فصل: تفسير الآية رقم (129):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (129):

{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولن تستطيعوا}، يا معشر الأزواج، {أن تعدلوا بين النساء} العدل الكامل التام في الأقوال والأفعال والنفقة والكسوة والمحبة، {ولو حرصتم} على ذلك لضعف حالكم، وقد خففت عنكم، وأسقطت الحرج عنكم، فلا يجب العدل في البيت فقط، وكان صلى الله عليه وسلم يَقسِمُ بين نِسَائِه فيعِدلُ ويقُولُ: «اللهمَّ هذه قسمتي فِيمَا أملِك، فلا تُؤاخِذني فيمَا لا أملِكُ»، يعني: ميل القلب، وكان عمر رضي الله عنه يقول: (اللهم قلبي فلا أملكُه، وأما سوى ذلك فإني أرجو أن أعدل)، وأما الوطء فلا يجب العدل فيه، إلا أن تتحرك شهوته، فيكف لتتوفر لذته للأخرى.
{فلا تميلوا} إلى المرغوب فيها لجمالها أو شبابها، {كُلَّ الميل} بالنفقة والكسوة والإقبال عليها، وتَدَعُوا الأخرى {كالمعلقة} التي ليست ذات بعل ولا مطلقة، كأنها محبوسة مسجونة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أمَرأتانِ يَميلُ معَ إحدَاهما، جَاء يومَ القِيَامَةِ، وأحَدُ شِقّيه مَائِلٌ»، {وإن تصلحوا} ما كنتم تفسدون في أمورهن بالعدل بينهن، {وتتقوا} الجور فيما يستقبل، {فإن الله كان غفورًا رحيمًا}، يغفر لكم ما مضى من ميلكم.
الإشارة: من شأن العبودية: الضعف والعجز، فلا يستطيع العبد أن يقوم بالأمور التي كلف بها على العدل والتمام، ولو حرص كل الحرص، وجدَّ كل الجد، فلا يليق به إلا التحقق بوصفه والرجوع إلى ربه، فيأتي بما يستطيع ولا يحرص على ما لا يستطيع، فلا يميل إلى الدعة والكسل كل الميل، ولا يحرص على ما لا طاقة له به كل الحرص، فإن التعقيد ليس من شأن أهل التوحيد، بل من شأنهم مساعفة الأقدار، والسكون تحت أحكام الواحد القهار، فلا تميلوا إلى التعمق والتشديد كل الميل، فتتركوا أنفسكم كالمُعلَّقة، أي: المسجونة، وهذا من شأن أهل الحجاب، يُحبسون في المقامات والأحوال تشغلهم حلاوة ذلك عن الله تعالى. فإذا فقدوا ذلك الحال أو المقام سلبوا وأفلسوا. وأهل الغنى بالله لا يقفون مع حال ولا مقام، هم مع مولاهم، وكل ما يبرز من عنصر القدرة قبلوه، وتلونوا بلونه، وهذا مقام التلوين بعد التمكين.
وفي إشارة أخرى: اعلم أن القدرة والحكمة كالزوجين للقلب، يقيم عند هذه مدة، وعند هذه أخرى، فإذا أقام عند الحكمة كان في مقام العبودية من جهل وغفلة وضعف وذلة، وإذا أقام عند القدرة كان في مقام شهود الربوبية فيكون في علم ويقظة وقوة وعزة. ولا قدرة له على العدل بينهما، فلا يميل إلى إحداهما كل الميل بل يسير بينهما، ويعطي كل ذي حق حقه، بأن يعرف فضلهما، ويسير بكل واحد منهما. وإن تصلحوا قلوبكم وتتقوا ما يشغلكم عن ربكم، فإن الله كان غفورًا رحيمًا؛ يغفر لكم ميلكم إلى إحدى الجهتين والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (130- 133):

{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}
{وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن يتفرقا} أي: يفارق كل واحد منهما صاحبه، {يُغن الله} كل واحد منهما عن صاحبه، ببدل أو سُلُو يقوم بأمره من رزق أو غيره، من سعة غناه وكمال قدرته، {وكان الله واسعًا} قدرته {حكيمًا} أي: متقنًا في أحكامه وأفعاله. ثم بيَّن معنى سعته فقال: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} أي: كل ما استقر فيهما فهو تحت حكمه ومشيئته، قائمًا بحفظه وتدبيره، يعطي كل واحد ما يقوم بأمره ويغنيه عن غيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الروح ما دامت مسجونة تحت قهر البشرية، محجوبةً عن شهود معاني الربوبية، كانت فقيرة جائعة متعطشة، تتعشق إلى الأكوان وتفتقر إليها، وتقف معها، فإذا فارقت البشرية وانطلقت من سجن هيكلها، وخرجت فكرتها من سجن الأكون، أغناها الله بشهود ذاته، وأفضت إلى سعة فضاء الشهود والعيان، وملكت جميع الأكوان، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك، وكذلك البشرية يغنيها الله عن تعب الخدمة وتستريح في ظل المعرفة، فلما تفرقا أغنى الله كلاًّ من سعة فضله وجوده، لأنه واسع العطاء والجود، حكيم في تدبير إمداد كل موجود.
وفي قوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} إشارة إلى أن من كان بالله، ووصل إلى شهود ذاته، ملَّكه الله ما في السماوات وما في الأرض، فيكون خليفة الله في ملكه {وَمَا ذّلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20].
ولمّا جرى الكلام على شأن النساء، وهن حبائل الشيطان، تشغل فتنتهن عن ذكر الرحمن، حذَّر الحق تعالى من فتنتهن، كما هو عادته تعالى في كتابه عند ذكرهن، وأمر بالتقوى التي هي حصن من كل فتنة، فقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً}
قلت: {من قبلكم}: يتعلق بأوتوا أو بوصينا، و{إياكم}: عطف على الذين، و{أن اتقوا}: على حذف الجار، أي: بأن اتقوا، أو مفسرة؛ لأن التوصية في معنى القول، و{إن تكفروا} على حذف القول، أي: وقلنا لهم ولكم: {وإن تكفروا...} إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد وصينا} الأمم المتقدمة الذين أنزلنا عليهم {الكتاب من قبلكم} كأهل التوراة والإنجيل والزبور، وغيرهم من الأمم، ووصيناكم أنتم {أن اتقوا الله} بإن تمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيَه، ظاهرًا وباطنًا، وقلنا لهم ولكم: {وإن تكفروا} فإن الله غني عن كفركم وشكركم؛ فقد استقر له {ما في السماوات وما في الأرض} ملكًا وعبيدًا، فله فيهما من الملائكة من هو أطوع منكم، فلا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم، وإنما أوصاكم رحمًة بكم، لا لحاجة إليكم، ثم قرر ذلك بقوله: {وكان الله غنيًا حميدًا} أي: غنيًا عن الخلق وعبادتهم، محمودًا في ذاته، حُمِد أو لم يُحمد.
{ولله ما في السماوات وما في الإرض} كرره ثالثًا؛ للدلالة على كونه غنيًا حميدًا، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود، وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدًا. قاله البيضاوي. {وكفى بالله وكيلاً} أي: حافظًا ومجيرًا لمن تعلق به من أهل السماوات والأرض. {إن يشأ يذهبكم أيها الناس} إن لم تتقوه، ويأت بقوم آخرين، هم أطوع منكم وأتقى، {وكان الله على ذلك قديرًا} أي: بليغ القدرة لا يعجزه مُراد.
قال البيضاوي: وهذا أي قوله: {إن يشأ يذهبكم...} أيضًا تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر وخالف أمره، وقيل: هو خطاب لمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب، وهو معنى قوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] لما رُوِي: أنَّهَا لمَا نزلَت ضَربَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على ظهر سَلمَان وقال: «إنّهم قَومُ هذا».
الإشارة: التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق، عليها سلك السائرون، وبها وصل الواصلون، وقد وصَّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين. ولها خَمسُ درجاتٍ: أن يتقي العبد الكفر؛ وذلك بمقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والمحرمات؛ وهو: مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات؛ وهو مقام الورع، وأن يتق المباحات، وهو مقام الزهد، وأن يتقي شهود السَّوى والحس؛ وهو مقام المشاهدة.
ولها فضائل مستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهداية؛ لقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، والنصرة؛ لقوله: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ} [النّحل: 128]، والولاية؛ لقوله: {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجَاثيَة: 19] والمحبة؛ لقوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} [التّوبَة: 4]، وتنوير القلب؛ لقوله: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وتيسير الأمور؛ لقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] وغفران الذنوب وإعظام الأجر؛ لقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطّلاَق: 5]، وتقبل الأعمال؛ لقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المَائدة: 27] والفلاح؛ لقوله: {وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البَقَرَة: 189] والبشرى؛ لقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفي الأَخِرَةِ} [يُونس: 64]، ودخول الجنة؛ لقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ الْنَّعِيِم} [القَلَم: 34] والنجاة من النار؛ لقوله: {ثُمَّ نُنَجّي الَّذِينَ اتَّقَواْ} [مريم: 72]. اهـ. من ابن جزي.
ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي الله عنه:
عليكَ بتقوى الله في السرِّ والجهرِ ** ذا شئتَ توفيقَا إلى سُبُلِ الخيرِ

لأن التُّقى أصلٌ إلى البِرَّ كلَّه ** فخُذه تَفُز بكلِّ نوعٍ من البرّ

وخيرُ جميعِ الزاد ما قال ربُّنا فَكُن ** يا أخي للهِ مُمتَثِل الأمر

.تفسير الآية رقم (134):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
قلت: {من}: شرطية، وجوابها محذوف؛ دل عليه الكلام، أي: من كان يريد ثواب الدنيا فيلطلبه منه، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، أو من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة، عند الله ثواب الدنيا والآخرة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {من كان يريد ثواب الدينا} والتوسع فيها، فليطلبه منا؛ فعند الله ثواب الدارين، أو من كان يريد ثواب الدنيا، فليطلب مع ذلك ثوابَ الآخرة أيضًا، وليقل: {رَبَّنَا ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفي الأَخِرَةِ حَسَنَةً} [البَقَرَة: 201]؛ {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة}، فيعطيهما معًا لمن طلبهما، والثاني أنهض من الأول، وأكملُ منهما من أعرض عنهما وطلب مولاه، {وكان الله سميعًا بصيرًا}، لا يخفى عليه مقاصد خلقه، فيعطي كُلاًّ على حسب قصده.
الإشارة: المهم ثلاثة: همة دنية تعلقت بالدنيا الدنية، وهمة متوسطة تعلقت بنعيم الآخرة، وهمة عاليه تعلقت بالكبير المتعال. والله تعالى يرزق العبد على قدر همته، وبالهمم ترفع المقادير أو تسقط، فمن كانت همته دنية كان دَنيًا خسيسًا، ومن كانت همته متوسطة؛ كان قدره متوسطًا، رحل من كون إلى كون، كحمار الرحا، يسير، والذي ارتحل منه هو الذي عاد إليه، ومن كانت همته عالية كان عالي المقدار، كبير الشأن حاز الكونين بما فيهما، وزاد مشاهدة خالقهما، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآية رقم (135):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
قلت: {شهداء}: خبر ثاني لكان، أو حال، {فالله أولى}: علة للجواب؛ أي: إن يكن المشهود عليه غنيًا عليه فلا تمتنعوا من الشهادة عليه تعظيمًا له، وإن يكن فقيرًا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه إشفاقًا عليه، فإن الله أولى بالغني والفقير منكم، والضمير في {بهما} راجع إلى ما دل عليه المذكور، وهو جنسًا الغني والفقير، لا إليه وإلا لوحّد؛ لأن {أو} لأحد الشيئين. و{أن تعدلوا}: مفعول من أجله، ومن قرأ: تلوا بضم اللام فقد نقل ضم الواو إلى اللام وحذف الواوين، وقيل: من الولاية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} أي: مجتهدين في إقامة العدل مواظبين على الحكم به، وكونوا {شهداء لله بالحق} تقيمون شهادتكم لوجه الله، وابتغاء مرضاته، بلا طمع أجر ولا عرض، وهذا إن تعينت عليه، ولم يكن في تحملها مشقة، وإلا أُبيح له أجر تعبه، فأدوا شهاداتكم {ولو} كانت {على أنفسكم} بأن تقروا بالحق الذي عليها، لأن الشهادة بيان الحق، سواء كان عليها أو على غيرها، {أو} كانت الشهادة على {الوالدين والأقربين}، فلا تمنعكم الشفقة والتعظيم من إقامة الشهادة عليهما، وأحرى غيرهما من الأجانب، {إن يكن} المشهود عليه {غنيًا أو فقيرًا} فلا تميلوا عن الشهادة بالحق عليهما، تعظيمًا للغني أو شفقة للفقير، فأن {الله أولى بهما} وبالنظر لهما، فلو لم تكن الشهادة عليهما صلاحًا لهما ما شرعها، {فلا تتبعوا الهوى} فتميلوا مع الغني أو الفقير، فقد نهيتكم إرادة {أن تعدلوا} في أحكامكم، فتكونوا عدولاً، أو كراهية أو تعدلوا عن الحق أي: تميلوا، {وإن تلووا} ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل {أو تعرضوا} عن أدائها فتكتموها {فإن الله كان بما تعملون خبيرًا}، فيجازي الكاتم والمؤدي.
قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها: «مَن كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُقِم شهادتَه على من كانت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَجحَد حَقًا هو عليه، وليؤُده عَفوّا، ولا يلجئه إلى السُلطان وخصوُمتِه، ليقتطع بها حقه، وأيما رجل خَاصَمَ إليَّ فقضَيتُ له على أخِيِه بحقٍ ليس له عليه، فلا يأخُذُه، فإنَما أقَطَعُ له قطعةً مِنَ النَارِ».
الإشارة: قد أمر الحق تعالى عباده بإقامة العدل في الأمور كلها، ونهى عن مراقبة الخلق في الأشياء كلها، فيتأكد على المريد ألاَّ يراقب أحدًا من الخلق؛ وإنما يراقب الملك الحق، فيكون قويًا في الحق، يقيمه على نفسه وغيره، فلا تجتمع مراقة الحق مع مراقبة الخلق، من راقب الحق غاب عن الناس، ومن راقب الناس غاب عن الحق، وعاش مغمومًا من الخلق، ولله در القائل حيث قال:
مّن رَاقّبَ الناسَ ماتَ غمًّا ** وفازَ باللذات الجَسُور

وكان شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول (مراقبةُ الخلقِ عند أهل الظاهر شيءٌ كبير، وعدم المراقبة عند الباطن أمر كبير). فإقامة العدل على النفس؛ ألاَّ يتركها تميل إلى الرخص والتأويلات، وإقامته على الوالدين تذكيرهما بالله ودلالتهما على الله بلطف ولين، وإقامته على الأقربين بنصحهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم، كانوا أغنياء أو فقراء، وإقامته على الأجانب كذلك. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: مخاطبًا من أسلم من اليهود وهو عبدالله بن سَلاَم وأسَد وأسيد ابنا كَعبٍ، وثَعلبة بن قَيسٍ، وسلاَّم ابن أخت عبدالله بن سلام، وسلمة ابن أخية ويامين قالوا يا رسول الله، نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعُزَّير، ونكفُرُ بما سِوَاهُ من الكُتب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آمِنُوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه القرآن، وبكل كتاب قبله» فَنزلت الآية.
فقال لهم جلّ جلاله: {يأ أيها الذين آمنوا} بمحمد، بعد أن آمنوا بموسى؛ {آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله} القرآن {والكتاب الذي أنزل من قبل} أي: جنس الكتاب، فتدخل الكتب المتقدمة كلها، {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} أي: ومن يكفر بشيء من ذلك {فقد ضل ضلالاً بعيدًا} أي: أخطا خطًأ بعيدًا لا يكاد يعود إلى الطريق، فلما نزلت قالوا: يا رسول الله؛ إن نؤمن بالجميع، ولا نفرق بين أحد منهم، كما فرقت اليهود والنصارى.
وقيل: الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم آمِنُوا بقلوبكم، كما آمنتم بألسنتكم، وقيل: للمؤمنين، أي: دوموا على إيمانكم، وأثبتوا عليه.
الإشارة: أمر الحقّ جلّ جلاله، أهل الإيمان أن يجددوا إيمانهم، فيثبتوا على ما هو حاصل، ويسترشدوا إلى ما ليس بحاصل، فإن أنوار الإيمان تتزايد وتترادف على القلوب بحسب التصفية والنظر، وبقدر الطاعة والتقرب، فلا يزال العبد يتقرب إلى الله، وأنوار التوجه تتوارد عليه، حتى تشرق عليه أنوار المواجهة؛ وهي أنوار الشهود، فشروق الأنوار على قدر صفاء الأسرار، وورود الإمداد على حسب الاستعداد، فبقدر التفرغ من الأغيار ترد على القلوب المواهب والأسرار، وهذا كله لمن صحب العارفين وأخذ عنهم، وملّك زمام نفسه لهم، وإلا فحَسبُه الإيمان بالغيب، ولو عمل ما عمل، وبالله التوفيق.