فصل: تفسير الآيات (95- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (95- 96):

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}
قلت: {من المؤمنين}: حال من {القاعدين}، و{غير} بالرفع: صفة للقاعدين، وبالنصب: حال، وبالجر: بدل من المؤمنين، و{درجة}: نصب على إسقاط الخافض، أو على المصدر، لأنه متضمن معنى التفضيل، أو على الحال، أي: ذوي درجة. و{أجرًا عظيمًا}: مصدر لفضَّل، لأنه بمعنى أجرًا، أو مفعول ثان لفضَّل، لأنه بمعنى أعطى، أي: أعطاهم زيادة على القاعدين أجرًا عظيمًا، و{درجات} وما بعده، كل واحد بدل من {أجرًا}، و{درجات}: نصب على المصدر، كقولك: ضربته أسواطًا، و{أجرًا}: حال، تقدمت عليها؛ لأنها نكرة و{مغفرة ورحمة}: على المصدر بإضمار فعلهما.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ترغيبًا في الجهاد: {لا يستوي القاعدون} عن الجهاد {من المؤمنين} مع المجاهدين في سبيل الله في الدرجة والأجر العظيم. ولما نزلت أتى ابنُ أم مكتوم وعبد الله بن جحش، وهما أعميان فقالا: يا رسول الله ذكرَ الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين، وحالُنا على ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل من رخصة؟ فأنزل الله: {غير أُولي الضرر}، فجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين؛ لزمانتهم وحسن نياتهم.
ثم ذكر فضل مَن خرج من قعد لعذٍر فقال: {فضِّل الله المجاهدين بأموالهم}، مواساة للمجاهدين، {وأنفسهم} ببذلها في سبيل رب العالمين، {على القاعدين} لعذر، {درجة} واحدة، لمزيد مشقة السفر والغزو والخطر بالنفس للموت، {وكُلاًّ} من القاعدين لعلة والمجاهدين في سبيل الله، {وعد الله الحسنى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة. {وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين} من غير عذر {أجرًا عظيمًا} وخيرًا جسيمًا. وفي البخاري: «إنَّ لله مائةً درَجةٍ أعدَّها للمجاهدين في سبيلِ الله، ما بينَ الدَرجتين كَمَا بين السَّماءِ والأرضِ» الحديث. ثم بيَّنها بقوله: {درجات منة} أي: من فضله وإحسانه، {ومغفرة} لذنوبة، {ورحمة} تُقرِّبه إلى ربه، {وكان الله غفورًا} لما عسى أن يفرط منه، {رحيمًا} بما وعدَ له.
الإشارة: لا يستوي القاعد مع حظوظه وهواه، مشتغلاً بتربية جاهه وماله وتحصيل مُناه، غافلاً عن السير إلى حضرة مولاه، مع الذي سلَّ سيفَ العزم في جهاد نفسه وهواه، وبذل مهجته وجاهد نفسه في طلب رضاه، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه، هيهات هيهات، لا يستوي الأحياء مع الأموات، فإن قعد مع نفسه لعذر يُظهره، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين أجرًا عظيمًا، درجات منه بالترقي أبدًا، ومغفرة ورحمة، وفي البيضاوي: التفضيل بدرجة في جهاد الكفار، وبدرجات في جهاد النفس؛ لأنه الأكبر للحديث والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (97- 99):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين} تتوفاهم {الملائكة} أي: مَلَك الموت وأعوانه، يعني: تَقبِضُ أرواحهم، {ظالمي أنفسهم} بترك الهجرة ومرافقة الكفرة، {قالوا} أي: الملائكة في توبيخهم: {فِيمَ كنتم} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم: أعلى الشك أو اليقين؟ أو: في أي بلد كنتم: في دار الكفر أو الإسلام؟ {قالوا كنا مستضعفين في الأرض} فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفًا من المشركين، {قالوا} أي: الملائكة تكذيبًا لهم وتبكيتًا: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} إلى قطر آخر، كما فعل المهاجرين إلى الحبشة والمدينة، لكن حبستكم أموالُكم، وعزَّت عليكم أنفسكم، {فأولئك مأواهم جهنم} لتركهم الهجرة الواجبة في ذلك الوقت، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين، {وساءت مصيرًا} أي: قبحت مصيرًا جهنم التي يصيرون إليها.
نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يُهاجروا، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلةَ المسلمين، فقالوا: غرَّ هؤلاء دينُهم، فقُتِلوا، فضربت الملائكة وجوهم وأدبارهم، كما يأتي، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة، بل تجب الهجرة، ولا عذر في المقام، وإن منعه مانعٌ فلا يكون راضيًا بحاله مطمئنَ النفس بذلك، وإلا عمَّهُ البلاءُ، كما وقع لأهل الأندلس، حتى صار أولادُهم كفارًا والعياذ بالله، وكذلك لا تجوز الإقامة في موضعٍ تغلبُ فيه المعاصي وترك الدين.
قال البيضاوي: في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن في الرجل من إقامة دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرَّ بدينه من أرض، ولو كان شبرًا من الأرض، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام» قلت: ويدخل فيه على طريق الخصوص من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد، أو تكثر فيه العلائق والشواغل، إلى موضع يقلُّ فيه ذلك، طلبًا لصفاء قلبه ومعرفة ربه، بل هو أولى، ويكون رفيقاً لهما في حضرة القدس عند مليك مقتدر. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى مَن تَحَقَّق إسلامُه وحبسه العذر، فقال: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان} أي: المماليك والصبيان، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة، فلا محيص عنها، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كنتُ أنا أبي وأُمي ممن استثنى الله بهذه الآية».
ثم وصفهم بقوله: {لا يستطيعون حيلة} أي: قوة على ما يتوقف عليه السفر، من ركوب أو غيره، {ولا يهتدون سبيلاً} أي: لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون دليلاً، {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}. وعبَّر بحرف الرجاء إيذانًا بأنّ تركَ الهجرة أمرٌ خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن، ويترصد الفرصة، ويُعلِّقُ بها قلبه، {وكان الله غفورًا رحيمًا} فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر.
وبالله التوفيق.
الإشارة: كل من لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي: باخسًا لها؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له: فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب؟ فيقول: كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال لهُ: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}
قلت: المراغَم: المهرب والمذهب. قاله في القاموس. وقال البيضاوي: يجد متحولاً، من الرغام وهو التراب. وقيل: طريقًا يراغم قومه بسلوكه فيها، أي: يفارقهم على رغم أنوفهم، وهو أيضًا من الرغام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن يهاجر في سبيل الله} لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، {يجد في الأرض} فضاءً كثيرًا، ومتحولاً كبيرًا يتحول إليه، وسعة بدلاً من ضيق ما كان فيه، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه، أو سعةٌ في الرزق، وبسطًا في المعيشة، فلا عذر له في المقام في مكان مُضَيَّقٍ عليه فيه في أمر دينه، {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله} وجهادٍ في سبيله، {ثم يُدركه الموت} قبل وصوله فقد ثبت أجرُه، ووجب على الله وجوب امتنان أن يبلغه قصده بعد موته، {وكان الله غفورًا} لما سلف له من عدم المبادرة، {رحيمًا} به، حيث بلَّغه مأمولَه.
نزلت في جُندع بن ضَمرة، وكان شيخًا كبيرًا مريضًا، فلما سمع ما نزل في شأن الهجرة قال: والله ما أنا ممن استثنى الله، ولي مال يُبِلغني المدينة، والله لا أبيتُ الليلة بمكة، اخرجُوا بي، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها، فَصفَّق بيمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أُبايعك على مَا بَايَعَك عليه رسولك، فمات حَمِيدًا. فقال الصحابة: لو وافَى المدينةَ، كان أتم أجرًا، وضحك المشركون، وقالوا: ما أدرك ما طلب. فنزلت: {ومن يخرج من بيته...} إلخ.
وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حيَّةٌ في الطريق، فمات قبل أن يصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه، طلبًا للوصول إلى حضرة مولاه، يجد في أرض نفسه متسعًا للعلوم، ومفتاحًا لمخازن الفهوم، وسعة الفضاء والشهود، حتى ينطوي في عين بصيرته كلُّ موجود، ويتحقق بشهود واجب الوجود. ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموت قبل التمكين، فقد وقع أجره على الله، وبلَّغه الله ما كان قَصَدَه وتمنُّاه، فيُحشر مع الصديقين أهلِ الرسوخ والتمكين، التي تلي درجتُهم درجةَ النبيين، وكذلك من مات في طلب العلم الظاهر ولم يدركه في حياته، حشِر مع العلماء، قال عليه الصلاة والسلام: «من جاءَه أجله وهو يطلبُ العلمَ لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة» قلت: وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هي درجة الصديقين المتقدمة قبله.
وكل من مات في طلب شيء من الخير، أدركه بعد موته بحسن نيته، كما في الأحاديث النبوية، قال القشيري: المهاجر في الحقيقة، من هاجر نفسه وهواه، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده، فمن قصَده أي قصد الحق تعالى ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله، فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه. اهـ. وفي بعض الآثار: الهجرة هجرتان: هجرة صُغرى، وهجرة كبرى، فالصغرى: انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي، والكبرى: انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها. اهـ.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا ضربتم في الأرض}، أي: سافرتم للجهاد أو غيره من السفر المباح، أو المطلوب، {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} الرباعية إلى ركعتين، ونفيُ الجُناح يقتضي أنها رُخصة، وبه قال الشافعي، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتمّ في السفر وأن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله قَصَرْتَ وأتممْتُ، وصُمْتُ وأفطرتِ؟ فقال: «أحسنت يا عائشة» وأوجبه أبو حنيفة؛ لقول عمر رضي الله عنه: (السفر ركعتان؛ تمام غير قصر، على لسان نبيكم). ولقول عائشة: (أول ما فرضت الصلاة ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيدت في الحضر).
وقال مالك رضي الله عنه: القصرُ سنة؛ لكونه عليه الصلاة والسلام دام عليه في كل سفر، ولم يتُم إلا مرةً لبيان الجواز.
وقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} طاهرِه أن الخوف شرط في القصر، وبه قالت عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والجمهور على عدم شرطه، وإنما ذكره الحق تعالى لكونه غالبًا في ذلك الوقت، فلا يعتبر مفهومه، أو يؤخذ القصر في الأمن من السُّنة. ويؤيد هذا حديثُ يَعلى بن أمِية، قلت لعمر بن الخطاب: إن الله يقول: {إن خفتم}، وقد أمن الناس؟. فقال: عجبتُ مما تعجبتَ منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صَدقةٌ تصدَّق به الله علَيكم، فاقبلوا صدَقته» وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وهو آمن.
وليس في الآية ما يدل على تحديد المسافة التي تُقصَرُ فيها الصلاةُ، بل ذَكَرَ مطلقَ السفر، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر، طال أو قصر. ومذهب مالك والشافعي: أن المسافة أربعة بُردُ، واحتجوا بآثار عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة: ستة بُرُد، وكذلك لم يقيد الحقُّ السفرَ بمباح ولا غيره، ولذلك أجاز أبو حنيفةٍ القصرَ في كل سفر. ومنعه مالك في سفر المعصية. ومنعه ابن حنبل في المعصية والمباح. والمراد بالفتنة في قوله: {إن خفتم أن يفتنكم}: الجهاد والتعرض لما يُكره، وعداوة الكفار معلومة.
الإشارة: وإذا ضربتم في ميادين النفوس، وتحقق سيرُكم إلى حضرة القدوس، فلا جناح عليكم أن تقتصروا على المهم من الصلاة الحسية، وتدوموا على الصلاة القلبية، التي هي العكوف في الحضرة القدسية، إن خفتم أن تشغلكم عن الشهود حلاوةُ المعاملة الحسية. قال بعض العارفين: اتقوا حلاوة المعاملة، فإنها سموم قاتلة. وكذلك قال القطب بن مشيش في المقامات كالرضا، والتسليم: أخاف أن تشغلني حلاوتها عن الله. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (102):

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا كنت فيهم} أيه الرسول {فأقمت لهم الصلاة}، أي: صلاة الخوف، وكذلك الأمراء النائبون عنه، {فلتقم طائفة منهم معك}، وطائفة تقف وجَاهَ العدو للحراسه، {وليأخذوا أسلحتهم} أي: المصلون معك، {فإذا سجدوا فليكونوا} أي: الطائفة الحارسة {من ورائكم} فإذا صلَّت نصفَ الصلاة مع الإمام، قضت في صلبه ما بقي لها وذهبت تحرس.
{ولتأت طائفة أخرى لم يُصلوا فليُصلوا معك} النصف الباقي، فإذا سلمتَ، قضوا ما بقي لهم، فإذا كانت ثنائية: صلَّى بالأولى ركعةَ، وَثَبَتَ قائمًا ساكتًا أو قارئًا، ثم تصلي من صلت معه ركعة وتسلم، وتأتي الثانية فتكبر، فيُصلِي بها ركعةً ويسلم وتقضي ركعة. واذا كانت رباعية، أو ثلاثية صلى بالأولى ركعتين، ثم تقوم الأولى فتصلي ما بقي لها وتسلم وتأتي الثانية فتكبر وتصلي معه ما بقي له، ثم تقضي ما بقي لها، هكذا قاله مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: يصلي بالأولى ركعّة، ثم تتأخر وهي في الصلاة، وتأتي الثانية فيصلي بها ركعة، فإذا سلَّم ذهبت مكان الأولى قبل سَلاَمها، فتأتي الأولى فتصلي ركعة ثم تُسلَّم، وتأتي الثانية فتصلي ركعية ثم تُسلَّم. وفي صلاة الخوف عشرة أقوال على حسب الأحاديث النبوية، لأنها تعدَّدت منه صلى الله عليه وسلم، فكل واحد أخذ بحديث، وما قاله مالك والشافعي هو الذي فعله عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع.
ثم أمر الطائفة الحارسة بأخذ السلاح، والحذر من العدو فقال: {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}، ثم ذكر عِلَّةَ الحذر فقال: {ودّ الذين كفروا لو تَغْفُلُون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} أي: تمنوا أن ينالوا منكم غرة، فيشدون عليكم شدة واحدة فيستأصلونكم.
رُوِي أن المشركين لما رأوا المسلمين صلوا صلاة الظهر ندموا أن لو كانوا أغاروا عليهم في الصلاة، ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة هي إليهم أحب من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة العصر نزل جبريلُ بصلاة الخوف.
ثم رخَّص لهم في وضع السلاح، لعذرٍ فقال: {ولا جناح عليكم} أي: لا إثم {إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم} منهم بالحراسة. رُوِي أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف، مَرِضَ فوضع سلاحه، فعنَّفه أصحابُه، فنزلت الآية.
ثم هوَّن شأن الكفار بعد أن أمر بالحذر منهم فقال: {إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا} في الدنيا والآخرة.
قال البيضاوي: وعد المؤمنين بالنصرة على الكفار، بعد الأمر بالحذر، ليقوي قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل إن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبير. اهـ.
الإشارة: إذا كنت في جند الأنوار، وأحدَقَت بك حضرة الأسرار، ثم نزلتَ إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فلتقم طائفة من تلك الأنوار معك، لتحرسك من جيش الأغيار وجند الأكدار، حتى يكون رجوعُك إلى الآثار مصحوبًا بكسوة الأنوار وحليلة الاستبصار، فيكون رجوعك إليها بالله لا بنفسك، فإذا سجد القلبُ في الحضرة كانت تلك الأنوار من ورائه والأسرار من أمامه، {وَاللهُ مِن وَرَآئِهِم مُحِيطُ} [البُرُوج: 20]، ولتأت طائفة أخرى لم تصل هذه الصلاة؛ لأنها لم تبلغ هذا المقام، فلتصل معك اقتباسًا لأنوارك، لكن تأخذ حذرها وتستعد من خواطر الأشغال، كي لا تميل عليهم فتفتنهم عن الحضور مع الكبير المتعال، فإن كان مريض القلب بالهوى وسائر العلل، فلا يكلف من الحضور إلا ما يطيقه، لأن القط لا يكلف بحمل الجمل. والله تعالى أعلم.