فصل: تفسير الآيات (117- 121):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (117- 121):

{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}
قلت: المَرِيد والمارد؛هو الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملابسة، ومنه: صرح ممرَّد، وغلام أمرد، وشجرة مردى، أي: سقط ورقها. قاله اليضاوي. اهـ. وقيل: المريد: الشديد العاتي، الخارج عن الطاعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنْ يدعون}: ما يعبدون {من دونه} تعالى {إلا إناثًا} كاللات والعزى ومناة، فإن ألفاظها مؤنثة عندهم، أو لأنها جوامد لا تعقل، فهي منفعلة لا فاعلة، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل، أو يريد الملائكة؛ لأنهم كانوا يعبدونها، ويزعمون أنها بنات الله، وما يعبدون في الحقيقة {إلا شيطانًا مريدًا} عاصيًا، لأنه هو الذي أمرهم بها، وأغراهم عليها، وكان يكلمهم من أجوافها.
ثم وصفه بأوصاف تُوجب التنفير عنه فقال: {لعنه الله} أي: أبعده من رحمته {وقال لأتخذنّ من عبادك نصيبًا مفروضًا} أي: مقطوعًا فرضته لنفسي، من قولهم: فرض له في العطاء، أي: قطع، {ولأضلنّهم} عن الحق {لأمنينّهم} الأماني الباطلة، كطول الحياة، وألاَّ بعث ولا عقاب، {ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام} أي: يشقونها لتحريم ما أحل الله، وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم كل ما أحل الله، ونقص كل ما خلق الله كاملاً بالفعل أو بالقوة، {ولآمرنهم فليُغَيّرُنّ خلق الله}؛ صورة أو صفة، فيندرج فيه خصاء العبيد والوشم، والتنمص وهو نتف الحاجب.
زاد البيضاوي: واللواط، والمساحقة، وعبادة الشمس القمر، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ولا يوجب لها من الله زلفى. وعموم اللفظ يقتضي منع الخِصاء مطلقًا، لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم للحاجة، والجُمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقًا، أو أتاه فعلاً. اهـ.
ثم حذّر منه فقال: {ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله} باتباعه فيما أمره به دون ما أمر الله به، {فقد خسر خسرانًا مبينًا} واضحًا؛ حيث ضيع رأس ماله، وأبدل بمكانة من الجنة مكانه من النار. {يعدهم} أي: الشيطان، أمورًا لا تُنجز لهم، {ويمنّيهم} أماني لا تعطى لهم، {وما يعدهم} أي: {الشيطان إلا غرورًا}، وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر، فكان يوسوس لهم أنهم على الحق وأنهم أولى بالجنة، إلى غير ذلك من أنواع الغرور، {أولئك} المغرورون {مأواهم جهنم} أي: هي منزلهم ومقامهم، {ولا يجدون عنها محيصًا} أي: مهربًا ولا معدلاً. من حاص يحيص: إذا عدل.
الإشارة: ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم: (إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده). فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (122):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}
قلت: {وعدّ اللهِ} مصدر، مؤكد لنفسه، أي: وعدهم وعدًا، و{حقًا} مؤكد لغيره، أي: لمضمون الجملة قبله. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والذين آمنوا} بالله ووحدوه، {وعملوا} الأعمال {الصالحات} التي كلفوا بها {سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا} وعدهم بذلك وعدًا حقًا، {ومن أصدق من الله قيلاً} أي: لا أحدَ أصدقُ من الله في قوله. والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه، ترغيبًا في تحصيل أسبابه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والذين جمعوا بين توحيد عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية سندخلهم جنةَ المعارف، تجري من تحتها أنها العلوم، خالدين فيها أبدًا، وعدًا حقًا وقولاً صدقًا. ومن أصدق من الله قيلاً؟

.تفسير الآية رقم (123):

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}
قلت: اسم ليس ضمير الأمر، أي: ليس الأمر بأمانيكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ليس} هذا الوعد الذي ذكرت لأهل الإيمان يُنَال {بأمانيكم} أي: تمنيكم أيها المسلمون، ولا بأماني {أهل الكتاب}، أي: لا يكون ما تتمنون ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده ويجازيهم بأعمالهم. رُوِي أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة، فنزلت. وقيل: الخطاب مع المشركين، وهو قولهم: لا جنة ولا نار، أو قولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لتكونن خيرًا منهم وأحسن حالاً.
وأماني أهل الكتاب: قولهم {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [آل عِمرَان: 24]، و{لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارى} [البَقَرَة: 111]، ثم قرر ذلك فقال: {من يعمل سوءًا يجز به} عاجلاً أو آجلاً؛ لما رُوِي أنه لما نزلت قال أبو بكر: من ينجو مع هذا يا رسول الله، إن كنا مجزيين بكل سوء عملناه؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: «أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك اللأواء؟» قال بلى يا رسول الله، قال: «هو ذلك» فكل من عمل سوءًا جوزي به، {ولا يجد له من دون الله وليًا} يليه ويدفع عنه، {ولا نصيرًا} ينصره ويمعنه من عذاب الله.
الإشاره: لا تُنال المراتب بالأماني الكاذبة والدعاوي الفارغة، وإنما تنال بالهمم العالية، والمجاهدات القوية، إنما تنال المقامات العالية بالأعمال الصالحة، والأحوال الصافية، وأنشدوا:
بِقَدرٍ الكذِّ تُكتَسَبُ المَعَالِي ** من أراد العز سهر الليالي

تُرِيدُ العزَّ ثُم تَنَامُ لّيلاً ** يَغُوضُ البحر مَن طَلَبَ اللآلي

ولما نزل قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...} الآية. قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء.

.تفسير الآيات (124- 126):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
الإشارة: {من ذكر أو أنثى}: حال من الضمير في {يعمل}، وكذا قوله: {وهو مؤمن} و{حنيفًا}، حال من {إبراهيم}؛ لأنه جزء ما أضيف إليه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن يعمل} شيئاً {من} الأعمال {الصالحات} وهو المهم من المكلف به، إذ لا طاقة للبشر على الإتيان بكلها. حال كون العامل {من ذكر أو أنثى}؛ إذ النساء شقائق الرجال في طلب الأعمال، والحالة أن العامل {مؤمن} لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال، فلا ثواب على عمل ليس معه إيمان. ثم ذكر الجواب فقال: {فأولئك يدخلون الجنة} أي: يتصفون بالدخول، أو يدخلهم الله الجنة، {ولا يُظلمون} أي: لا ينقصون من ثواب أعماله {نقيرًا} أي: مقداره، وهو النقرة في ظهر النواة. قال البيضاوي: وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالأخرى ألا يزيد في عقاب العاصي، لأن المجازي أرحَمُ الراحمين. اهـ.
{ومَن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه لله} أي: لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بكليته إلى مولاه {وهو محسن} أي: مُوَحَّدٌ أحسَنَ فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله، {واتبع ملة إبراهيم حنيفًا} بأن دخل في الدين المحمدي الذي هو موافق لملة إبراهيم بل هو عينه، فمن ادعى أنه على ملة إبراهيم ولم يدخل فيه فقد كذب.
ثم ذكر ما يحث على اتباع ملته، فقال: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} أي: اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر؛ تفخيمًا له وتنصيصًا على أنه الممدوح، وسمي خليلاً لأنه قد تخللت محبة الله في جميع أجزائه.
رُوِي أن إبراهيم عليه السلام كان يضيف الناس، حتى كان يسمى أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناسَ سَنَةٌ، جهدوا فيها، فحشد الناسُ إلى باب إبراهيم، يطلبون الطعامَ، وكانت الميرة كل سنة تصله من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر يسأله الميرة، فقال لغلمانه: لو كان إبراهيم يريد لنفسه احتملت له ذلك، ولكنه يريد للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناس، فرجع الرسل إليه، ومرّوا ببطحاء لينة، فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس، وأتوا إبراهيم فأخبروه، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فنام، وكانت سارة نائمة فاستيقظت، وقالت: سبحان الله! أما جاء الغلمان؟ فقالوا: بلى، فقامت إلى الغرائر فإذا فيها الحُوَّرَى أي: الخالص من الدقيق فخبزوا وأطعموا؟ فاستيقظ إبراهيم، وشم رائحة الخبز، فقال: يا سارة. من أين هذا؟ فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: هذا من عند خليلي الله عز وجل، فحينئذ سماه الله خليلاً.
قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خَلَ، أو لأنه ردَّ خلَته، أي: فقره إلى الله مخلصًا. اهـ.
{ولله ما في السماوات وما في الأرض} ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فالملك له، والعبيد عبيده، يختار ما يشاء كما يشاء من خلة ومحبة وخدمة، {وكان الله بكل شيء محيطًا} علمًا وقدرة، فيجازِي كُلاًّ على قدر سعيه وقصده. والله تعالى أعلم.
الإشارة: على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة، على قدر البدايات تكون النهايات، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، فمن انقاد إلى الله بكلتية إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله، ومن تمسك بالملة الحنيفية، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية فقد استمسك بالعروة الوثقى، وكان في أعلى ذروة أهل التقى، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}
قلت: و{ما يتلى}: عطف على {الله}، أي: يفتيكم الله، والمتلو عليكم في الكتاب، أي في القرآن. {وترغبون أن تنكحوهن} حذف الجار، وهو في أو عن، ليصدق النهي بالراغب فيها إذا كانت جميلة، والراغب عنها إذا كانت دميمة، و{المستضعفين} عطف على {يتامى النساء} أي: والذي يتلى في المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى: {يوصيكم الله...} إلخ، أو على الضمير في {فيهن} أي: يفتيكم فيهن وفي المستضعفين، و{أن تقوموا} عطف على {المستضعفين}، أو منصوب بمحذوف، أي: ويأمركم أن تقوموا... إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويستفتونك} يا محمد {في} شأن {النساء} من الميراث وغيره، {قل الله يفتيكم فيهن}، فيأمركم أن تعطوهن حقهن من الميراث، {و} يفتيكم أيضًا فيهن {ما يتلى عليكم في الكتاب} في أول السورة إذ قال: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} ثم بيَّنه في تقسيم الميراث في {يوصيكم الله في أولادكم}، وقال في اليتامى: {وآتوا اليتامى أموالهم} {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى...} الآية، فقد أفتاكم في اليتامى {اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن} من الصداق {وترغبون أن تنكحوهن} بدون صداق مثلهن، فأمركم أن تنكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهن في الصداق، إذا كانت جميلة، أو لها مال، أو ترغبون عن نكاحهن إذا كانت دميمة، فتعضلوهن لترثوهن، فلا تفعلوا ذلك، بل تزوجوها أو زوجوها، وكانوا في الجاهلية، إذا كانت اليتيمة ذات مال وجمال، رغبوا فيها وتزوجوها، بدون صداقها، وإن كانت دميمة ولا مال لها رغبوا عنها وعضلوها، أو زوجوها غيرهم، فنهى الله تعالى الفريقين معًا.
{و} يفتيكم أيضًا في {المستضعفين من الوِلدَانِ} وهم الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث مع الكبار، وكانوا لا يورثونهم، رُوِي أن عُيينة بن حصين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُخبرنا أنك تورث النساء والصبيان، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة؟ فقال له صلى الله عليه سلم: «كذا أُمِرتُ» فنزلت الآية.
{و} يفتيكم أيضًا ويأمركم {أن تقوموا لليتامى بالقسط} أي: العدل. وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم بالمصلحة ويستوثقوا حقوقهم، ويحتاطوا لهم في أمورهم كلها، ثم وعدهم بالثواب على ذلك فقال: {وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا}، فيجازيكم الى قدر إحسانكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يستفتونك عن نساء العلوم الرسمية، وعن يتامى العلوم القلبية، وهن نتائج الأفكار، وهي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية؛ التي هي من علوم الحقيقة، ولا تليق إلا بالمستضعفين عند الخليفة، وفي الخبز: «ألا أُخبِركُم بأهل الجَنَّة؟ هو كل ضَعيفٍ مَتَضعّفَ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ في قَسمه». أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قل الله يفتيكم فيهن فيأمركم أن تأخذوا من العلوم الرسمية ما تتقنون به عبادة ربكم، وترغبوا في علم الطريقة، التي هي علم القلوب، ما تحققون به عبوديتكم، ومن نتائج الأفكار ما تُشاهدون به عظمة ربكم، ويأمركم أن تقوموا بالعدل في جميع شؤونكم، فتعطوا الشريعة حقها والطريقة حقها، وتحفظوا أسرار الحقيقة عن غير مستحقها، والله لا يضيع أجر المحسنين.

.تفسير الآية رقم (128):

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)}
قلت: {امرأة}: فاعل بفعل يفسره ما بعده، وأصل (يَصَّالِحَا): يتصالحا، فأدغمت، و{صُلحًا} مصدر. وقرأ الكوفيون: {يُصلحا}؛ من الرباعي، فتنصب {صُلحًا} على المفعول به، أو المصدر، و{بينهما} ظرف، أو حال منه، وجملة {الصلح خير}: معترضة، وكذا: {وأحضرت الأنفس الشح}، ولذلك اغتفر عدم تجانسهما.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن امرأة خافت} وتوقعت من زوجها {نُشُوزًا} أي: ترفعًا عن صحبتها، وتجافيًا عنها، كراهية لها، ومنعًا لحقوقها، {أو إعراضًا} عنها، بأن يترك مجالستها، ومحادثتها، {فلا جناح عليهما} أن يتصالحا {بينهما صلحًا} بإن تحط له مهرها، أو من قسمها مع ضرتها، أو تهب له شيئًا تستميله به.
نزلت في سعد بن الربيع، تزوج على امرأته شابةً، وآثرها عليها. وقيل: في رجل كبرت امرأته، وله معها أولاد. فأراد طلاقها ليتزوج، فقالت له: دعني على أولادي، وأقسم لي في كل شهرين أو أكثر، أو لا تقسم. فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك»، فنزلت. وقيل: نزلت في سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لما كبرت، أراد عليه الصلاة والسلام أن يُفارقها، فقالت: أمسكني في نسائك ولا تقسم لي، فقد وهبتُ نوبتي لعائشة، فإني أريد أن أُبعث في نسائك.
ثم رغَّب في الصلح فقال: {والصلح خير} من المفارقة، أو من سوء العشرة والخصومة، أو خير في نفسه، ولا يكون إلا مع ترك بعض حق النفس من أحد الخصمين، فلذلك ثقل على النفس فشحت به، وإليه أشار بقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي: جعلته حاضرًا لديها لا يفارقها، لأنها مطبوعة عليه، فالمرأة لا تكاد تسمح للزوج من حقها، ولا تسخو بشيء تعطيه لزوجها، والزوج لا يكاد يصبر على إمساكها وإحسان عشرتها إذا كَرِهها، {وإن تحسنوا} العشرة {وتتقوا} النشوز والإعراض ونقص حق المرأة مع كراهة الطبع لها، {فإن الله كان بما تعملون خبيرًا} لا يخفى عليه إحسانكم ولا نشوزكم، فيجازي كُلاًّ بعمله، وفي بعض الأثر: من صبرعلى أذى زوجته أعطاه الله ثواب أيوب عليه السلام، وكذلك المرأة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن النفس كالمرأة حين يتزوجها الرجل، فإنها أذا رأت من زوجها الجد في أموره والانقباض عنها، هابته وانقادت لأمره، وإذا رأت منه الليونة والسيولة استخفت بأمره وركبته، وسقطت هيبته من قبلها، فإذا أمرها ونهاها لم تحتفل بأمره، وكذلك النفس إذا رأت من المريد الجد في بدايته والصولة عليها، هابته وانقادت لأمره وكانت له سميعة مطيعة، وإذا رأت منه الرخو والسهولة معها، ركبته وصعب عليه انقيادها وجهادها، فإذا صال عليها وقهرها فأرادت الصلح معه على أن يسامحها في بعض الأمور، وتساعفه فيما يُريد منها، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحًا، والصلح خير، فإن دوام التشديد قد يفضي إلى الملل، وإن تحسنوا معها بعد معرفتها، وتتقوا الله في سياستها ورياضتها حتى ترد بكم إلى حضرة ربها، فإن الله كان بما تعملون خبيرًا.