فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (68):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}
{قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد: {يا أهل الكتاب}، اليهود والنصارى، {لستم على شيء} أي: لستم على دين يعتد به، {حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم} على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها، أمرت بالإيمان والإذعان، لمن صدقته المعجزة، وهي ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد بإقامة الكتابين: إقامة أصولهما وما لم ينسخ من فروعهما، لا جميعهما. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قيل لأهل الكتاب يقال لهذه الأمة المحمدية على طريق الإشارة، فيقال لهم: لستم على شيء، يُعبَأ به من أعمالكم وأحوالكم، حتى تقيموا كتابكم القرآن، فتحلوا حلاله، وتحرموا حرامه، وتقفوا عند حدوده، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه، وتقيموا أيضًا سنة نبيّكم؛ فتقتدوا بأفعاله، وتتأدبوا بآدابه، وتتخلقوا بأخلاقه، على جهد الاستطاعة، ولذلك قال بعض السلف: ليس عليّ في القرآن أشد من هذه الآية: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} الآية. كما في البخاري.
ثم ذكر عتوّ اليهود وطغيانهم، فقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وليزيدن كثيرًا} من اليهود {ما أنزل إليك} من القرآن والوحي {طغيانًا وكفرًا} على ما عندهم، فلا تحزن عليهم بزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لاحق بهم، لا يتخطاهم، قال ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم وملك بن الصيف ورافع بن حريملة في جماعة من اليهود، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، وأنك مؤمن بالتوراة وبنبوة موسى، وأن جميع ذلك حق؟ قال: «بلى، ولكنكم أحدثتم وكتمتم وغيرتم» فقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق، ولا نصدقك ولا نتبعك، فنزلت فيهم هذه الآية.
الإشارة: من شأن أهل المحبة والاعتقاد، الذين سبقت لهم من الله العناية والوداد، إذا ازداد على أشياخهم فيض علوم وأنوار وأسرار؛ زادهم ذلك يقينًا وإيمانًا وعرفانًا، يجدون حلاوة ذلك في قلوبهم وأسرارهم؛ فيزدادون قربًا وشهودًا، وأهل العناد الذين سبق لهم من الله الطرد والبعاد؛ إذا سمعوا بزيادة علوم وأنوار على أولياء الله، زادهم ذلك طغيانًا وبُعدًا، فلا ينبغي الالتفات إليهم، ولا الاحتفال بشأنهم، فإن الله كاف شرهم، وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (69):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}
قلت: {والصابئون}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك. انظر البيضاوي وابن هشام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {والذين هادوا والصابئون}: قوم بين النصارى والمجوس، أو عباد المكواكب، أو قوم بقوا على دين نوح عليه السلام {والنصارى}: قوم عيسى، {من آمن} منه {بالله} إيمانًا حقيقيًا؛ بلا شرك ولا تفريق، وآمن باليوم الآخر، {وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، قال ابن عباس: نسخها: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عِمرَان: 85]، وقيل: إن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانًا صحيحًا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين: الثبات عليه إلى الموت، وفي حق غيرهم: الدخول في الإسلام، فلا نسخ. وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا نسخ أيضًا. قاله ابن جزي.
الإشارة: الذي طلب الله من العباد ورغبهم في تحصيله، وجعله سببًا للنجاة من كل هول في الدنيا والآخرة ثلاثة أمور: أحدها: تحقيق الإيمان بالله، والترقي فيه إلى محل شهود المعبود، والثاني: تحقيق الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نصب عينيه، ويقربه كأنه واقع يشاهده؛ إذ كل آت قريب. والثالث: إتقان العمل إظهارًا للعبودية، وتعظيمًا لكمال الربوبية، على قدر الاستطاعة من غير تفريط ولا إفراط، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (70- 71):

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}
قلت: المضارع إذا وقع بعد العلم وجب إهمال {إن} معه، فتكون مخففة، وإن وقعت بعد الظن يصح فيها الوجهان، فمن قرأ: {وحسبوا ألا تكون} بالرفع، فأن مخففة، ومن قرأ بالنصب فأن مصدرية. والفرق بين العلم والظن، أن علم العبد إنما يتعلق بالحال، و{أن} تُخلص للاستقبال، فلا يصح وقوعها بعد العلم، فأهملت وكانت مخففة من الثقيلة، بخلاف الظن؛ فيتعلق بالحال والاستقبال، فصح وقوع {أن} بعده. و{كلما}: ظرف لكذبوا أو يقتلون، و{كثير}؛ بدل من فاعل عموا وصموا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أن يعملوا بأحكام التوراة، {وأرسلنا إليهم رسلاً} يجددون العهد ويحثون على الوفاء به، ثم إنهم طغوا وعتوا؛ {كلما جاءهم رسول} من عند الله {بما لا تهوى أنفسهم} من الشرائع التي تخالف أهواءهم ومشاق الطاعة، {فريقًا} منهم كذبوهم {وفريقًا} يقتلونهم، أي: كذبوا فريقًا كداود وسليمان، وفريقًا قتلوهم بعد تكذيبهم كزكريا ويحيى، وقصدوا قتل عيسى عليه السلام فليس ما فعلوا معك ببعد منهم، فلهم سلف في ذلك.
{وحسبوا} أي: ظنوا {ألا تكون فتنة} أي: لا يقع بهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء عليهم السلام، وتكذيبهم، {فعموا} عن أدلة الهدى، أو عن الدين، {وصموا} عن استماع الوعظ والتذكير، كما فعلوا حيث عبدوا العجل، {ثم تاب الله عليهم} لما تابوا، {ثم عموا وصموا} لما قتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، واستمر على ذلك {كثير منهم}، وقليل منهم بقوا على العهد {والله بصير بما يعملون} فيجازيهم وفق أعمالهم.
الإشارة: لقد أخذ الله العهد على جميع بني آدم في شأن حمل الأمانة، التي حملها أبوهم آدم، وبعث الأنبياء والأولياء يجددون العهد في حملها، ويعرفون الناس بشأنها، وهي المعرفة الخاصة، التي هي شهود عظمة الربوبية في مظاهر العبودية، وحملها لا يكون إلا بمخالفة الهودى وخرق عوائد النفوس، ولا يطيقها إلا الخصوص، فلذلك كثر الإنكار على الأنبياء والأولياء؛ إذ لم يأت أحد بخرق العوائد إلا عودي وأنكر، فكلما جاءهم رسول أو ولي بما لا تهوي أنفسهم فريقًا منهم كذبوا وفريقًا يقتلون، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على ذلك، ولا تصيبهم فتنة في قلوبهم على ما هنالك، فعموا عن مشاهدة أنوار الحق، وصموا عمن يذكرهم بالحق، وقد تلمع لهم تارة قبس من أنوارهم، فيتوبون، ثم يُصّرون على الإنكار. والله بصير بما يعملون.

.تفسير الآيات (72- 76):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}، لِما رأوا على يديه من الخوارق، {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} المعنى: لقد كفر من اتخذ عيسى إلهًا مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد، ويقول لبني إسرائيل: اعبدوا الله خالقي وخالقكم.
والمشهور في الأخبار، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل، نعم، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له: بولس، حسدًا منه، وذلك أنه دخل في دينهم، وفرق أموالهم، وتأهب للتعبد معهم، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى عليهما السلام في زعمهم، وكان معه رجلان اسمهما: يعقوب وناسور، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما: عيسى هو الله أو ابن الله، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه، فشاع مذهب الرجلين، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية.
ثم هددهم على الشرك فقال، أي: عيسى: {إنه من يشرك بالله} في عبادته، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال، {فقد حرم الله عليه الجنة} أي: يمنع من دخولها؛ لأنها دار الموحدين، {ومأواه النار} أي: محله النار. لأنها معدة للمشركين، {وما للظالمين من أنصار} أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار. ووضع المظهر موضع المضمر، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام، أو من كلام الله تعالى.
ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم، فقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} أي: أحد ثلاثة، عيسى وأمه وهو ثالثهم، أو أحد الأقانيم الثلاثة، الأب والابن وروح القدس، يريدون بالأب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر، وهذه المقالة أعني التثليث، هي قوله النسطورية والملكانية، وما سبق في قوله: {إن الله هو المسيح} قول اليعقوبية، القائلة بالاتحاد، وكلهم ضالون مضلون، {وما من إله إلا إله واحد} في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في ألوهيته، متصلاً ولا منفصلاً، {وإن لم ينتهوا عما يقولون}، ولم يوحدوا {ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} أي: ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا، عذاب موجع.
{أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه} أي: أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول، فإن تابوا غفر الله لهم، {والله غفور رحيم}. وهذا الاستفهام: تعجب من إصرارهم، مع كون التوبة مقبولة منهم.
ثم رد عليهم بقوله: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول} بشر {قد خلت من قبله الرسل}، وخصه الله بآيات، كما خصهم بها، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه، فقد أحيا العصى، وجعلها حية تسعى على يد موسى، بل هو أعجب، وإن كان قد خلقه الله من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب، {وأمه صديقة} فقط، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، {كانا يأكلان الطعام} ويفتقران إليه افتقار الحيوانات، قال البيضاوي: بيّن أولاً أقصى مالهما من الكمال، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية؛ لأن كثيرًا من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، أي: القابلة للفساد، ثم عجب ممن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة، فقال: {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنا يؤفكون} أي: كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله، و{ثم} للتفاوت بين العجبين، أي: أن بياننا للآيات عجب، وإعراضهم عنها أعجب. اهـ.
ثم أبطل عبادتهم لعيسى عليه السلام فقال: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا} بل هو عاجز عن صرفه عن نفسه وجلب الخير لها، فكيف يقدر أن يدفعه عن غيره؟ وعبَّر عنه بما، دون {من} إشارة إلى أنه من جنس ما لا يعقل، وما كان مشاركًا في الحقيقة لجنس ما لا يعقل، يكون معزولاً عن الألوهية، وإنما قدّم الضر؛ لأن التحرز منه أهم من تحري النفع، ثم هددهم بقوله: {والله هو السميع العليم} بالأقوال والعقائد، فيجازي عليهما، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يصفي مشرب توحيده، ويعتني بتربية يقينة، بصحبة أهل اليقين، وهم أهل التوحيد الخاص، فيترقى من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات، ومن توحيد الصفات إلى توحيدات الذات، فنهاية توحيد الصالحين والعلماء المجتهدين تحقيق توحيد الأفعال، وهو ألاَّ يرى فاعلاً إلا الله، لا فاعل سواه، وثمرة هذا التوحيد: الاعتماد على الله، والثقة بالله، وسقوط خوف الخلق من قلبه، لأنه يراهم كالآلات، والقدرة تحركهم، ليس بيدهم نفع ولا ضرر، عاجزون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم؟ ونهاية توحيد العباد والزهاد والناسكين المنقطعين إلى الله تعالى توحيد الصفات، فلا يرون قادرًا ولا مريدًا ولا عالمًا ولا حيًّا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا متكلمًا إلا الله، قد انتفت عنه صفات الحدث وبقيت صفات القدم. وثمرة هذا التوحيد: الانحياش من الخلق والتأنس بالملك الحق، وحلاوة الطاعات ولذيذ المناجات. ونهاية توحيد الواصلين من العارفين والمريدين السائرين: توحيد الذات؛ فلا يشهدون إلا الله، ولا يرون معه سواه. قال بعضهم: لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده. وقال شاعرهم:
مُذ عَرَفتُ الإله لَم أرَ غَيرًا ** وكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ

مُذ تَجَمَّعتُ مَا خَشيتُ افتِراقاً ** فَأنَا اليَومَ واصِلٌ مجمُوعُ

وقال في التنوير: أبى المحقّقون أن يشهدوا مع الله سواه؛ لما حققهم به من شهود الأحدية وإحاطة القيومية. اهـ. وفي الحكم: (الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته).
وهؤلاء هم الصديقون المقربون. نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

.تفسير الآية رقم (77):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أهل الكتاب} أي: النصارى، {لا تغلوا في دينكم} وتقولوا قولاً {غير الحق}؛ وهو اعتقادكم في عيسى أنه إله، أو أنه لغير رشدة، ولا تفرطوا، {ولا تتبعوا أهواء قوم} سلفوا قبلكم، وهم أئمتكم في الكفر، {قد ضلوا من قبل} أي: من قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، {وأضلوا} أناسًا {كثيرًا}؛ حملوهم على الاعتقاد الفاسد في عيسى وأمه، فقلدوهم وضلوا معهم، {وضلوا عن سواء السبيل} أي: عن قصد السبيل المستقيم، وهو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقيل: الضلال الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع. قاله البيضاوي.
الإشارة: الغلو كله مذموم كما تقدم، وخير الأمور أوسطها، كما تقدم. وقد رخص في الغلو في ثلاثة أمور: أحدها: في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس أن يبالغ فيه ما لم يخرجه عن طور البشرية، وهذا غلو ممدوح، مقرب إلى الله تعالى، قال في بردة المديح:
دع ما ادَّعَتهُ النَّصَارى في نَبيّهم ** واحكُم بما شِئتَ مَدحًا فيهِ واحتكَم

الثاني: في مدح الأشياخ والأولياء، ما لم يخرجهم أيضًا عن طورهم، أو يغض من مرتبة بعضهم، فقد رخصوا للمريد أن يبالغ في مدح شيخه، ويتغالى فيه، بالقيدين المتقدمين؛ لأن ذلك يقربه من حضرة الحق تعالى. والثالث: في تعظيم الحق جل جلاله. وهذا لا قيد فيه ولا حصر. حدث عن البحر ولا حرج، إذا كان ممن يحسن العبارة ويتقن الإشارة، بحيث لا يوهم نقصًا ولا حلولاً. وبالله التوفيق.