فصل: تفسير الآيات (78- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (78- 81):

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} أي: لعنهم الله في الزبور على لسان نبيه داود عليه السلام، {و} لعنهم الله أيضًا في الإنجيل على لسان {عيسى ابن مريم}، فالأول: أهل أيلَة؛ لما اعتدوا في السبت لعنهم داود عليه السلام، فمسخوا قردة وخنازير، والثاني أصحاب المائدة، لمّا كفروا دعا عليهم عيسى، ولعنهم، فمسخوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل، {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}؛ ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حَرُم عليهم.
{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} أي: لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيأوا له، أو: لا ينتهون عنه ولا يمتنعون منه، {لبئس ما كانوا يفعلون}، وهو تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
{ترى كثيرًا منهم} أي: من اليهود، {يتولون الذين كفروا} أي: يوالون المشركين بُغضًا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} أي: لبئس شيئًا قدموه، ليردوا عليه يوم القيامة، وهو {أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} أي: بئس ما قدموا أمامهم، وهو سخط الله والخلود في النار، والعياذ بالله، {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي} أي: نبيهم كما يزعمون، {وما أُنزل إليه} من التوراة وغيره، {ما اتخذوهم أولياء}؛ لأن النبي لا يأمر بموالاة الكفار، ولو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه كما هو الواجب عليهم ما اتخذوا الكفار أولياء، {ولكن كثيرًا منهم فاسقون} أي: خارجون عن دينهم، أو خارجون عن الدين الحق الذي لا يقبل غيره، وهو الإسلام.
الإشارة: ذكر الحق جل جلاله في هذه الآية ثلاثة أمور، وجعلها سببًا للعن والطرد، وموجبة للسخط والمقت، أولها: الانهماك في المعاصي والعدوان، والإصرار على الذنوب والطغيان. والثاني عدم الإنكار على أهل المعاصي والسكوت عنهم والرضا بفعلهم، والثالث: موالاة الفجار والمودة مع الكفار، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم، وفي بعض الأخبار: (لو أن رجلاً قام الليل وصام النهار، ثم تودد مع الفجار لبعث معهم، ولو أن رجلاً عمل بالمعاصي ما عمل، ثم أحب الأبرار لحُشر معهم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويعضده حديث: «المَرءُ مَعَ مَن أحبَّ» والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (82- 86):

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}
قلت: القسيس: العالم، والراهب، العابد، و{مما عرفوا}: سببية، و{من الحق}: بيان أو تبعيض، وجملة: {لا نؤمن}: حال، والعامل فيها متعلق الجار، أي: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنيين، و{نطمع}: عطف على {نؤمن}، أو خبر عن مضمر، أي: ونحن نطمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لتجدن أشد الناس عداوة} للمؤمنين؛ اليهود والمشركين، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء، ومعاداتهم وعدوانهم لا ينقطع إلى الأبد.
{ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى}، للين جانبهم، ورقة قلوبهم، وقلة حرصهم على الدنيا بالنسبة لليهود، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل، وإليه أشار بقوله: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي: علماء، ومن جملة علمهم: علمُهم بوصاية عيسى بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، {ورهبانًا} أي: عبادًا، {وأنهم لا يستكبرون} عن قبول الحق إذا عرفوه، بخلاف اليهود؛ لكثرة جحودهم، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل محمود، وإن كان من كافر. قاله البيضاوي.
{وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {ترى أعينهم تفيض من الدمع}؛ من البكاء، جعل أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، وإنما يفيض دمعها، وذلك {مما عرفوا من الحق} حين سمعوه، أو من بعض الحق، فما بالك لو عرفوا كله؟ {يقولون ربنا آمنا} بذلك، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ {فاكتبنا مع الشاهدين} بأنه حق، أو بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم.
نزلت في النجاشي وأصحابه، حين دعوا جعفرًا وأصحابه، وأحضروا القسيسين والرهبان، وأمره أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم، فبكوا وآمنوا بالقرآن. وقيل: نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه، وفدوا من عنده من الحبشة بأمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم سورة {يَس}، فبكوا وآمنوا، فصدر الآية عام، فالنصارى كلهم أقرب مودة للمسلمين، من آمن، ومن لم يؤمن، وإنما جاء التخصيص في قوله: {وإذا سمعوا}، فالضمير إنما يرجع إلى من آمن منهم، كالنجاشي وأصحابه. وإنما جاء الضمير عامًا؛ لأن الجماعة تحمد بفعل الواحد. انظر ابن عطية.
ولما دخل الإيمان في قلوبهم حين سمعوا القرآن، عاتبوا أنفسهم على التأخر عن الإيمان فقالوا: {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق} {و} نحن {نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}، وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الأمم، وهذا منهم استفهامُ إنكار واستبعاد؛ لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي، وهو الطمع في الانخراط مع الصاحلين، والدخول في مداخلهم، {فأثابهم الله} أي: جازاهم {بما قالوا} واعتقدوا، {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} الذين اعتادوا الإحسان في جميع الأمور، أو الذين أحسنوا النظر وأتقنوا العمل.
ثم ذكر ضدهم فقال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}، شفع بهم حال المؤمنين المصدقين، جمعًا بين الترغيب والترهيب، ليكون العبد بين خوف ورجاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أشد الناس إنكارًا على الفقراء، وأشدهم عداوة لهم، من تقدم في أسلافه رئاسة علم أو جاه أو صلاح أو نسبة شرف، وأقرب الناس مودة لهم من لم يتقدم له شيء من ذلك، فالعوام أقرب وأسهل للدخول في طريق الخصوص من غيرهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (87- 88):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله} أي: لا تحرموا ما طاب ولذ مما أحله الله لكم، {ولا تعتدوا} فتحرموا ما أحللت لكم، ويجوز أن يراد: ولا تعتدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم، داعية إلى القصد بينهما، والوقوف على ما حد دون التجاوز إلى غيره. رُوِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفَ القِيامَة يومًا، وبالغ في إنذارهم، فَرَقوا، واجتمعوا في بيت عُثمان بن مظعون، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين، وألا يناموا على الفُرُش، ولا يأكُلوا اللحمَ والودَك، ولا يَقربُوا النساء والطَّيبَ، ويَرفضُوا الدُنيا، ويلَبسُوا المُسوح، ويَسيحُوا في الأرض، ويَجُبُّوا مَذَاكِرَهم، فَبلَغ ذلك رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: «إني لم أُومر بذلكَ، إنَّ لأنفُسِكُم عَليكُم حقًا، فصُومُوا وأفطِرُوا، وقُومُوا ونَاموا، فإنِّي أقُومُ وأنام، وأصُوم وأُفطِر، وآكُلُ اللحم والدَّسم، وآتى النساء، فَمَن رَغِبَ عن سُنتي فَليس مني» ونزلت الآية.
ثم قال تعالى: {وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا} أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}؛ فأحلوا حلاله واستعملوه، وحرموا حرامه واجتنبوه.
الإشارة: طريقةُ العباد والزهاد: رفض الشهوات والملذوذات بالكلية، زهدًا وورعًا وخوفًا من اشتغال النفس بطلبها، فيتعطل وقتهم عن العبادة، وطريقة المريدين السائرين: رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول، وتشره إليه رياضة وتعففًا، لئلا تتعلق هِممُهم بغير الله، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا الله عليه، ولا يقفون مع جوع ولا شبع. وطريقة الواصلين العارفين: تجنب ما يقبض من غير يد الله، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئًا، مع رؤية الواسطة، أخرجوه عن ملكهم، كما وقع لأبي مدين رضي الله عنه ويأخذون ما سوى ذلك قَلّ أو كثر، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك، وفي الحكم: (لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإن كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم).

.تفسير الآية رقم (89):

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}
قلت: {في أيمانكم}: يتعلق باللغو، أو بيؤاخذكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا يُواخذكم الله باللغو في أيمانكم} وهو ما يصدر من الإنسان بلا قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله. وإليه ذهب الشافعي، وقيل: هو الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة، {ولكن يُؤاخذكم بما عقدتم الإيمان} عليه، أي: بما جزمتم عليه بالنية والقصد، {فكفارته} أي: ما عقدتم عليه إذا حلفتم، ويجوز التكفير قبل الحنث لظاهر الآية.
ثم بيَّن الكفارة، فقال: {إطعام عشرة مساكين}، فمن أطعم غنيًا لم تجزه، واشترط مالك أن يكونوا أحرارًا، وليس في الآية ما يدل على ذلك، ثم بيَّن نوعه فقال: {من أوسط ما تُطعمون أهليكم} أي: من وسط طعام أهليكم في القدر أو في الصفة، أما القدر فقال مالك: يطعم مُدًا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في المدينة المشرفة، وفي غيرها وسط من الشبع، وقال الشافعي وابن القاسم: يجزئ المُد في كل مكان، وقال أبو حنيفة: إن غذاهم وعشاهم أجزأه.
قلت: وهو قول في المدونة لمالك أيضًا. وأما الصنف، فاختلف: هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش بلده وهو المشهور؟
فمعنى الآية على هذا: {من أوسط ما تطعمون} أيها الناس {أهليكم} على الجملة {أو كسوتهم}؛ فيكسو كل مسكين ما نصح به الصلاة، فالرجل ثوب، والمرأة قميص وخمار، {أو تحرير رقبة} مؤمنة على مذهب مالك؛ لتقييدها بذلك في كفارة القتل. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافر، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضًا أن تكون مسلمة من العيوب، وليس في الآية ما يدل عليه، فهذه الثلاثة بالتخيير.
{فمن لم يجد} واحدًا من هذه الثلاثة، ولم يقدر على شيء منها، بحيث لم يفضل له عن قوته وقوت عياله في يومه ما يطعم به، {فصيام ثلاثة أيام} يستحب تتابعها، اشترطه أبو حنيفة؛ لأنه قرئ: (أيام متتابعات)، والشاذ ليس بحجة، {ذلك} المذكور هو {كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وحنثتم، {واحفظوا أيمانكم} أي: صونوا ألسنتكم عن كثرة الحلف، فيكون الله عرضة لأيمانكم، أو احفظوها بأن تبروا فيها ولا تحنثوا، إلا إن كان في الامتناع من الخير، فالحنث فيها أحسن، كما في الحديث. أو احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم، ولا تتهاونوا بها، {كذلك يُبيّن الله لكم آياته} أي: مثل ذلك البيان يُبين لكم أعلام شرائعه {لعلكم تشكرون} نعمة التعليم، أو نعمه الواجب شكرها، فإن مثل هذا التبيين يُسهل لكم المخرج من ضيق اليمين، فهو نعمة يجب شكرها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ليس التشديد والتعقيد من شأن أهل التوحيد، إنما شأنهم الاسترسال مع ما يبرز من عنصر القدرة، ليس لهم وقت دون الوقت الذي هم فيه، قد حلّ التوحيد عُقدهم ودكّ عزائمهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يدبرون ولا يختارون، وإن وقع منهم تدبير أو اختيار رجعوا إلى ما يفعل الواحد القهار، لا يبطشون إلى شيء ولا يهربون من شيء، إلا إن كان فيه مخالفة للشرع.
ولا يعقدون على ترك شيء من المباحات ولا على فعله، لأنهم لا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركًا، إن صدرت منهم طاعة شهدوا المنّة لله، وإن وقعت منهم زلّة أو غفلة تأدبوا مع الله، وبادروا بالتوبة إلى الله، وما صدر من الصحابة رضوان الله عليهم فلعل ذلك كان حالاً غالبة عليهم، قد أزعجهم وعظ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهضهم حاله، فلما رآهم غلب عليهم الحال ردّهم إلى حال الاعتدال، ولعل الحق جل جلاله، إنما جعل كفّارة اليمين جبرًا لخلل ذلك التعقيد، الذي صدر من الحالف مع تفريطه بالحنث، فكأنه حلف على فعل غيره، ففيه نوع من التألي على الله. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (90- 92):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)}
قلت: {رجس} خبر، وأفرده؛ لأنه على حذف مضاف، أي: تعاطي الخمر، أو خبر عن الخمر، وخبر المعطوفات محذوف، أي: كذلك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إنما} تناول {الخمر}؛ وهو كل ما غيب العقل، دون الحواس، مع النشوة والطرب، {والميسر} وهو القمار {والأنصاب} وهو ما نصب ليُعبد من حجارة أو خشب، {والأزلام} أي: الاستقسام بها، وقد تقدم تفسيرها، {رجس} قذر خبيث تعافه العقول السليمة، {من عمل الشيطان} أي: من تسويله وتزيينه، {فاجتنبوه} أي: ما ذكر من تعاطي الخمر، وما بعده، {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالرضوان والنعيم المقيم.
قال البيضاوي: اعلم أن الحق تالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية، بأن صدّر الجملة بإنما، وقرنها بالأنصاب والأزلام وسماهما رجسًا، وجعلهما من عمل الشيطان، تنبيهًا على أن الاشتغال بهما شر محض، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعله سببًا يرجى منه الفلاح، ثم قرّر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ}، وقد وقع ذلك في زمن الصحابة، وهي كانت سبب تحريمه، {ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة}؛ إنما خصّ الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهًا على أنهما المقصودان بالبيان. وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «شَارِبُ الخَمرِ كَعَابِد الوَثَنِ».
وخصّ الصلاة من الذكر بالإفراد؛ للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان؛ من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبًا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال: {فهل أنتم منتهون}؟ إيذانًا بإن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية، وأن الأعذار قد انقطعت. اهـ. ولذلك لما سمعها الفاروق رضي الله عنه حين نزلت، قال: (قد انتهينا يا ربنا).
وبهذا الآية وقع تحريم الخمر، وقد كان حلالاً قبلها، بدليل سكوته صلى الله عليه وسلم على شربها قبل نزول الآية، فإن قلت: حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على تحريمها؟ قلنا: لا حكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، ولما طالت الفترة، وانقطعت الشرائع عند العرب، رجعت الأشياء إلى أصلها من الإباحة بمقتضى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَمِيعًا} [البَقَرة: 29]، حتى جاءت الشريعة المحمدية فحرمتها كالشرائع قبلها، فكانت حينئٍذ حرامًا، ودخلت في الكليات الخمس التي هي: حفظ العقول والأبدان والأموال والأنساب والأديان.
ثم أكد ذلك أيضًا بقوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فيما أمر ونهى {واحذروا} غضبهما إن خالفتم، {فإن توليتم} أو أعرضتم عن طاعتهما {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}؛ لا تضرّه مخالفتكم، إنما عليه البلاغ وقد بلغ.
الإشارة: المقصود هو النهي عن كل ما يصد عن الله أو يشغل العبد عن شهود مولاه، وخص هذه الأربعة، لأنها أمهات الخطايا ومنبع الغفلة والبلايا، فالخمر فيه فساد العقل الذي هو محل الإيمان، والميسر فيه فساد المال وفساد القلب بالعداوة، والشحناء، وفساد الفكر لاستعماله في الهوى، والأنصاب فيه فساد الدين الذي هو رأس المال، والأزلام فيه الفضول والاطلاع على علم الغيب، الذي هو سر الربوبية، وهو موجب للمقت والعطب، والعياذ بالله.