فصل: تفسير الآيات (33- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 34):

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
قلت: سبب نزل الآية عند ابن عباس: قوم من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل. وهو مناسب لما قبله، وقال جماعة: نزلت في نفر من عُكل وعُرينَة، أظهروا الإسلام بالمدينة، ثم خرجوا وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا إبله، فبعث في إثرهم، فأُخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، فماتوا، ثم حُكمُها جارِ في كل محارب، والمحاربة عند مالك: هي حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج عنه، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، {فسادًا}: منصوب على العلة، أو المصدر، أو على حذف الجار.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله} حيث حاربوا عباده، فهو تغليظ ومُبالغة، {و} يحاربون {رسوله} كما فعل العُرَينيون أو غيرهم، {ويسعون في الأرض فسادًا} بالفساد كإخافة الناس، ونَهب أموالهم. قال ابن جزي: هو بيان للحرابة، وهي درجات؛ فأدناها: إخافة الطريق، ثم أخذ الأموال، ثم قتل النفس.
فجزاؤهم {أن يُقتلوا أو يُصلبوا}، فالصلب مضاف للقتل، فقيل: يقتل ثم يصلب، إرهابًا لغيره، وهو قول أشهب، وقيل: يصلب حيًا ويُقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم، {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف}، فيقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد من الرسغ، الرجل من المفصل كالسرقة، {أو يُنفوا من الأرض} أي: ينفوا من بلد إلى بلد، ويسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم. وقال أبو حنيفة: يسجن في البلد بعينه. ومذهب مالك: أن الإمام مخير في المحارب بين ما تقدم، إلا أنه قال: إن كان قتل فلابد من قتله، وإن يقتل فالأحسن أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب.
أولئك المحاربون {لهم خزي في الدنيا}: ذل وفضيحة، {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} لعظم ذنوبهم. ظاهره أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحاربين بخلاف سائر الحدود. ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب، وفي الآخرة لمن لم يعاقب، {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} بأن جاؤوا تائبين {فاعلموا أن الله غفور رحيم}، فيسقط عنهم حكم الحرابة، واخُتلف: هل يطالب بما عليه من حقوق الناس كالدماء أم لا؟ فقال الشافعي: يسقط عنه بالتوبة حد الحرابة، ولا يسقط حقوق بني آدم، وقال مالك: يسقط عنه جميع ذلك، إلا أن يُوجد معه مال رجل بعينه، فَيُرَدَّ إلى صاحبه، أو يطلبه ولي دم بدم تقوم البينة فيه، فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي لم يطالب بها، فلا يتبعه الإمام بشيء منها.
وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة، يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد، وإن أسقطت العذاب، والآية في قُطَّاع المسلمين؛ لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها. اهـ. قاله البيضاوي: والله تعالى أعلم.
الإشارة: فرق كبير بين من يرجع إلى الله بملاطفة الإحسان، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى الله حتى أُخذوا وقُتلوا وصُلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم. وإن رجعوا إليه اختيارًا قبلهم، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم، وكذلك العباد: من رجع إلى الله قبل هجوم منيته قَبِله وتاب عليه، وإن جد في الطاعة قرَّبه وأدناه، وإن تقدمت له جنايات، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص، كالفضيل، وابن أدهم، وغيرهما، ممن لا يحصى، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}، ولا تسلكوا سبيل بني إسرائسيل الذين جاءتهم الرسل، فعصوا وأفسدوا {وابتغوا إليه الوسيلة} أي: اطلبوا ما تتوسلون به إلى رضوانه، والقرب من جناب قدسه من الطاعات، وترك المخالفات، {وجاهدوا في سبيله} بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة {لعلكم تفلحون} بالوصول إلى الله والفوز بكرامته.
الإشارة: لا وسيلة أقرب من صحبة العارفين، والجلوس بين أيديهم وخدمتهم، والتزام طاعتهم، فمن رام وسيلة توصله إلى الحضرة غير هذه فهو جاهل بعلم الطريق. قال أبو عمرو الزجّاجي رضي الله عنه: لو أن رجلاً كشف له عن الغيب، ولا يكون له استاذ لا يجيء منه شيء.
وقال إبراهيم بن شيبان رضي الله عنه: لو أن رجلاً جمع العلوم كلها، وصحب طوائف الناس، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة، من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح، ومن لا يأخذ أدبه من آمر له وناهٍ يريه عيوبَ أعماله ورُعونات نفسه، لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات. اهـ.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل من لا يكون له في هذا الطريق شيخ لا يفرح به. اهـ. ولو كان وافر العقل منقاد النفس، واقتصر على ما يلقى إليه شيخ التعليم فقط، فلا يكمل كمال من تقيد بالشيخ المربي؛ لأن النفس أبدًا كثيفة الحجاب عظيمة الإشراك، فلابد من بقاء شيء من الرعونات فيها، ولا يزول عنها ذلك، بالكلية، إلا بالانقياد للغير والدخول تحت الحكم والقهر، وكذلك لو كان سبقت إليه من الله عناية وأخذه الحق إليه، وجذبه إلى حضرته، لا يؤهل للمشيخة، ولو بلغ ما بلغ، والحاصل: أن الوسيلة العظمى، والفتح الكبير، إنما هو في التحكيم للشيخ، لأن الخضوع لمن هو من جنسك تأنفه النفس، ولا تخضع له إلا النفس المطمئنة، التي سبقت لها من الله العناية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}
قلت: {لو أن لهم}: الجار متعلق بالاستقرار، لأنه خير إن مقدمًا، والضمير في {به}: يعود على ما ومثله، ووحده باعتبار ما ذكر كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 68].
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين كفروا} حين يشاهدون العذاب يتمنون الفداء، فلو {أن لهم ما في الأرض جميعًا} من الأموال والعقار {ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم} ولا ينفعهم {ولهم عذاب مقيم} لا خلاص لهم منه، وهذا كما ترى في الكفار، وأما عصاة المؤمنين فيخرجون منها بشفاعة نبيهم عليه الصلاة والسلام ولا حجة للمعتزلة في الآية، خلافًا لجهالة الزمخشري.
الإشارة: كل من مات تحت قهر الحجاب، ونكّبته المشيئة عن دخول الحضرة مع الأحباب، حصل له الندم يوم القيامة، فلو رام أن يفتدى منه بملء الأرض ذهبًا ما تقبل منه، بل يبقى مقيمًا في غم الحجاب، معزولاً عن رؤية الأحباب، يتسلى عنهم بالحور والولدان، وتفوته نظرة الشهود والعيان في كل حين وأوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
قلت: {السارق}: مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه، وهو الجار والمجرور، أي: مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، وقال المبرد: الخبر هو جملة: {فاقطعوا}، ودخلت الفاء لمعنى الشرط؛ لأن الموصول وهو أل فيه معنى الشرط، ومثله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَأجْلِدُواْ} [النُّور: 2]، قلت: وهو أظهر، فإن قلت: ما الحكمة في تقديم المُذكر في هذه الآية، وفي أية الزنا قدم المؤنث، فقال: {الزَّانِيَهُ وَالزَّانِى}؟ فالجواب: أن السرقة في الرجال أكثر، والزنى في النساء أكثر، فقدّم الأكثر وقوعًا. وقدّم العذاب هنا على المغفرة، لأنه قابل بذلك تقدم السرقة على التوبة، أو لأن المراد به القطع، وهو مقدم في الدنيا، {جزاء} و{نكالاً}: علة أو مصدر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أي: أيمانهما من الرسغ، بشروط، منها: ألاَّ يكون مضطرًا بالجوع، على قول مالك، فيقدم السرقة على الميتة، إن عُلِم تصديقه. ومنها: ألاَّ يكون السارق أبًا أو عبدًا سرق مال ولده أو سيده. ومنها: أن يكون سرق من حرز، وأن يكون نِصَابًا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساويهما عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال عثمان البَتى: يُقطع في درهم فما فوق. وفي السرقة أحكام مبسوطة في كتب الفقه.
وعلة القطع: الزجر، ولذلك قال: {جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم}. فإن قلت: ما الحكمة في قطعها في ربع دينار، مع أن دِيتَهَا أن قطعت، خمسمائة دينار؟ قلت: ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة. فافهم حكمة الباري.
{فمن تاب من بعد ظلمه} أي: بعد سرقته، كقوله في سورة يوسف: {كَذَلِكَ نَجْزِي الَّظالِمِينَ} [يُوسُف: 75] أي: السارقين، {وأصلح} بأن ردّ ما سرق، وتخلص من التبعات ما استطاع، وعزم ألا يعود {فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم}، فيتقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع: فهل يسقط، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية، أو لا يسقط، وهو مذهب مالك، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب؟... قاله ابن جزي، تبعًا لابن عطية، وفيه نظر، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك، ولعله تصحف عده الشافعي بالشعبي، كما نقل الثعلبي عنه. والله أعلم.
{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} يتصرف فيهما كيف شاء، فالخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد، {يُعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} قال السدي: يُعذب من مات على كفره، ويغفر لمن تاب من كفره. وقال الكلبي: {يُعذب من يشاء} على الصغيرة إذا أقام عليها {ويغفر لمن يشاء} على الكبيرة إذا نزع منها، {والله على كل شيء قدير} لا يعجزه شيء.
الإشارة: كما أمره الحق جل جلاله بقطع سارق الأموال، أمر بقطع سارق القلوب، وهو الشيطان، وجنوده؛ الخواطر الردية؛ فإن القلب بيت كنز السر أي: سر الربوبية لأن القلب بيت الرب، والبصيرة حارسة له، فإذا طرقه الشيطان بجنوده، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها، وأن وجدها نائمة؛ فإن كان نومها خفيفًا اختلس منها وفطنت له، وإن كان نومها ثقيلاً؛ بتراكم الغفلات، خرب البيت ولم تفطن له، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهي نائمة. فالواجب على الإنسان حفظ قلبه، قبل أن يسكنه الشيطان، فيصعب دفعه، وحفظه بدوام ذكر الله القلبي، فإن لم يستطع فبدوام اللسان، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة. وربنا المستعان.

.تفسير الآيات (41- 43):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
{ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ...}
قلت: الباء في: {بأفواههم} متعلقة بقالوا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الرسول لا يحزنك} صنع المنافقين، {الذين يسارعون في الكفر} أي: يقعون فيه سريعًا، فيظهرونه إن وجدوا فرصة، ثم بينهم بقوله: {من الذين قالوا آمنا} قالوه {بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}، فلا يهولنّك شأنهم ولا تحتفل بكيدهم، فإن الله سيكفيك أمرهم.
الإشارة: من شأن العارفين بالله تذكير عباد الله، ثم ينظرون إلى ما يفعل الله، فلا يحزنون على من لم تنفعه الموعظة، ولا يفرحون بسبب نجاح موعظتهم، إلا من حيث موافقة رضا ربهم، فهم في ذلك على قدم نبيهم، آخذين بوصية ربهم. والله تعالى أعلم.
ثم رجع إلى عتاب اليهود، فقال: {وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين}
قلت: {ومن الذين هادوا}: يُحتمل أن يكون عطفًا على {الذين قالوا} أي: لا يحزنك شأن المنافقين واليهود، و{سماعون}: خبر، أي: هم سماعون، ويحتمل أن يكون استئنافاً، فيكون {سماعون}: مبتدأ على حذف الموصوف، و{من}: خبر، أي: ومن الذين هادوا قوم سماعون، واللام في: {للكذب}: إما مزيدة للتأكيد، أو لتضمين السماع معنى القبول، وجملة {لم يأتوك}: صفة لقوم، وجملة {يحرّفون}: صفة أخرى له.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن الذين هادوا} صنف {سماعون للكذب} أي: كثيروا السماع للكذب والقبول له، وهم يهود بني قريظة، {سماعون لقوم آخرين} وهم يهود خيبر، {لم يأتوك} أي: لم يحضروا مجلسك، تكبرًا وبغضًا، {يُحرفون الكلم من بعد مواضعه} أي: يميلونه عن مواضعه الذي وضعه الله فيها، إما لفظًا أو تأويلاً: {يقولون}: أي: الذين لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يهود خيبر: {إن أُوتيتم هذا فخذوه} أي: إن أوتيتم هذا المحرّف وأفتاكم محمد بما يوافقه فخذوه، {وإن لم تُؤتوه} بأن أفتاكم بغيره {فاحذروا} أن تقبلوا منه.
وسبب نزولها: أن شريفًا مِن يهود خَيْبَرَ زنى بِشريفة منهم، وكانا مُحصنَين، وكرهوا رجمهما، فأرسلوا مع رَهطِ منهم إلى بَني قريظة ليسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: إن أمَرَكُم بالجَلّد والتَّحمِيم فَاقبلُوا، وإن أمَرَكُم بالرَّجم فاحذروا أن تقبلوه منه، فأتوا رسولَ الله صلى عليه وسلم بالزَّانِيين، ومعَهما ابن صوريا، فاستفتوه صلى الله عليه وسلم، فقال لابن صوريا: أنشُدكَ اللهَ الذي لا إله إلا هُو، الذِي فَلَق البَحرَ لمُوسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكُم وأغْرَقَ آلَ فِرعَونَ، والذِي أنزل علَيكُم كِتَابه، وأحلَّ حَلاله وحرَّم حَرَامه، هل تجد فيهم الرَّجمَ على من أحصن؟ فقال: نعم، فوثبوا عليه، فقال: خِفتُ إن كَذبتَه أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالزَّانِيين فرُجِمَا عندَ باب المسجد، وفي رواية: دعاهم إلى التوراة فأتوا بها، فوضع ابن صوريا يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، فرجما.
وفي القصة اضطراب كثير. ولعل القضية تعددت.
قال تعالى: {ومن يُرِد الله فتنته} أي: ضلالته أو فضيحته، {فلن تملك له من الله شيئًا} أي: تقدر على دفعها عنه، {أولئك الذين لم يُرد الله أن يُطهر قلوبهم} من الكفر والشرك، {لَهُم في الدُّنيَا خزيٌ} أي: هوان وذل؛ بضرب الجزية والخوف من المؤمنين، {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وهو الخلود في النيران.
هم {سماعون للكذب}، كرر للتأكيد، وليرتب عليه قوله: {أكَّالون للسحت} أي: الحرام، كالرشا وغيرها، وسُمي سحتًا؛ لأنه يسحت البركة ويستأصل المال، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من جمع المال من نهاوش أذهبه الله في نهابر».
ثم خيَّر نبيه عليه الصلاة والسلام في الحكم بينهم، فقال: {فإن جاؤوك} متحاكمين إليك {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}، وقيل: نسخ بقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم} [المَائدة: 49]. والجمهور: أن ما كان من باب التظالم والتعدي فإن الحاكم يتعرض بهم ويبحث عنه، وأما النوازل التي لا ظلم فيها، وإنما هي دعاوي، فإن رضوا بحكمنا فالإمام مُخير، وإن لم يرضوا فلا نتعرض لهم، انظر ابن عطية، وقال البيضاوي: ولو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول الشافعي: والأصح: وجوبه؛ إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًا، لأنا التزمنا الذب عنهم، ومذهب أبي حنيفة: يجب مطلقًا. اهـ.
{وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا}؛ لأن الله عصمك من الناس، {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} أي: العدل الذي أمر الله به {إن الله يحب المقسطين}، فيحفظهم ويعظم شأنهم.
{وكيف يُحكمونك} وهم لا يؤمنون بك، {وعندهم التوارة فيها حكم الله} أي: والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم {ثم يتولون من بعد ذاك}، أو ثم يتولون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، وفيه تنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما قصدوا به ما يكون عونًا لهم على هواهم، وإن لم يكن حكم الله في زعمهم، {وما أولئك بالمؤمنون} بكتابهم ولا بكتابك؛ لإعراضهم عنه أولاً، وعنك ثانيًا، بل أولئك هم الفاسقون التابعون لأهوائهم.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من تعرض للشيخوخة وادعى مقام التربية، وهو يأمر أصحابه باتباع رخص الشريعة، والبقاء مع العوائد، ويقول لهم: {إن أوتيتم هذا فخذوه} ويزعم أنه سنة، وإن لم تؤتوه، ولقيتم من يأمركم بقتل النفوس، وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد فاحذروه، فمن كان حاله هذا، فالآية تجر ذيلها عليه، لأنه تعرض لفتنة نفسه بحب الجاه وغرور أولاد الناس، {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} من الهوى، ولا بصيرتهم من شهود السِّوى؛ لأن تطهير القلوب مشروط بقتل النفوس، وقتل النفوس إنما يكون باتباع ما يثقل عليها من خرق عوائدها، كالذل والفقر وغير ذلك من الأعمال الشاقة عليها، ومن لم يطهر قلبه من الهوى يعش في الدنيا في ذل الحجاب مسجوناً بمحيطانه، محصورًا في هيكل ذاته، وله في الآخرة أشد العتاب، حيث تعرض لمقام الرجال وهو عنه بمعزل، ويقال لمن تبعه في اتباع الرخص: {سماعون للكذب أكالون للسحت}.
قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: من كان من فقراء الزمان يسمع الغناء، ويأكل أموال الظلمة، ففيه نزعة يهودية، قال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت}. اهـ.
فإن جاؤوك أيها العارف، يستخبرونك، ويخاصمونك في الأمر بخرق العوائد، ويزعمون أنهم موافقون للسنة، {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}، وهو الأخذ بكل ما يقتل النفوس، ويجهز عليها، {إن الله يحب المقسطين} وكيف يحكمونك أو يخاصمونك، وعندهم القرآن فيه حكم الله بذلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العَنكبوت: 69]، ولا يكون جهاد النفس إلا بمخالفتها، وقتلها بترك حظوظها وهواها. والله تعالى أعلم.