فصل: الحديث الثَّانِي بعد الْعشْرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الحَادِي بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ الاستبداد بخُمْس الخُمْس».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد نطق بِهِ الكتابُ الْعَزِيز، مَعَ أَحَادِيث شهيرةٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أَخْمَاس الْفَيْء، كَمَا سلف فِي بَابه.

.الحديث الثَّانِي بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام».
هَذَا صَحِيح، فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء بِغَيْر إحرامٍ».
وَفِيه وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول دخل عَام فتح مَكَّة، وَعَلَى رَأسه المِغْفَر، فلمَّا نَزَعَةُ جَاءَهُ رجلٌ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن ابْن خطل متعلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة! فَقَالَ: اقْتُلُوه».

.الحديث الثَّالِث بعد الْعشْرين:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورَّث، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة».
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب: قَسْم الْفَيْء وَالْغنيمَة.

.الحديث الرَّابِع بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ».
هَذَا اسْتدلَّ لَهُ البيهقيُّ بِحَدِيث عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- «أَن هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح، وَلَيْسَ يعطيني مَا يَكْفِينِي وَوَلَدي، إِلَّا مَا أخذتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يعلم؟ فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وولدكِ بِالْمَعْرُوفِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَفِي كَون هَذَا قَضَاء نظر، فضلا عَن كَونه قَضَاء بِعِلْم، سَتَعْلَمُهُ فِي بَاب الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب.

.الحديث الخَامِس بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ أَن يَقْبَلَ شَهَادَة من يشهدُ لَهُ» هَذَا صَحِيح، وَيشْهد لَهُ حَدِيث خُزَيْمَة فِي قصَّة الْفرس الَّذِي بَاعه لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْأَعرَابِي ثمَّ أنكرهُ، وَأَرَادَ أَن يَبِيعهُ لغيره بأزيد مِمَّا باعهِ لَهُ وَقَالَ: «هَلُمَّ شَهِيدا يشْهد أَنِّي بَايَعْتُك؟، فَقَالَ خُزَيْمَة: أشهد أَنَّك قد بايَعْتَه، فأقبَلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى خُزَيْمَة وقَال: بِمَ تشهد؟ قَالَ بتصديقك يَا رَسُول الله، فَجعل عَلَيْهِ السَّلَام شَهَادَة خُزَيْمَة بِشَهَادَة رجلَيْنِ».
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، أخرجه أَبُو دَاوُد، وصححها الْحَاكِم، وَخَالف ابْنُ حزم فأعله.

.الحديث السَّادِس بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا ينْتَقض وضوءه بِالنَّوْمِ».
هَذَا صَحِيح؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها... فِي الْوتر: «إِن عَيْني تنامان، وَلَا ينَام قلبِي».
وَمثله أَيْضا: حَدِيث ابْن عَبَّاس الثَّابِت فِي الصَّحِيح فِي مبيته عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم و«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم نَام بعد أَن صلَّى حَتَّى نفخ، ثمَّ قَامَ وصلَّى وَلم يتَوَضَّأ».

.الحديث السَّابِع بعد الْعشْرين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِيمَا حَكَى صَاحب التَّلْخِيص: «أَنه كَانَ يجوز أَن يَدْخل الْمَسْجِد جُنُبًا». وَلم يقبله الْقفال وَقَالَ: لَا إخَاله صَحِيحا.
قلت: سلف فِي الغُسْل حديثُ أُمِّ سَلمَة فِي ذَلِك. وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعليّ: «لَا يحل لجُنُبٍ فِي هَذَا الْمَسْجِد: غَيْرِي وغيرُكَ».
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، قَالَ: وَسمع منِّي البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث؛ وَاسْتَغْرَبَهُ.
قلت: سَببه أَن مَدَاره عَلَى سَالم بْنِ أبي حفصةُ، وعطية الْعَوْفِيّ، وهما ضعيفان جدا شيعيان متَّهمان فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، وَقد أَجمعُوا عَلَى تَضْعِيف سَالم، وعلَّلوه بالتشيُّع، وَالْجُمْهُور عَلَى تَضْعِيف عَطِيَّة، فيُعْترض إِذًا عَلَى الترمذيِّ فِي تحسينه لَهُ، لَا جرم اعْترض عَلَيْهِ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه مرج الْبَحْرين لَكِن قد يُقَال: لَعَلَّه اعتضد عِنْده بشاهدٍ آخر أَو متابع فَصَارَ حَسَنًا بِهِ، وَقد ذكره البغويُّ فِي مصابيحه عَلَى اصْطِلَاحه وَنقل بَعضهم عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَنه نسبه إِلَى الْوَضع.
قلت: وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده من حَدِيث الْحسن بن زيد، عَن خَارِجَة بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص قَالَ: «قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لعليِّ: لَا يحل لأحدٍ أَن يَجْنُبَ فِي هَذَا الْمَسْجِد: غَيْرِي وغيرُكَ».
قَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الْكَلَام لَا نعلمهُ يُرْوى عَن سعد إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَا نَعْلم رَوَى عَن خَارِجَة بن سعد إِلَّا الحَسَنَ هَذَا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث عَمْرة بنت أَفْعَى، عَن أُمِّ سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا يَنْبَغِي لأحدٍ يَجْنُبُ فِي هَذَا الْمَسْجِد إِلَّا أَنا وعليٌّ» فِيهِ عبد الْجَبَّار بن الْعَبَّاس، أَظُنهُ الشبامي وَفِيه خلف، قَالَ ابْن معِين وَأَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة.
وَقَالَ الْجوزجَاني: غال فِي سوء مذْهبه- يَعْنِي: التَّشَيُّع.
وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه، وَكَانَ يتشيع. وَقَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس ثَنَا عَنهُ وَكِيع وَأَبُو نعيم، لكنه كَانَ يتشيع، وأسرف أَبُو نعيم فَقَالَ: لم يكن بِالْكُوفَةِ أكذب مِنْهُ.
فَائِدَة: مُقْتَضَى هَذَا الحَدِيث اشْتِرَاك عَلّي مَعَه فِي ذَلِك، وَلم يَقُلْ بِهِ أحدٌ من الْعلمَاء، وَذكر التِّرْمِذِيّ عقب إِيرَاده الحَدِيث السالف عَن ضرار بن صرد أَن مَعْنَى الحَدِيث لَا يَسْتَطْرِقهُ جُنُبا غَيْرِي وغيركَ.
وَهَذَا التَّفْسِير فِيهِ نظر؛ فَإِن هَذَا الحُكْم لَا يخْتَص بِهِ؛ بل أُمَّته كَذَلِك بِنَصِّ الْقُرْآن.

.الحديث الثَّامِن بعد الْعشْرين:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي اتخذتُ عنْدك عهدا لن تُخْلِفَنيهُ، وَإِنَّمَا أَنا بَشَرٌ، فأيُّ الْمُؤمنِينَ آذيتُه أَو شَتَمْتُه أَو لَعَنْتُه فاجعلها زَكَاة وَصَلَاة وقُربةً تُقَرِّبُهُ بهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِنَّمَا أَنا بشر، أغضب كَمَا يغْضب البَشَرُ، فإيما رجل من الْمُسلمين سَبَبْتُهُ أَو لَعَنْتُهُ أَو جَلَدْتُه؛ فاجعلها لَهُ صَلَاة وَزَكَاة وقُرْبَهً تقرِّبه بهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة، واجعلْ ذَلِك كَفَّارَة لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة».
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أَو جَلَدُّهُ».
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: وَهِي لُغَة أبي هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا هِيَ: «جَلَدْتُه».
وَرَوَى مُسلم نَحوه من حَدِيث أنس وجَابر وَعَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَلَفظ أَحْمد فِي حَدِيث أنسٍ: «أَيّمَا إِنْسَان من أُمَّتي دعوتُ الله عَلَيْهِ أَن يَجْعَلهَا لَهُ مغْفرَة».
وَفِيه قصتُهُ مَعَ حَفْصَة، وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أَبَى سعيدٍ الْخُدْرِيّ أَيْضا.

.الحديث التَّاسِع بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ عَن تِسْعِ نِسْوةٍ».
هَذَا صَحِيح مَشْهُور، لَا يحْتَاج إِلَى عَزْوٍ، وَفَى الْأَحَادِيث المختارة للضياء الْمَقْدِسِي من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوَّج خَمْسَ عشرَة، وَدخل مِنْهُنَّ بِإِحْدَى عشرَة، وَمَات عَن تِسْعٍ».
وَقد ذكرتُ عَدَدَهُن مَعَ الْخلاف فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتابي: «غَايَة السُّول فِي خَصَائِص الرَّسُول» فليراجعْ مِنْهُ.

.الحديث الثَّلَاثُونَ:

«قصَّة النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ زيدٍ حِين طلَّق زيدٌ زَوْجَتَه، وَتَزَوجهَا النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».
هَذِه الْقِصَّة صَحِيحَة مَشْهُورَة، وَمِمَّنْ رَوَاهَا: البخاريُّ فِي صَحِيحه من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَ زيد بن حَارِثَة يشكو، فَجعل النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: اتّقِ الله وأمسكْ عَلَيْك زَوْجَكَ. قَالَ أنس: لَو كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَاتِما شَيْئا لكَتم هَذِه الْآيَة. قَالَ: وَكَانَت تفتخر عَلَى نسَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقول: زوّجكنَّ أهالِيكُن، وزوَّجني اللَّه مِنْ فَوق سبع سموات!».
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ثَابت: {وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه} نزلتْ فِي شَأْن زَيْنَب بنت جحش وَزيد بن حَارِثَة.
وَرَوَى مُسلم فِي كتاب الْإِيمَان من حَدِيث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «لَو كَانَ مُحَمَّد كَاتِما شَيْئا مِمَّا أُنزل عَلَيْهِ لكَتم هَذِه الْآيَة: {وَإِذ تَقول} الآيةَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ فِي جامعه من حَدِيث أنس أَيْضا قَالَ: لمَّا نزلت هَذِه الْآيَة: {وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه} فِي شَأْن زَيْنَب بنت جحش، جَاءَ زيدٌ يشكو، فهمَّ بِطَلَاقِهَا، فاستأمر النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أمسكْ عَلَيْك زَوجك واتَّقِ الله»
.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا.
وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم فِي ترجمتها، من حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن عُمر بن عُثْمَان، عَن أَبِيه قَالَ: «قَدِمَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَكَانَت زَيْنَب بنت جحش ممَّن هَاجَرت مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت امْرَأَة جميلَة، فَخَطَبَهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى زيْدِ بْنِ حَارِثَة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، لَا أرضاه لنَفْسي وَأَنا أيم قُرَيْش! قَالَ: فَإِنِّي قد رضيتُ لكِ. فتزوَّجها زيد بن حَارِثَة».
قَالَ ابْن عمر- وَهُوَ الواقديُّ-: فحدَّثني عبد الله بن عَامر الْأَسْلَمِيّ، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان قَالَ: «جَاءَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْتَ زيدِ بْنِ حَارِثَة فَطَلَبه، وَكَانَ زيد إِنَّمَا يُقَال لَهُ: زيد بن مُحَمَّد، فَرُبمَا فَقَدَهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الساعةَ فَيَقُول: أَيْن زيد؟! فجاءَ منزله يَطْلُبهُ فَلم يجده، فتقوم إِلَيْهِ زَيْنَب فَتَقول: هَاهُنَا يَا رَسُول الله. فَوَلى يهمهم؛ لَا تَكَادُ تفْهم عَنهُ إِلَّا سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيم مصرِّف الْقُلُوب! فجَاء زيدٌ إِلَى منزله؛ فأخبرتْه امرأتُه أَن ر سَوَّلَ الله أَتَى منزله، فَقَالَ زيدٌ: أَلا قُلْتِ لَهُ: يدخلُ؟! قَالَت: قد عَرَضْتُ ذَلِك عَلَيْهِ فَأَبَى قَالَ سَمِعْتِيْه يَقُول شَيْئا؟ قَالَت: سمعتُه يَقُول حِين وَلى يتَكَلَّم بِكَلَام لَا أفهمهُ، وسمعتُه يَقُول: سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، سُبْحَانَ مصرِّف الْقُلُوب قَالَ: فَخرج زيد حَتَّى أَتَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بَلغنِي أَنَّك جِئْتَ منزلي؛ فهلاَّ دخلتَ؟ بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله؛ لَعَلَّ زَيْنَب أعجبتك! أُفارقُها؟ فَيَقُول رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أمسكْ عَلَيْك زَوجك. فَيَقُول: يَا رَسُول الله، أفارقُها؟ فَيَقُول رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أمسك عَلَيْك زَوجك. فَمَا اسْتَطَاعَ زيد إِلَيْهَا سَبِيلا بعد ذَلِك، وَيَأْتِي رَسُول فيخبره، فَيَقُول: أمسك عَلَيْك زَوجك. فَيَقُول: يَا رَسُول الله، أفارقها؟ فَيَقُول: احْبِسْ عَلَيْك. ففارقها زيد واعتزلها وحلت، قَالَ: فَبَيْنَمَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس يتحدث مَعَ عَائِشَة إِذْ أخذت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم غمية ثمَّ سري عَنهُ وَهُوَ يبتسم وَيَقُول: مَنْ يذهب إِلَى زَيْنَب يبشرها أَن الله- عَزَّ وَجَلَّ- زَوَّجْنيِهَا من السَّمَاء؛ وتلا: وإذْ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ الْقِصَّة كلهَا، قَالَت عَائِشَة: فأخذني مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، لِمَا كَانَ بَلغنِي مِنْ جمَالهَا، وَأُخْرَى هِيَ أعظم الْأُمُور وَأَشْرَفهَا: مَا صنع اللَّهُ لَهَا، زوَّجها الله من السَّمَاء، وَقَالَت عَائِشَة: هِيَ تفتخر علينا بِهَذَا، قَالَت عَائِشَة: فَخرجت سلْمَى خَادِم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تشتد فحدثتها بذلك، فأعْطَتْهَا أَوْضَاحًا لَهَا».
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لمَّا انْقَضتْ عدَّة زَيْنَب قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لزيدٍ: اذْهبْ إِلَيْهَا فاذكرها عَلّي. قَالَ زيد: فَانْطَلَقت فَلَمَّا رَأَيْتهَا تخمر عَجِينهَا فَلم استطع أَن أنظر إِلَيْهَا من عظمها فِي صَدْرِي حِين عرفت أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكرهَا، فَقلت: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكرك. قَالَت: مَا أَنا بِصَانِعَةٍ شَيْئا حَتَّى أؤامر رَبِّي! فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا وَنزل الْقُرْآن، وَجَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى دخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن.....» الحديثَ، وَذكر فِيهِ قصَّة الْحجاب.
وَرَوَى قَتَادَة وغيرُه فِي قَوْله تَعَالَى: {أمسك عَلَيْك زَوجك} الْآيَة، قَالَ: كَانَ يُخْفي فِي نَفسه ودَّ أَنه طَلقهَا.
وَعَن ابْن زيد: «كَانَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قد زوَّج زَيْدَ بْنَ حَارِثَة زَيْنَبَ بِنْتَ جحش ابْنَة عَمَّتِهِ، فَخرج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا يُريدهُ، وَعَلَى الْبَاب ستْر من شعر، فرفعتِ الستْرَ الريحُ؛ فانكشف وَهِي فِي حُجْرَتهَا حَاسِرَة، فَوَقع إعجابُها فِي قلب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فلمَّا وَقع ذَلِك كرهت....» إِلَى آخِره، قَالَ «فجَاء فَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِنِّي أُرِيد أَن أُفَارِق صَاحِبَتي قَالَ: مَا لكَ؟! أرابكَ مِنْهَا شيءٌ، فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا رَابَنِي مِنْهَا شَيْء وَمَا رأيتُ إِلَّا خيرا. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أمسكْ عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله فَذَلِك قَول الله تَعَالَى: {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله وتُخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى الناسَ وَالله أَحَق أَن تخشاه} إِن فارقَها تزوجْتها».
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: الله تَعَالَى يَقُول: {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} وَأعظم مَا يُمتع بِهِ النِّسَاء، وَهُوَ يخبر عَن نَفسه وجنسه الْكِرَام «مَا كَانَ لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين» وَهِي الْإِظْهَار خلاف الْإِضْمَار، هَذَا فِي الْأَمر المكشوف، فَكيف تكون لَهُ خَائِنَة فِي قلب فِي تعلق أصل تزَوجه أحد؟!
والحسد المذموم، هُوَ تمني زَوَال النِّعْمَة من العَبْد إِلَيْك، وَهِي مَعْصِيّة عَظِيمَة، فَكيف يستجيز مُسلم ظَنَّ ذَلِك بكبار الصَّحَابَة؟! فَكيف بسيِّد الْمُرْسلين؟! وَإِنَّمَا الْجَائِز فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ عليّ بن الْحُسَيْن: «كَانَ الله قد أعلمَ نَبِيَّه أَن زَيْنَب سَتَكُون من أَزوَاجه، فَلَمَّا أَتَاهُ زيدٌ يشكوها قَالَ: اتَّقِ الله وأمسكْ عَلَيْك زَوجك. قَالَ الله {وَتُخفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبدِيه} وَهُوَ الَّذِي أبدى الله زواجها خَاصَّة، فَهُوَ الَّذِي أخفاه رَسُوله» وَعَامة مَا فِي قَوْله: {أمسك عَلَيْك زَوجك} أَمر النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بالتمسك بزوجه، مَعَ مَعْرفَته بِأَنَّهُ لابد لَهُ من فراقها، وَلَا مندوحة لَهُ عَن طَلاقهَا بِمَا أخبرهُ الله من ذَلِك، وصدور الْأَمر من الْآمِر مَعَ علمه من الْمَأْمُور بنقيضه، ومعرفته بِأَنَّهُ لَا يكون لَا يقْدَح فِي تَوْجِيه الْأَمر، فَإِن الله أَمر الْكفَّار بِالْإِيمَان مَعَ علمه بِأَنَّهُم لَا يُؤمنُونَ، فَإِن قيل: فَمَا حكمته؟ قُلْنَا: أعْلَمَ اللَّهُ رسولهُ بِأَنَّهَا زوجه، وَأَن زيدا يفارقها، وَلم يُعْلمه بِحَال زيد بعد فِرَاقه، هَل يكون مطمئن الْقلب بذلك أم قلق النَّفس؟ فَقَالَ: «أمسك عَلَيْك زَوجك» متثبتًا مِنْهُ، حَال ضَمِيره فِيهَا ومستكشفًا تعلق قلبه بهَا. ثمَّ قَالَ: فَأَما حَدِيث ابْن زيد وَقَتَادَة فطريق مشحونة وأوضح ذَلِك أَيْضا ابْن دحْيَة فِي كِتَابه نِهَايَة السول فِي خَصَائِص الرَّسُول فَقَالَ: علق الحوفي فِي تَفْسِيره عَن ابْن زيد وَقَتَادَة: وَهَذَا سَنَد لَا يُسَاوِي نواة لَيْسَ لَهُ خطام وَلَا أزمة، وَقَالا: «خرج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا يُريدهُ- يَعْنِي: زيدا- وَعَلَى الْبَاب ستر من شعر..» فَذكره كَمَا تقدم أَولا، ثمَّ قَالَ ابْن دحْيَة: حَكَى ذَلِك الحوفي وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين- كمقاتل بن سُلَيْمَان الوضَّاع، والنقاش الْكذَّاب- وَأما الحوفي فحاطب ليل، كَلَامه كالحبة فِي حميل السَّيْل، وَإِنَّمَا عُمْدته النَّحْو واللغة وَكِلَاهُمَا حَلقَة مفرغة، وَهِي غير صَحِيحَة عِنْد الْعلمَاء الراسخين، وإسنادها عَن قَتَادَة مُنْقَطع، وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم لَا يُرْوَى عَنهُ لضَعْفه ونكارة حَدِيثه، ضعفه الْأَئِمَّة، وَهَذَا مُخَالف لِلْقُرْآنِ مُفسد للْإيمَان، فقد نهَى اللَّهُ سَيِّدَ الْمُرْسلين، فَقَالَ فِي كِتَابه الْمُبين: {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} الْآيَة. وَهَذَا إقدام عَظِيم وَقلة معرفَة بِحَق هَذَا النَّبِي الْكَرِيم، وَكَيف يُقَال: رَآهَا فَأَعْجَبتهُ؟ وَهَذَا نَفْس الْحَسَد المذموم وَمَا أقرب قَائِله من نَار جَهَنَّم، ألم تكن بنت عمته، وَلم يزل يَرَاهَا مُنْذُ وُلدِتْ إِلَى أَن كَبرُت، فزوَّجها من زيد مَوْلَاهُ، فَمَا أَجْسَر رَاوِي هَذَا الْخَبَر عَلَى اللَّهِ، وَمَا أجْرَأَه! وجميعُ النسوان لم يكن يحتجبن من رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ أَزوَاجه، إِلَى أَن نزل آيَة الْحجاب فحجبن وجوههن عَن عُيُون النَّاس أَجْمَعِينَ.
وَالَّذِي رُوي عَن عَلّي زين العابدين، وَالزهْرِيّ- سيدِّ المحدِّثين-: «أَن الله كَانَ أعلمَ نبيَّه أَن زَيْنَب سَتَكُون من أَزوَاجه، فلمَّا شكاها إِلَيْهِ زيدٌ قَالَ لَهُ: أمسكْ عَلَيْك زَوجك، وَاتَّقِ الله وأخفى مِنْهُ فِي نَفسه مَا أَعْلَمَهُ الله بِهِ عَن جِبْرِيل من أَنه سيزوجها مِمَّا الله مبديه ومظهره» هَذَا رَوَاهُ زين العابدين، وَرِوَايَة الزُّهْرِيّ قَالَ: «نزل جِبْرِيل عَلَى رَسُوله يُعلمهُ أَن الله يُزوجه زَيْنَب بنت جحش، فَذَلِك الَّذِي أَخْفَى فِي نَفسه» وَكَانَ فِي زواج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بعد مَوْلَاهُ زيد ثَلَاث فَوَائِد:
أَحدهَا: لتستن أمته بذلك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لكيلا يكون عَلَى الْمُؤمنِينَ حرج} الْآيَة، وأصل الْحَرج: الضِّيْق.
ثَانِيهَا: أَن الله قد أحلَّ ذَلِك لمن كَانَ قبله من الرُّسُل، ومثْلُ ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {سُنَّة الله فِي الَّذين خلوا من قبل} الْآيَة، والسُّنَّة هِيَ الطَّرِيقَة الَّتِي سَنَّهَا الله فِي الَّذين خلوا من قبل، أَي: من السّنَن فِيمَا أحل لَهُم. قَالَه أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ.
ثَالِثهَا: وَهِي أعظمها-: أَن الله تَعَالَى أَرَادَ أَن يقطع البنوَّة بَين مُحَمَّد وَزيد بن حَارِثَة، إِذْ لم يكن مُحَمَّد أَبَا أَحَدٍ من رجالكم، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قد تَبَنَّاه، فَكَانَ يُدْعى: زيد بن مُحَمَّد، حَتَّى نزل: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وتخشى الناسَ وَالله أَحَق أَن تخشاه} أَي: وَتخَاف أَن يَقُول النَّاس: تَّزَوَّجَ زَوْجَة ابْنه فَلَا تلْتَفت إِلَيْهِم.
تَنْبِيه:
اعْلَم أَن الْغَزالِيّ فِي وسيطه اسْتدلَّ بِقصَّة زيد هَذِه عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رغب فِي نِكَاح امرأةٍ وَكَانَت مزوَّجة يجب عَلَى زَوجهَا طَلاقهَا لينكحها كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب عَنهُ، وَقد يُقَال: لَو كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ لأَمره الشَّارِع بِهِ بل أمره بالإمساك الْمنَافِي لذَلِك؛ فليُتَأملْ.

.الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل».
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أَصَحهَا مَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى الأشرق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، وَمَا كَانَ من نِكَاح عَلَى غير ذَلِك فَهُوَ بَاطِل؛ فَإِن تشاجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ» ثمَّ قَالَ: لم يقل أحد فِي خبر ابْن جريج هَذَا، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن الزُّهْرِيّ «وشاهدي عدل» إِلَّا ثَلَاثَة أنفس: سعيد بن يَحْيَى الْأمَوِي، عَن حَفْص بن غياث، وَعبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي، عَن خَالِد بن الْحَارِث وَعبد الرَّحْمَن بن يُونُس الرقي عَن عِيسَى بن يُونُس قَالَ: وَلَا يَصح فِي ذكر الشَّاهِدين غير هَذَا الحَدِيث.

.الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوَّج مَيْمُونَة وَهُوَ مُحْرِم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- زَاد البُخَارِيّ فِي روايةٍ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، لم يصل بهَا سَنَده: «أَنه تزَوجهَا فِي عُمْرة الْقَضَاء».
وَهَذِه أسندها ابْن حبَان فِي صَحِيحه من جِهَته، وصرَّح فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ، ثمَّ اعلمْ أَن رِوَايَة تَزْوِيجه عَلَيْهِ السَّلَام مَيْمُونَة فِي حَال إِحْرَامه هُوَ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكرتُه لكَ، وَهُوَ مِمَّن انْفَرد بذلك، وَرِوَايَة الجَمِّ الْغَفِير: «أَنه تزوَّجها حَلَالا».
كَذَا رَوَاهُ أَكثر الصَّحَابَة، ونبَّه عَلَى ذَلِك الرافعيُّ أَيْضا، حَيْثُ قَالَ: أَكثر الرِّوَايَات عَلَى أَنه جَرَى وَهُوَ حَلَال.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وغيرُه: لم يَرْوِ أَنه تزوَّجها محرما إِلَّا ابْن عَبَّاس وَحده، وروت مَيْمُونَة وَأَبُو رَافع وَغَيرهمَا: «أَنه تزَوجهَا حَلَالا».
وهُم أعرف بالقصة من ابْن عَبَّاس؛ لتعلقهم بهَا، وَلِأَنَّهُم أضبط من ابْن عَبَّاس وَأكْثر.
قلت: وَحَاصِل التَّرْجِيح تِسْعَة أوجه:
أَحدهَا: بُلُوغ أبي رَافع إِذْ ذَاك، وصِغَر ابْنِ عَبَّاس؛ فَإِنَّهُ لم يبلغ الحُلُم إِذْ ذَاك.
ثَانِيهَا: أَنه كَانَ الرَّسُول بَينهمَا، كَمَا صرَّح بِهِ فِي الحَدِيث.
ثَالِثهَا: أَن ابْن عَبَّاس لم يكن مَعَه فِي تِلْكَ الْعمرَة؛ بل كَانَ فِي الولْدَان بِالْمَدِينَةِ.
رَابِعهَا: أَن الصَّحَابَة غلطوا ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك وصوبوا رِوَايَة غَيره. قَالَ ابْن الْمسيب: وهم ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك رَوَاهُ عَنهُ أَبُو دَاوُد وَابْن عدي.
خَامِسهَا: أَن قَول أبي رَافع مُوَافق لنَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَن نِكَاح المُحْرِم، وَقَول ابْن عَبَّاس مُخَالف مُسْتَلْزم لأحد أَمريْن إِمَّا نسخ النَّهْي، أَو تَخْصِيصه عَلَيْهِ بِجَوَازِهِ، وَكِلَاهُمَا مُخَالف للْأَصْل، وَأَيْضًا: فَالصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ تَرْجِيح القَوْل عِنْد تعارضه مَعَ الْفِعْل؛ لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى الْغَيْر، وَالْفِعْل قد يكون مَقْصُورا عَلَيْهِ.
سادسها: أَن ابْن أُخْتهَا يزِيد بن الْأَصَم شهد: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تزوَّجَها حَلَالا، وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس».
رَوَاهُ مُسلم.
سابعها: أَن مَيْمُونَة نَفسهَا رَوَت «أَنه تزَوجهَا حَلَالا» وَهِي أعلم بمسألتها.
ثامنها: أَن ابْن عَبَّاس اخْتلف عَلَيْهِ، خلاف غَيره، فَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تزوَّجَهَا حَلَالا» لكنه استغربه بعد أَن رَوَاهُ.
تاسعها: قَول ابْن عَبَّاس: «تزَوجهَا وَهُوَ مُحْرِم».
يحْتَمل التَّأْوِيل، وَيكون مَعْنَى قَوْله: «محرم» أَي: بِالْحرم وَهُوَ حَلَال، وَهِي لُغَة سَائِغَة مَعْرُوفَة، كَمَا تَجِد إِذْ أشام: إِذا دخل الشَّام، وأَتْهَمَ: إِذا دخل تهَامَة، وأمصر: إِذا دخل مِصْر، قَالَ الشَّاعِر:
قتلوا ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما

أَي: فِي حرم الْمَدِينَة.
وَرَوَى الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ إِلَى حَمَّاد بن إِسْحَاق الْموصِلِي، عَن أَبِيه إِسْحَاق قَالَ: سَأَلَ الرشيد عَن هَذَا الْبَيْت: مَا مَعْنَى محرما؟ فَقَالَ الْكسَائي: أحرم بِالْحَجِّ. فَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كَانَ أحرم بِالْحَجِّ، وَلَا أَرَادَ الشاعرُ أَنه أَيْضا فِي شهرٍ حرَام، فَقَالَ: أحرم: إِذا دخل فِيهِ، كَمَا يُقَال: أشهر: إِذا دخل فِي الشَّهْر، وأعام إِذا دخل فِي الْعَام فَقَالَ الْكسَائي: مَا هُوَ غير هَذَا، وَإِلَّا فَمَا أَرَادَ؟ قَالَ الْأَصْمَعِي: فَمَا أَرَادَ عديُّ بْنُ زيد بقوله: قتلوا كسْرَى بلَيْل محرما وأيُّ إِحْرَام لكسرى؟! فَقَالَ الرشيد: فَمَا الْمَعْنى؟، قَالَ: كلُّ من لم يأتِ شَيْئا يُوجب عَلَيْهِ عُقُوبَة: فَهُوَ محرم، لَا يحل شَيْء مِنْهُ، فَقَالَ الرشيد: مَا تُطاق فِي الشِّعْر يَا أصمعي، ثمَّ قَالَ: لَا تعرضوا للأصمعي فِي الشِّعْر.

.الحديث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ:

«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُطاف بِهِ فِي الْمَرَض عَلَى نِسَائِهِ».
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر بلاغًا، فَقَالَ: وبلغنا: «أَنه كَانَ يُطاف بِهِ مَحْمُولا فِي مَرضه عَلَى نِسَائِهِ، حَتَّى حللنه».
وأسنده ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب الوفا من حَدِيث: الْحَارِث بن أبي أُسَامَة، ثَنَا مُحَمَّد بن سعد ثَنَا أنس بن عِيَاض، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه:
«أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُحْمل فِي ثوبٍ، يطوف بِهِ عَلَى نِسَائِهِ وَهُوَ مَرِيض، يُقَسِّم بَينهُنَّ».
وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، لكنه لَيْسَ بِمُتَّصِل. لَكِن فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي كتاب الْهِبَة من حَدِيث عَائِشَة: «لمَّا ثقل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذن أزواجَهُ أَن يُمرَّض فِي بَيْتِي، فأذِنَّ لَهُ».
وَفِي صَحِيح مُسلم فِي كتاب الصَّلَاة عَنْهَا: «أول مَا اشْتَكَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت مَيْمُونَة، فَاسْتَأْذن أزواجَهُ أَن يُمرَّض فِي بَيْتِي، فأذِنَّ لَهُ».
وَفِيهِمَا عَنْهَا: «إنْ كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتفقد: أيْن أَنا الْيَوْم؟ أَيْن أَنا غَدا؟ استبطاءً ليَوْم عَائِشَة قَالَت: فلمَّا كَانَ يومي قَبضه الله بَين سَحْري ونَحْري».
زَاد البُخَارِيّ: «وَدفن فِي بَيْتِي». وَفِي روايةٍ لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لمَّا كَانَ فِي مَرضه جعل يَدُور فِي نِسَائِهِ وَيَقُول أَيْن أَنا غَدا؟ أَيْن أَنا غَدا؟ حرصًا عَلَى بَيت عَائِشَة، قَالَت عَائِشَة: فلمَّا كَانَ يومي سَكَنَ». وَفِي رِوَايَة: «فَمَاتَ فِي الْيَوْم الَّذِي كَانَ يَدُور عليَّ فِيهِ».
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَنْهَا:
«أَنه كَانَ يسْأَل فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْن أَنا غَدا؟ أَيْن أَنا غَدا؟ يُرِيد يَوْم عَائِشَة، فأذِنَّ لَهُ أزواجُه أَن يكون حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيت عَائِشَة، حَتَّى مَاتَ عِنْدهَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت عَائِشَة: فَمَاتَ فِي الْيَوْم الَّذِي كَانَ يَدُور عَلَى بَيْتِي».
وَفِي صَحِيح ابْن حبَان عَن عَائِشَة: «اشْتَكَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ نساؤه: انْظُر حَيْثُ تحب أَن تكون بِهِ فَنحْن نَأْتِيك. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أوَ كلكن عَلى ذَلِك؟ قَالَت: نعم. فانتقل إِلَى بَيت عَائِشَة فَمَاتَ فِيهِ».
وَفِي سنَن أبي دَاوُد من حَدِيث أبي عمرَان الْجونِي، عَن يزِيد بن بابنوس، عَن عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النِّسَاء- يَعْنِي: فِي مَرضه- فاجتمعن، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أدور بينكن؛ فَإِن رأيتن أَن تأذنَّ لي فَأَكُون عِنْد عَائِشَة فعلتن فأذِنَّ لَهُ».
وَيزِيد هَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ شِيْعِيًّا. وَقَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ من الشِّيعَة الَّذين قَاتلُوا عليًّا. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَا يُعْرف حَاله فِي الحَدِيث، وَلَا رَوَى عَنهُ غير أبي عمرَان.
قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقِّه: لَا بَأْس بِهِ.
فَائِدَة: نقل ابْن دحْيَة فِي الخصائص عَن القَاضِي أَبَى بكر أَحْمد بن كَامِل بن شَجَرَة فِي كتاب الْبُرْهَان: «أَن أوَّل مَرَضِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي بَيت رَيْحَانَة بِنْتِ شَمْعُون سَرِيَّتِهِ. عَلَيْهِ السَّلَام».