فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
قلت: الشقاق: المخالفة والمساورة، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله: {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ} [سَبَأ: 32]، والأصل: شقاقًا بينهما، والضمير في {يُريدا} للحكمين، وفي {بينهما} للزوجين، وقيل: للحكمين معًا، وقيل: للزوجين معًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن خفتم} يا معشر الحكام، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاررة، ولم تدروا الظالم من المظلوم، {فابعثوا} رجلين أمينين يحكمان بينهما، يكون أحداهما من أهله والآخر من أهلها، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح، وكذا إن أقامهما الزوجان.
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق. وقال أبو حنيفة: ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما، وإذا اختلفا لم يلزم شيء، ويستأنفان الحكم، قال ابن جُزَي: ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: الزوجان، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين، قال بعض العلماء: هو تغيير القرآن والسنة الجارية. اهـ.
فإن بُعِث الحكمان، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين، واتفقا عليه، وفق الله بينهما ببركة قصدهما، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. {إن الله كان عليمًا خبيرًا} بما في الظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.
الإشارة: وإن خفتم، أيها الشيوخ، على صاحبكم منازعة النفس والروح؛ فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين، بمتابعة هواها وعصيان مولاها، والروح تجنح به إلى أعلى عليين، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها، فابعثوا له واردين قويين، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها. فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحكم: (لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق). والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
قلت: الجُنب بالضم: البعيد، يقال فيه: جُنُب وأجنب وأجنبي، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة، و(مختال) أسم فاعل، وأصله: مختيل، بالكسر، من الخُيَلاَء وهو التكبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واعبدوا الله} أي: وَحِّدُوه وأطيعوه {ولا تشركوا به شيئًا} جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم، فمن قصد الحج والتجارة، فقد أشرك مع الله في عبادته، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا، وهو برهما والقيام بحقهما، {وبذي القربى}، أي: القرابة في النسب، أو الدين {واليتامى} لضعف حالهم، {والمساكين} لقلة ما بيدهم، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إن أردتَ أن يلين قلبُك، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم، وأطعمه».
{والجار ذي القربى} الذي قّرُب جواره أو نسبه، {والجار الجُنب} الذي بَعُد مكانه أو نسبه، وحَدَّد بعضُهم الجوار بأربعين دارًا من كل ناحية. وقال ابن عباس: الجار ذي القربى: الجار الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب: الجار من قوم آخرين. اهـ.
قيل يا رسول الله: ما حق الجار على الجار قال: «إن دعاك أجبتَه، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عُددته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار قدرك أي: بخارها إلا أن تغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده،» ثم قال: «الجيران ثلاثة: فَجَارٌ له ثلاثة حقوق: حق الجوَارِ، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجِوَار، وحق الإسلام، وجَارٌ له حق واحد: وهو المشرك من أهل الكتاب».
{والصاحب بالجنب}، وهي الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك بجنبك، وعن علي كرم الله وجهه (أنها الزّوجة)، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف، قال بعضهم: أول قدم في الولاية؛ كفّ الأذى وحمل الجفا، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد، وقال عليه الصلاة والسلام: «خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي» {وابن السبيل}، وهو الضيف أو المسافر لغرابته، {وما ملكت أيمانكم}، من الإماء والعبيد، وكَانَ آخِرُ كلامِ النّبُي عليه الصلاة والسلام: «الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ».
{إن الله لا يحب مَن كان مختالاً} أي: متكبراً، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم، {فخورا} يتفاخر عليهم بماله وجاهه، وما خوله الله من نعمه، فهو جدير أن تسلب منه.
الإشارة: واعبدوا الله، أي: بالقيام بوظائف العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وقال بعض الحكماء: العبودية: ترك الاختيار، وملازمة الذل والافتقار. وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وعنوان ذلك صفاء التوحيد، ولذلك قال: {ولا تشركوا به شيئًا} أي: لا تَرَوْا معه غيره، كما قال القائل:
مُذْ عَرَفْتُ الإِلهَ لَم أرَ غَيْرًا ** وكَذَا الغَيْرُ عِنْدنَا ممْنُوعُ

وقال آخر: (لو كُلفت أن أرى غيره، لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده). فإذا حصلت العبودية في الظاهر، وتحقق التوحيد في الباطن، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيُحسن إلى الأقارب والأجانب، ويجود عليهم بالحس والمعنى، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد، ومن شيم أهل التجريد، كما هو معلوم من حالهم، نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
قال الورتجبي:الوالدين: مشايخ المعرفة. ثم نقل عن الجنيد، أنه قال: أمرني أبي أمرًا، وأمرني السري أمرًا. فقدمت أمر السري على أمر أبي، وكل ما وجدت فهو من بركاته. اهـ. وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ، {واليتامى}: من قصدهم من المتفقرة الجاهلة، {والمساكين}: ضعفاء اليقين من العامة، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم، وهو أن يقرهم في طريقهم، وبحوشهم إلى ربهم.
{والجار ذي القربى} وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة، فيستحق عليك زيادة الإحسان. {والجار الجنب}: من جاورك من العوام فتنصحه وترشده، {والصاحب بالجنب}: من رافقك في أمر من العوام، كَسَفَرٍ وغيره، {وابن السبيل}: من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى، {وما ملكت أيمانكم}: ما لكم تصرف عليهم الأهل والبنين والإماء والعبيد، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد. ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام. فقال: {إن الله لا يحب مَن كان مختالاً فخورًا}. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (37- 39):

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}
قلت: {الذين} بدل مِن:مَن كان، أو منصوب على الذم، أو مرفوع عليه، أي: هم. أو مبتدأ حذف خبره، أي: نعذبهم عذابًا مُهينًا، أو أحقاء بكل ملامة، و{الذين ينفقون}: عطف على الأولى، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: الشيطان قرينهم. والبخل فيه لغتان: البُخل والبَخَل بحركتين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الذين يبخلون} بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم، {ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله} من الغنى، فيظهرون القلة والعيلة، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أحقاء بكل لوم وعتاب. {وأعتدنا للكافرين} منهم {عذابًا مُهينًا} يهينهم ويخزيهم، نزلت في اليهود، كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، وكتموا صفته عليه الصلاة والسلام وَوَضعَ الظاهر موضع المضمر كأنه يقول: وأعتدنا لهم، إشعارًا بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كفر بنعمة الله وأهانها استحق عذابًا مهينًا.
{والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} طالبًا لمدحهم وخوفًا من ذمهم، {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، يتحرّون بإنفاقهم مراضية، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم، {ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا}، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء في الأعمال، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء في الوعيد من حيث إنهما طَرَفَا تفريط وإفراط، وهما سواء في القبح واستجلاب الذم.
{وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله} أي: لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم؛ لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يُجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره في الآية الأخرى: لأن القصد بذكره هنا التخصيص، وثَم التقليل. اهـ. {وكان الله بهم عليمًا} لا يخفى عليه شيء من أمورهم وقصدهم.
الإشارة: قال بعض الصوفية: (من أقبح كل قبيح صوفي شحيح)، فالصوفية العارفون رضي الله عنهم الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق تعالى أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين.

.تفسير الآية رقم (40):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
قلت: الذرة: النملة الصغيرة الحمراء. وتطلق على جزء من أجزاء الهباء. ومن نَصَب {حسنة} فَخَبَرُ كان. وأُنث الضمير باعتبار الخبر. أو لإضافة مثقال إلى ذرة، فاكتسب التأنيث، ومن رفع فهي تامة، وحذف نونها على غير قياس، تشبيهًا لها بحروف العلة. وضاعف وضّعف بمعنى واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله لا يظلم} أحدًا بحيث ينقص من ثواب عمله، أو يزيد في عقبا ما يستحقه، ولو مثقال ذرة. بل يجازي كلاً على قدر عمله. فإن كان صالحًا، ولو صغر قدره، عظُم أجره. {فإن تك حسنة يُضاعفها} بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، بحسب الإخلاص. قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ اللهَ يُعْطِي المُؤمنَ عَلى الحَسَنة ألفي ألف حَسَنة»، ثم تلا {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الآية.
{ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا}، وخيرًا جسيمًا، فضلاً منه وإحسانًا. قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ لا يظلم المُؤمنَ حَسنةً، بل يُثاب عليها الرزق في الدُنيَا ويجزيه بها في الآخِرَةِ. والكَافِر يعطيه بها في الدُّنيَا، فإذا كان يوم القيامة لم يكُن لَهُ حَسَنةٌ».
الإشارة: كما أن الحق تعالى لا يظلم طالبي الأجور، بل يضاعف لهم في زيادة الحور والقصور، كذلك لا يبخس طالبي القرب والحضور، ورفع الحُجب والستور. بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات. وكلما نقص لهم من الحس ولو مثقال ذرة زادهم في المعنى قَدْرَهُ وأكثر شهودًا ونظرة. وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية، وإلاَّ فلا تزيده مجاهدته إلا حَجبًا وبعدًا عن الخصوصية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (41- 42):

{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}
قلت: {كيف} إذا كان الكلام بعدها تامًا أُعربت حالاً، كقولك: كيف جاء زيد؟ وإذا كان ناقصًا، كانت خبرًا، كقولك: كيف زيد؟ وهي هنا خبر؟ أي: كيف الأمر أذا... الخ. وهي مبنية لتضمنها معنى الاستفهام، والعامل في {إذا} مضمون المبتدأ، أو الخبر، أي: كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا؟ ومن قرأ {تَسوّى} بالشد، فأصله تتسوى، أدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ {لو تُسوّى} بالبناء للمفعول فحذف الثانية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فكيف} يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود {إذا} قامت القيامة و{جئنا من كل أمة بشهيد} يشهد عليها بخيرها وشرها، وهو نبيهم الذي أرسل اليهم، {وجئنا بك} أنت يا محمد {على هؤلاء} الأمة التي بعثت إليهم {شهيدًا} عليهم، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدًا، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم؟ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم، وقيل: {وعلى هؤلاء} الكفرة المستفهم عن حالهم، وقيل: على المؤمنين لقوله: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول} أي: الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن {تسوى بهم الأرض} فيكونون ترابًا لما يرون من هول المطلع، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعَام: 23]، فيُنطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون {ولا يكتمون الله حديثاً} واحدًا، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان.
وقيل: إن القيامة مواطن، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لابد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوبًا عن مشاهدة أسرار الربوبية، لاسيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاقب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا عليه الصلاة والسلام يزكي من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.