيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي كُنْتُ أمرتكم بالاسِتْمْتَاعِ مِنَ هذه النَّساء، ألا إنَّ اللهَ حَرَمَ ذَلِكَ إلى يَوْمِ القِيَامةِ» وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم، سُمي به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع. وتمتعها بما يُعطى لها. وجوَّزه ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله من طريق الإشارة: إذا خرجتم من بطن الشهوات، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، التي هي وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس ولا بالنقول، وإليها أشار ابن الفارض رضي الله عنه حيث قال:
ولا تكُ مِمَنْ طَيّشَتْهُ طروسه ** بحيثُ استخفت عقَلَهُ واستفزّتِ

فَثمَ وراء النّقلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عن ** مَدارِكِ غايات العقولِ السليمهِ

تَلَقيْتُه منّي وعني أَخَذْتهُ ** ونفسي كانت من عَطاءٍ مُمدَّهِ

أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أموالكم ومُهجكم تلك العلوم المقدسة، والأسرار المطهرة، متحصنين من دنس الحس والهوى، غير مباشرين لنجاسة الدنيا، ولا مصطحبين مع أهلها، لتتمتعوا بشهود أسرارنا، وأنوار قدسنا، فما استمتعتم به من ذلك، فصونوه من غير أهله، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله، من بعد حفظه عمن لا يستحقه، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (25- 28):

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَإنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ...}
قلت: الطول: الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طَوْلاً، وهو مفعول {يستطع}، أو مصدر له لتقارب معناهما، و{أن ينكح} بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي: لأن ينكح، و{محصنات غير مسافحات}، حالان، والعامل فيه: {أنكحوهن}، والخدن: الخليل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن لم يستطع منكم طَوْلاً} أي: لم يجد غني يقدر به على نكاح {المحصنات}، أي: الحرائر {المؤمنات}، فليتزوج من ما ملكت أيمانكم، من الإماء المؤمنات دون الكافرات، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله، {والله أعلم بإيمانكم} فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة، فإنما أنتم جنس واحد، ودينكم واحد، {بعضكم من بعض} فلا تستنكفوا من نكاحهن، {فانكحوهن بإذن أهلهن}، أي أربابهن، حتى يعقدوا لكم نكاحهن، {وآتوهن أجورهن}: أي: مهورهن، وهن أحق به دون ساداتهن، على مذهب مالك، {بالمعروف} من غير مطل، ولا نقص، على ما تقتضيه السنة. حال كونهن {محصنات} أي: عفيفات {غير مسافحات} أي: غير زانيات {ولا متخذات أخدان}، أي: أصحاب يزنون بهن. وكان في الجاهلية مِن النساء مَنْ تتخذ صاحبًا واحدًا تزني معه خاصة، ومنها من لا ترد يد لامس.
قال ابنُ جزي: مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين: أحداهما: عدم الطول؛ وهو ألاَّ يجد ما يتزوج به حُرة، والآخر: خوف العنت؛ وهو الزنا. لقوله بعد هذا: {ذلك لمن خشي العنت منكم}، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة، لقوله: {من فتياتكم المؤمنات} إلا أهل العراق فلم يشترطوه. اهـ.
الإشارة: فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية، بأخذها من أربابها، ويحصنها بالإخلاص في أخذها، ويقوم بحقها بقدر الإمكان، وهو بذلها لأهلها والصبر على نشرها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن صح قصده، وخلص عمله، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله، حتى يصير من الأغنياء به، فيتأهل لنكاح الحرائر، ويلتحق بأولياء الله الأكابر، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20].
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة قال: فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنًا بمعرفته، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته، والعبد يستزيد من حبه فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسى حُلل التقريب على بساط القُربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم. اهـ.
فعلم الحقائق أبكار، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت، فقالت: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ...}
قلت: أحصن الرجل بفتح الهمزة وضمها: صار محصنًا بالفتح والكسر، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول. وقيل بالفتح، معناه: أسلم، وبالضم: تزوج.
يقول الحقّ جلّ جلاله: إن الإماء إذا تزوجن {فإن أتين بفاحشة}، وهو الزنا، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد، وهو خمسون، لأن حد البكر مائة. ويفهم منه أنها لا ترجم؛ لأن الرجم لا يتبعض. وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها، ولا رجم عليهم، وسمَى الحد عذابًا، كقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
الإشارة: بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب، وانظر إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى لهن: {يَا نِسَآءَ النَّبِيّ مَن يَأَتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاَبُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله. ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب، بعد التدريج والتدريب، وتأمل قضيةَ الجنيد، حيث قيل له في المنام: مثلُك لا يُرضى منه هذا، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل، غير أن المقربين يعاتبون، ويردون إلى الحضرة، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً، ولكن لا يشعرون، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل، فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}
قلت: العنت: المشقة والضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم، ولاسيما بأفحش الفواحش؛ وهو الزنا، {يريد الله ليبين لكم}، أي: لأن يُبين، واللام زائدة في المفعول، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإدارة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ذلك} أي: نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا، الذي هو أقبح الفواحش، فنكاح الأمةُ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا. {وأن تصبروا} عن نكاحهن، مع التعفف عن الزنا، {خير لكم} لئلا يرق أولادكم. وعن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أرادَ أنْ يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر»
وقال أبو هريرة: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ، والإمَاءُ هَلاكُ البَيت».
{والله غفور} لكم فيما سلف من المخالفة، {رحيم} بكم، حيث رخَّص لكم عند خوف الإثم نكاحَ الأمَة، {يريد الله ليبين لكم} شرائع دينكم، ومصالح أموركم، {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} أي: مناهج مَنْ تقدمكم من أهل الرشد، كالأنبياء والصالحين، لتسلكوا مناهجهم، كحفظ الأموال والأنساب، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنهن محرمات على من قبلكم، {ويتوب عليكم} أي: يغفر ذنوبكم الماضية، أو يرشدكم إلى التوبة، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة. {والله عليم} بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم، {حكيم} بما دبر وأبرم.
{والله يريد أن يتوب عليكم} كرره توطئة لقوله: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا} عن الحق {ميلاً عظيمًا} بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات، وكأنه تعالى يقول: إنا نريد توبتكم ورشدكم، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم، والمراد بهم الزناة؛ لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال، فإنه متبع للحق لا لهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة» وقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أزهدَ الصحابة، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ، وقيل: سبع عشرة، وقيل: المراد بهم اليهود والنصارى، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. وقيل: المجوس.
{يريد الله أن يخفّف عنكم} فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة. {وخُلق الإنسانُ ضعيفًا} في كل شيء، لأنه خُلق من ضعف، ويؤول إلى ضعف، أسير جَوعة، صريع شبعة، وخصوصًا عن شهوة النساء، فإنه لا يصبر عن الجماع، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي، وقد مات صاحبي يعني ذكره منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه، على أنه لا سمع ولا بصر).
قال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: 28]، {إن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...} [النساء: 31] الآية، {إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ...} [النساء: 48] الآية، {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ...} [النساء: 40]، {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظلِمْ نَفْسَهُ...} [النساء: 110] الآية، {مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ...} [النساء: 147] الآية. اهـ.
الأشارة: إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، {يريد الله ليبين لكم} سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم.
وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يرد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إنك على كل شيء قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال.