فصل: تفسير الآية رقم (103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (103):

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: فإذا فرغتم من الصلاة {فاذكروا الله} في جميع أحوالكم {قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} إن أردتم حراسة قلوبكم، والنصر على عدوكم، أو إذا أردتم قضاءَ الصلوات وأداء فرضها، وأنتم في المعركة، فصلوا كما أمكنكم {قيامًا} راجلين أو على خيولكم إيماءً، وحلَّ للضرورة حينئٍذ مشى وركض وطعن وعدم توجه وإمساك ملطخ، وتنبيهٌ وتحذيرٌ، هذا للصحيح، {وقعودًا وعلى جنوبكم}، للمريض أو الجريح، هكذا قال جمهور الفقهاء في صلاة المسايفة وقال أبو حنيفة: لا يصلي المحارب حتى يطمئن.
{فإذا اطمأننتم} وذهب الخوفُ عنكم {فأقيموا الصلاة} على هيأتها المعلومة، واحفظوا أركانها وشروطها، وأُتوا بها تامة، {إن الصلاة كانت المؤمنين كتابًا موقوتًا} أي: فرضًا محدود الأوقات، لا يجوز إخراجها عن وقتها في شيء من الأحوال. قال البيضاوي: وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة، وأنها واجبة الأداء، حال المسايفة، والاضطراب في المعركة، وتعليلٌ للأمر بالإتيان بها، كيف أمكن.
الإشارة: إذا فرغتم من الصلاة الحسية، فاستغرقوا أحواكم في الصلاة القلبية، حتى تطمئن قلوبكم في الحضرة القدسية، فإذا اطمأننتم في الحضرة، فأقيموا صلاة الشهود والنظرة، وهي الصلاة الدائمة، قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} [المعَارج: 23]. وقال الورتجبي: إذا كنتم في حالةِ التمكين وامتلأتم من أنوار ذكره، فينبغي أن تخرجوا من أبواب الرخص، والاستراحة في سعة الروح، وترجعوا إلى مقام الصلاة، فإن آخر سيركم في ربوبيتي: أول بدايتكم في عبوديتي. اهـ.

.تفسير الآية رقم (104):

{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
قلت: الوهن: الفشل والضعف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: لا تضعفوا في طلب {القوم}، أي: الكفار، فتجاهدوهم في سبيل الله، فإن الحرب دائرة بينهم وبينكم، قد أصابهم مثل ما أصابكم، فإن {تكونوا تألمون}، أي: تتوجعون من الجراح، {فإنهم يألمون كما تألمون}، وأنتم ترجون من الله النصر والعز في الدنيا، والدرجات العلا في الآخرة، وهم لا يرجون ذلك، فحقكم أن تكونوا أصبر وأرغب في الجهاد منهم، {وكان الله عليمًا} بأعمالكم وضمائركم، {حكيمًا} فيما يأمركم به وينهاكم.
الإشارة: لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم، ولا تفشلوا عن السير الى حضرة ربكم، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها، فإنها تألم مثلكم، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم، فإذا ارتاضَت وتحلت صار المُر عندها حلوًا، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها، فدوموا على سياستها ورياضتها، فإنكم ترجون من الله الوصول، وبلوغ المأمول، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات، فاعكسوا مُراداتها، حتى تطمئن في حضرة ربها، فتأمن غوائلها، فليس بعد الوصول رجوع، ولا إلى العوائد نزوع، والله غالب على أمره.

.تفسير الآيات (105- 109):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}
قلت: أرى، هنا عرفانية، لا علمية. فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: لنبيّه عليه الصلاة والسلام حين همَّ أن يخاصم عن طُعمَة بن أبَيرِق، وذلك أنه سرق درعًا من جاره قتادة بن النعمان، في جراب دقيق، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه، وخبَّأها عند يهودي، فالتمس الدرع عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال اليهودوي: دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة، وشهد له ناس، من اليهود، فقال رهط طعمة من بني ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا، وقالوا: إن لم يفعل هلك وأفتضح، وبرئ اليهودي، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً على ظاهر الأمر، ولم يكن له علم بالواقعة، فنزلت الآية: {إنا أنزلنا إليكم الكتاب بالحق} أي: ملتبسًا بالحق {لتحكم} بما فيه من الحق {بين الناس} بسبب ما {أراك} أي: عَرَّفك {الله} بالوحي، أو بالاجتهاد، ففيه دليل على إثبات القياس، وبه قال الجمهور. وفي اجتهاد الأنبياء خلاف. {ولا تكن للخائنين خصيمًا} أي: عنهم للبرآء، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم.
{واستغفر الله} مما هممت به، {إن الله كان غفورًا رحيمًا}، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي، وبه قال ابن شعبان. وقال ابن عات: لعله أراد الندب. وقال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة. والوكالة من الأمانة، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يقصد شيئًا من ذلك، ولا علم له بالواقعة، لولا أطلعَه تعالى، فلا نقص في اهتمامه، ولا درك يلحقه. وبالجملة، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة.
ثم نهاه عن الذبّ عنهم، فقال: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} وهم رهط بن أبيرق السارق، قال السهيلي: هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير، {إن الله لا يحب مَن كان خوّانًا} أي: كثير الخيانة، {أثيمًا} أي: مصرًا عليها، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة، وارتدَّ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله، فسقط الحائط عليه فقتله، ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى، أو كان مظنة الخيانة، كالكافر ونحوه. وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية: إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز، بدليل الآية. اهـ.
ثم فَضحَ سرهم، فقال: {يستخفون من الناس} أي: يستترون منهم، {ولا يستخفون من الله} وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف {وهو معهم} لا يخفى عليه شيء، فلا طرق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا. {إذ يُبيتون} أي: يدبرون ويُزَوِّرُون {ما لا يرضى من القول} من رمي البريء، والحلف الكاذب، وشهادة الزور، {وكان الله بما يعملون محيطًا} لا يفوته شيء، {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا} ودفعتم عنهم المعرة، {فَمن يجادل الله عنهم} أي: مَن يُدافُع عنهم عذابه {يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً} يحميهم من عقاب الله، حين تُفضَح السرائر، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر.
الإشارة: في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا: شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله سبحانه: {يستخفون من الناس...} الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم: إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن يعمل سوءًا} أي: ذنبًا قبيحًا يسوءُ به غيره، {أو يظلم نفسه} بذنب يختص به، أو من يعمل سوءًا بذنبٍ غيرِ الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك، أو من يعمل سوءًا بالكبيرة، أو يظلم نفسه بالصغيرة، {ثم يستغفر الله} بالتوبة {يجد الله غفورًا} لذنوبه {رحيمًا} بقبول توبته، وفيه حث لطُعمَة وقومِه على التوبة والاستغفار.
الإشارة: ومن يعمل سوءًا بالميل إلى الهوى، أو يظلم نفسه بالالتفات إلى السوى، أو من يعمل سوءًا بالهفوات والخطرات، أو يظلم نفسه بالغفلات والفترات، أو من يعمل سوءًا بالوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات، أو يظلم نفسه بالقناعة من الترقي في الدرجات والمقامات، ثم يستغفر الله من حينه يجد الله غفورًا رحيمًا، حيث لم يُخرِجهُ من حضرته، ولم يتركه مع غفلته.

.تفسير الآيات (111- 112):

{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن يكسب إثمًا} كسرقة أو يمين فاجرة، أو رمى غيره بجريمة، {فإنما يكسبه على نفسه} لا يتعدى ضررها إلى غيره، {وكان الله عليمًا} بسرائر عباده {حكيمًا} في إمهالهم وسترهم، {ومن يكسب خطيئة} أي: جريمة تتعدى إلى ضرر غيره، {أو إثمًا} يختص بنفسه، {ثم يَرمِ به بريئًا} منه، كما رمى طُعمَةُ زيدًا اليهوديِّ، {فقد احتمل بهتانًا} وهو أن يبهت الرجل بما لم يفعل، {وإثمًا مبينًا} أي: ذنبًا ظاهرًا، لا يخفى قبحه وبشاعته.
الإشارة: الإثم: ما حاك في الصدر وتلجلج فيه، ولم ينشرح إليه الصدر، وضده البر؛ وهو ما ينشرح إليه الصدر ويطمئن إليه القلب، فكل من فعل شيئًا قد تلجلج قلبه منه ولم يقبله؛ نقص من نوره، وأظلم قلبه منه، وإليه الإشارة بقوله: {ومن يكسب إثمًا...} الآية، أي: فإنما يُسَوِّدُ به نور نفسه وروحه، ومن تلبَّس بذنب أو عيب، ثم برح به غيرَه من باب سُوءِ الظن {فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} لأن الواجب على المريد السائر أن يشهد الصفاء من غيره، ويُقصر النقصَ على نفسه، والواصل يرى الكمال في كل شيء لمعرفته في كل شيء. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
قلت: الجارّ في قوله: {من شيء}، في موضع نصب على المصدر، أي: لا يضرونك شيئًا من الضرر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولولا فضل الله عليك} بالعصمة ورحمته بالعناية، {لهمت طائفة منهم} وهم رهط السارق {أن يضلوك} عن القضاء بالحق، مع علمهم بالقصة، لكن سبقت العناية، وحفت الرعاية، فلم تخرج من عين الهداية. وليس المراد نفي همهم لأنه وقع، إنما المراد نفي تأثيره فيه، {وما يضلون إلا أنفسهم} لعوده عليهم، {وما يضرونك من شيء}؛ لأن الله عصمك، وما خطر ببالك من المجادلة عنهم، كان اعتمادًا منك على ظاهر الأمر وإنما أُمرتَ أن تحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر.
{وأنزل الله عليك الكتاب} أي: القرآن، {والحكمة} ما نطقتَ به من الحِكَم، {وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم} من خفيات الأمور، التي لم تطلع عليها، أو من أمور الدين والأحكام، {وكان فضل الله عليك عظيمًا} ولا فضل أعظم من النبوة، لاسيما وقد فضَّله على كافة الخلق وأرسله إلى كافة الناس، وهدى الله على يديه ما لم يَهدِ على يدِ أحد من الأنبياء قبله، إلى غير ذلك من الفضائل التي تفوت الحصر.
الإشارة: لولا أن الله تفضَّل على أوليائه بسابق العناية، وحفَّت بهم منه الكلاءة والرعاية، لأضلتهم العموم عن عين التحقيق، ولأتلفتهم القواطع عن سلوك الطريق، لكن من سبقت له العناية لا يصيبه سهمُ الجناية، فثَّبتَ أقدامهم على سير الطريق، حتى أظهر لهم معالم التحقيق، فكشف عن قلوبهم رين الحجاب، حتى فهموا أسرار الكتاب، ونبع من قلوبهم ينابيع الحَكَم والأسرار، واطلعوا على علوم لم يُحِط بها كتاب ولا دفتر، فحازوا في الدارين خيرًا جسيمًا، وكان فضل الله عليهم عظيمًا.

.تفسير الآية رقم (114):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}
قلت: إن كان المراد بالنجوى الكلام الخفي؛ فالاستثناء منقطع، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف؛ أي: إلا نجوى مَن أمر... إلخ، وإن كان المراد بالنجوى الجماعة المتناجين، بالاستثناء متصل. قاله ابن جزي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: محرّضًا على الصمت: {لا خير في كثير} مما يتناجون به في شأن السارق أو غيره، بل لا خير في الكلام بأسره {إلا من أمر بصدقة} واجبة أو تطوعية، فله مثل أجره، {أو معروف} وهو: ما يستحسنه الشرع، ويوافقه العقل، كالقرض، وإغاثة الملهوف، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وغير ذلك من أنواع المعروف. أو أمر بإصلاح {بين الناس}، أي: إصلاحات ذات البين، كإصلاح بين طعمة واليهودي وغيرهما. قال مجاهد: (هي عامة للناس)، يريد أنه لا خير فيما يتناجى في الناس، ويخوضون فيه من الحديث، إلا ما كان من أعمال الخير.
{ومن يفعل ذلك} أي: الصدقة، والمعروف والإصلاح، {ابتغاء مرضات الله} أي: مُخلصًا لله {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} وخيرًا جسيمًا. قال البيضاوي: بَنَى الكلامَ على الأمر، ورتَّب الجزاء على الفعل، ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخَيّرين كان الفاعل أدخل فيهم، وأن العمدة والغرض هو الفعل، واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه. وقيد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله؛ لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرًا رياء وسمعة، لم يستحق بها من الله أجرًا، ووصف الأجر بالعظم تنبيهًا على حقارة ما فات في جنبه من أغراض الدنيا. اهـ.
الإشارة: في الآية حثٌّ على الصمت، وهو ركن قوي في طريق التصوف، وهو أحد الأركان الأربعة؛ التي هي: العزلة والجوع والسهر، فهذه طريق أهل البداية، ومن لا بداية له لا نهاية له، وقالوا: بقدر ما يصمت اللسان؛ يعمر الجنان، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان. وقالوا أيضًا: إذا كثر العلمُ قلَّ الكلام، وإذا قل العلم كثر الكلام، وقالوا أيضًا: من عرف الله كَلَّ لسانهُ. وقيل لبعض العلماء: هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر؟ قال: العلم فيما سلف أكثر، والكلامُ اليومَ أكثر.
وفي قوله: {ومن يفعل ذلك...} إشارة إلى أن العمل أشرف من العلم بلا عمل. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (115- 116):

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}
قلت: المشاقة: المخالفة والمباعدة، كأن كل واحد من المتخالفين في شَقِّ غيرِ شقَّ الآخر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن} يخالف {الرسول} ويتباعد عنه {من بعد ما تبين له الهدى} أي: بعد ما تحقق أنه على الهدى؛ بالوقوف على المعجزات، فيترك طريق الحق {ويتبع غير سبيل المؤمنين} أي: يسلك غير ما هم عليه، من اعتقاد أو عمل. {نوله ما تولى} أي: نتركه مع ما تولى، ونجعله وليًّا له، ونُخَلِّي بينه وبين ما اختاره من الضلالة، {ونُصله جهنم} أي: ندخله فيها، ونشويه بها، {وساءت مصيرًا} أي: قَبُحت مصيرًا جهنم التي يصير إليها. والآية تَدُل على حرمة مخالفة الإجماع، لأن الله رتَّب الوعيد الشدد على مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، وكل منهما محرم وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرمًا، كان اتباع سبيلهم واجبًا، انظر البيضاوي.
ثم نزل في طُعمة لما ارتد مشركًا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقيل: كرر للتأكيد تقبيحًا لشأن الشرك، وقيل: أتى شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئًا منذ عرفتُه وآمنتُ به، ولم أتخذ من دونه وليًا، ولم أوقع المعاصي جرأة، وما توهمت طرفة عين أني أُعجز الله هربًا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت. {ومن يشرك بالله فقد ضل} عن الحق {ضلالاً بعيدًا}؛ لإن الشّرك أقبح أنواع الضلالة، وأبعدها عن الثواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى. {فقد افترى}؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم نوع افتراء، وهو دعوى الشيء على الله. قاله البيضاوي.
الإشارة: كل من خالف شيخه، وسلك طريقًا غير طريقة؛ ولاه الله ما تولى، واستدرجه من حيث لا يشعر، وقد تؤخر العقوبة عنه فيقول: لو كان هذا فيه سوء أدب مع الله، لقطع الإمداد وأوجب البعاد، وقد يقطع عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتخليته وما يريد. وبالجملة: فالخروج عن مشايخ التربية والانتقال عنهم، ولو إلى من هو أكمل في زعمه، بعد ما ظهر له الفتح والهداية على يديه؛ طردٌ وبعدٌ، وإفساد لبذرة الإرادة، فلا نتيجة له أصلاً. والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق.