فصل: الحديث العشْرُونَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث السَّادِس:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجب عَلَيْهِ مصابرة العدوِّ وإنْ كَثُرَ عَدَدُهم».
هَذَا مَشْهُور فِي كتب أَصْحَابنَا، وَلم يُبَوِّب لَهُ الْبَيْهَقِيّ بَابا، وَقد بوَّب لخصائص رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.

.الحديث السَّابِع:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجب عَلَيْهِ قَضَاء دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعسرا من الْمُسلمين».
هَذَا صَحِيح، وَقد سلف حَدِيث أبي هُرَيْرَة الشَّاهِد بذلك فِي آخِرِ بَاب الضَّمَان.

.الحديث الثَّامِن:

قيل: «كَانَ يجب عَلَيْهِ إِذا رَأَى شَيْئا يُعجبهُ أَن يَقُول: لبيْك، إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة».
هَذَا مرويٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بعد أَن بوَّب عَلَى وفْق ذَلِك، فَقَالَ: بابٌ: كَانَ إِذا رَأَى شَيْئا يُعجبهُ قَالَ: لبيْك إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة.
هَذِه كلمة صدرت من رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أنعم حَاله يَوْم حِجة الْوَدَاع بِعَرَفَة، كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد عَن ابْن جريج، عَن حميد الْأَعْرَج، عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يُظْهِرُ من التَّلْبِيَة: لبيْك...» الحَدِيث.
وَقد سلف فِي الْحَج بِطُولِهِ، فِي بَاب سنَن الْإِحْرَام فِي الحَدِيث الثَّامِن عشر مِنْهُ قَالَ: وصدرتْ هَذِه الْكَلِمَة أَيْضا مِنْهُ فِي أَشد حَاله وَهُوَ يَوْم الخَنْدَق، وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث سهل بن سعد قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بالخندق وَهُوَ يحْفر وَنحن ننقل التُّرَاب فَبَصُرَ بِنَا، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة فَاغْفِر للْأَنْصَار والمهاجرة»
.

.الحديث التَّاسِع:

عَن عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَت: «مَا مَاتَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أُحلَّ لَهُ النِّسَاء- تَعْنِي: اللَّاتِي حُظِرْنَ عليهِ».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم عَن سُفْيَان، عَن عَمرو، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «مَا مَاتَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاء».
قَالَ الشَّافِعِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي اللَّاتِي حُظِرْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء}.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده عَن سُفْيَان إِلَى قَوْله النِّسَاء وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَيْضا.
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَلَفظه: «حَتَّى أُحِلَّ لَهُ من النِّسَاء مَا شَاءَ». وَفِي رِوَايَة للنسائي: «حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَن يتزوَّج من النِّسَاء مَا شَاءَ».
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه بِلَفْظ: «حَتَّى أحَلَّ الله لَهُ أَن يتزوَّج». ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، ومَنْ وَافقه، ثمَّ ذكر كَلَام الشَّافِعِي السالف، قَالَ: وأحسبُ قَوْل عَائِشَة: «أُحِلَّ لَهُ النِّسَاء» بقول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك اللاتى آتيت أُجُورهنَّ} إِلَى قَوْله: {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ}. وَبِهَذَا الْجَواب أجَاب ابْن حبَان فِي صَحِيحه حَيْثُ قَالَ: يشبه أَن يكون الْمُصْطَفَى- عَلَيْهِ السَّلَام- حُرِّم عَلَيْهِ النِّسَاء مُدَّة ثمَّ أُحِلَّ لَهُ من النِّسَاء قَبْل مَوته تفضُّلاً تُفُضِّل عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يكون بَين الْخَبَر وَالْكتاب تضادٌ وَلَا تهاترٌ، قَالَ: وَالَّذِي يدل عَلَى هَذَا قولُ عَائِشَة: «مَا مَاتَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أُحِلَّ لَهُ من النِّسَاء» أرادتْ بذلك إِبَاحَة بعد حَظْرٍ متقدِم عَلَى ذَلِك.

.الحديث العَاشِر:

«أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَّا نزلتْ آيةُ التَّخْيِير بَدَأَ بعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَقَالَ: إنى ذاكرٌ لكِ أمرا؛ فَلَا تبادريني بِالْجَوَابِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك».
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الحَدِيث الرَّابِع، وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى وَجه الْإِرْشَاد لَهَا؛ فَإِنَّهُ خشِي عَلَيْهَا لحداثة سِنِّهَا أَن تخْتَار زينةَ الدُّنْيَا فتتأذَّى هِيَ وأبواها.

.الحديث الحَادِي عشر:

قَالَ الرافعيُّ: وَمِنْهَا: «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يَأْكُل البصلَ والثومَ والكُرَّاث» وَهل كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَان، أشبههما: لَا، وَلكنه كَانَ يمْتَنع كَيْلا يتأذَّى المَلَكُ بِهِ. وروُي: «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتي بِقِدْرٍ فِيهَا بُقُولٌ، فَوَجَدَ لَهَا ريحًا، فَقَرَّبها إِلَى بعض أَصْحَابه وَقَالَ: كُلْ؛ فَإِنِّي أُناجي مَنْ لَا تُناجي».
وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثومًا أَو بصلاً فليتركْ مَسْجِدنَا وليقعد فِي بَيته، وأُتي بِقِدْرٍ فِيهِ خضراتٌ من الْبُقُول؛ فَوَجَدَ لَهَا ريحًا، فَسَأَلَ فأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُول، فَقَالَ: قرِّبوها- إِلَى بعض أَصْحَابه- فلمّا رَآهُ كَرِهَ أكْلَهَا، فَقَالَ: كُلْ، فَإِنِّي أُناجي مَنْ لَا تُناجي».
فَائِدَة: رَوَى أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث: بَقِيَّة، عَن بحير بن سعد عَن خَالِد بن معدان، عَن أبي زيادٍ خِيَار بن سَلمَة قَالَ: «سألتُ عَائِشَة عَن أكْلِ البصل فَقَالَت: آخِرُ طعامٍ أَكَلَهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه بصل».
هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَإِسْنَاده صَالح، وَأخرجه كَذَلِك أَبُو دَاوُد فِي سنَنه.

.الحديث الثَّانِي عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يَأْكُل مُتكئا».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث أبي جُحَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كنتُ عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لرجلٍ عِنْده: أَنا لَا آكُلُ وَأَنا مُتَّكِئٌ».
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ فِي جامعه وشمائله وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: المُتَّكِئُ- هُنَا- هُوَ الْجَالِس مُعْتَمدًا عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ. قَالَ: وَأَرَادَ أَنه لَا يقْعد عَلَى الوطاء والوسائد كفعْل مَنْ يُرِيد الْإِكْثَار من الطَّعَام؛ بل يقْعد مستوفزًا لَا مستوطنًا، وَيَأْكُل بُلْغَة. هَذَا كَلَام الْخطابِيّ، وَنَقله عَنهُ البيهقيُّ فِي سنَنه فِي بَاب الْأكل متكِئًا، وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ بُعْدٌ. وَالْمَشْهُور أَن المُرَاد بالاتكاء فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ الِاعْتِمَاد عَلَى أحد الْجَانِبَيْنِ، وَهَذِه الْهَيْئَة هِيَ الَّتِي نفاها النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نَفْسه؛ وَلِأَنَّهَا فِعْلُ المتكبرين والجبارين، وَيدل عَلَيْهِ الحَدِيث الْآتِي بعد ذَلِك: «أَنا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُل العَبْد».
وَقَوله: «إِن الله جعلني عَبدًا كَرِيمًا، وَلم يَجْعَلنِي جبارًا عصيًّا». وَجَاء فِي صَحِيح مُسلم عَن أنس قَالَ: «رأيتُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا مُقْعِيًا يَأْكُل تَمرا». والمُقْعِي هُوَ: الَّذِي يُلصق أليتيه بِالْأَرْضِ وَينصب سَاقيه.
وَأما حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع: «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر أكل مُتكئا». فضعيفٌ جدًّا، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: قَالَ أبي: هَذَا حَدِيث بَاطِل.

.الحديث الثَّالِث عشر:

رُوِيَ: أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «أَنا آكلُ كَمَا يَأْكُل العبْد، وأجلس كَمَا يجلس العبْد».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان مُرْسلا عَن يَحْيَى بن أبي كثير: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «آكُلُ كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العَبْد،؛ فَإِنَّمَا أَنا عَبْدٌ».
وَرَوَاهُ فِي سنَنه بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: رُوي: «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْكُل مُقْعِيًا، وَيَقُول: أَنا عبد، آكل كَمَا تَأْكُل العبيد».
وَذكره ابْن السكن فِي صحاحه بِغَيْر إسنادٍ، فَقَالَ: رُوِيَ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: إِنَّمَا أَنا عَبْدٌ، أكُلُ كَمَا يَأْكُل العَبْد».
وأسنده ابْن شاهين فِي ناسخه ومنسوخه من حَدِيث أنس: «بَيْنَمَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتكئا عَلَى طُعَيم لَهُ يَأْكُل إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيل- عَلَيْهِ السَّلَام-
فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَلا إِن الاتكاء من النِّعْمَة، قَالَ: فَاسْتَوَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَاعِدا عِنْدهَا، ثمَّ قَالَ إِنَّمَا أَنا عبد، آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأشرب كَمَا يشرب العَبْد. قَالَ أنس: فَمَا رأيتُه مُتكئا بَعْدُ»
.
وَرَوَاهُ أَيْضا فِي ناسخه ومنسوخه من حَدِيث عَطاء بن يسَار: «أَن جِبْرِيل نظر إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة يَأْكُل مُتكئا، فَقَالَ: أكْلُ الْمُلُوك! فَجَلَسَ».
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه الْوَفَاء من طريقها قَالَت: «يَا رَسُول الله، كُلْ، جعلني الله فدَاك مُتكئا فَإِنَّهُ أَهْون عليكَ، قَالَ: آكل كَمَا يأكلُ العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العبْد».
وَفِي سَنَده عبيد الله بن الْوَلِيد الْوَصَّافِي وَهُوَ مَتْرُوك.
وَأخرجه أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ فِي كِتَابه أَخْلَاق النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَدِيث أبي معشر، عَن سعيد المَقْبُري، عَن عَائِشَة أَيْضا بِلَفْظ: «آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العبْد». وأَبُو معشر هَذَا هُوَ: نجيح السندي، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث. وَله طَرِيق آخر من حَدِيث جَابر، أخرجه أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، عَن سعيد بن أبي صَدَقَة، عَن يَعْلى بن حَكِيم عَن جَابر- رَفعه-: «إِنَّمَا أَنا عبْد، آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العَبْد». وَهَذَا إِسْنَاد لَا أعلم بِهِ بَأْسا، ويعْلى الظَّاهِر أَنه النُّفَيْلِي وَهُوَ يروي عَن التَّابِعين، وَعنهُ حمادُ بْنُ زيد.
وَفِي سنَن الْبَيْهَقِيّ ودَلَائِل النُّبُوَّة لَهُ من حَدِيث بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ كَانَ ابْن عَبَّاس يحدث: «أَن الله- عَزَّ وَجَلَّ- أرسل إِلَى نبيه- عَلَيْهِ السَّلَام- ملكا من الْمَلَائِكَة، مَعَه جِبْرِيل- عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَالَ المَلَكُ لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله يُخَيِّرك بَين أَن تكون عَبْدًا نبيًّا وَبَين أَن تكون مَلِكًا نَبِيًّا، فالتفتَ نَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كالمستشير لَهُ؛ فَأَشَارَ جبريلُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تواضع، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: بل أكون عبدا نبيًّا. قَالَ: فَمَا أَكَلَ بعد تِلْكَ الْكَلِمَة طَعَاما مُتكئا حَتَّى لَقِي اللَّهَ تَعَالَى».
وَفِي مُسْند أَحْمد من حَدِيث أبي زرْعَة قَالَ: وَلَا أعلمهُ إِلَّا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «جلس جبريلُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَنظر إِلَى السَّمَاء فَإِذا ملك ينزل فَقَالَ جِبْرِيل: إِن هَذَا الْملك مَا نزل مُنْذُ يَوْم خُلِقَ قَبْل السَّاعَة، فَلِمَ أنْزِلَ؟، قَالَ: يَا مُحَمَّد، أرْسَلني إِلَيْك ربُّك: أفَمَلَكًا نبيًّا يجعلك أَمْ عَبْدًا رَسُولا، قَالَ جِبْرِيل: تواضع لِرَبِّك يَا مُحَمَّد، قَالَ: بل عبدا رَسُولا».

.الحديث الرَّابِع عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذا لبس لأمته أَن يَنْزِعهَا، حَتَّى يَلْقَى العدوَّ ويقاتِلُ».
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي بَاب قَول الله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: «وشاور النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه يَوْم أحد فِي الْمقَام وَالْخُرُوج، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوج، فَلَمَّا لبس لأمته وعزم قَالُوا: أقِم. فَلم يمل إِلَيْهِم بعد الْعَزْم وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ يلبس لأْمَتَهُ فَيَضَعهَا حَتَّى يحكم الله».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من رِوَايَة أبي الْأسود، عَن عُرْوَة أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ إِذا أَخذ لأمة الْحَرْب وَأذن فِي النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَى الْعَدو أَن يرجع حَتَّى يُقَاتل». وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، ذكره ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي عَن شُيُوخه من أهل الْمَغَازِي وَهُوَ عَام فِي أهل الْمَغَازِي وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد كتبناه مَوْصُولا بِإِسْنَاد حسن... فَذكره من رِوَايَة ابْن عَبَّاس.
قلت: وَوَصله أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث جَابر أَيْضا قَالَ: حَدثنَا عَفَّان، ثَنَا حَمَّاد، أبنا أَبُو الزبير، عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله قَالَ: «رَأَيْت كَأَنِّي فِي درع حَصِينَة وَرَأَيْت بقرًا منحرة، فأولت أَن الدرْع الحصينة الْمَدِينَة، وَأَن الْبَقر نفر، وَالله خير. فَقَالَ أَصْحَابه: لَو أَنا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ؛ فَإِن دخلُوا علينا قاتلناهم. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا دخل علينا فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكيف يدْخل علينا فِيهَا فِي الْإِسْلَام؟ فَقَالَ: شَأْنكُمْ إِذا. فَلبس لأمته فَقَالَ الْأَنْصَار: رددنا عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأْيه! فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، شَأْنك إِذا. فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ لنَبِيّ إِذا لبس لأمته أَن يَضَعهَا حَتَّى يُقَاتل».
فَائِدَة: اللأمة مَهْمُوزَة كَذَا قيدها القَاضِي عِيَاض فِي مشارقه وَكَذَا نَص عَلَيْهِ ابْن فَارس، وفسرها بالدرع وَكَذَا قيدها بِهِ صَاحب منَّة اللُّغَة إِلَّا أَنه جعلهَا الدرْع التَّامَّة وَكَذَا قيدها بِهِ الأجدابي فِي كِتَابه كِفَايَة المتحفظ.

.الحديث الخَامِس عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لنَبِيّ خَائِنَة الْأَعْين».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سعد بن أبي وَقاص قَالَ: «لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة أمَّنَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس إِلَّا أَرْبَعَة نفر وَامْرَأَتَيْنِ سماهم وَابْن أبي سرح...» فَذكر الحَدِيث، قَالَ: «وَأما ابْن أبي سرح فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْد عُثْمَان، فَلَمَّا دَعَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس إِلَى الْبيعَة جَاءَ بِهِ حَتَّى أوقفهُ عَلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا نَبِي الله، بَايع عبد الله. فَرفع رَأسه فَنظر إِلَيْهِ ثَلَاثًا كل ذَلِك يَأْبَى، فَبَايعهُ بعد ثَلَاث، ثمَّ أقبل عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: أما كَانَ مِنْكُم رجل رشيد يقوم إِلَى هَذَا حِين رَآنِي كَفَفْت يَدي عَن مبايعته فيقتله. فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُول الله مَا فِي نَفسك أَلا أَوْمَأت إِلَيْنَا بِعَيْنِك. قَالَ: إِنَّه لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
فَائِدَة: «خَائِنَة الْأَعْين» كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ: هِيَ الْإِيمَاء إِلَى مُبَاح من ضرب أَو قتل عَلَى خلاف مَا يظْهر ويشعر بِهِ الْحَال. قَالَ: وَإِنَّمَا قيل لَهُ خَائِنَة الْأَعْين؛ لِأَنَّهُ يشبه الْخِيَانَة من حَيْثُ أَنه يخْفَى. وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي مشكله: اخْتلف فِي المُرَاد بخائنة الْأَعْين؛ فَقيل فِي تَفْسِيرهَا هُنَا: هِيَ الْإِيمَاء بِالنّظرِ، وَقيل: مسارقة النّظر.

.الحديث السَّادِس عشر:

«اشْتهر عَنهُ أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ سفرا وَرى بغَيْرهَا».
هَذَا حَدِيث صَحِيح فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب بن مَالك أَن عبد الله بن كَعْب قَالَ: سَمِعت كَعْب بن مَالك يحدث حِين تخلف عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم... فَذكر الحَدِيث قَالَ: «وَلم يكن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيد غَزْوَة يغزوها إِلَّا وَرى بغَيْرهَا».

.الحديث السَّابِع عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم نكح امْرَأَة ذَات جمال، فلقنت أَن تَقول لرَسُول: أعوذ بِاللَّه مِنْك، وَقيل لَهَا: إِن هَذَا كَلَام يُعجبهُ، فَلَمَّا قَالَت ذَلِك قَالَ: لقد استعذت بمعاذ، الحقي بأهلك».
هَذَا صَحِيح عَلَى غير هَذِه الصُّورَة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ، فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- «أَن ابْنة الجون لما دخلت عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ودنا مِنْهَا قَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك! فَقَالَ لَهَا: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك» وَفِيه وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث الزُّهْرِيّ أَنه سُئِلَ: أَي أَزوَاج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم استعاذت مِنْهُ؟ فَقَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة عَن عَائِشَة «أَن ابْنة الجون لما دخلت عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ودنا مِنْهَا قَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك!» عزاهُ الْمزي إِلَيْهِمَا فِي كتاب الطَّلَاق، وَفِي النَّسَائِيّ أَن هَذِه الْمَرْأَة كلابية- يَعْنِي: من بني كلاب- وَفِي سنَن ابْن مَاجَه من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن عمْرَة بنت الجون تعوذت من رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: لقد عذت بمعاذ. وَطَلقهَا وَأمر أُسَامَة أَو أنسا فيمتعها بِثَلَاثَة أَثوَاب رازقية» وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَهُوَ من أَفْرَاده عَن أبي أسيد قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى انطلقنا إِلَى حَائِط يُقَال لَهُ: الشوط حَتَّى انتهيا إِلَى حائطين جلسنا بَينهمَا، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: اجلسوا هَاهُنَا. وَقد أُتِي بالجونية فأنزلت فِي نخل فِي بَيت وَمَعَهَا دابتها- حاضنة- فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هبي نَفسك لي. فَقَالَت: وَهل تهب الملكة نَفسهَا للسوقة؟! قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يضع يَده عَلَيْهَا لتسكن فَقَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك! قَالَ: قد عذت بمعاذ. ثمَّ خرج علينا فَقَالَ: يَا أَبَا أسيد، اكسها رازقتين وألحقها بِأَهْلِهَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي أسيد وَسَهل بن سعد قَالَا: «تزوج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَيْمَة بنت شرَاحِيل، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ بسط يَده عَلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كرهت ذَلِك، فَأمر أَبَا أسيد أَن يجهزها ويكسوها ثَوْبَيْنِ رازقين».
وَرَوَاهُ مُسلم فِي الْأَشْرِبَة من حَدِيث سهل، وَحَدِيث البُخَارِيّ أتم كَمَا قَالَه عبد الْحق فِي جمعه وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد عَن أبي أسيد وَسَهل قَالَا: «مر بِنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَاب لَهُ فخرجنا مَعَه حَتَّى انطلقنا إِلَى حَائِط يُقَال لَهُ: الشوط حَتَّى انتهينا إِلَى حائطين مِنْهَا جلسنا بَينهمَا، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: اجلسوا. وَدخل هُوَ وَأتي بالجونية أُمَيْمَة بنت النُّعْمَان بن شرَاحِيل فَنزلت فِي بَيت فِي النّخل وَمَعَهَا دَابَّة لَهَا، فَدخل عَلَيْهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هبي لي نَفسك. قَالَت: وَهل تهب الملكة نَفسهَا للسوقة، إِنِّي أعوذ بِاللَّه مِنْك!. قَالَ: لقد عذت بمعاذ. ثمَّ خرج علينا فَقَالَ: يَا أَبَا أسيد اكسها فارسيتين وألحقها بِأَهْلِهَا» وَفِي لفظ لَهُ «اكسها رازقتين» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: لقد عذت بمعاذ- ثَلَاثًا».
وَأما الحَدِيث بالصورة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ فتبع فِيهِ الْغَزالِيّ فِي وسيطه وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي مشكله: هَذِه اللَّفْظَة- يَعْنِي: «أَن نِسَاءَهُ علمنها ذَلِك» لم أجد لَهَا أصلا ثَابتا، قَالَ: والْحَدِيث فِي صَحِيح البُخَارِيّ بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة الْبَعِيدَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه: هَذِه الزِّيَادَة بَاطِلَة لَيست بصحيحة. قَالَ: وَقد رَوَاهَا مُحَمَّد بن سعد فِي طبقاته لَكِن بِإِسْنَاد ضَعِيف.
قلت: وأخرجها أَيْضا الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، قَالَ: ذكر هِشَام بن مُحَمَّد أَن ابْن الغسيل حَدثهُ، عَن حَمْزَة بن أبي أسيد السَّاعِدِيّ، عَن أَبِيه- وَكَانَ بدريًّا- قَالَ: «تزوج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَسمَاء بنت النُّعْمَان الْجَوْنِية فَأرْسل إِلَيّ، فَجِئْته بهَا فَقَالَت حَفْصَة لعَائِشَة: اخضبيها أَنْت وَأَنا أمشطها. فَفَعَلَتَا، ثمَّ قَالَت لَهَا إِحْدَاهمَا: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعجبهُ من الْمَرْأَة إِذا دخلت عَلَيْهِ أَن تَقول: أعوذ بِاللَّه مِنْك. فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ أغلق الْبَاب وأرخى السّتْر وَمد يَده إِلَيْهَا قَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك! فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بكمه عَلَى وَجهه فاستتر بِهِ وَقَالَ: عذت بمعاذ- ثَلَاث مَرَّات. قَالَ أَبُو أسيد: ثمَّ خرج عليَّ فَقَالَ: يَا أَبَا أسيد، ألحقها بِأَهْلِهَا ومتعها برازقين- يَعْنِي: كرباسين- فَكَانَت تَقول: ادْعُونِي: الشقية!» ثمَّ رَوَى عَن الْوَاقِدِيّ بِسَنَدِهِ «أَنه دخل عَلَيْهَا دَاخل من النِّسَاء لما بلغهن من جمَالهَا- وَكَانَت من أجمل النِّسَاء- فَقَالَت: إِنَّك من الْمُلُوك؛ فَإِن كنت تريدين أَن تحظين عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فاستعيذي مِنْهُ؛ فَإنَّك تحظين عِنْده ويرغب فِيك». واستبعد بَعضهم صُدُور هَذَا القَوْل من نسَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ شرفهن بِصُحْبَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بالقوى؛ فَإِن الْغيرَة وَالْحب لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم والحرص عَلَى عدم مشاركتهن فِيهِ قد تحملهن عَلَى قريبٍ من ذَلِك؛ إِذْ جَاءَ فِي الصَّحِيح تواطؤ عَائِشَة وَصفِيَّة وَسَوْدَة عَلَى أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل عَلَيْهِنَّ يَقُلْنَ لَهُ: «أكلتَ مَغَافِير...» الحديثَ.
فَائِدَة: اخْتلف فِي اسْم هَذِه المستعيذة، فَفِي صَحِيح البخاريِّ ومُسْند أَحْمد أَن اسْمهَا: أُمَيْمَة.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي مبهماته أَن اسْمهَا: أَسمَاء. قَالَ الْكَلْبِيّ هِيَ: أَسمَاء بنت النُّعْمَان بن الْحَارِث بن شرَاحِيل بن عبيد بن الجون. وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي الْمعرفَة فَذكر بِسَنَدِهِ إِلَى قَتَادَة أَن بَعضهم زعم أَنَّهَا قَالَت: «أعوذ باللَّهِ مِنْكَ قَالَ: لقد عُذْتِ بِمَعَاذٍ منيِّ، وَقد أعاذكِ اللَّهُ مِنِّي. فَطلقهَا» قَالَ قَتَادَة: وَهَذَا بَاطِل. كَذَا قَالَ: «هَذِه امْرَأَة مِنْ بِلْعَنْبَر، مِنْ سَبْي ذَات الشقوق، وَكَانَت جميلَة، فَقُلْنَ لَهَا: إِنَّه يُعجبهُ أَن تقولي: أعوذ بِاللَّه مِنْكَ...» الحديثَ.
وَجزم بِهِ أَيْضا ابْن الصّلاح فِي مشكله، وَحَكَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه معرفَة الصَّحَابَة ثمَّ ابْنُ الْأَثِير فِي جَامع الْأُصُول وقدَّم الثَّانِي، قَالَا: وَقيل: هِيَ مليكَة بنت كَعْب اللَّيْثِيّ وَحَكَى الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه قولا آخر أَن اسْمهَا: عمْرَة بنت زيد بن عبيد بن روس بن كلاب بن عَامر، وقولاً آخر: أَنَّهَا الْعَالِيَة بنت ظبْيَان بن عَمْرو بن عَوْف بن كَعْب بن عبيد بن بكر بن كلاب، وقولًا آخر أَنَّهَا سناء بنت سُفْيَان بن عَوْف بن كَعْب بن عبيد بن بكر بن كلاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي آخر دَلَائِل النُّبُوَّة: وروينا فِي حَدِيث أبي أسيد السَّاعِدِيّ فِي قصَّة الْجَوْنِية الَّتِي استعاذت فألْحَقَهَا بِأَهْلِهَا؛ أَن اسْمهَا: أُمَيْمَة بنت النُّعْمَان بن شرَاحِيل. قَالَ: وَذكر ابْن مَنْدَه فِي كتاب الْمعرفَة أَنَّهَا أُمَيْمَة بنت النُّعْمَان، وَأَنه يُقَال لَهَا: فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَيُقَال: إِنَّهَا مليكَة الليثية، قَالَ: وَالصَّحِيح أَنَّهَا: أُمَيْمَة قلت: فتحصلنا من هَذَا الِاخْتِلَاف فِي أَنَّهَا عَلَى سَبْعَة أَقْوَال؛ أَصَحهَا: أُمَيْمَة وَثَانِيها: أَسمَاء، وَثَالِثهَا: عمْرَة، وَرَابِعهَا: فَاطِمَة، وخامسها: مليكَة، وسادسها: سناء، وسابعها: الْعَالِيَة.

.الحديث الثَّامِن عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «زوجاتي فِي الدُّنْيَا: زوجاتي فِي الْآخِرَة».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه فِي تَرْجَمَة عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من رِوَايَة ابْن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «سَأَلت رَبِّي- عَزَّ وَجَلَّ- أَن لَا أُزوج أحدا من أُمَّتي، وَلَا أتزوَّج إِلَّا كَانَ معي فِي الْجنَّة؛ فَأَعْطَانِي» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِي سنَن الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ لامْرَأَته: إِن سرَّكِ أَن تَكُونِي زَوْجَتي فِي الْجنَّة؛ فَلَا تزوَّجي بَعْدي؛ فَإِن الْمَرْأَة فِي الْجنَّة لآخِرِ أزواجها فِي الدُّنْيَا، فَلذَلِك حَرُم عَلَى أزاوج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينكحن بعده؛ لِأَنَّهُنَّ أَزوَاجه فِي الْجنَّة».

.الحديث التَّاسِع عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم اصْطَفَى صَفِيَّة بِنْتَ حُيَيٍّ، وأعتقها، وتزوَّجها».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا من رِوَايَة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى الصُّبْحَ بِغَلَس ثمَّ ركب، فَقَالَ: الله أكبر، خربتْ خَيْبَر، إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فساءَ صباحُ المُنْذَرِيْنَ فَخَرجُوا يسعون فِي السِّكَك وَيَقُولُونَ: مُحَمَّد وَالْخَمِيس! قَالَ:
وَالْخَمِيس: الْجَيْش، فَظهر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم، فَقتل المَقَاتلة وسَبَى الذَّرَارِي، فَصَارَت صَفِيَّة لدحية الْكَلْبِيّ، وَصَارَت لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تزَوجهَا، وَجعل عتقهَا صَدَاقَهَا»
لفظ إِحْدَى رواياتهم.
وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَت: «كَانَت صَفِيَّة من الصَّفِيِّ».
فَيُحْتَاج إِذا إِلَى تَأْوِيل رِوَايَة الصَّحِيح: أَنَّهَا وَقعت فِي سَهْم دحْيَة الْكَلْبِيّ، فَأعْطَاهُ بهَا مَا أرادَ، أَو اشْتَرَاهَا بِسَبْعَة أرؤس.

.الحديث العشْرُونَ:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم اصْطَفَى سَيْفَهُ ذَا الفقار».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَالتِّرْمِذِيّ فِي جامعه وَابْن مَاجَه فِي سنَنه وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من رِوَايَة ابْن عَبَّاس- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تنفل سَيْفه ذَا الفقار يَوْم بدر، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْم أُحُد».
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. قَالَ ابْن الْقطَّان وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن فِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، وَلم يبال الحاكمُ بِهَذَا وَأخرجه فِي مُسْتَدْركه ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَإِنَّمَا أخرجته فِي هَذَا الْموضع لأخبارٍ واهية: «إِن ذَا الفقار من خَيْبَر».
قلت: وَمِنْهَا: مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان أبي شيبَة، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن الْحجَّاج بن علاط السّلمِيّ أهْدَى لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيْفه ذَا الفقار، ودحية الْكَلْبِيّ أهْدَى لَهُ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاء».
آفَتُهُ إِبْرَاهِيم هَذَا؛ فَإِنَّهُ واهٍ، وَأَيْضًا الحكم لم يسمع من مقسم إِلَّا خَمْسَة أَحَادِيث أَو أَرْبَعَة، كَمَا عددتُها فِي أثْنَاء بَاب الْجُمُعَة وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا.
فَائِدَة:
فِي الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير من حَدِيث ابْن عَبَّاس- بِإِسْنَاد ضَعِيف- قَالَ: «كَانَ لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سيف، قائمته من فضَّة وقبعته من فضَّة، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الفقار».
وَفِي معرفَة الصَّحَابَة لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة مَرْزُوق: «أَنه صقل سيف رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَا الفقار، وَكَانَت لَهُ قبيعة من فضَّة، وحِلَق فِي قَيده، وبكرة فِي وَسطه من فضَّة».
فَائِدَة:
قَالَ الْخطابِيّ فِي كِتَابه تصاحيف الروَاة:
الفقار: مَفْتُوح الْفَاء، والعامة تكسرها.
قَالَ الْأَصْمَعِي- فِيمَا حَكَاهُ ابْن بري عَنهُ-: «رأيتُ ذَا الفقار عَلَى الرشيد فِيهِ ثَمَانِي عشرَة فقارة» ويُرْوى: «أَنه كَانَ مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن، فَأعْطَاهُ رجلا لَهُ عَلَيْهِ أَرْبَعمِائَة دِينَار، وَقَالَ: ائْتِ بِهَذَا السَّيْف أعْطِيه مَنْ شِئْتَ ويعطيك مَالك. فَبَقيَ عِنْد الرجل حَتَّى أَخذه مِنْهُ جَعْفَر بن سُلَيْمَان، وَأَعْطَاهُ المَال، ثمَّ أَخذه الْمهْدي من جَعْفَر، ثمَّ صَار إِلَى مُوسَى الرِّضَى فَضرب بِهِ كَلْبا فَانْقَطع».