فصل: تفسير الآيات (51- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 52):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)}
قلت: الجبت في الأصل: اسم صنم، فاستعمل في كل ما عُبد من دون الله، {والطاغوت}: كل باطل من معبود أو غيره، أو الجبت: السحر، {والطاغوت}: الساحر، وبالجملة: هو كل ما عُبد أو أطيع من دون الله، وقال الجوهري: الجبت: اسم لكل صنم ولكل عاصٍ ولكل ساحر وكل مُضِلّ، {والطاغوت}: الشيطان، وأصله: طغيوت، فعلوت، من الطغيان، ثم قلب فصار طيَغوت، ثم قلبت الياء ألفًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من} علم {الكتاب}، وهم أحبار اليهود {يُؤمنون بالجبت والطاغوت}؛ يقرون بصحة عبادتهما، {ويقولون للذين كفروا هؤلاء} الكفرة {أهدى من الذين آمنوا} طريقًا، نزلت في اليهود- لعنهم الله-: كانوا يقولون: إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: في حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، خرجا في سبعين راكبًا إلى مكة يُحالفون قريشًا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أُحد، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كَعبُ على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكة: أنتم أهل كتاب، ومحمدٌ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين، وآمنوا بهما، ففعلوا، فذلك قوله تعالى: {يؤمنون بالجبت والطاغوت}.
ثم قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق، نحن أو محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليَّ دينَكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكومَاءَ أي: العظيمة من النوق ونسقي الماء، ونَقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمدٌ فارقَ دينَ أبائه، وقطع الرحم وفارق الحرم، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً. اهـ.
{أولئك الذين لعنهم الله} وأبعدهم وأسحقهم {ومَن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا} ينصره من عذاب الله. فقد قُتل هؤلاء كلهم شر قتلة، وذهبوا إلى الهاوية. عائذاً بالله.
الإشارة: قال الورتجبي: وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة، وأنكروا على أهل الولاية، وآثروا صحبة المخالفين، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت، ويَحظُون على آثار الطاغوت، التي هي إبليس. اهـ.
قلت: وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن، وفضَّل العلماء على الأولياء، ويقولون: هم أهدى منهم سبيلاً. هيهات! بينهم من البَون ما بين السماء والأرض.
والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء، وبين العلماء والأتقياء. وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم، وإليهم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم» وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء. وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله. مفرقُون عن الله، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله. قال بعض الأولياء: أشد الناس حجابًا عن الله: العلماء ثم العباد ثم الزهاد. اهـ. لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه، وقد تقدم الكلام عند قوله: {كُنتٌمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 110] بأبلغ من هذا. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (53):

{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}
قلت: {أم}: منقطعة، بمعنى بل، والهمزة للإنكار، وهو إنكار وجحدٌ لما زعمت اليهود من أنَّ المُلكَ سيصيرُ لهم، و{إذًا} إن فُصل بينها وبين المضارع، ب {لا} ففيها الإهمال والإعمال، وقد قرئ: {وإذًا لا يلبثوا}، والنقير: النقرة التي في ظهر النواة، وهو هنا كنابة عن نهاية بخلهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: مُنكِرًا على اليهود: أيحصل لهم {نصيب من المُلك} والرياسة؟ هيهات، لا يكون هذا أبدًا، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس؟. فإذا أُوتوا شيئًا من الملك لا يُعطون الناس نقيرًا، فما بالك بأكثر، والملك والنصر ولا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة، وإصابة الرأي وحسن التدبير، وهم بعداء من هذه المكارم.
الإشارة: لا يُمكن اللهُ من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود، فمن جاد بمالِهِ حتى لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، مكّنه الله من العز والتصرف الحسي، ومن جاد بنفسه وجاهه، وبذلهما في مرضاة ربه، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي؛ يتصرف بهمته في الوجود بأسره، من عرشه إلى فرشه، ويدوم عزه ونصره أبد الأبد. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (54- 57):

{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}
قلت: {أم} بمعنى بل، و{سعيرًا} تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: توبيخًا لليهود على الحسد: {أم يحسدون الناس}، أي: العرب حيث انتقلت النبوة إليهم، وقد كانت في أسلافهم، {على ما آتاهم الله من فضله}، وهو ظهور النبوة فيهم، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اجتمع فيه ما افترق في سائر الناس، حسدوه على ما آتاه الله من فضله، من النبوة وغيرها، وقالوا لعنهم الله: ما له همٌّ إلا النساء ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء.
فكَّذبهم الله تعالى وردَّ عليهم بقوله: {فقد آتينا آل إبراهيم} وهم: يوسف وداود وسليمان، {الكتاب والحكمة} أي: النبوّة، {وآتيناهم مُلكّاً عظيمًا}. فقد اجتمع لداود عليه السلام مائة امرأة. ولسليمان عليه السلام ألف امرأة: ثلاثمائة مهيرة، أي بالمهر وسبعمائة سرية، فقال لهم عليه الصلاة والسلام حين نزلت الآية: ألف امرأة عن رجل، ومائة امرأة عند آخر، أكثر من تسع نسوة، فسكتوا.
{فمنهم} أي: اليهود، {من آمن به} أي: بمحمد عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سلام وأصحابة، {ومنهم من صدّ عنه} أي: أعرض عنه، أو: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، {ومنهم من صدّ عنه}، ولم يكن في ذلك توهين لقدر إبراهيم، فكذلك لا يُوهن كفرُ هؤلاء أمرَك، أو: من أسلافهم من آمن بما أُوتي آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والمُلك، {ومنهم مَن صدّ عنه}، كما فعلوا مع سليمان وغيره. {وكفى بجهنم سعيرًا} لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل، أي: فإن لم يُعاجَلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
ثم بيَّن مآل من كفر، فقال: {إن الذين كفروا بآياتنا} المنزلة على رسلنا، أو الدالة على وحدانيتنا، {سوف نصليهم نارًا} أي: نحرقهم بها ونشويهم، {كلما نضجت جلودهم} أي: لانت واحترقت {بدّلناهم جلودًا غيرها}، قال صلى الله عليه وسلم: «تُبدَّلُ في ساعةٍ مائةَ مَرَّة» وقال الحسن: (تأكلهم النارُ في كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم: عودوا فيعودوان كما كانوا). وقال مجاهد: (ما بين جلده ولحمه دود، لها جلبة أي حركة وهرير كجلبة حمر الوحش). رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غلظٌ جِلدِ الكَافِرِ اثنَانٍ وأربعَونَ ذرَاعًا، وضِرسه مِثلُ أحُد».
وإنما بدلت جلودهم {ليذوقوا} ألم {العذاب}، أي: يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، {إن الله كان عزيزًا} لا يمتنع عليه ما يريد، {حكيمًا} يعاقب على قدر حكمته.
ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا لهم فيها أزواج مطهرة} مما يستقذر {وندخلهم ظلاً ظليلاً} أي دائمًا لا تنسخه شمس، ولا يصحبه برد، قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين، لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل: الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال: «الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ» وقال سفيان: (بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول: الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي). وأنشدوا:
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا ** أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب

أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه ** إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب

جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي ** وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب

وقال آخر:
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم ** قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا

فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم ** وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ

ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل:
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجى إزالتُها ** إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ

وقال حكيم الشعراء:
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا ** لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ

وقال آخر:
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ** ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ

نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم ** في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ

قال بعض الحكماء: (الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات: إحداها: اكتساب الذنوب؛ لأن الحسد حرام. الثانية: سوء الأدب مع الله تعالى فإنَّ حقيقة الحسد: كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة: تألم قلبه وكثرة همه وغمه). عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (58):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}
قلت: ما في {نِعِمَّا} تمميز أو فاعل، والمخصوص محذوف، أي نعم شيئًا شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به ذلك الأمر، وهو رد الأمانات والعدل في الحكومات.
قال زيد بن أسلم وشهر بن حوشب: نزلت الآية في شأن الأمراء. اهـ. قلت: وأن نزلت في شأن عثمان بن طلحة سَادِن الكَعبَةِ فهي عامة. والمخاطب بذلك أولاً الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأمراء، أمره الحق تعالى أن يرد المفاتح إلى عثمان، وذلك أن عثمان أغلق باب الكعبة يوم فتح مكة وأبى أن يدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل الكعبة، وقال: لو عَلمِتُ أنه رَسُول الله ما منعتُهُ، فَلَوى عَلِيَّ يده، وأخذّها مِنهُ، فدخل رسول الله صلى عليه وسلم وصَلّى رَكعَتينِ، فلما خَرَجَ سألُه العباس أن يُعطيه المفتَاح، وَيَجمَعَ له السِّدَانَةَ والسِّقَايةَ، فأمره اللهُ تعالى أن يرده إليه، فأمر عَلِيًّا بأن يَرُدَّه وَيَعتَذِر إليه، وكان ذلك سببًا لإسلام عثمان، ونزل الأمر بأن السِّدَانَة في أولاده أبدًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله يأمركم}، يا معشر الأمراء، أن تردوا {الأمانات إلى أهلها} من أنفسكم، أو من رعيتكم فتُنصفوا المظلوم من الظالم، حتى يؤدي ما ائتُمن عليه من دَينٍ، أو وديعة، أو غصب، أو سرقة، أو غير ذلك من حقوق العباد، بعضهم من بعض، وأن تؤدوا الزكاة إلى من يستحقها، وتصرفوا بيت المال فيمن يستحقه، لا تظلموا أهلها، ولا تضيعوا منها شيئاً في غير مستحقها.
{و} يأمركم {إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} في من يَنفُذُ عليه حكمُكُم، {إن الله نعمًا يعظكم به} أي: إن الله يعظكم بأمر نعم ما هو، {إن الله كان سميعًا بصيرًا} لا يخفى عليه أحكامكم، ولا ما أخفيتم من أمانات غيركم.
الإشارة: أمر الحقّ جلّ جلاله شيوخ التربية أن يؤدوا السر إلى من يستحقه من الفقراء، إذا تحققوا أهليتهم له، بحيث تخلوا عن الرذائل، كالحسد والكبر وغيرهما، وتحلوا بالفضائل، كسلامة الصدر وسخاوة النفوس وحسن الخلق، وغير ذلك من أوصاف الكمال، فإن تحققوا بالتخلية والتحلية، استحقوا الاطلاع على أسرار الربوبية، التي هي أمانات عند أهل الخصوصية، وأمرهم أن يحكموا بين الفقراء بالعدل، فيمدوا كلاً على قدر صِدقِه وخِدمَتِه، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}
أعاد العامل في قوله: {وأطيعوا الرسول}، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يُعده في {أولى الأمر} إشارة إلى أنه يوجد منهم من لا تجب طاعته، ثم بيّنه بقوله: {فإن تنازعتم في شيء} كأنه قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم، وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. قال الطيبي، وسيأتي تحريرُ ذلك إن شاء الله تعالى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله} فيما أمركم به ونهاكم عنه، {وأطيعوا الرسول} كذلك. {وأولي الأمر منكم} أي: مَن ولي أمرَكم. من وُلاَةِ العدل كالخلفاء والأمراء بعدهم، تجب طاعتهم فيما أمَروُا به من الطاعة دون المعصية إلا لخوف هرج، قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوف»، فأن لم يعدل: وجبت طاعته خوفًا من الفتنة. وهذا هو الأصح. لقوله عليه الصلاة والسلام: «سَيَليكم ولاة، فيليكم البَرُّ ببره، والفاجر بفجوره، فاستمعوا لهم، وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم» رواه أبو هريرة.
وفي حديث آخر: «لا أن تَروا كُفرًا بَوَاحًا، لكم عليه من اللهِ بُرهَانٌ» أي: فيجب عزلهم. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو وائل فقال: يا رسول الله؛ أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألون حقهم؟. فقال صلى الله عليه وسلم: «اسمَعُوا وأطِيعُوا، فَإنَّ عليهم ما حُمِّلُوا وَعَليكُم ما حُملتم».
وقال جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد: أولو الأمر هم الفقهاء والعلماء، أهل الدين والفضل، يُعلَّمون الناس معالم دينهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، دليله. قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ...} [النساء: 83] الآية. قال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حُكَّام على الناس، والعلماء حُكَّام على الملوك. اهـ.
{فإن تنازعتم} أنتم وأولو الأمر، أو بعضكم مع بعض أي: اختلفتم في حكم شيء من أمر الدين فلم تعلموا حكمه، {فردّوه إلى الله} أي: إلى كتاب الله، {و} إلى {الرسول} في زمانه، أو سنته بعد موته، فإن لم يوجد بالنص فبالقياس. فالأحكام ثلاثة: مثبت بالكتاب، ومثبت بالسنة، ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس. وعن إبراهيم بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اعملُوا بالقرآن: أحلُّوا حَلاَلهُ، وحرَّمُوا حرامَهُ، وآمنوا بِه ولا تكفُروا بشيءٍ منهُ، وما اشتبه عليكُم فردُّوه إلي الله تعالى وإلى أولى العِلم من بَعدي، كيما يُخبرُونكم به»، ثم قال: «وليَسعُكُم القرآن وما فيهِ من البَيَانِ؛ فإنه شافعٌ مشفَّعٌ، وماحِلٌ مُصدَّقَّ، وأن له بكل حَرفٍ نُورًا يومَ القِيَاَمَة».
فردوا الأحكام إليه وإلى الرسول، {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر} فأن الإيمان يُوجِبُ ذلك. {ذلك} الرد {خير} لكم {وأحسن تأويلاً} من تأويلكم بالرأي من غير رد، وأحسن عاقبة ومآلاً، والله تعالى أعلم.
الإشارة: أولو الأمر عند الصوفية، هم شيوخ التربية العارفون بالله، فيجب على المريدين طاعتهم في المنشط والمكره، وفي كل ما أمروا به، فمن خالف أو قال: لِمَ لَم يفلح أبدًا، ويكفي الإشارة عن التصريح عند الحذاق أهل الاعتناء، فإن تعارض أمر الأمراء وأمر الشيوخ، قدَّم أمر الشيخ إلا لفتنة فادحة، فإن الشيخ يأمر بطاعتهم أيضًا لما يؤدي من الهرج بالفقراء، فإن تنازعتم يا معشر الفقراء، في شيء من علم الشريعة أو الطريقُ، فردوه إلى الكتاب والسنُّة. قال الجنيد رضي الله عنه: طريقتنا هذه مؤيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويتعلم الحديث لا يُقتدى به في هذا الشأن. اهـ. ويكفي المهم من ذلك، وهو ما يتوقف عليه أمر عبادته. والله تعالى أعلم.