فصل: تفسير الآيات (27- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 30):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}
قلت: الضمير في {عليهم}: لبني إسرائيل؛ لتقدم شأنهم، ولاختصاصهم بعلم قصة بني ابني آدم، ولإقامة الحجة عليهم بهمهم ببسط اليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واتل عليهم} أي: على بني إسرائيل؛ إذ الكلام كان معهم، أو على جميع الأمة، أو على جميع الناس، إذ هو أول الكلام على بقية حفظ الأبدان {نبأ ابني آدم} وهو قابيل وهابيل {بالحق} أي: تلاوة ملتبسة بالحق، أو نبأ ملتبسًا بالحق موافقًا لما في كتب الأوائل.
{إذ قرّبا قربانًا فتُقبل من أحدهما} وهو هابيل، {ولم يتُقبل من الآخر} وهو قابيل، وسبب تقريبهما القربان أن آدم عليه السلام كان يُولد له من حواء توأمان في كل بطن: غلام وجارية، إلا شيتًا، فإنه ولد منفردًا، وكان جميع ما ولدته حواء أربعين، بين ذكر وأنثى، في عشرين بطنًا، أولهم قابيل، وتوأمته أقليما، وآخرهم عبد المغيث، ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده، وولد ولده، أربعين ألفًا، ورأى فيهم الزنا وشُرب الخمر والفساد، وكان غشيان آدم لحواء بعد مهبطهما إلى الأرض، وقال ابن إسحق عن بعض العلماء بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة، قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت في الجنة بقابيل وتوأمته، ولم تجد عليهما وحمًا ولا غيره، وحملت في الأرض بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الرحم والوصب والطلق والدم.
وكان آدم إذا كبر ولده يزوج غلام هذا البطن بجارية بطن آخر، فكان الرجل يتزوج أيّ أخواته شاء إلا تَوأمَته، لأنه لم يكن نساء يومئٍذ، فأمر الله تعالى آدم أن يزوج قابيل لَودَاء توأمة هابيل، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أحسن الناس، فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: أختي أحسن، وهي من ولادة الجنة، وأنا أحق بها، فقال له أبوه: لا تحل لك، فأبى، فقال لهما آدم: قربًا وقربانًا، فأيكما قُبل قربانه فهو أحق بها.
وكان قابيل صاحب زرع، فقرَّب حِملاً من زرع رديء، وأضمر في نفسه: لا أُبالي قُبل أو لا، لا يتزوج أختي أبدًا، وكان هابيل صاحب غنم، فقرّب أحسن كبش عنده، وأضمر في نفسه الرضا لله تعالى، وكانت العادة حينئٍذ أن تنزل نارٌ من السماء فتأكل القربان المقبول، وإن لم يقبل لم تنزل، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسده، وقال له: {لأقتلنك}، حسدًا على تقبل قربانه دونه، فقال له أخوه: {إنما يتقبل الله من المتقين} الكفر، أي: إنما أُوتيت من قبل نفسك بترك التقوى، لا من قِبلي، فِلمَ تقتلني؟
قال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا، لا في إزالة حظه، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقي. اهـ.
وفيه نظر: فإن تقوى المعاصي ليست شرطًا في قبول الأعمال بإجماع أهل السنة، إلا أن يحمل على تقوى الرياء والعجب. انظر الحاشية.
ثم قال له أخوه هابيل: {لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين} أي: لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك به، أو لم أدفعك عني، وهل تركه للدفع تورع، وهو الظاهر أو كان واجبًا عندهم، وهو قول مجاهد؟ وأما في شرعنا: فيجوز الدفع، بل يجب، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي: قيل: كان هابيل أقوى منه، فتحرج عن قتله، واستسلم له خوفًا من الله، لأن الدفع لم يُبح بعدُ، أو تحريًا لِمَا هو الأفضل. قال صلى الله عليه وسلم: «كُن عبدَ الله المقتُول، ولا تكُن عبدَ الله القاتل» وإنما قال: {ما أنا بباسط} في جواب {لئن بسطت}؛ للتبري من هذا الفعل الشنيع، والتحرز من أن يوصف به، ولذلك أكد النفي بالباء. اهـ.
ثم قال له هابيل: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار} أي: إني أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى الله ملتبسًا بإثمي، أي: حاملاً لإثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك بيدك إليّ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: «المُستَبَّان ما قَالاَ فَعَلى البادِئ منهما مَا لَم يَعتَدِ المَظلُومُ» أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، أو بسائر ذنوبي فتحملها عني بسبب قتلك لي؛ فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح في النار، ولذلك قال: {وذلك جزاء الظالمين}، يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئناف من كلام الله تعالى، أي: جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين، ثم يطرحون في النار، كما في حديث المفلس.
ولم يرد هابيل بقوله: {إني أريد}، أنه يُحب معصية أخيه وشقاوته، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعًا فأريد أن يكون لك لا لي، والمقصود بالذات: ألا يكون له، لا أن يكون لأخيه. ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته. وإرادة عقاب العاصي جائزة. قاله البيضاوي.
{فطوّعت له نفسه قتل أخيه} أي: سهلت له ووسِعته ولم تضق منه، أو طاوعته عليه وزينته له، {فَقتله فأصبح من الخاسرين} دينًا ودنيا، فبقي مدة عمره مطرودًا محزونًا. قال السدي: لما قصد قابيلُ قتل هابيل، راغ هابيل في رؤوس الجبال، ثم أتاه يومًا من الأيام، فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات، وقال ابن جريج: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلمه القتل، فوضع رأس أخيه على حجر ثم شدخه بحجر آخر.
وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، وقبره قيل: عند عقبة حراء، وقال ابن عباس: عند ثور وقال جعفر الصادق: بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم.
الإشارة: قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى: أولها: التطهير من رذيلة الحسد، لاذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدم الكلام عليه في النساء، الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص، والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)؛ فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال «اللهم اعفِر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ».

.تفسير الآية رقم (31):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}
قلت: {ليريه} أي: يعلمه، وضمير الفاعل يعود على الله أو الغراب، و{كيف}: حال من الضمير في {يُواري} والجملة مفعول ثان ليرى، أي: ليعلمه الله، أو الغراب، كيفية مواراة أخيه، و{يا ويلتا}: كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم، كيا حسرتا ويا أسفا، وأصبح هنا بمعنى صار.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض} أي: يحفر فيها، {ليريه} أي: الله، أو الغراب، {كيف يُواري} أي: يستر {سوءة أخيه} أي: جسده؛ لأنه مما يستقبح أن يرى، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، فعلَّم اللهُ قابيل كيف يصنع بأخيه؛ لأنه لم يدر ما يصنع به، إذ هو أول ميت مات من بني آدم، فتحير في أمره، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدُهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثم ألقاه في الحفرة وغطاه بالتراب.
قال قابيل لما رأى ذلك: {يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي} فأهتَدِي إلى ما اهتدى إليه، فحفر لأخيه ودفنه {فأصبح من النادمين} على قتله، لِما كابد فيه من التحير في أمره، وحَملِه على رقبته سنة أو أكثر، وتلمذة الغراب له، واسوداد لونه، وتبرّي أبويه منه، إذ رُوِي أنه لما قتله أسود وجهه، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنتُ عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته؛ فلذلك اسود جسدك، وتبرأ منه، ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك، وعدم الظفر بما فعله من أجله. قاله البيضاوي، فانظره مع ما سيأتي عن الثعلبي.
واختلف في كفره؛ فقال ابن عطية: الظاهر أنه لم يكن قابيل كافرًا، وإنما كان مؤمنًا عاصيًا، ولو كافرًا ما تخرج أخوه من قتله، إذ لا يتحرج من قتل كافر؛ لأن المؤمن يأبى أن يقتل موحدًا، ويرضى بأن يُظلَمَ ليجازي في الآخرة. ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه لما قصد أهل مصر قتله مع عبد الرحمن بن أبي بكر، لشُبهةٍ، وكانوا أربعة آلاف، فأراد أهل المدينة أن يدفعوا عنه، فأبى واستسلم لأمر الله. قال عياض: منعه من الدفع إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سَبَقَ به القدر. حيث بشره بالجنة على بلوى تصيبه، كما في البخاري، ونقل عن بعض أهل التاريخ: أن شيتًا سار إلى أخيه قابيل، فقاتله بوصية أبيه له بذلك، متقلدًا بسيف أبيه. وهو أول من تقلد بالسيف، فأخذه أخاه أسيرًا وسلسله، ولم يزل كذلك حتى قبض كافرًا. اهـ.
قلت: ولعل تحرّج أخيه من قتله؛ لأنه حين قصد قتله لم يُظهِر كفره، وظهر بعد ذلك، فلذلك قاتله أخوه شيت بعد ذلك وأسره، وذكر الثعلبي: أن قابيل لما طرده أبوه، أخذ بيد أخته أقليمًا، فهرب بها إلى أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، وهو أول من عبد النار. اهـ. فهذا صريح في كفره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم، إذا فزعوا إليه والتجأوا إلى حماه؟! فكل من وقع في حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى يجعل له فرجًا ومخرجًا من أمره، إما بواسطة أو بلا واسطة. كن صادقًا تجد مرشدًا، {فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محَمَّد: 21]. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (32):

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
{مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً...}
قلت: {من أجل ذلك}: يتعلق بكتبنا، فيوقف على ما قبله، وقيل: بالنادمين، فيوقف على {ذلك}، وهو ضعيف، قاله ابن جزي، وأصل {أجْل}: مصدر أجُل يأجل، كأخذ يأخذ، أجلاً، أي: جنا جناية، استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تعليل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {من أجل ذلك} القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد، حيث سَنَّه أولاً ولم يكن يعرفه أحد، فاقتدى به من بعده، {كتبنا على بني إسرائيل} في التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم، {أنه من قتل نفسًا بغير نفس} أي: في غير قصاص، وبغير فساد في الأرض، كقطع الطريق والكفر، {فكأنما قتل الناس جميعًا} من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُقتَلُ نَفسٌ مسلمةٌ بغير حق إلاَّ كَانَ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ من دَمِها، لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتل» أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة؛ لأن هتك حرمة البعض كالكل؟
{ومن أحياها} أي: تسبب في حياتها بعفو أو منع من القتل، أو استقباء من بعض أسباب الهلكة؛ كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك، {فكأنما أحيا الناس جميعًا}؛ أُعطِي من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا، وفي البخاري: «من أحياها أي مَن حَرَّمَ قتلَها إلا بحق حيى الناس منه جميعًا» قال ابن جزي: والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه. اهـ. فما كتبه الله على بني إسرائيل هو أيضًا شرع لنا. قال أبو سعيد: (والذي لا إله إلا هو دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا).
وإنما خصّهم بالذكر؛ لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم، ولتلوح مذمتهم. انظر ابن عطية. وعنه صلى الله عليه وسلم: «مَن سَقَى مؤمنًا شربَة ماء والماءُ موجودٌ، فكأنما أعتقَ سبعين رقبة، ومَن سقَى في غيرِ مَوطِنِه فكأنَّما أحيا الناس جميعًا».
الإشارة: كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد، كما في الحديث، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة، ومن الجهل إلى المعرفة، فكأنما أحيا الناس جميعًا؛ لأن الأرواح جنس واحد، فإحياء البعض كإحياء الكل.
وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين، الدالين على الله، والدعاة إلى معرفة الله، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد، وفي بعض الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم: إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عبادهِ، ويحببون عبادَ اللهِ إلى اللهِ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة».
وهذه حالة شيوخ التربية: يحببون الله إلى عباده؛ لأنهم يطهرون القلب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم الله ويقربهم، والله تعالى أعلم. وقال الورتجبي: فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة في شيء، وباشرته، فكأنما باشرت جميع عصيان الله تعالى؛ لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت، لأنها أمارة بالسوء، ومن السوء خلقت، فالجزاء يتعلق بالنية. وكذلك إذا وقعت النيبة من قبل القلب الروحاني في خير، وباشره، فكأنه باشر جميع الخيرات؛ لأنه لو قدر لفعل. قال صلى الله عليه وسلم: «نيةُ المؤمن أبلغُ مَن عَمله».
وفيه إشارة أخرى أن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة، بعضها من بعض وصرُفها مختلفة، وتعلقت بضعها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة. فمن قتل واحدًا منها أثرَّ قتلها في جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده، ووصف جلاله وجماله، حتى تحب خالقها، وتحيا بمعرفته، وجمال مشاهدته، فأثِرِ حياتها وتزكيتها في جميع النفوس، فكأنما أحيا جميع النفوس. وفيه تهديد لأئمة الضلالة، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى. انتهى كلامه.
وقوله في النفس الأمارة: (من السوء خلقت)، فيه نظر؛ فإن النفس هي الروح عند المحققين، فما دامت الطينية غالبة عليها، وهي مائلة إلى الحظوظ والهوى، سميت نفسًا، فإن كانت منهمكة سميت أمارة، وإن خف عثارها، وغلب عليها الخوف، سميت لوامة، فإذا انكشف عنها الحجاب، وعرَفت ربها، واستراحت من تعب المجاهدة، سميت روحًا، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرًا، وأصلها من حيث هي نور رباني وسر لاهوتي. ولذلك قال تعالى فيها: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي} [الإسرَاء: 85]، فالسوء عارض لها، لا ذاتي، فما خلقت إلا من نور القدس. والله تعالى أعلم.
ثم عاتب بني إسرائيل على سفك الدماء والإفساد في الأرض، بعد ما حرم ذلك عليهم في التوراة، فقال: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد جاءتهم} أي: بني إسرائيل، {رُسلنا بالبينات} أي: بالمعجزات الواضحات، {ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} بسفك الدماء وكثرة المعاصي.
قال البيضاوي: أي: بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل إتيان تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر وتجديدًا للعهد، كي يتحاموا عنها، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها، والإسراف: التباعد عن حد الاعتدال في الأمر. اهـ.
الإشارة: قد قيض الله لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها، ظاهرفا وباطنًا، وهم ورثته في الظاهر والباطن، وفي الخبر: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة، وهم الأولياء، فمن قصر في الجهتين قامت عليه الحجة، ولله الحجة البالغة، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة. وبالله التوفيق.