فصل: تفسير الآيات (25- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 26):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
قلت: {مَنْ}: لفظها مفرد ومعناها جمع، فيجوز في الضمير مراعاة اللفظ فيُفرد، كقوله هنا: {ومنهم من يستمع إليك}، ويجوز مراعاة المعنى فيجمع، كقوله في يونس: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يُونس: 42]، والأكِنَّة: الأغطِية، جمع كنان، و{أن يفقهوه}: مفعول له؛ أي: كراهية أن يفقهوه، و{حتى}: غاية، أي: انتهى التكذيب حتى وصلوا إليك يجادلونك، والجملة بعدها: إمَّا في محل جر بها ويجادلونك جواب لها، و{يقول}: تبيين لها، وإما لا محل لها؛ فتكون ابتدائية. والأساطير: جمع أسطورة، أو أسطار؛ جمع سَطر، فيكون جمع الجمع.
يقول الحقّ جلّ دجلاله: ومن الكفار {من يستمع إليك} حين تقرأ القرآن، والمراد: أبو سفيان والوليد والنضر وعُتبة وشَيبَة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، فقالوا للنضر: ما تقول؟ فقال: والذي جعلها بيننا وبينه ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه، ويقول أساطير الأولين، مثل ما جئتُكم به. قال السُّهَيلي: حيث ما ورد في القرآن: {أساطير الأولين} فإنَّ قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلَّم أخبار ملوكِهم، فكان يقول: حديثي أحسنُ من حديث محمد، فنزلت فيه وفي أصحابه.
{وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً} أي: أغطية؛ كراهة {أن يفقهوه}؛ لما سبق لهم من الشقاء، {و} جعلنا {في آذانهم وقرًا} أي: ثقلاً وصمَمًا فلا يسمعون معانيه، ولا يتدبرونها. {وإن يَرَوا كلَّ آية} ومعجزة {لا يؤمنوا بها}؛ لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، وسبقِ الشقاء لهم، فلا يزال التكذيب والشك يعظُم فيهم {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} أي: حتى ينتهي بهم التكذيب إلى أن يجيؤوك يجادلونك؛ {يقول الذين كفروا إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأولين}، فإنَّ جَعلَ أصدق الحديث خرافاتِ الأولين غايةٌ التكذيب.
{وهم} أيضًا {يَنهون عنه} أي: ينهون الناس عن القرآن، أو عن الرسول والإيمان به، {وينأون عنه} أي: يبعدون عنه، فقد ضلوا وأضلوا، أو يَنهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ فلا يؤمنون، كأبي طالب ومن كان معه، يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة. وفي {ينهون} ضربٌ من ضروب التجنيس من علم البلاغة. قال تعالى: {وإن} أي: ما {يُهلكون} بذلك {إلا أنفسهم وما يشعرون} أن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم.
الإشارة: اعلم أن القلب تحجبه عن تدبر كلام الله والتمتع بحلاوته أربعةُ حُجُب:
الأول: حجاب الكفر والشرك ويندفع بالإيمان والإسلام.
والثاني: حجاب المعاصي والذنوب، وينخرق بالتوبة والانقلاع.
والثالث: حجاب الانهماك في الحظوظ والشهوات واتباع الهوى، وينخرق بالزهد والورع والتعفف ونوع من الرياضة.
والرابع: حجاب الغفلة والخوض فيما لا يعني، والاشتغال بالبطالة، وينخرق باليقظة والتوجه إلى الحق، والانقطاع إلى الله بكليته، فإذا انخرقت هذه الحجب عن القلب، تمتع بحلاوة القرآن ومناجاة الحق على نعت القرب والمراقبة.
وبقي حجابان آخران، إذا خرقهما العبد أفضى إلى مشاهدة المتكلم دون واسطة، أولهما: حجاب حلاوة الطاعة والمعاملة الظاهرة، والوقوف مع المقامات أو الكرامات، فإنها عند العارفين سموم قاتلة. وثانيهما: حجاب الوهم والوقوف مع ظاهر الحس، دون الوصول إلى باطنه، فيقف مع الأواني دون شهود المعاني، وقد قال الششتري:
لاَ تَنظرُ إلَى الاوانِي ** وَخُضْ بَحْر الْمعَانِي

لعلَّك تَرَانِي

وقال الغزالي: الموانع التي تحجب القلب عن الفهم أربعة: الأول: جعل الفهم مقصورًا على تحقيق الحروف؛ بإخراجها من مخارجها، فهذا يتولى حفظه شيطان وكُلِّ بالقراء، يصرفهم عن معاني كلام الله تعالى. والثاني: أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، من غير وصول إليه ببصيرة. الثالث: أن يكون مصرًا على ذنب، أو متصفًا بكبر، أو مبتلى بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب، وهو كالخبءِ على المرآة، فيمنع جلية الحق فيه، وهو أعظم حجب القلب، وبه حُجب الأكثرون، الرابع: أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلاَّ ما يتأوّل عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي منهي عنه، فهذا أيضًا من الحجب العظيمة، فإن القرآن بحرٌ لا ساحل له، وهو مبذول لمن يغرف منه إلى يوم القيامة، كل على قدر سعته وصفاء قلبه. اهـ. بالمعنى.

.تفسير الآيات (27- 28):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
قلت: {لو}: شرطية، وجوابها محذوف: أي: لرأيت أمرًا فظيعًا هائلاً، وإنما حذف في مثل هذا ليكون أبلغ ما يقدره السامع. و{لا نكذب} و{نكون}: قرئ بالرفع، على الاستئناف والقطع عن التمني، ومثَّله سيبويه بقولك: (دعني ولا أعود) أي: وأنا لا أعُود، ويحتمل أن يكون حالاً، أي: غير مُكذِّبين، أو عطفًا على: {نُرد}، وقرئ: بالنصب؛ على إضمار أن بعد واو المعية في جواب التمني.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولو ترى} يا محمد، أو: يا من تصح منه الرؤية، حالَ الكفار {إذ وقِفُوا على النار} حين يعاينونها أو يطّلعون عليها، أو يدخلونها، فيعرفون مقدار عذابها، لرأيت أمرًا شنيعًا وهولاً فظيعًا؛ {فقالوا} حينئذٍ: {يا ليتنا نُردُّ} إلى الدنيا، {ولا نُكذَّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون}، ندموا حين لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم، قال تعالى: {بل بدَا لهم} أي: ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم {ما كانوا يُخفون من قبل} في دار الدنيا من عيوبهم وقبائح أعمالهم، أو: بدا لهم حِقيّة الإيمان وبطلان ضده، عيانًا، لمَّا وقفوا الى التوحيد وعرفوه ضرورة، وقد كانوا في الدنيا يُخفونه ويُظهرون الشرك، عياذًا بالله. قال تعالى: {ولو رُدُّوا} إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور {لعادوا لما نُهوا عنه} من الكفر والمعاصي؛ لأنهم من قبضة الشقاء، والعياذ بالله، {وإنهم لكاذبون} فيما وعدوا من أنفسهم من الإيمان وعدم التكذيب. وفي هذا الإخبار بما لا يكون، ولو كان كيف يكون، وهو مما انفرَد الله بعلمه.
الإشارة: يوم القيامة هو محل ظهور حقائق الأشياء على ما هي عليه، فإن كانت حقًا ظهرت حقيقتها وصحتها، وإن كانت باطلة، ظهر بطلانها عيانًا، لكن لا تنفع المعرفة حينئذٍ، لرفع حجاب الحكمة وظهور القدرة، فلم يبقَ غيبٌ، وإنما المزِيَّةُ في الإيمان بالغيب، والمعرِفةَ في النكران، والشهود خلف رداء الكبرياء، بشهود المعاني خلف الأواني، فإن ظهرت المعاني فلا إيمان، وإنما يبقَى العيان، لأهل العيان، والخيبة لأهل الخذلان.
قال الورتجبي: القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا، ولو عرفوه لكانوا موحدين، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر، ولا ينفعهم ذلك؛ لفوتهم السير في النكرات، التي معرفتها توجب المعارف، وذلك المقام في آماكن صُدورهم، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر وشهوة العصيان بغير اختيارهم؛ لقلة عرفانهم به، ولا يكون قلبٌ من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب، بإلهام الله الذي يعرف به طُرُقَ رضى الحق، وصاحبه يعلم ذلك ويسمع ويُخفيه في قلبه، لأنه أدق من الشعرة، وحركته أخفى من دبيب النمل، ومع ذلك يعرفه من نفسه، ولكن من غلَبت شهواتُ نفسه عليه، لا يتبع خطاب الله بالسر، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه، تعييرًا لهم وحجة عليهم، انتهى.
قلت: قوله: ولا يكون قلب... إلخ، حاصل كلامه: أن القلب من حيث هو لابد أن يطرقه الخصم إن حاد عن الحق، وهو المراد بهواتف الغيب، لكنه أخفى من دبيب النمل في حق الغافلين. فإن كان القلب حيًّا متيقظًا تتبع ذلك الخصم؛ حتى يزيله بظهور الحق، وإن كان ميتًا بغلبة الشهوات أخفاه حتى يموت، فيبدون له ما كان يخفيه من قبل. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (29- 32):

{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} أي: الكفار في إنكار البعث: {إن هي} أي: الحياة {إلا حياتنا الدنيا} لا حياة بعدها، {وما نحن بمبعوثين}، قال جل جلاله: {ولو ترى إذ وُفقوا على ربهم}، كناية عن حبسهم للسؤال والتوبيخ، أو: وقفوا على قضاء ربهم بين عباده، وعرفوه حق التعريف، قال لهم الحق جل جلاله: {أليس هذا} الذي كنتم تُنكرونه، {بالحق قالوا بلى وربنا} إنه لحق، ولكنا كنا قومًا ضالين، وهو إقرار مؤكد باليمين، لانجلاء الأمر غاية الجلاء، قال تعالى لهم: {فذوقوا} أي: باشروا {العذاب بما كنتم تكفرون} أي: بسبب كفركم.
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله}، حيث فاتهم النعيم، واستوجبوا العذاب المقيم، والمراد بلقاء الله: البعث وما يتبعه. فاستمروا على التكذيب {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} أي: فجأة {قالوا يا حسرتنا} أي: يا هلكتنا {على ما فرطنا} أي: قصَّرنا {فيها} أي: في الحياة الدنيا، أو في الساعة، أي: في شأنها والاستعداد لها، {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}، كناية عن تحمل الذنوب، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: أنهم يحملونها حقيقة، وقد رُوِي: أن الكافر يركبه عمله، بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله، بعد أن يتصور له في أحسن صورة. قال تعالى في شأن الكفار: {ألا ساء ما يزرون} أي: بئس شيئًا يَزِرُونَهُ ويرتكبونه في الدنيا وزرهم هذا، الذي يتحملونه على ظهورهم يوم القيامة.
وسبب هذا: الركون إلى دار الغرور ونيسان دار الخلود، ولذلك قال تعالى بإثره: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} أي: وما أعمالها إلا لعب ولهو، تُلهي الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية، وما مدة بقائها مع ما يعقبها من الفناء إلاَّ كمدة اللعب واللهو، إذ لا طائل تحته لمن لم يعمر أوقاتها بطاعة ربه، {وللدار الآخرة خير للذين يتقون}؛ لدوامها وخلوص نعيمها وصفاء لذاتها، {أفلا تعقلون} أيّ الأمرين خير، هل دار الخراب والفناء، أو دار النعيم والبقاء، وفي قوله: {للذين يتقون}: تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين كله لعب ولهو.
الإشارة: إذا كمل نور العقل حصل لصاحبه التمييز بن الحق والباطل، وبين الضار والنافع، فنظر بعين اعتباره إلى الدنيا، فوجدها ذاهبة فانية، ونظر إلى الآخرة، فرآها مقبلة باقية دائمة، فصدف عن الدنيا مُوليًا، وأعرض عن زهرتها مدبرًا، وأقبل بكليته إلى مولاه، غائبًا عن كل ما سواه، فجعل الموت وما بعده نصب عينيه، وخلف الدنيا وراء ظهره أو تحت قدميه. وفي الحِكم: (لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا، وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها) وقال بعض الحكماء: (لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والأخرة من طين يبقى، لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى، ولاسيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى؛ والآخرة من ذهب يبقى). فلا يختار هذه الدار إلا من لا عقل له أصلاً. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «الدُّنيا دَارُ مَن لا دَار لَه، وَمَالُ مَن لا مَالَ لَهُ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ، وعلَيها يُعَادى مَن لا عِلم عِنده» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

.تفسير الآيات (33- 35):

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
قلت: {قد} للتحقيق، وإنه ضمير الشأن، وقرأ نافع: {يُحزن}، بضم الياء حيث وقع، إلا قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبيَاء: 103] والباقون: بفتح الياء، وفيه لغتان: حزن يحزُن، كنصر ينصر، وأحزن يحزِن. والأول أشهر. ومن قرأ: {يُكذّبُونَك} بالتشديد؛ فمعناه: لا يعتقدون كذبك، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه: لا يجدونك كاذبًا، يقال: أكذبت الرجل إذا وجدته كاذبًا، وقيل: معناهما واحد، يقال: كذّب فلانٌ فلانًا، وأكذبه، بمعنى واحد، وفاعل {جاءك}: مضمر، أي: نبأ أو بيان، وقيل: الجار والمجرور. وجواب {فإن استطعت}: محذوف، أي: فافعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} أي: الكفار في جانبك؛ من أنك شاعر أو كاهن أو مجنون أو كاذب،. {فإنهم لا يُكذبونك} في الحقيقة، لجزمهم بصحة نبوتك، ولكنهم يجحدون بآيات الله، حسدًا وخوفًا على زوال الشرف من يدهم: نزلت في أبي جهل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لاَ نُكَذِّبُكَ، ولكِن نُكذِّبُ بِمَا جئتَ بِهِ» وقال الأخنَسُ بن شُرَيق: والله إن محمدًا لصادق، ولكني أحسده الشرف. ووضع {الظالمين} موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم.
ثم سلاَّه عن ذلك، فقال: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأُوذوا} أي: صبروا على تكذيبهم وأذاهم، {حتى أتاهم نصرنا}، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم، وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين، ولذلك قيل: الصبر عنوان الظفر. {ولا مبدل لكلمات الله} السابقة بنصر الصابرين، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات: 171، 172]، {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} أي: من قصصهم، وما كابدوا من قومهم حتى نصرهم الله فتأنس بهم وانتظر نصرنا.
{وإن كان كَبُر} أي: عظم وشق {عليك إعراضهم} عنك وعن الإيمان بما جئت به، {فإن استطعت أن تبتغي نفقًا} أي: سريًا {في الأرض} فتدخل فيه لتطلع لهم آية، {أو سُلَّما في السماء} لترتقي فيه {فتأتيهم بآية} حتى يعاينوها فافعل، ولكن الأمر بيدي، فإنما أنت نذير.
قال البيضاوي: المقصود: بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها؛ رجاء إسلامهم، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أي: لو شاء الله جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يُؤمنوا، ولكن لم تتعلق به مشيئته، وفيه حجة على القدرية. أو: لو شاء الله لأظهر لهم أية تلجئهم إلى الإيمان، لكن لم يفعل؛ لخروجه عن الحكمة، {فلا تكونن من الجاهلين} أي: من الذين يحرصون على ما لم تجر به المقادير، أي: دم على عدم كونك منهم ولا تقارب حالهم بشدة التحسر. اهـ.
وقال في نوادر الأصول: إن الخطاب به تربية له، وترقيةُ من حال إلى حال، كما يُربَّى أهل التقريب ويُنقلُون من ترك الاختيار، فيما ظاهرُه بِرٌ وقربة. اهـ.
قلت: تشديد الخطاب على قدر علو المقام، كما هو معلوم من الأب الشفيق أو الشيخ الناصح، وقد قال لنوح عليه السلام: {إِنّيَ أَعِظُكِ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هُود: 46]. وهذا الخطاب أشد لعلو مقامه صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: كل ما سُلِّيت به الرسل تسَّلى به الأولياء؛ لأنهم ورثتهم الخاصة، وكل ما أُمرت به الرسل تؤمر به الأولياء، من الصبر وعدم الحرص، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، ولا الحزن على من أدبر عنهم أو أنكر، بل هم يزرعون حكمة التذكير في أرض القلوب، وينظرون ما ينبت الله فيها، اقتداءً بما أُمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، وما تخلق به، فمن أصول الطريقة: الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضراء. والله تعالى أعلم.