فصل: تفسير الآيات (12- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 13):

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
قلت: جملة {ليجمعنّكم}: مقطوعة، جواب لقسَم محذوف، وقيل: بدل من الرحمة، وهو ضعيف؛ لدخول النون الثقيلة في غير موضعها. وإلى: هنا، للغاية، كما تقول: جمعتُ القوم إلى داري. وقيل: بمعنى في و{الذين خسروا}: مبتدأ، وجملة: {فهم لا يؤمنون}: خبر، و{له ما سكن}: عطف على {لله}، وهو إما من السكنى فلا حذف، أو من السكون، فيكون حذف المعطوف. أي: ما سكن وتحرَّك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} للمشركين يا محمد: {لمن ما في السماوات والأرض} خلقًا وملكًا وعبيدًا؟. {قل} لهم هو: {لله} لا لغيره والقصد بالآية: إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك. وجاء ذلك بصيغة الاستفهام؛ لإقامة الحجة على الكفار، فسأل أولاً، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه؛ لأنَّ الكفار يُوافقون على ذلك ضرورة، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما في السماوات والأرض، وإنما يحسُن أن يكون السائلُ مجيبًا إذا عُلِم أن خَصمَه لا يخالفُه في الجواب الذي يقيم به الحجة عليه.
ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطُّف وإحسان فقال: {كتب على نفسه الرحمة}؛ {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] كما في الآية الأخرى، والكتابةُ هنا عبارة عن القضاء السابق، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنَّ اللهَ كتَبَ كتابًا قبلَ أن يَخلُقَ السَّماواتِ والإرضَ فَهُوَ عِندَه» وفيه: «أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي»، وفي رواية: «تَغّلِبُ غضبي».
قال البيضاوي: {كتب على نفسه الرحمة} أي: التزمها تفضلاً وإحسانًا، والمراد بالرحمة: ما يعُمُّ الدارين، ومن ذلك: الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. اهـ.
ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة، فقال: واللهِ {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة} أي: ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيُجازي أهل التوبة والإيمان، ويعاقب أهل الشرك والكفران، {لا ريب} في ذلك اليوم، أو في ذلك الجمع، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان، ولذلك قال: {الذين خسروا أنفسهم} بتضييع رأس مالهم، وهو النظر الصحيح الموجِب للإيمان والتوحيد {فهم لا يؤمنون} حتى أدركهم الموت؛ فلا خسران أعظم من ذلك. ودخلت الفاء في الخبر؛ للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم؛ فإن إبطال النظر، والانهماك في التقليد واتباع الوهم، أدَّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناع من الإيمان إلى الممات. فخسروا أولاً بتضييع النظر، فتسبب عنه عدم الإيمان.
ثم تمّم جوابه فقال: {وله ما سكن} أي: قل لهم: ما في السماوات والأرض لله، وله أيضًا ما سكن {في الليل والنهار} أي: ما استقر فيهما وما اشتملنا عليه، أو ما سكن فيهما وتحرك، {وهو السميع} لكل مسموع، {العليم} بكل معلوم؛ فلا يخفى عليه شيء في الليل والنهار، في جميع الأقطار.
الإشارة: إذا علم العبد أن الخلق كلهم في قبضة الله، وأمورهم كلها بيد الله، أحاط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا، لم يبق له على أحد عتاب، ولا ترتيبُ خطأ ولا صواب، إلاَّ ما أمرت به الشريعةُ على ظاهر اللسان. بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك في ملكه. فيتلقاه بالقبول والرضى، وفي الحِكَم: (ما تَركَ من الجهل شيئًا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه). هذا شأن أهل التوحيد؛ يدوُرون مع رياح الأقدار حيثما دارت، غيرَ أنهم يتحنَّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان، وينهضون بهمتهم إلى مَظانّ السعادة والغفران، ويرجون منه الجمع عليه في روح وريحان، وجنة ورضوان، بمحض فضل منه وإحسان. جعَلَنَا الله منهم بفضله وكرمه. آمين.

.تفسير الآيات (14- 18):

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}
قلت: {فاطر}: نعت لله، ومعناه: خالق ومبدع. قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما كُنت أعرف معنى فاطر، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطَرتها بيدي). وجملة: {وهو يطعم}: حال، وقرئ بعكس الأول؛ ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على أن ضمير {هو} راجع لغير الله، وببنائهما للفاعل؛ على معنى يُطعِم تارة، ويمنع أخرى، كقوله: {يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} [البَقَرَة: 245]، وجملة {إن عصيتُ}: معترضة بين الفعل والمفعول، والجواب: محذوف دل عليه ما قبله، أي: إن عصيتُ فإني أخاف عذاب يوم عظيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد: {أغير الله أتخذ وليًّا} أي: معبودًا أُواليه بالعبادة والمحبة، وأُشركه مع الله الذي أبدع السماوات والإرض، {وهو} الغني عما سواه، الصَّمَداني، {يُطعِمُ} ولا يحتاج إلى من يُطعمه، فهو يَرزُق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام؛ لشدة الحاجة إليه {قُل} لهم: {إني أُمرتُ أن أكون أول من أسلم}، وأنقاد بكُلّيتي إلى هذا الإله الحقيقي، العني بالإنطلاق، وأرفضُ كل ما سواه، ممن عمّه الفقرُ ابتداءً ودوامًا. فكان عليه الصلاة والسلام هو أولَ سابق إلى الدين. ثم قيل له: {ولا تكونن من المشركين}؛ تنفيرًا لغيره من الشرك، وإلاّ فهو مبرَّأ منه عليه الصلاة والسلام.
{قل إني أخاف إن عصيت ربي} بالشرك وغيره {عذاب يوم عظيم}، وهذه مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة، مستوجبون للعذاب، {من يُصرف عنه} ذلك العذاب، {يومئدٍ} أي: يوم القيامة، {فقد رحمه} أي: نجاه، وأنعم عليه، {وذلك الفوز المبين} أي: وذلك الصرف أو الرحمة هو الفلاح المبين.
ثم ذكر حجة أخرى على استحقاقه للعبادة والولاية، فقال: {وإن يمسسك الله بضرّ} كمرض أو فقر، {فلا كاشف له إلا هو}؛ إذ لا يقدر على صرفه غيره، {وإن يمسسك بخير}؛ بنعمة، كصحة وغنى ومعرفة وعلم، {فهو على كل شيء قدير}، فهو قادر على حفظه وإدامته، ولا يقدر أحد على دفعه، كقوله تعالى: {فَلآ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يُونس: 107]، {وهو القاهر} لجميع خلقه؛ كلهم في قبضته، {فوق عباده} بهذه القهرية والغلبة والقدرة، {وهو الحكيم} في صنعه وتدبيره، {الخبير} بخفايا أمور عباده، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم الباطنة والظاهرة.
الإشارة: في الآية حَضٌّ على محبة الحق، وولايته على الدوام، ورفض كل ما سواه ممن عمَّه الفقر من الأنام، وفيها أيضًا: حثّ على المسابقة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، اقتداء بسيد أهل الأرض والسماوات، فكان عليه الصلاة والسلام أول من عبد الله، وأول من توجه إلى مولاه، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعابِِِدِينَ} [الزّخرُف: 81]، فلو جاز أن يتخذ ولدًا، لكنت أنا أولى به، لأني أنا أول من عبده.
قال الورتجبي: {قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم} أي: أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون حيث لم يكن غيري في الحضرة أن أكول أول الخلق في المحبة والعشق والشوق، وأول الخلق له منقادًا بنعت محبتي له، راضيًا بربوبيته، غير منازع لأمر مشيئته. وقال بعضهم: أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر. اهـ.

.تفسير الآية رقم (19):

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ...}
قلت: {قل الله شهيد}: يحتمل المبتدأ والخبر، أو يكون {الله} خبرًا عن مضمر، أو مبتدأ حُذف خبره، و{شهيد}: خبر عمن مضمر، أي: قل هو الله، أو الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، و{من بلغ}: عطف على مفعول، أنذر، أي: لأنذركم يا أهل مكة، وأنذر من بلغه القرآن، وحذف مفعول {بلغ}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد للذين سألوك مَن يشهد لك بالنبوة: {أيُّ شيء} عندكم هو {أكبر شهادة}؟ فإن لم يجيبوا فقل لهم: هو {الله}؛ فإنه أكبر الشاهدين، وهو الذي يشهد لي بالنبوة والرسالة؛ بإقامة البراهين وإظهار المعجزات، وهو {شهيد بيني وبينكم}، وكفى به شهيدًا.
{وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به} أي: لأخوّفكم به، إن أعرضتم عنه، وأُبشِّركم به إن آمنتم به، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة؛ لأنه مصرح به في موضع آخر، ولأن الأهم هنا هو الإنذار؛ لغلبة الكفر حينئذٍ، وأُنذر به أيضًا كل من بلغه القرآن من الأحمر والأسود، والجن والإنس إلى يوم القيامة. وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعُم الموجودين وقت النزول ومَن بعدَهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه، وهو نادر، قال سعيد بن جبير: (مَن بلَغه القرآن فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم).
الإشارة: في الآية حثٌّ على اكتفاء بعلم الله، والاستغناء به عما سواه، وعلامةُ الاكتفاء بعلم الله ثلاث: استواء المدح والذم، والرضى بالقليل والكثير، والرجوع إلى الله وحده في السراء والضراء.
واعلم أن الحق تعالى إذا شهد لك بالخصوصية، ثم اكتفيت بشهادته فأنت من أهل الخصوصية، وإن لم تكتف بشهادته، وتطلعت إلى أن يعلم الناس بخصوصيتك، فأنت كاذب في دعوى الخصوصية. واطلاع الحق تعالى على ثبوت خصوصيتك هو شهادته لك، فاقنع بعلم الله، ولا تلتفت إلى أحد سواه، لئلا ينزعَها مِن قلبك، حيث لم تقنع بعلم الله فيك. وبالله التوفيق.
ولمّا أتى قومٌ من الكفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد؛ أما تعلم أن مع الله إلهًا آخر؟ أنزل الله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}
قلت: الاستفهام للإنكار والتوبيخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في الإنكار على المشركين: {أئنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أُخرى} تستحق أن تعبد {قل} لهم يا محمد: أنا {لا أشهدُ} بما تشهدون به، {قل} لهم: {إنما هو إله واحد}؛ بل أشهد ألا إله إلا هو، {وإنني بريءٌ مما تُشركون} به من الأصنام.
الإشارة: لم يَبرَأ من الشرك الخفي والجلِي إلا أهلُ الفناء؛ الذين وحدوا الله في وجوده، فلم يروَا معه سواه، قال بعضُ من بلغ هذا التوحيد: (لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع؛ فإنه لا غيرَ معه حتى أشهده) وقال آخر: مُحَالٌ أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم:
مُذ عَرَفتُ الإلَه لَم أرَ غَيرًا ** وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ

إلى غير ذلك من مقالاتهم الدالة على تحقيق وجدانهم. نفعنا الله بذكرهم ومحبتهم. آمين.

.تفسير الآيات (20- 21):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الذين آتيناهم الكتاب} من اليهود والنصارى، {يعرفونه} أي: محمدًا صلى الله عليه وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل، {كما يعرفون أبناءهم} أو أشد، وإنما كتموه؛ جحدًا وخوفًا على رياستهم.. {الذين خسروا أنفسهم} من أهل الكتاب؛ حيث كذَّبوا وكتموا، ومن المشركين حيث كفروا وجحدوا، {فهم لا يؤمنون}؛ لتضييعهم ما به يُكتسب الإيمان من النظر والتفكير والإنصاف للحق، فقد ظلموا أنفسهم وبخسوها.
{ومَن أظلم ممّن افترى على الله كذبًا}؛ بأن كتم شهادة الحق، وهي صفة الرسول عليه الصلاة والسلام أو ادّعاءُ الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، {أو كذَّب بآياته}؛ كالقرآن والمعجزات وسمَّوها سِحرًا، أي: لا أحد أظلم ممن فَعل هذا، وإنما عبَّر ب {أو}، وهم قد جمعوا بين الأمرين؛ تنبيهًا على أن كل واحد منهما وحده بالِغٌ غاية الإفراط في الظلم على النفس، {إنه} أي: الأمر والشأن {لا يُفلح الظالمون}، فضلاً عمّن لا أحد أظلم منه.
الإشارة: أقبحُ الناس منزلة عند الله، من تحقق بخصوصية ولي من أولياء الله، ثم كَتمها وجَحدها؛ حسدًا وعنادًا، وجعل يُنكر عليه، فقد آذن بحرب من الله، فالتسليمُ عناية، والانتقاد جناية، والاستنصافُ من شأن الكرام، والتعصب من شأن اللئام. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (22- 24):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
قلت: {لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا}، من قرأ بالرفع والتأنيث: ففتنة اسمها، و{إلاَّ أن قالوا}: خبرها، ومن قرأ بالنصب: فخبرٌ مقدم، والتأنيث لأجل الخبر، ومن قرأ بالتذكير والنصب، فخبر مقدم، و{إلاَّ أن قالوا}: أسمها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر يا محمد {يوم نحشرهم} أي: المشركين، {جميعًا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم} أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، {الذين كنتم} تزعمونهم شركاء، وتودونها وتنتصرون لها، فيُحالُ بينهم وبينها، ويتبرأون منها، كما قال تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} أي: لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به، إلا التبرؤ منه، بعد الانتصار له والتعصب عليه، أو: لم يكن جواب اختبارهم إلا التبرؤ من الشرك، فيكذبون ويحلفون عليه، مع علمهم بأنه لا ينفع من فَرط الحيرة والدهشة.
فإن قلت: كيف يجحدون مع قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} [النِّساء: 42] فالجواب: أن ذلك يختلف باختلاف الطوائف والمواطن، فيكتم قومٌ ويُقر آخرون، ويكتمون في موطن ويُقرون في موطن آخر؛ لأن يوم القيامة طويل، وقال ابن عباس لَمَّا سئل عن هذا: (إنهم جحدوا، طَمَعًا في النجاة، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم، فلا يكتمون حديثًا).
قال تعالى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} بِنفِي الشرك عنها بعد تحققها به ونظيره قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي: غاب عنهم ما كانوا يعبدونه من الشركاء افتراء على الله.
الإشارة: من أحب شيئًا فهو عبد له، ويوم القيامة يتبرأ منه، ويرى وبال فتنته والاشتغال به، فينبغي لمن أراد السلامة من الفتنة، أن يُفرد محبته لله، ويتبرأ من كل ما سواه، ويُفرد وجهته لله، ولا يشتغل ظاهرًا ولا باطنًا إلا بما يقربه من الله ويبعده عما سواه وفي الحديث: «تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ والدِّرهَمِ والخَمِيصَةِ، تَعِسَ وانتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انتَقَشَ».