فصل: تفسير الآية رقم (49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (49):

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
قلت: {إذ}: معمول لاذكروا، و{فرعون}: اسم لكل من ملك القبط، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم، وكسرى اسم لمن ملك الفرس، واسم {فرعون} الذي كان في زمن موسى عليه السلام: مصعب بن ريان، وقيل: ابنه الوليد. وسَام يسُوم: طلب وبغى، يقال: سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وجملة {يسومونكم}: حال من {آل فرعون}، وجملة {يذبحون}: بيان لها. وسوء العذاب: أفظعه وأقبحه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة أخرى أنعمت بها على أسلافكم، وأنتم عالمون بها، وذلك حين أنجيناكم من عذاب فرعون ورهطه، يولونكم أقبحَ العذاب وأشنعَه، كانوا يستعبدون رجالكم ونساءكم في مشاق الخدمة والمهنة، ولمّا أخبره الكهان أنه سيخرج منكم ولد يُخَرِّب ملكه، جعل يذبح ذكوركم ويترك نساءكم، وفي ذلكم محنة {مِن رَّبِّكُمْ} وابتلاء {عَظِيمٌ}، أو في ذلك الإنجاء اختبار من ربكم عظيم، فاذكروا هذه النعمة، وتحصنوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من محنة أخرى، ولا ينفع حذرٌ من قدر، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَاً مَّقْدُوراً} [الأحزَاب: 38]. وبالله التوفيق.
الإشارة: لكل زمان فراعين وجبابرة يقطعون الناس عن الانقطاع إلى الله والدخول إلى حضرة الله، {ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]،
يقول الحقّ جلّ جلاله للذين تخلصوا منهم: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها؛ حيث أنجيتكم من فراعين زمنكم، {يسومونكم سوء العذاب}؛ وهو البقاء في غم الحجاب، والانقطاع عن الأحباب، يقتلون ما ربيتم من اليقين في قلوبكم والمعرفة في أسراركم، ويستحيون شهواتكم وحظوظكم، {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}. قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ...} [الأنعَام: 116]. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
ثم ذكَّرهم الحق تعالى نعمة أخرى؛ وهي فلق البحر وإغراق العدو، فقال:
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً حين {فرقنا} بسببكم {البحر}، حين فررتم من عدوكم، فسلكتم فيه اثنيْ عشر مسلكاً يابساً، حتى خلصتم إلى الشام، فلما أدرككم عدوُّكم، واسْتَتَمَّ دخولهُ فيه، أطبقنا عليهم البحر {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون} وأنتم تعاينون غرقهم وهلاكهم، فاشكروا هذه النعم التي أنعمت بها على أسلافكم، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم على نبي أُمي، لم يكن له علم بهذا، حتى علمه بالوحي من ربكم.
الإشارة: قال بعض الحكماء: (الهوى بحر لا ساحل له إلا الموت): فلا يقطع بحر الحظوظ والعوائد، إلا الخواص، الذين منَّ الله عليهم بسلوك الطريقة، والغرق في بحر الحقيقة، على يد رجلا جمعوا بين الشريعة والحقيقة، فيقول الحق- جلّ جلاله- لمن تخلَّص من بحر هواه، وأفضى إلى مشاهدة مولاه: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم؛ حيث خلصتكم من بحر الشهوات والعوائد، وأطلعتكم على أسرار العلوم وذخائر الفوائد، وأغرقنا فيه من تكبّر وطغى، وأنتم تنظرون ما فيه الناس من غم الحجاب وسوء الحساب، في بحر لجى يغشاه موج الذنوب، من فوقه موج الحظوظ، من فوقه سحاب الأثر، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً لما له من نور. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (51- 53):

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
قلت: {أربعين}: مفعول لواعدنا، لا ظرف، و{العجل}: مفعول أول، والثاني محذوف، أي: اتخذتموه إليهاً، و{الفرقان}: معطوف على {الكتاب}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً حين {وَاعَدْنَا مُوسَى} أن يصوم {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} بأيامها متواصلة، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عيه الكتاب فيه بيان الأحكام، ثم لما صامها، وهي: ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وأتى إلى المناجاة، كفرتم، و{اتَّخَذْتُمُ الْعَجْلَ} الذي صاغه السامِريُّ من الحُليّ، الذي أخذته نساء بني إسرائيل من القبط عارية، ففرّوا به ظنّاً منهم أنه حلال، فقال لهم هارون عليه السلام: لا يحل لكم، فطرحوه في حفرة، فصاغ منه السامري صورة العجل، وألقى في جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام حين عبر معهم البحر، فجعل يخور، فقال السامري: {هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88]، {وأنتم ظالمون} في عبادته، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} بالتوبة وقتل النفس على ما يأتي، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فلا فلا تعصون نعمة، {و} اذكروا أيضاً {إذْ آتينا موسَى الكِتَابَ} الذي طلبتم، وهو التوراة، وهو {الفرقان} الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، كي تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب.
الإشارة: ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني ** مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي

وقال:
صارتْ جِبالِيَ دكّاً ** مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي

فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلابد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قلت: البارئ هو: المقدر للأشياء والمظهر لها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين {قال} موسى {لقومه} لما رجع من الطور، ووجدهم قد عبدوا العجل: {يَا قَوْم إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنفُسَكُم} وبخستموها {باتخاذكم العجل} إلاهكم، {فَتُوبُوا إلَى} خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه.
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة {خير لكم} عِندَ خالقكم، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية، فلما صعب عليكم القتل؛ للشفقة على الأخ أو القريب، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي، فدعا موسى وهارون- عليهما السلام- بالكشف عنهم، فرفعت السحابة، وقد قُتل سبعون ألفاً، ففعلتم ذلك القتل، فتاب الحق تعالى عليكم، فقبل توبة مَن بقي منكم، وعفا عمت مات؛ {إنه هو التواب الرحيم} أي: كثير التوفيق للتوبة، أو كثير قبولها، الرحيم بعباده المؤمنين.
الإشارة: ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه، يقال مثله لمن عبد هواه، وعكف على متابعة دنياه: يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها، تُب إلى ربك، وانتبه من غفلتك، واقتل نفسك بمخالفة هواها، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها، فما دامت النفس موجودة، وحظوظها لديها مشهودة، وآمالها ممدودة، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله، وتتمتع بشهود جماله وسناه؟!
إن تُرِدْ وصْلَنا فَمَوتُكَ شَرْطٌ ** لا يَنالُ الوِصَالَ مَنْ فيهِ فَضْلَهْ

وقال الحلاجُ في هذا المعنى:
لَمْ أُسْلِم النفسَ للأسقامِ تُتْلِفُها ** إلاَّ لِعِلْمِي بأَنَّ الوصْلَ يُحْيِيهَا

وقال أيضاً:
أُقتُلوني يا ثقاتي ** إِنَّ في قَتْلِي حَياتِي

وحَيَاتي في مَماتِي ** وممَاتي في حَياتي

أنا عندي مَحْوُ ذَاتي ** من أجَلِّ المكْرُمَاتِ

وبَقَائِي في صِفاتي ** مِنْ قبيحِ السيِّئَاتِ

وقال أيضاً:
إنْ كان سَفْكُ دَمي أقْصَى مُرادِكُمُ ** فَمَا غَلَتْ نظرةٌ مِنكُم بِسَفْك دَمِي

وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: (لا يدخل على الله إلا من بابين، أحدهما: الموت الحسي، وهو الموت الطبيعي، والآخر: الموت الذي تعنيه هذه الطائفة). اهـ. وهو موت النفوس، فمن لم تمت نفسه لم تَحْيَى روحه.
وقال بعض العارفين: (لا يحصل الدخول على الله حتى يموت أربع موتات: موت أحمر، وموت أسود، وموت أبيض، وموت أخضر. أما الموت الأحمر فهو مخالفة الهوى، وأما الموت الأسود فهو تحمل الأذى، وأما الموت الأبيض فهو الجوع- أي: المتوسط- وأما الموت الأخضر فهو لبس المرقعات، وطرح الرقاع بعضها على بعض).
قلت: ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة. فمن نزل إلى أرض الخمول، وخرق عوائد نفسه فيه، انخرقت له الحجب، ولاحت له الأنوار، وأشرقت عليه الأسرار في مدة قريبة، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآيات (55- 56):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
قلت: {جهرة} مصدر نرى؛ لأنه نوع منه، أي: نرى الله رؤية عيان، أو حال من الفاعل، أي: نراه معاينين له، أو من المفعول؛ أي: نراه معاينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً، يا بني إسرائيل، حين قلتم لموسى عليه السلام لما رجع من الطور، ووجدكم قد عبدتم العجل، فأخذ منكم سبعين رجلاً ممن لم يعبد العجل، وذهب يعتذر، فلما سمعتم كلامي أنكرتموه وحرفتموه، وقلتم: {لَن نُؤْمِنَ لَكَ} أن هذا كلام الله {حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةِ} بسبب طلبكم ما لا طاقة لكم به، فغبتم عن إحساسكم، وذهبت أرواحكم، {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ما فعل بكم، فاستشفع فيكم موسى عليه السلام وقال: يا {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّا} [الأعرَاف: 155] كيف أرجع إلى قومي بغير هؤلاء؟ {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْد مَوْتِكُمْ} وعشتم زماناً بعد ذلك {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمة، وتقومون بحسن الخدمة، فتقروا بربوبيتي، وتصدقوا برسلي، فلم تفعلوا.
الإشارة: من شأن الأرواح الطيبة التشوق إلى الحضرة، والتشوف إلى العيان والنظرة، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب، رفع عنها الحجاب، وفتح لها الباب، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة، فغابت عن الأشكال والرسوم في مشاهدة أنوار الحي القيوم، ثم مَنَّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء، فأمنت من الشقاء، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية. فالصاعقة عند أهل الفن هي عبارة عن الغيبة عن النفس، وفناء دائرة الحس، وهي شهود عدمك لوجود الحق، والبعث منها هو مقام البقاء، وهو شهود الأثر بالله. وهو مقام حق اليقين. وحاصلة: شهود وجود الحق وحده، لا عدمك ولا وجودك، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان». وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
قلت: {الغّمّامّ}: السحاب الرقيق، و{المَنِّ} هنا: العسل، و{السَّلْوى} قيل: اللحم، والأصح: أنه اسم طائر كالسماني.
يقول الحقَ جلّ جلاله: في تذكير بني إسرائيل ما أنعم به عليهم في حال التيه: {و} قد {ظَلَّلْنا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ} يقيكم من الحر في أيام التيه، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع، فيغرفون منه ما شاءوا، {و} أنزلنا عليكم {السلوى}، وهو طير كانت تحشره الجنوب، فينزل عليهم، فياخذون منه ما شاءوا، ولا يمتنع منهم، فيذبحون ويأكلون لحماً طريّاً، فقلنا لهم: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} بمخالفتهم أمْرَ نبيهم وسوء أدبهم معه، حيث قالوا: {فَاذْهَبْ أَنَتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المَائدة: 24]، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة، يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة. {وَلَكِن} ظلموا أنفسهم؛ حيث أوقعوها في البلاء والمحنة.
رُوِيَ أنهم لما أُمروا بجهاد الجبارين، جبنوا وقالوا تلك المقالة، فدعا عليهم سيدنا موسى عليه السلم فوقعوا في التيه بين مصر والشام، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا، فقالوا لموسى عليه السلام: من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، قالوا: كيف بحر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، قالوا: من لنا بالماء؟ فأمر موسى عليه السلام بضرب الحجر، فقالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا ألا يَبْلى لهم ثوب، ولا يَخْلَق، ولا يَدْرن، وأن ينمو بنمو صاحبه، وقيل: كساهم مثل الظفر، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ} [البَقَرَة: 284].
الإشارة: لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت، كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجات، وقال لها: {كلوا منطيبات ما رزقناكم} من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار. أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات، فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها، حتى استعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا:
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ ** والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ

أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً ** هَمَلاً وأَنت بأمرِه لم تحفلِ

فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ ** ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ

يَفْنَى وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ ** أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي

أُعْطِيتَ جِسْمَكَ خادماً فخدمْتَه ** أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ

شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحْبَالِهِ ** مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ

مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ ** ما بالَهُ يرضَى بأدنَى مَنْزِل