فصل: تفسير الآيات (58- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 59):

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
قلت: {حِطة}: خبر مبتدأ مضمر، أي: أمرنا حطة، أي: تواضع وانحطاط، وقال هنا: (فكلوا)، وفي الأعراف بالواو؛ لأن الأكل مرتب على الدخول، بخلاف السكنى، فإنها تفارق الأكل، فكأنه مأمور به.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين قلنا لأسلافكم بعد أن خرجوا من التيه: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أعني بيت المقدس، أو أريحاء، بعد أن تُجاهدوا أهلها، {فَكُلُوا} من نعم ما فيها أكلاً واسعاً؛ لأنها مخصبة، {وَادْخُلُوا} باب القرية راكعين، تواضعاً وشكراً، {وَقُولُوا} في دخولكم: شأننا {حِطَّةٌ}، أي: شأننا الانحطاط والتواضع لله، فإن فعلتم ذلك {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيد} من امتثل أمرنا، وأحسن الأدب معنا، خيراً كثيراً، في الدنيا والآخرة، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم قَوْلاً غيْر الَّذِي أمروا به، وقالوا مكان حطة: حنطة، حبة في شعرة، {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً} عذاباً {مِّنَ السَّمَاءِ} قيل: هو الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد، بسبب فسقهم وتعديهم الحدود.
الإشارة: يقول الحق سبحانه للأرواح، لما كمل تطهيرها من البقايا، وتكاملت فيها المزايا: ادخلوا هذه الحضرة المقدسة، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة، والمكالمة، والمواجهة، والمساورة، والمفاتحة، والمناجاة، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار، وأنشدوا:
ومَا رُمتُ الدخولَ عليهِ حتَّى ** حَلَلْتُ مَحَلَّةَ العبدِ الذليلِ

وأَغمضْتُ الجفُونَ على قَذَاها ** وصُنْت النَّفْسَ عن قالٍ وقيلِ

وقيل لأبي يزيد: يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتني من كوّة الذل والافتقار. وفي رواية قيل له: يا أبا يزيد: تقرب إلينا بما ليس عندنا، فقال: يا رب؛ وما الذي ليس عندك؟ فقال: الذل والافتقار. اهـ. وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضي الله عنه: (أتيت الأبواب كلها، فوجدت عليها الزحام، فأتيت من باب الذل والافتقار، فوجدته خالياً، فدخلت منه، وقلت: هلموا). أو كما قال. وقال الشاعر:
تَذَللْ لِمنْ تَهْوى فَلَيْسَ الهَوى سَهْلُ ** إذا رَضِيَ المحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوّصْلُ

وقولوا عند دخولكم الحضرة: شأننا حطة؛ أي: شأننا السفليات دون العلويات، فالسلوك من باب السفليات واجب، وإلا فلا وصول، فكل مَن سلك من باب السفليات طهر من البقايا، وتكاملت فيه المزايا، فيصلح لدخول الحضرة، وينخرط في سلك أهل الشهود والنظرة، فيكون من المحسنين المقربين، فلا جرم أن الله يزيده ترقياً في العلوم والأسرار، في هذه الدار، وفي تلك الدار، بخلاف مَن خالف ما أمر به من سلوك طريق السفليات، وتعاطي الأمور العلويات، قبل كمال التربية؛ فإنه يجرع إلى غم الحجاب، وسوء الحساب؛ بسبب خروجه عن طريق الأحباب، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قلت: {استسقى}: طلب السقي، و(ال) في {الحجر} للعهد، وهو الحجر الذي فرَّ بثوبه، أو حجر خفيف مربع مثل رأس الرجل، أُمر أن يحمله معه، فكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج الماء ضربه، قيل: كان من رخام، وقيل: كان كذَّان، كان فيه اثنتا عشرة حفرة، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب، على عدد الأسباط، فإذا أراد حمله ضربه فجفّ الماء منه، وقيل: للجنس، فكان يضرب أيَّ حجر وجد، فتنفجر منه عيوناً، ثم تسير كل عين في جدول إلى سبط، فقالوا: إن أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها عطشنا، فأوحى إليه: أن كلِّمْهُ يَطِعْك لعلهم يعتبرون.
و{فَانْفَجَرَتْ} معطوف على محذوف؛ أي: فضرب فانفجرت، والعُثو: أشد الفساد، عَثَا يعثَوا عثواً، وعثى يعثِي عثِياً، وعاث يعيث عيثاً، و{مفسدين}: حال مؤكدة لعاملها، أو مقيدة، إن قلنا: إن العثو أعم من الفساد، لصدقه على القصاص، فإنه عثر غير فساد. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين عطشتم في التيه، فطلبتم من موسى السقي، فاستسقى لكم، {فقلنا} له: {اضرب بعصاك} التي أخذتها من شعيب عليه السلام، وكانت من آس الجنة، وورثت عن آدم عليه السلام، فيها عشرة أذرع، فضرب {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} على عدد أسباطكم، فكل عين تجري إلى سبط {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَّشْرَبَهُمْ} مُعَيناً، لا يعدو أحد على أحد، فقلنا لهم: {كُلُوا} من المن والسلوى، {واشربوا} من الماء الذي رزقناكم، ولا تطغوا بالنعم فتفسدا في الأرض بالمعاصي والذنوب، فيكون ذلك كفراً مستوجباً للسلب بعد العطاء، رُوِيَ أنهم كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الأرواح إذا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأشرقت عليها الأنوار والأسرار، وكمل تطهيرها، وتمت تصفيتها، كان صاحبها آية من آيات الله، وحجة من حجج الله، إذا ضرب بعصا همته القلوب القاسية أو الأنفس الأبية، لانت وانفجرت بالعلوم القدسية، كل واحد بما يليق به، فمنها من تنبع بالعلوم الوهبية، ومنها من تنبع بالعلوم الرسمية، ومنها من تنبع بالكرامات وخوارق العادات، ومنها من تنبع منها المكاشفات والاطلاعات، قد علم كل أناس مشربهم، على حسب ما سبق لهم، فيقول الحق تعالى لهم: كلوا من ثمرات ما اجتنيتم من العلوم والمعارف التي أوليناكم، واشربوا من مناهل المنازل التي فيها أقمناكم، أو كلوا من ثمرات المعرفة ما تتقوى به معانيكم، واشربوا من خمر الحبيب ما تغيبوا به عن وجودكم، ولا تتعدوا أطواركم من القيام بوظائف العبودية، ومعرفة عظمة الربوبية، فتكونوا لسلب ما أولاكم متعرضين، ولعقوبته مستحقين، عائذاً بالله من السلب بعد العطاء. آمين.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قلت: المراد بالطعام الواحد: هو المنّ والسلوى. ووحَّده لأنه لا يختلف ولا يتبدل، كقولهم: طعام مائدة الأمير واحد، والبقل: جميع الخضر، كالنجم والكرنب والكراث وغير ذلك. والقثاء: جمع قثاءة، وهي الخيار والفقوس والبطيخ وغير ذلك من الفواكه التي تستنبت، والفوم قيل: الحنطة، والأصح أنه الثوم. قال الشاعر:
أنتُم أُناسٌ لِئامُ الأُصولِ ** طعامُكُم الفومُ والحَوقَلُ

أراد: الثوم والبصل. والعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول: معافير ومعاثير، وتقول للقبر: جدث وجدف.
والعدس: معلوم، روى عليّ- كرّم الله وجهه- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بالعدس، فإنه مبارك مقدس، وإنه يرقق القلب، ويكثر الدمعة، وإنه بارك فيه سبعون نبيّاً، آخرهم عيسى ابن مريم».
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا أيضاً حين {قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامِ وَاحِدٍ} حين مللتم من العسل واللحم، وملتم إلى عَكَرِكُمْ السوء، أي: مألوفكم وشهواتكم السيئة، لأنهم كانوا فلاحين، فقلتم: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ}، أي: من جنس ما ينبت الله فيها من البل والقثاء والعدس والفوم والبصل، قال موسى عليه السلام: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} وأخس من الثوم والبصل وغيرها، {بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} من اللحم والعسل، {اهْبِطُوا} إلى مصر من الأمصار، تجدوا ما تشتهون، إذ لا يوجد ذلك إلا في القرى والأمصار، أو {اهْبِطُوا مِصْراً} التي كنتم فيها أذلاء مستبعدين، تجدوا حظوظكم وشهواتكم؛ لأن الحظوظ والشهوات منوطة بالذل والهوان، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}، أي: ألزموها لزوم الدرهم المضروب لضربه ونقشه، فالذلة: ضرب الجزية، والمسكنة: فقر النفس وإن كان موسراً.
وإنما ضُربت عليهم الذلة والمسكنة لأنهم لم يرضوا بتدبير الحق، ولم يقنعوا برزقه، فكل مَن لم يقنع بقسمته وسئم من اتحاد رزقه، خيف عليه من ضرب الذل والمسكنة، وانقلبوا أيضاً {بِغَضَبٍ منَ اللَّهِ} حيث نقضوا العهود، وتعدوا الحدود، فكفروا وطغوا وقتلوا الأنبياء بغير حق، وسبب ذلك: تمردهم في العصيان، فإن المعاصي تجر بعضها إلى البعض حتى تنتهي إلى الكفر، والعياذ بالله من سخطه وعضبه.
الإشارة: كل مَن لم يقنع بالقسمة الأزلية، ولم يقم حيث أقامته القدرة الإلهية، بل جنح إلى حظوظه وهواه، وحرص على تحصيل أغراضه ومناه، قيل له: أتستبدل تدبيرك- الذي هو أدنى- بتدبير الحق- الذي هو خير-؟ أتترك تدبير الحكيم العليم، الرؤوف الرحيم، إلى تدبير عقلك الضعيف الجاهل الخسيس اللئيم؟! فعسى أن تدبر شيئاً يكون لك فإذا هو عليك. وعسى أن تأتيك المسار من حيث تعتقد المضار، وتأتيك المضار من حيث ترتجي المسار. ولله درّ القائل:
وكَم رُمْتُ أَمْراً خِرْتَ لي في انْصِرَافِهِ ** فَلاَ زلْتَ لي مِني أبَرَّ وأَرْحَمَا

عَزَمْتُ عَلَى ألاّ أُحِسَّ بِخَاطِرٍ ** عَلى القلْبِ إلاَّ كُنْتَ أَنْتَ المُقَدَّمَا

وألا تَرَانِي عِنْدَ مَا قَدْ نَهيْتَني ** لِكَونَك في قَلْبِي كَبيراً مُعَظَّمَا

يا مَن لم يقنع بتدبير مولاه، ومال إلى نيل حظه وهواه، اهبط إلى أرض الحظوظ والشهوات تجد فيها ما ألفته نفسك من عوائدك السيئات. يا مَن أخلدت نفسه إلى الهوى ومتابعة الشيطان، كيف تستبدل العز الدائم بالذل والهوان؟! وأنشدوا:
لاَ تَتْبعِ النفسَ في هَواهَا ** إنَّ اتِّباعَ الهَوَا هَوَانُ

قال في التنوير: فائدة: اعلم أن بني إسرائل لما دخلوا التيه، ورُزقوا المنّ والسلوى، واختار الله لهم ذلك رزقاً، رزقهم إياه، يبرز عن عين المنّة، من غير تعب منهم ولا نصب، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود، العادة، والغيبة عن شهود تدبير الله، غلى طلب ما كانوا يعتادونه، فقالوا: {ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض} الآية. {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضرب عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله}، وذلك لأنهم تركوا ما اختار الله لهم، مائلين لما اختاروا لأنفسهم، فقيل لهم عن طريق التوبيخ: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}؟ فظاهر التفسير: أتستبدلون الفوم والعدس والبصل بالمنّ والسلوى؟ وليس النوعان سواء في اللذة ولا في سقط المشقة وسر الاعتبار، أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد الله تعالى لكم؟ {أتستبدلون الذي هو أدنى} وهو ما أردتموه، {بالذي خير}، وهو ما أراده الله لكم؟ {اهبطوا مصراً} فإن ما اشتهيتموه لا يليق إلا أن يكون في الأمصار، وفي سر الخطاب: اهبطوا عن سماء التفويض وحسن التبدير منا لكم، إلى أرضي التدبير والاختيار منكم لأنفسكم، موصوفين بالذل والمسكنة؛ لاختياركم مع اختيار الله، وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله. ه المراد منه.
ولما ذَكَّرَهُمْ الحق تعالى بالنعمة، ووبَّخَهم على ارتكاب الآثام، رغَّبهم في الإسلام.

.تفسير الآية رقم (62):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قلت: {إن}: ناصبة مؤكدة، وخبرها: جملة {مَن آمن} أو {فلهم أجرهم}. و{مَن آمن}: بدل من اسمها، أو محذوف، والموصول: مبتدأ؛ أي: إن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين هادوا كذلك. و{هادوا}: تهودوا، أي: دخلوا في اليهودية. وسمّوا يهوداً؛ إما نسبة لأبيهم الأكبر (يهوذا بن يعقوب)، أو مِنْ هَادَ، إذَا تَابَ؛ لأنهم تابوا من عبادة العجل.
والنصارى: جمع نصران، وسُموا بذلك إما لنصرهم المسيح عليه السلام، أو لسكناهم معه في قرية يقال لها: (نصران)، والصابئون: طائفة من أهل الكتاب، خرجوا عن دين اليهودية وعبدوا الكواكب، يقال: صبا يصبو، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا بموسى، والذين آمنوا بعيسى- عليهما السلام-، والذين خرجوا عن دينهم وصبوا، {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ} وتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وعمل بشريعته، {فلهم أجرهم عند ربهم} إذا قدموا عليه بالنعيم المقيم، والنظر إلى وجهه الكريم، {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم} حين يخاف الكفار، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حين يحزن المفرطون والأشرار؛ إذ لا يلحقهم وبال ولا يفوتهم نوال. وبالله التوفيق.
الإشارة: إن الذين آمنوا إيماناً لا يختلجه وهم، ولا يطرق ساحته شك ولا ريب، إما عن برهان قاطع، أو عن شهود ساطع، والذين تابوا عن هواجس الخواطر وغفلات الضمائر، والذين نصروا الدين، وشيّدوا منار شريعة المسلمين، والذين صبوا إلى الحبيب، ومالوا عن كل بعيد وقريب، فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية، جمعوا بين تزيين البواطن بأنوار الإيقان، وتزيين الظواهر بأنواع الطاعة والإذعان، فلا جرم أنهم، إذا قدموا على ربهم، أجلَّ منصبهم، وأجزل ثوابهم، وأعلى مقامهم، فأولئك اولياء الله الذين {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
فالمخصوصون بالعناية أربعة: قوم أقامهم الحق تعالى لتنمية الإيمان وتربية الإيقان، إما عن دليل وبرهان- وهم أهل النظر والاعتبار،- وإما عن شهود وعيان- وهم أهل الشهود والاستبصار-، وقوم أقامهم الحق تعالى لتصفية نفوسهم وتزكية أحوالهم بالتوبة، والإقلاع عن كل وصف مذموم، وهم السائرون والطالبون، وقوم أقامهم لنصر الدين وإظهار شريعة المسلمين، إما بتقرير قواعده أو جهاد معانده، وهم العلماء والمجاهدون، وقوم أقامهم لخدمته، وملأ قلوبهم بهيبته، وهم العُباد والزهاد، مالوا عن الشهوات وتأنسوا به في الخلوات، هجرو الأوطان وفارقوا الأحباب والإخوان، صبوا إلى محبة الحبيب وتلذذوا بمناجاة القريب، فهؤلاء المخصوصون بعين العناية، المحفوظون بغاية الرعاية، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. حققنا الله بمقام الجميع بمنّه وكرمه. آمين.

.تفسير الآيات (63- 66):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
قلت: {لولا} حرف امتناع لوجود، تلزم الدخول على المبتدأ، وخبرها واجب الحذف عند سيبويه، أي: لولا فضل الله عليكم ورحمته موجودان، وقال الكوفيون، فاعل بمحذوف: أي: لولا أن ثبت فضل الله عليكم ورحمته، و{لكنتم}: جوابها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين {أَخَّدْنَا مِيثَاقَكُمْ} أن تقبلوا تكاليف التوراة، وكانت شاقة عليهم، فلما أبيتم قبولها، قلعنا الطور، ورفعناه فوقكم على مقدار عسكركم، كالظلة، وقلنا لكم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم} من التوراة بجد واجتهاد، {واذكروا ما فيه} من الوعظ والتذكير {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الله، فتفوزون بالخير الكثير، فقبلتم ذلك كرهاً {ثُمَّ تَوّلَّيْتُم} وأعرضتم بعد لك، فسفكتم الدماء، وقتلتم الأنبياء، {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بتوفيقكم للتوبة، {وَرَحْمَتُهُ} بقبولها منكم، فخسرتم الدنيا والآخرة.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} ما جرى للذين {اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} في زمن داود عليه السلام، وذلك في قرية يقال لها: أيْلة، كانت على شاطئ البحر، وقد نُهوا عن الاصطياد يوم السبت، فكانت الحيتان تخرج يوم السبت شُرَّعاً، فتُخْرِج خراطيمها للبر، فإذا كان يوم الأحد دخلت في البحر، فحفروا حياضاً، وشرعوا إليها جدوال، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد، فلمَّا لمْ يُعاقبوا على ذلك أحلُّوا يوم السبت، فانقسمت القرية على ثلاث فرق: قوم نهوا، وقوم سكتوا، وقوم اصطادوا، فمُسِخ من اصطاد قردة وخنازير؛ الشُّبان قردة، والشيوخ خنازير، فبقوا ثلاثة أيام وماتوا. فجعلنا تلك الفعلة التي فعلنا بهم- {نَكَالاً} وزجراً {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} في زمانها، وما خلفها؛ من يأتي بعدها، {وموعظة}: وتذكيراً {للمتقين} من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العائد ما تموت به نفسوهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب). والمراد باليد: الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود العيان.
قلت: وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كانت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته- حتى قوانا على العمل بما فيها- لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.