فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود}
أي: بالعهود التي عَهِدْتُ إليكم أن تحفظوها، وهي حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأديان، وحفظ الأبدان، وحفظ اللسان، وحفظ الأيمان، ثم مرَّ معها على الترتيب، فما ذكره هناك مُستوفَى، لم يُعِدْ منه هنا إلا أصله، وما بقي هناك في أصل من الأصول الستّة كمّلهُ هنا، ولمّا ذكر فيما تقدّم في أول السورة حُكْم الأموال باعتبار المِلك، ولم يتكلم على ما يحلّ منها وما يحرم، تكلم هنا على ذلك، فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}
قلت: إضافة {بهيمة الأنعام}: للبيان، كثوب خزّ، إي: البهيمة من الإنعام، و{غير مُحِلِّي الصيد}: حال، قال الأخفش: من فاعل {أوفوا}، وفيه معنى النّهي، وقال الكسائي: من ضمير {لكم}؛ كما تقول: أُحِلّ لكم الطعام غير مُفسِدين فيه، فإن قُلتَ: الحال قيد لعامِلها، والحِلِّيَّة غير خاصّة بوقت حُرمَة الصيد؟ قلت: لمّا كانت الحاجة إليها في ذلك الوقت أكثر، خصّ الحِلِّيَّة به ليكون أدعى للشكر، ويؤخَذ عموم الحِلِّيَّة من سورة الحج.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام} أي: الأنعام كلها، وهي الإبل والبقر والغنم، {إلا ما يُتلَى عليكم} بعدُ في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...} [المَائدة: 3] الآية، حال كونكم {غير مُحِلِّي الصيد} في حال الإحرام، ومعنى الآية في الجملة: أُحِلَّت الأنعام كلها إلا ما يُتلى عليكم من الميتة وأخواتها، لكن الصيد في حال الإحرام حرام عليكم، {إن الله يحكم ما يريد} من تحليل أو تحريم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربَكم، من مجاهدة ومُكابَدة، فمَن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال، ولعبت بصاحبها كيف شاءت، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكمْ بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى، من القيام بوظائف العبودية، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية، فإن أوفيتم بذلك، فقد أُحِلَّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهِمّتكم؛ لأنكم إذا كنتم مع المُكَوِّن كانت الأكوان معكم. إلا ما يُتلَى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار، «فإن سوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار»، غير مُتَعَرِّضين لشهود السّوى وأنتم في حرم حضرة المولى، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (2):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}
قلت: الشعائر: جمع شَعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: جعل علامة على مناسك الحج ومواقفة و{لا يجرمنّكم} أي: يحملنّكم، أو يكسبنّكم، يُقال: جرم فلان فلانًا هذا الأمر، إذا أكسبه إيّاه وحمله عليه. والشنآن: هو البغض والحقد، يقال: بفتح النون وإسكانها، و{أن صدّوكم} مفعول من أجله، و{أن تعتدوا} مفعول ثانٍ ليحرمنّكم. ومَن قرأ: {إن صدّوكم}، بالكسر فشرط، أغنى عن جوابه: {لا يجرمنّكم}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلّوا شعائر الله} أي: لا تستحلّوا شيئًا من ترك المناسك، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمرهم الله ألاّ يتركوا شيئًا من المناسك، أي: لا تحلّوا ترك شعائر الله {ولا} تحلّوا {الشهر الحرام} بالقتال أو السَّبْي، وهذا قبل النسخ، {ولا} تحلّوا {الهَدْيَ}، أي: ما أُهْدِيَ إلى الكعبة، فلا تتعرّضوا له ولو من كافر، {ولا} تحلّوا {القلائد} أي: ذوات القلائد، وهي الهَدْي المقلّدة، وعطفها على الهَدْي للاختصاص؛ فإنها أشرف الهَدْي، أي لا تتعرضوا للهَدْي مطلقًا. والقلائد جمع قِلادة، وهي: ما قُلِّدَ به الهَدْي من نَعْل أو لِحاء الشجر، أو غيرهما، ليُعلَم به أنه هَدْي فلا يُتَعَرَّض له، {ولا} تحلّوا {آمِّين} أي: قاصِدين البيت الحرام، أي: قاصدين لزيارته، {يبتغون فضلاً من ربّهم ورضوانًا} أي: يطلبون رزقًا بالتجارة التي قصدوها، ورضوانًا بزعمهم، لأنهم كانوا كُفّارًا.
وذلك، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة، وذلك أنه أتى المدينة، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ، ودخل وحْدَه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعُو النَّاس إليه؟ فقال له: «إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة» فقال: حَسَنٌ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ، ولَعَلَّي أُسْلِم، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ، فما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قلّد الهَدْيَ»، فقالوا يا رسول الله: هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية أي تقيه، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: كان المشركون يحجّون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم، فنهاهم الله تعالى بالآية.
{وإذا حللتم} من الحج والعمرة {فاصطادوا}، أمْر إباحة؛ لأنه وقع بعد الحَظْر، {ولا يجرمنّكم} أي: لا يحملنّكم، أو لا يكسبنّكم {شنآن قوم} أي: شدّة بغضكم لهم لأجل {أن صدّوكم عن المسجد الحرام} عام الحديبية {أن تعتدوا} بالانتقام منهم؛ بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم.
قال ابن جزيّ: نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأردوا أن يستأصلوهم بالقتل؛ لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم؛ لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون. اهـ. ثم نسخ ذلك بقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبَة: 5].
ثم قال تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتقوى} كالعفو، والإغضاء، ومتابعة الأمر، ومُجانَبة الهوى. وقال ابن جزيّ: وصية عامّة، والفرق بين البرّ والتقوى؛ أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى. اهـ. {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} كالتشفّي والانتقام. قال ابن جُزَيّ: الإثم: كل ذنب بين الله وعبده، والعدوان: على الناس. اهـ. {واتقوا الله إن الله شديد العقاب}؛ فانتقامه أشد.
الإشارة: قد أمر الحق جلّ جلاله بتعظيم عباده، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا، «فالخلق كلّهم عِيال الله، وأحبّ الخلقِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله»، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسَع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوّه بصلاح حاله؛ حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصّديقيَة العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البرّ والتقوى الذي أمر الله تعالى بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الإثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن العوامّ، الذين هم في طرف مقام الإسلام. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (3):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {حُرِّمَت عليكم الميتة} أي: ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه، {والدم} المسفوح، أي: المهروق، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء، ويشوونها، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية، {ولحم الخنزير}، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة، بخلاف الشعر المجزوّ، {وما أُهَلَّ لغير الله به} أي: رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله، كقولهم: باسم اللاّت والعزّى، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا، عند مالك {والمنخنقة} بحبل وشبهه حتى ماتت، {والموقوذة} أي: المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه، من: وقذته وقذًا: ضربته، {والمتردية} أي: الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت، {والنطيحة} التي نطحتها أخرى فماتت، فإن لم تمت؛ فإن كان في المصران الأعلى فكذلك، لا في الأسفل أو الكرش.
{وما أكل السّبع} أي: أكل بعضه وأنفذ مقتله، والسبّع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر {إلاّ ما ذكّيتم} أي: إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جُزَيّ: قيل: إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها: ما مات من ذلك بالخنق وما بعده، أي: حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال، وهذا ضعيف، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى: إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء، فهو حلال، واختلف أهل هذا القول؛ هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا رحمه الله، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق. اهـ.
{و} حُرِّمَ عليكم أيضًا: {ما ذُبِحَ على النُّصُب}، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة، وليست بالأصنام؛ لأن الأصنام مُصَوّرة، والنُّصُب غير مُصَوَّرة، وقيل: {على} بمعنى اللام، أي: وما ذُبِحَ للنُّصُب، والمراد كلّ ما ذُبحَ لغير الله.
{وأن تستقسموا بالأزلام} أي: تطلبوا ما قسم لكم في الأزل من المقادير بالأزلام، جمع زلم بضم الزاي وفتحها وهي الأقداح على قدر السهام. وكانت في الجاهلية ثلاثة، قد كُتب على أحدها: افعل، على الآخر: لا تعفل، وعلى الثالث: مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه افعل؛ فعل ما أراد، وإن خرج الذي فيه لا تفعل، تركه.
وإن خرج المهمل أعاد الضرب، ويقاس عليه كل ما يدخل في علم الغيب، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة، وشبهها.
{ذلكم فسق}، الإشارة إلى المحرمات المذكورة، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما كان فسقًا؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، وفيه تجسس على سر الملك، وهو حرام، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة، في أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة في القسمة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقترع بين نسائه، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب، دون الاطلاع على علم الغيوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات، وما تموت به قلوبكم من الانهماك في الغفلات، وتناول ما أعطِيكم لغير وجه الله، وقبضتموه من غير يد الله، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة، وغفلتم عن المعطي حقيقة، فمقتضى شريعة الخواص: إخراجه عن الملك، وحرمان النفس من الانتفاع به، كما وقع لبعض الأولياء، ولا تتناولوا من الطعام إلا ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة، ونزلتم إليه بالإذن، دون قصد الشهوة والمتعة، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية. والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه. آمين.
ولمَا حرم الله تعالى هذه الاشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم في دينهم، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها، فقال: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً...} يقول الحقّ جلَ جلاله: {اليوم} الذي أنتم فيه، وهو يوم الجمعة، ويوم عرفة في حجة الوداع، {يئس الذين كفروا من دينكم} أن يبطلوه، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم في أمورهم كلها، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، قيل: إنه وقف معه صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الأزمنة الآتية، {فلا تخشوهم} أن يظهروا عليكم، {واخشون} وحدي؛ فأمرهم بيدي.
{اليوم أكملتُ لكم دينكم} بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد، {وأتممتُ عليكم نعمتي} بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، وبالفتح والتمكين، بهدم منار الكفر، ومحو علل الملحدين، {ورضيتُ لكم الإسلام دينًا} أي: اخترته لكم من بين الأديان، الذي لا نرتضي غيره، ولا نقبل سواه.
الإشارة: إذا حصل المريد على أسرار التوحيد، وخاض بحار التفريد، وذاق حلاوة أسرار المعاني، وغاب عن شهود حس الأواني، وحصل له الرسوخ والتمكين في ذلك، أيِسَ منه الشيطان وسائر القواطع، فلا يخشى أحدًا إلا الله، ولا يركن إلى شيء سواه، وأمِنَ من الرجوع في الغالب، إلا لأمر غالب،
{وَاللهً غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يُوسُف: 21]. ولذلك قال بعضهم: (والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع).
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا، فإذا حصل على كمال المعرفة، ووقف على عرفة المعارف، فقد كمل دينه واستقام أمره، وظهرت أنواره، وتحققت أسراره، وما بقي إلا الترقي في الأسرار أبدًا سرمدًا، والسير في المقامات كسير الشمس في المنازل، ينتقل فيها من مقام إلى مقام، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف، وتارة ما يوجب الرجاء، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم، وتارة ما يوجب التوكل، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقة، ولا يقف مع مقام ولا مع حال، لأنه خليفة الله في أرضه، وقد قال تعالى: {كُلَّ يَوْمِ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، هذا هو التلوين بعد التمكين. والله تعالى أعلم.
{فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قال البيضاوي: هو متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي. اهـ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فمن اضطر} إلى تناول شيء من هذه المحرمات {في مخمصة} أي: مجاعة، حال كونه {غير متجانف} أي: مائل للإثم وقاصد له، بأن يأكلها تلذذًا أو متجاوزًا حد الرخصة، قيل: هو سد الرمق، وقال ابن أبي زيد: يأكل منها ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها. اهـ. فإن تناولها للضرورة {فإن الله غفور} له {رحيم} به؛ حيث أباحها له في تلك الحالة.
الإشارة: قال بعض الحكماء: الدنيا كلها كالميتة، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلاً وشربًا وملبسًا ومركبًا، حتى يتحقق له الوصول، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول، وعلامة الوصول: هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه، إن افتقر اغتنى في فقره، وإن ذل عز في ذله، وإن فقد وجد في فقده، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم.