فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنما يستجيب} لك، ويُجيب دعوتك إلى الإيمان {الذين يسمعون} سماع تفهم وتدبر، وهو من كان قبله حيًا، وأما الكفار فهم موتى لا يسمعون ولا يفقهون، {والموتى}، وهم الكفار الذين ماتت أرواحهم بالجهل حتى ماتوا حسًا، {يبعثهم الله}، فيظهر لهم حينئذٍ الحق، ويسمعون حين لا ينفع الإيمان، أو يبعثهم الله في الدنيا بالهداية، أو الموتى حقيقة حسًا، يبعثهم الله للحساب، {ثم إليه يُرجعون} للجزاء.
الإشارة: إنما يستجيب لدعوة الخصوصية، ويُجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية، الذين سبقت لهم العناية، وأحيا اللهُ قلوبهم بالهداية، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح، ويتَرقَّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح؛ والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم الله ببركة صُحبة أهل الله فَتهُبُ عليهم نفحات الهداية؛ لِما سبق لهم من سر العناية، ثم إليه يُرجعون فيتنعمون في حضرة الشهود، في مقعد صدقٍ عند الملك الودود.

.تفسير الآيات (37- 38):

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى الله: {لولا نُزل عليه آية من ربه} تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى الله، وعلى أنه رسول من عند الله، {قل} لهم: {إن الله قادر على أن ينزل آية} خارقة للعوائد، يرونها عيانًا، وتضطرهم إلى الإيمان، {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أن إنزالها وبالٌ عليهم؛ لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقاب، أو: لا يعلمون أن الله قادر على أكثر مما طلبوا؟.
وهذا الطلب قد تكرر منهم في مواضع من القرآن، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة، منها: ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات؛ لأنهم قد أتاهم بآيات، وتحصيل الحاصل لا ينبغي، كقوله: {قّدْ بَيَّنَّا الأَيَاتِ} [البَقَرَة: 118]، {أَوَلَمْ يَكُفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]، ومنها: ما يقتضي الإعراض عنهم؛ لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته. ويحتمل أن يكون منه قوله هنا: {قل إن الله قادر...} الآية.
فإن قيل: كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة، كانشقاق القمر، وإخبارهم بالغيب، وغير ذلك؟ فالجواب: أنهم لم يعتدوا بما رأوا؛ لأن سر الربوبية لا يظهر إلاَّ ومعه شيء من أردية القهرية، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر، وهو خلاف الحكمة.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره، فقال: {وما من دابة} تَدِبُّ {في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} في الواء، {إلا أمم أمثالكم}؛ مقدرة أرزاقها، محدودة آجارها، معدودة أجناسها وأصنافها، محفوظة ذواتها، معلومة أماكنها، كلها في قبضة الحق، وتحت قدرته ومشيئته، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، فيدل على قدرته على أن ينزل آية، وعلى بعثهم وحشرهم؛ لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم، كما قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ، {من شيء}؛ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق، لم يهمل فيه أمرَ حيوان ولا جماد، ظاهرًا ولا باطنًا، أو القرآن؛ فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، حتى قال بعض السلف: (لو ضَاع لي عِقالٌ لوجتُه في كِتَابِ الله) أي: باعتبار العموم وأصول المسائل.
قال تعالى: {ثم إلى ربهم يُحشرون} أي: الأمم كلها، فيُنصف بعضها من بعض. كما رُوِي أنه يُؤخذ للجَمَّاء من القَرنَاء وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: يُحشر الخلقُ كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغُ من عَدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كُوني ترابًا، فذلك حيث يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النّبَأ: 40]. وفي المسألة اضطراب بين العلماء، والصحيح هو حشرها، كما قال تعالى: {وَإِذّا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التّكوير: 5]، وعن ابن عباس رضي الله عنه: (حشرها موتها). والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم مرارًا أن طلب الكرامات من الأولياء: لقلة الاعتقاد فيهم وقلة الصدق. وأكمل الكرامات: الاستقامة على التوحيد في الباطن، وتحقيق العبودية في الظاهر. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والذين كذبوا بآياتنا} الدالة على كمال قدرتنا وتحقيق وحدانيتنا، أو بآياتنا المنزلة على رسولنا، هم {صمٌّ} لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظيم قدرته سماعًا تتأثر به نفوسهم، {و} هم أيضًا {بُكم} لا ينطقون بالحق، وهم {في الظلمات} أي: خائضون في بحر ظلمات الكفر والجهل، وظلمة العناد، وظلمة التقليد، فوصفهم بالصمم والبَكَم والعَمى، ويؤخذ العمى من قوله: {في الظلمات}، وهذا كله داخل تحت مشيئته وعلمه السابق؛ {من يشأ الله يُضلله} عدلاً، {ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}؛ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه، فيتبع الطريق الذي لا عوج فيه.
الإشارة: أولياء الله في أرضه من آيات الله، فمن كذب بهم بقي في ظلمة الجهل بالله وظلمة حجاب النفس وحجاب الأكوان، محجوبًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، قلبه أصم عن تَذَكُّرِ الحقائق، ولسانه أبكم عن النطق بحكم العلم والأسرار، لم تسبق له في مشيئة الحق عناية، ولا هَبَّ عليه شيءٌ من رياح الهداية، عائذًا بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء.

.تفسير الآيات (40- 41):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)}
قال في المشارق: أرأيتك: معناه: الاستخبار والاستفهام، أي: أخبرني عن كذا، وهو بفتح التاء في المذكر والمؤنث والواحد والجمع، تقول: أرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم، ولم تُثَن ما قبل علامة المخاطب ولم تَجمعَهُ، فإذا أردت معنى الرؤية أي البصرية ثَنيت وجمعت وأنثت، فقلت: أرأيتك قائمًا، وأرأيتُكِ قائمة، وأرأيتكما وأرأيتموكم وأرأيتيكن. اهـ. وقال في الإتقان: إذا دخلت الهمزة على رأيت امتنع أن يكون من رؤية العين والقلب، وصار المعنى: أخبرني، وهو خلاف ما قال في المشارق، فانظره وانظر الحاشية الفاسية.
قال البيضاوي: {أرأيتكم}: استفهام تعجب، والكاف: حرف خطاب، أكد به الضمير للتأكيد، لكن لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيدًا ما شأنه، فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعدَّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، ولزم في الآية أن يقول: أرأيتكموكم، بل الفعل معلق، أو المفعول محذوف، وتقديره: أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها إن أتاكم عذاب الله، ويدل عليه: {أغير الله تدعون}. اهـ. وجواب {إنْ}: محذوف؛ أي: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فمن تدعون؟ وجواب {إن كنتم}: محذوف أيضًا؛ أي: إنَّ كنتم صادقين في أنَّ غير الله ينفعكم فادعوه، ثم وصفهم بأنهم لا يدعون حينئذٍ إلا الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد: {أرأيتكم} أي: أخبروني {إن أتاكم عذاب الله} في الدنيا كما أتى من قبلكم، {أو أتتكم الساعة} وأهوالها، {أغير الله تدعون} وتلتجئون إليه في كشف ما نزل بكم {إن كنتم صادقين} أن الأصنام آلهة، لا، {بل أياه تدعون} وحده، {فيكشف ما تدعون إليه} أي: ما تدعونه إلى كشفه، {إن شاء} أن يتفضل عليكم بالكشف في الدنيا، وقد لا يشاء، {وتنسون ما تشركون} أي: وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت؛ لِما ركز في العقول من أنه قادر على كشف الضر دون غيره، أو تنسون من شدة الأمر وهوله.
الإشارة: إنما يظهر توحيد الرجال عند هجوم الأحوال، فإن رجع إلى الله وحده ولم يلتفت إلى شيء سواه، علمنا أنه من الأبطال، وإن فزع إلى شيء من السَّوى، علمنا أنه من جملة الضعفاء. وعندهم من جملة أصول الطريق: الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فإن رجع إليه أجابه فيما يريد، وفي الوقت الذي يريد، وقد لا يريد على حسب إرادة المريد. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (42- 45):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: تخويفًا لهذه الأمة: {ولقد أرسلنا إلى أمم} مضت {من قبلك} رسلاً فأنذروهم، فكذبوا وكفروا {فأخذناهم بالبأساء} أي: الشدة، كالقحط والجوع، {والضراء} كالأمراض والموت والفتن، تخويفًا لهم {لعلهم يتضرعون} أي: يتذللون ويتوبون من ذنوبهم، فلم يفعلوا، {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي: هلاَّ تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم، وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد، {ولكن قست قلوبهم} أي: صلُبت ولم تلن، {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}؛ فصرَفهم عن الضرع، أي: لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
{فلما نسوا ما ذكروا به} أي: تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء، ولم ينزجروا، {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} من أنواع الرزق وضروب النعم، مراوحة عليهم بين نوبَتي الضراء والسراء، وامتحانًا لهم بالشدة والرخاء، إلزامًا للحجة وازاحة للعلة، أو مكرًا بهم، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مُكر بالقوم ورب الكعبة» {حتى إذا فرحوا} أي: أعجبوا {بما أوتوا} من النعم، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه، {أخذناهم بغتة} أي: فجأة {فإذا هم مبسلون} مُتحيرون آيسون من كل خير، {فقطع دابر القوم الذين ظلموا} أي: قطع آخرهم، ولم يبق منهم آحد، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية، {والحمد لله رب العالمين} على إهلاكهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعِمٌ جليلة، يحق أن يحمد عليها؛ من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: المقصود من إظهار النقم الظاهرة؛ ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة، فإن الأشياء كامنة في أضدادها، النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال، إن وقع الرجوع إلى الله والانكسار والتذلل. «أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم مِن أجلي». فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة، تُوجب نعمًا غزيرة، فإذا قسَت القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع، كان النازل بلاءً ونقمة وطردًا وبُعدًا. فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها: ما يكون أدبًا وكفارة، ومنها: زيادة وترقية، ومنها: ما يكون عقوبة وطردًا، فإن صحبها التيقظ والتوبة، كان أدبًا مما تقدم من سوء الأدب، وإن صحبه الرضى والتسليم، ولم يقع ما يوجب الأدب، كان ترقية وزيادة، وإن غضب وسخِط كان طردًا وبُعدًا. أعاذنا الله من موارد النقم.

.تفسير الآيات (46- 47):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم أيضًا: {أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} أي: أصمَّكم وأعماكم، {وختم على قلوبكم}؛ بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمُكم، {مَن إله غير الله يأتيكم به} أي: بذلك المأخوذ. {انظر كيف نُصرف الآيات} أي: نُكررها على جهات مختلفة، كتصريف الرياح، تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنيبة والتذكير بأحوال المتقدمين، {ثم هم يصدفون} أي: يعرضون عنها ولم يلتفتوا إليها، و{ثُم}: لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
و{قل} لهم أيضًا: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة} من غير مقدمة {أو جهرة} بتقديمها، فالبغتة: ما لم يتقدم لهم به شعور، والجهرة: ما قدمت لهم مخايلة، وقيل: بغتة بالليل، وجهرة بالنهار، {هل يُهلك} أي: ما يُهلك به هلاك سخط وتعذيب، {إلا القوم الظالمون} بالكفر والمعاصي.
الإشارة: إنما خلق الأسماع والأبصار، لسماع الوعظ والتذكار، ولنظرة التفكر والاعتبار، فمن صرفهما في ذلك فقد شكر نعمتهما، ومن صرفهما في غير ذلك فقد كفر نعمتهما، ومن كفر نعمتهما يوشك أن تؤخذ منه تلك النعمة، وكذلك نور العقل، ما جعله الله في العبد إلا ليعرفه به، ويعرف دلائل توحيده، ويتبصرّ به في أمره. فإذا صرفه في تدبير هواه وشهواته فقد كفر نعمته، فيوشك أيضًا أن يؤخذ منه.
وإذا أنعم الله عليه باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله؛ فليكن على حذر من آخذ ذلك منه أيضًا، فلا يأمن مكر الله، فإن الأسماع والأبصار والقلوب بيد الله، يُقلبها كيف شاء، فإن أخذها لن يقدر على ردها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، والعذاب الذي يأتي بغتة، هو السلب بغتة، أي: فقد القلب في مرة واحدة، والذي يأتي جهرة هو فقده شيئًا فشيئًا، وسبب هذا الهلاك: هو ظلم العبد لنفسه، إما بسوء أدب مع الله، أو نقض عهد الشيوخ العارفين بالله. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآيات (48- 49):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} للمؤمنين بالنعيم المقيم، {ومنذرين} للكفار بالعذاب الأليم، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم، {فمن آمن} بهم، {وأصلح} ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم، {فلا خوف عليهم} من العذاب، {ولا هم يحزنون} لفوات الثواب، {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا يمسهم العذاب} أي: يلحقهم، جعل العذاب ماسًّا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن توصيفه. وذلك المس {بما كانوا يفسقون} أي: بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.
الإشارة: ما من زمان إلا ويبعث الله أولياء عارفين، مبشرين لم أطاعهم واتبعهم بطلعة أنوار الحضرة على أسرارهم، ومنذرين لمن خالفهم بظهور ظلمة الكون على قلوبهم وانطباع الأكوان في أسرارهم، فمن آمن بهم وصحبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بدليل قوله: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يُونس: 62]، ومن كذب بهم وبما يظهر على أيديهم من أسرار المعارف يمسهم عذاب القطيعة، بما كانوا يفسقون، أي: بخروجهم على طاعتهم والإذعان إليهم.