فصل: تفسير الآية رقم (170):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (170):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}
قلت: {فآمنوا خيرًا لكم}، و{انتهوا خيرًا لكم}: قال سيبويه: هو منصوب بفعل مضمر، تقديره: وائتوا خيرًا لكم، وقال الخليل: منصوب بآمنوا وبانتهوا على المعنى. أي: اقصدوا. وقال الفراء صفة لمصدر، أي: آمنوا إيمانًا خيرًا لكم. وقال بعض الكوفيين: هو خبر كان المحذوفة، وتقديره: ليكن الإيمان خيرًا لكم.
قلت: وهو أظهر من جهة المعنى، وإن منعه البصريون، قالوا: لأنَّ {كان} لا تحذف مع اسمها إلا في مواضع مخصوصة، قال ابن مالك:
ويَحذِفُونَها ويُبقُون الخبَر ** وبَعدَ إن ولو كثِيرًا ذا اشتَهر

ولعل هذا الموضع أتى على غير المشهور تنبيهًا على الجواز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {فأمنوا به} يكن {خيرًا لكم} مما أنتم فيه من الضلال، {وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض} وما تركبتا منه، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فهو غني عنكم، لا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بإيمانكم، {وكان الله عليمًا} بأحوالكم، {حكيمًا} فيما دبر لكم.
الإشارة: الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو إتقان مقام الإسلام، وتصحيح مقام الإيمان، الذي من أركانه: الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وتحقيق مقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان، لا يكمل هذا إلا بصحبة أهل العرفان، الذين صححوا مقام الفناء، وخرجوا إلى البقاء خاضوا بحار التوحيد، وانفردوا بأسرار التفريد، ورسخ فيه مقام الرضى والتسليم، فتلقوا المقادير كلها بقلب سليم، فمن لم يصحبهم ويتأدب بآدابهم بقي إيمانه ناقصًا، وحقه العذاب، فكأن الحق تعالى يقول على لسان الإشارة: قد جاءكم وليي، وهو خليفة رسولي، فآمنوا بخصوصيته، وأذعنوا لأمره وتربيته، يكن خيرًا لكم مما أنتم فيه من المساوي والأمراض، لئلا تلقوني بقلب سقيم، وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (171):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}
قلت: أصل الغلو: مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غلا بالجارية لحمها وعظمها، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها؛ أي: أقرانها، تغلو غلوًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في عتاب النصارى بدليل ما بعده: {يا أهل الكتاب} الإنجيل {لا تغلوا في دينكم} فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله، أو ابن الله، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا، {ولا تقولوا على الله إلا الحق}، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد.
ثم بيَّن الحق فيه فقال: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله}، لا كما قالت اليهود: ليس برسول، ولا كما قالت النصارى: إنه الله، أو ابن الله، وإنما هو عبد الله ورسوله، {وكلمته ألقاها إلى مريم} أي: أوصلها إليها وحصلها فيها، وهي كلمة: كن. فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها، {وروح منه} وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ، وسمي النفخ روحًا؛ لأنه ريح يخرج عن الروح، فكانت روحه صادرة من روح القدس، كما قال في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحِجر: 29]، وقد قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ} [آل عِمرَان: 59]، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق؛ لأن الواسطة محذوفة عند المحققين، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السلام.
{فأمنوا بالله ورسوله} أي: وحدوا الله في إلوهيته، {ولا تقولوا ثلاثة} أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، {انتهوا} عن التثليث يكن {خيرًا لكم إنما الله إله واحد} في ذاته وصفاته وأفعاله، {سبحانه} أي: تنزيهًا له أن يكون له ولد، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء، {له ما في السماوات وما في الأرض}، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، والعبودية تنافي البُنوة، {وكفى بالله وكيلاً} فلا يحتاج إلى ولد؛ لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه.
واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، ومرقوسية، ومنهم نصارى نجران، فالنسطورية، قالوا في عيسى هو ابن الله، واليعقوبية والملكانية، قالوا هو الله، والمرقوسية قالوا: هو ثالث ثلاثة، وكلهم ضالون.
الإشارة: الغلو كله مذموم، وخير الأمور أوساطها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا تُطرُونِي كما أطرَت النَّصَارَى عيسى ابنَ مَريم، ولكن قولوا: عَبدُ اللهِ وَرَسُوله»، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه، ما لم يخرجه عن طوره، أو ينتقص غيره بمدحه، وفي الإشارة حيث على حفظ مقام التوحيد، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد. وفي ذلك يقول الشاعر:
أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ ** قلتُ لَهُ لَيسَ ذَاكَ عِندِي

فَقَالَ ما عِندَكُم فقُلنَا ** وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد

فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية، ولذلك أنكرها الشاعر، أي: أثبت ربًا وعبدًا، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحِكَم: (الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته).
ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تعيب صاحبنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ومن صاحبكم؟» قالوا: عيسى. قال «وأي شيء أقول؟» قالوا: تقول إنه عبد الله. قال لهم عليه الصلاة والسلام: «ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدًا».

.تفسير الآيات (172- 173):

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}
قلت: أصل الاستنكاف: التنحية، من قولهم: نكفت الدمع؛ إذا نحيته بإصبعك كي لا يُرى أثره عليك، ثم أُطلق على الأنفة، والاستكبار دون الاستنكاف، ولذا عطف عليه؛ لأن الاستنكاف، لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في الرد على النصارى: {لن يستنكف} أي: لن يأنف {المسيح أن يكون عبدًا لله}؛ فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها، وإنما المذلة والاستنكاف في عبوديته لغيره، {ولا الملائكة المقربون} لا يستنكفون أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله، واحتج بالآية مَن فَضَّل الملائكة على الأنبياء، لأن المعطوف يقتضي أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح.
والجواب: أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة، كقولهم: أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، والرئيس أفضل من المرؤوس، والتحقيق في المسألة؛ أن الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين، وخواص الملائكة؛ وهم المقربون أفضل من خواص البشر كالأولياء، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر، ولذلك قيل: من غلب عقله على هواه كان كالملائكة أو أفضل، ومن غلب هواه على عقله، كان كالبهائم أو أضل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته تعالى فقال: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا} فيجازيهم؛ {فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات} ولم يستنكفوا عن عبادته {فيوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {وأما الذين استنكفوا} عن عبوديته {واستكبروا} عن عبادته {فيعذبهم عذابًا أليمًا} أي: مُوجعًا، وهو النار وقال القشيري: العذاب الأليم: هو ألا يصلوا إليه أبدًا بعد ما عرفوا جلاله، إذ صارت معرفتهم ضرورية أي قهرية فحسراتهم حينئٍذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم. اهـ. {ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا}.
فإن قلت: هذا التفصيل أعم من المفصل، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم، فالجواب: أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام، فكأنه قال: فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا، {فأما الذين آمنوا...} إلخ، نظيره: قولك: جمع الأمير كافة مملكته، فأما العلماء فأكرمهم، وأما الطغاة فقطعهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات، بها شرف من شرف، وارتفع من ارتفع، عند الله، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسرًاء: 1]، وقال: {وَاذْكُرْ عَبدَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [صَ: 45]، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [صَ: 17]، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيْوُّبَ} [صَ: 41]، {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [صَ: 30]... إلى غير ذلك.
وأوصاف العبودية أربعة: الذل، والفقر، والضعف، والجهل. ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة: العز، والغنى والقوة والعلم، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم، تحقق بوصفك يمدك بوصفه، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس.

.تفسير الآيات (174- 175):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وما اقترن به من المعجزات الواضحات، {وأنزلنا إليكم} على لسانه {نورًا مبينًا} وهو القرآن: أو جاءكم برهان من ربكم: المعجزات الطاهرة، {وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا}: القرآن العظيم، أي: جاءكم دليل العقل وشواهد النقل، فلم يبق لكم عذر ولا علة.
{فأما الذين آمنوا بالله} أي: وحدوه في ربوبيته، {واعتصموا} أي: تمسكوا بدينه أو بكتابه، {فيسدخلهم في رحمة منه} وهي الجنة، {وفضلٍ}: النظر لوجهه الكريم، قال البيضاوي: {في رحمة} أي: ثواب قدّره بإزاءِ وإيمانه وعمله، رحمة منه، لا قضاء لحق واجب، وفضل إحسان زائد عليهما. اهـ. وقال القشيري: سيحفظ عليهم إيمانهم في المآل عند التوفي، كما أكرمهم به وبالعرفان في الحال. اهـ. {ويهديهم إليه} أي: إلى الوصول إليه، {صراطًا مستقيمًا} أي: يُبيّن لهما الوصول إليه، وهو طريق السير الذي لا عوج فيه؛ العلم والعمل والحال، وقال البيضاوي: هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة. اهـ.
الإشارة: قد جاءكم من يعرفكم بالله، ويدلكم على الله، وهم أولياء الله، ببرهان واضح لا يخفى إلا على من كان خفاشيًا، وأنزلنا إليكم من سر قُدسنا، وبحر جبروتنا نورًا مبينًا، تُشاهدون فيه أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو ما ظهر من التجليات من القبضة الأولية المحمدية، {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} في حال سيرهم إليه {فسيدخلهم في رحمة منه} وهي حضرة القدس، {وفضل} وهو الترقي في أسرار المعارف إلى ما لا نهاية له، ويهديهم إلى الوصول إليه، وهو شهوده في ذلك النور، طريقًا توصل إليه في أقرب زمان. ولعل الآية فيها تقديم وتأخير، أي: فسيهديهم إليه طريقًا مستقيمًا يسيرون فيه، حتى يصلوا إليه، ثم يدخلهم في رحمة حضرته، وفضل زيادة معرفته. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (176):

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
قلت: {في الكلالة}، يتعلق بيفتيكم، ويستفتونك، فيكون من باب التنازع، وأعمل الثاني على اختيار البصريين، وعمل الأول في الضمير المجرور حذف، أي: يستفتونك فيها، أو عمل الأول وحذف ضمير الثاني، أو يكون يستفتونك مقطوعًا فيوقف عليه، أو حُذف متعلقة لدلالة الجواب عليه، أي: يستفتونك في الكلالة، وهو أظهر، وتقدم تفسير الكلالة، {إن امرؤ هلك}: ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، من باب الاشتغال في المرفوع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يستفتونك} في الكلالة، والمستفتِي هو جابر بن عبد الله، كان مريضًا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني كلالة، فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت، وهي آخر ما نزل من الأحكام. {قل الله يفتيكم في الكلالة}، ثم بيَّن الفتوى فيها فقال: {إن امرؤ هلك ليس له ولد} ولا والد، بل انقطع نسبه من الجهتين، {وله أخت} شقيقة أو لأب {فلها نصف ما ترك} والباقي للعصبة، ولا ميراث لها مع الأب أو الابن، {وهو يرثها} إن ماتت ولم يكن لها ولد ولا والد.
فإن استقل فله المال، وإن كان معه ذو سهم أخذ الباقي، {فإن كانتا اثنتين} فأكثر شقائق {فلهما الثلثان مما ترك}، وإن كانت شقيقة مع الأب أخذت الشقيقة النصف، والتي لأب السدس تكملة الثلثين، وإن كانت لأب مع الشقيقتين فلا شيء لها، {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً} شقائق، مات أخوهم، {فللذكر مثل حظ الأنثيين}، ولا شيء للأخوة لأب من الشقائق. {يُبين الله لكم} الحق، كراهية {أن تضلوا والله بكل شيء عليم}؛ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات. اللهم أحينا حياة طيبة وأمتنا موتة حسنة، في عافية وستر جميل، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
الإشارة: الكلالة من الأولياء، هو الذي مات ولم يخلف ولدًا يرث حاله، فإن لم تكن له تلاميذ، فإن كان له أخ يقارب حاله، ورثه وقد يرث سره أخته في النسبة، لكن لا تستوجب ذلك كله؛ لحكمة الله تعالى. يشير إليه قوله تعالى: {فلها نصف ما ترك}، وإن ترك إخوة في الشيخ اقتسموا سره كله، كلٌ على قدر صِدقه، والنساء الصادقات شقائق الرجال في نيل أسرار الولاية. وقد تقدم أول السورة أن مدد الشيخ كنهر أو كبحر يصب في القواديس، فإذا انسدت قادوس انتقل ماؤها إلى الأُخرى. والله تعالى أعلم.

.سورة المائدة: