فصل: تفسير الآيات (88- 90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (88- 90):

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)}
{فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً...}
قلت: {فئتين}: حال، والعامل فيه: الاستقرار في الجر، وأركس الشيء نكَّسه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: معاتبًا الصحابة حين اختلفوا في إسلام بعض المنافقين، فقال: {فما لكم} افترقتم {في} شأن {المنافقين} فرقتين، ولم تتفقوا على كفرهم، والحالة أن الله تعالى {أركسهم}، أي: نكَّسهم وردهم إلى الكفر بعد أن أظهروا الإسلام بسبب ما كسبوا من الآثام. {أتريدون أن تهدموا من أضل الله}، وسبق لهم الشقاء في علم الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (نزلت في قومِ كانوا بمكة من المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم بتجارات إلى الشام، فاختلف المسلمون، هل يقتلونهم ليغنموا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو يتركونهم لأنهم مؤمنون؟). وقيل: في قوم أسلموا ثم اجتَوَوا المدينة، واستأذنوا رسول الله صلى عليه وسلم في الخروج إلى البدو، فلما خَرَجُوا لم يزالُوا راحلين مَرحلةٌ حتى لحقُوا بالمُشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم.
ثم حكم بكفرهم فقال: {ودّوا لم تكفرون} أي: يتمنون كفركم {كما كفروا فتكونون} معهم {سواء} في الضلال والكفر.
الإشارة: من دخل في طريق المخصوصين الأبرار، ثم لم تساعده رياح الأقدار، فلا ينبغي الكلام فيه، ولا الخوض في شأنه، لأن أمره بيد ربه، {من يهده الله فلا مضل له}، ومن يضلل فلا ناصر له. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم نهى عن مُوَالاَتهم، فقال: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}
قلت: {حَصِرت}: أي: ضاقت، والجملة حال من الواو، بدليل قراءة يعقوب (حَصِرَةً).
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فلا تتخذوا} من هؤلاء الكفرة {أولياء} وأصدقاء حتى يتحقق إيمانهم، بأن يهاجروا من دار الكفرإلى دار الإسلام {في سبيل الله} وابتغاء مرضات الله، لا لحرف دنيوي، {فإن تولوا} عن إظهار الإيمان بالهجرة {في سبيل الله}، {فخذوهم} أسارى {واقتلوهم حيث وجدتموهم} كسائر الكفرة، وجانبوهم {ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا} أي: لا تستعينوا بهم في جهادكم، {إلاَّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم} عهد، و{ميثاق} أي: مهاندة، فلهم حكم المُعَاهَدِين الذين وصلوا إليهم، ودخلوا معهم في الصلح، فلا تقتلوهم ولا تأسروهم.
وكانت خزاعة وادعت النبي صلى الله عليه وسلم وعقدت معه الصلح، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم في الصلح، فنهى الله عن قتالهم ما داموا معهم، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة، والذي وصلوا إليهم هم بنو مدلج. فالاستثناء على هذا منقطع، لأن بني مدلج حينئٍذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة، ويحتمل أن يكون متصلاً، أي: إلا الذين يصلون منهم... إلخ، فتأمل. وكان هذا في أول الإسلام، ثم نُسِخ بقوله: {فَأْقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التّوبَة: 5] الآية.
ثم ذكر قومًا آخرين نهى عن قتالهم، فقال: {أو جاءوكم} أي: إلاَّ قومًا جاؤوكم، قد {حصرت صدورهم} أي: ضاقت عن {أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم} يعني أنهم كرهوا قتالهم، وكرهوا قتال قومهم الكفار، فلا تقتلوهم أيضًا، لأن الله كفَّ شرهم عنكم، {ولو شاء الله لسلّطهم عليكم} بأن قوَّى قلوبهم وأزال رعبهم {فَلَقَاتَلُكم} ولم يكفّوا عنكم، {فإن اعتزلوكم} ولم يتعرّضوا لكم {وألقوا إليكم السلم} أي: الاستسلام والانقياد {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} أي: طريقًا إلى قتالهم.
الإشارة: نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ، وأمره بالرفق بها، أو كفت عن طغيانها، أو كفى الله أمرها؛ بجذبٍ أخرجها عن عوائدها، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها، فإنه يأتي من حضرة قهار، لا يصادم شيئاً إلا دمغه، وهذه عناية من الرحمن، ولو شاء تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان، فتجمح به في ضَحضَاح النيران، فإن كفت النفس عن شهواتها، وانقادت إلى حضرة ربها، فما لأحدٍ عليها من سبيل، وقد دخلت في حمى الملك الجليل. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (91):

{سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ستجدون} قوماً {آخرين} منافقين، وهم أسد وغطفان، قَدِمُوا المدينة، وأظهروا الإسلام نفاقًا ورياء؛ إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا على دينك، يريدون الأمن، إذا لقوا قومهم، وقالوا لأحدهم: لماذا أسلمت ومن تعبد؟ فيقول: لهذا القرد ولهذا العقرب والخنفساء، {يريدون} بإظهار الإسلام {أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما رُدوا إلى الفتنة أركسوا فيها}، أي: كلما دُعُوا إلى الكفر رَجَعُوا إليه أقبحَ رد، {فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم} أي: ولم يلقوا إليكم المسالمة والصلح، ولم {يكفّوا أيديهم} بأن تعرضوا لكم {فاقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي: وجدتموهم، {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا}، أي: تسلطاً {مبينًا} ظاهرًا، لظهور كفرهم وثبوت عداوتهم.
الإشارة: النفوس على ثلاثة أقسام: قسم مطلقة العنان في الجرائم والعصيان، وهي النفوس الأمارة، وإليها الإشارة بالآية قبلها، والله أعلم. وقسم مذبذبة؛ تارة تظهر الطاعة والإذعان، تريد أن يأمنها صاحبها، وتارة ترجع إلى الغي والعصيان، مهما دعيت إلى فتنة وقعت فيها، فأم لم تنته عن ذلك، وتكف عن غيها، فالواجب جهادها وقتلها؛ حتى تنقاد بالكلية إلى ربها، وأما النفس المطمئنة فلا كلام معها لتحقق إسلامها، فالواجب الكف عنها وحبها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}
قلت: {وما كان لمؤمن} النفي هذا بمعنى النهي، كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ} [الأحزَاب: 53]، و{إلا خطًأ}: استثناء منقطع، و{خطأ}: حال، أو مفعول من أجله، أو صفة لمصدر محذوف، أي: لا يحل له أن يقتل مؤمنًا في حال من الأحوال، لكن إن وقع خطّأ فحكمه ما يأتي، وقيل: متصل. انظر ابن جزي: أو: إلا قتلا خطّأ، و{إلا أن يصدقوا}: حال، أي: إلا حال تصدقهم، و{توبة}: مفعول من أجله، أي: شرع ذلك لأجل التوبة. أو، مصدر، أي: تاب عليكم توبة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما كان} ينبغي {لمؤمن أن يقتل مؤمنًا} مثله، أي: هو حرام عليه، {إلاَّ} أن يقتله {خطًأ} بأن ظنه كافرًا، أو رمى غيرَه فصادفه. والآية نزلت بسب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد، وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم الحارث، وهاجر، ولم يعلم عياشُ بإسلامه، فقتله.
ثم ذكر حُكمه فقال: {ومن قتل مؤمنًا خطًأ فتحرير رقبة} أي: فعليه تحرير رقبة {مؤمنة} سالمة من العيوب، ليس فيها شوب حرية، تكون من مال القاتل، {ودِيَةٌ مُسلَّمة} أي: مدفوعة {إلى أهله} وهي على العاقلة كما بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي عند مالك: مائة من الإبل، وألف دينار شرعية على أهل الذهب، وأثنا عشر ألف درهم، على أهل الوَرِق، مقسطة على ثلاث سنين، فإن لم تكن العاقلة فعلى بيت المال، وتقسم على أهله، على حسب المواريث، إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل فتسقط، أي: تسمع فيها الورثة أو القتيل قبل موته.
{فإن كان} المقتول {من قوم عدو لكم} أي: محاربين لكم، {وهو} أي: المقتول {مؤمن} فعلى القاتل {تحرير رقبة مؤمنة} ولا دية؛ لأنهم محاربون فيتقووا بها على المسلمين، ورأى مالك أن الدية في هذا واجبة لبيت المال، {وإن كان} المقتول مؤمنًا وهو {من قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي: عقد الصلح أو الذمة، فعلى القاتل {دية مُسَلَّمة إلى أهله}، وعليه أيضًا {تحرير رقبة مؤمنة} كفارة لخطئه. فإن كان غير مؤمن فلا كفارة فيه. وفيه نصف دية المسلم، {فمن لم يجد} الرقبة، أو لم يقدر عليها؛ فعليه {صيام شهرين متتابعين} عوضًا من العتق، جعل الله ذلك {توبة من الله} على القاتل لتفريطه. {وكان الله عليمًا} بما فرض، {حكيمًا} فيما قدَّر ودبَّر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحقّ جلّ جلاله قد رغَّب في إحياء النفوس، حسًا ومعنًى، ونهى عن قتلها حسًا ومعنًى، وما ذلك إلى لخصوص محبة له فيها، ومزيد اعتناء له بشأنها؛ فليس في الوجود أعز من الله من مظهر هذا الآدمي إن استقام في العبودية لربه، فهو قلب الوجود، ومن أجله ظهر كل موجود، وهو المنظور إليه من هذا العالم السفلي، والمقصود بالخطاب التكليفي: جزئي وكلي، فهو المقصود من بيت القصيد، وهو المحبوب إليه، دون سائر العبيد، قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي} [طه: 41].
ومعنى إحيائها حسًّا: إنقاذها من الهلاك الحسّي، ومعنى إحيائها معنّى: إنقاذها من الهلاك المعنوي كالجهل والغفلة، حتى تحيا بالعلم والإيمان واليقظة، ومعنى قتلها حسًا: إهلاكها، ومعنى قتلها معنًى: إيقاعها في المعاصي والكفر وحملها على ذلك، وكذلك إهانتها وذلها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لَعنُ المُؤمن كَقَتَلهِ» فأمر من قتله خطًأ أن يُحيي نفسًا أخرى من مقابلتها بإخراجها من موت إهانة الرق، فإن لم يقدر، فليحيي نفسه بقتل صولتها بالجوع حتى تنكسر، فتحيا بالتوبة واليقظة، ويُجبر كسر أهل المقتول بالدية المُسَلَّمة.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} مستحلاً لقتله {فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنه} أي: طرده {وأعد له عذابًا عظيمًا}، وقولُنا: مستحلاً لقتله، هو أحد الأجوبة عن شبهة المعتزلة القائلين بتخليد عصاة المؤمنين في النار. ومن جُملتهم: قاتل النفس.
ومذهب أهل السنة: أنه لا يخلد إلا الكافر، ويؤيد هذا الجواب سبب نزول الآية، لأنها نزلت في كافر، وهو (مَقِيس بن ضُبَابة الكناني)؛ وَجَدَ أخَاه هشامًا قَتَيلاً في بني النجر وكان مُسلمًا فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسَل مَعهُ رجلاً من بني فهرِ، وقال له: «ائت بني النّجار، وقُل لهم: إن عَلمتُم قاتِل هِشَامٍ فادفَعُوهُ لمقيس يَقتَصُّ مِنه، وإن لِمَ تَعلمُوا فادفَعُوا إليه الدَّيةَ» فقالوا: سمعًا وطاعة، لم نَعلَم قاتِله، فجمعوا مائة من الإبل، فأخذها، ثم انصرفا راجعَين إلى المدينة، فوسوس إليه الشيطان، وقال: أيَّ شيء صَنَعتَ؟ تَقبلُ ديةَ أخيكَ فتكونُ عليك سُبَّة، اقتل الرجلَ الذِي مَعكَ فتكُونَ نفسٌ مكانَ نَفسٍ وفَضلُ الدِّيَة، فَقَتَلَه وأخذ الدِّية، فنزلت فيه الآية.
أو يكون الخلود عبارة عن طول المكث، والجمهور على قبول توبته، خلافًا لابن عباس، ونُقِل عنه أيضًا قبولها، ولعله تعالى استغنى عن ذكر التوبة هنا اكتفاء بذكرها في الفرقان، حيث قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفُرقان: 68]، ثم قال: {إِلاَّ مَن تَابَ} [مريَم: 60]. وأما من قال: إن تلك منسوخة بهذه فليس بصحيح؛ لأن النسخ لا يكون في الأخبار. أو فجزاؤه إن جُوزِي، ولا بِدع في خلف الوعيد لقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النَّساء: 48]؛ لأن الوعيد مشروط بعدم العفو، لدلائل منفصلة اقتضت ذلك كما هو مشروط بعدم التوبة أيضًا، والحاصل: أن الوعد لا يخلف لأنه من باب الامتنان، والوعيد يصح إخلافه، بالعفو والغفران، كما في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن وَعَدَه الله عز وجل على عملٍ ثوابًا فهو منجزه له لا محالة، ومَن أوعَدَه على عمل عقابًا فهو بالخيار، إن شاءَ عَفَا عنه، وإن شاء عَاقَبه». اهـ. ذكره في القوت.
فَتَحَصَّل أن القاتل لا يُخلَّد على المشهور إلاَّ إذا كان مستحلاً، وهذا أيضًا ما لم يقتص منه، وأما إذا اقتُص منه فالصحيح أنه يسقط عنه العقاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أصَابَ ذَنبًا فعُوقِبَ بِه في الدنيا فَهُوَ له كَفَّارَةٌ» وبه قال الجمهور، وكذلك إذا سَامَحَهُ ورثةُ الدم: لأنه حق ورثوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإيمان محلة القلوب، فالقلب هو المتصف بالإيمان حقيقة. فالمؤمن الحقيقي هو القلب، فمن قتله بتتبع الشهوات، وتراكم الغفلات، فجزاؤه نار القطيعة في سجن الأكوان، والبعد عن عرفان الشهود والعيان، وفي الحِكَم: (سبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهة الكريم). والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
قلت: {السَّلم} بالقصر: الانقياد والاستسلام، وبالمد: التحية. وجملة {تبتغون}: حال من الواو، مشعرة بما هو الحامل على العجلة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم} أي: سافرتم وسرتم تجاهدون {في سبيل الله}، {فتبينوا} الأمور وتثبتوا فيها ولا تعجلوا، فإن العجلة من الشيطان، {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم} أي: الانقياد والاستسلام، أو سلَّم عليكم تحية الإسلام، {لست مؤمنًا}؛ إنما فعلت ذلك متعوذًا خائفًا، فتقتلونه طمعًا في ماله، {تبتغون عرض الحياة الدنيا} وحطامها الفاني، {فعند الله مغانمُ كثيرة} وَعَدَكُم بها، لم تقدروا الآن عليه، فاصبروا وازهدوا فيما تَشُكُّون فيه حتى يأتيكم ما لا شهبةَ فيه، {كذلك كنتم من قبل} هذه الحال، كنتم تخفون إسلامكم خوفًا من قومكم، {فمنَّ الله عليكم} بالعز والنصر والاشتهار {فتبينوا} وتثبتوا ولا تعَجلَوا، وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللهُ بكم، حيث حفظكم وعصمكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنًا بأنهم إنما دخلوا فيه اتقاء وخوفًا، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل مؤمن، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر. ثم هدَّدهم بقوله: {إن الله كان بما تعملون خبيرًا} مطلعًا على قصدكم، فلا تتهافتوا في القتل، واحتاطوا فيه.
رُوِي أن سريةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فَدَك فهربوا، وبقي مرداسُ ثقًة بإسلامه، لأنه كان مسلمًا وحده، فلما رأى الخيلَ ألجأ غَنَمه إلى عاقول من الجبل، وصعد عليه، فلما تلاحقوا وكَبَّروا، كَبَّر ونزل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامةُ، واستاق غنمه، فنزلت الآية. فلما أُخبر عليه الصلاة والسلام وَجِدَ وجدًا شديدًا، وقال لأسامة: «كيف بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة؟!» قالها ثلاثًا، حتى قال أسامة: ليتني لم أكن أسلمتُ إلا يومئٍذ، ثم استغفرَ له بعدُ، وقال له: «اعتق رقبة» وقيل: نزلت في المقداد، مرَّ برجل في غنمه فأراد قتله، فقال: لا إله إلا الله، فقتله وظفر بأهله وماله، وقيل: القاتل: مُحلِّم بن جَثَامة، والمقتول: عامرُ بن الأضبط. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يستقاد من الآية: الترغيب في خَصلتين ممدوحتين وخصوصًا عند الصوفية:
الأولى: التأني في الأمور والرزانة والطمأنينة، وعدم العجلة والخفة والطيش. وفي الحديث: «من تَأنَّى أصابَ أو كادَ، ومَن استعجَّلَ أخطَأ أو كَادَ» ولا يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، ويفهم عن الله أنه مراد الله في ذلك الوقت.
والثانية: حُسْن الظن بعباد الله كافة، واعتقاد الخير فيهم، وعدم البحث عما اشتمل عليه بواطنهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أُمِرتُ أن أحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» وقال لأسامة: «هلاّ شققت عن قلبه»، حين قَتَلَ من قال: لا إله إلا الله، أو لغيره. وفي الحديث: «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حُسن الظن بالله، وحُسن الظنِّ بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله» والله تعالى أعلم.