فصل: النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكِنَايَاتِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْقُرْآنِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي الْكِنَايَاتِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْقُرْآنِ

اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الْكِنَايَةَ مِنَ الْبَرَاعَةِ وَالْبَلَاغَةِ؛ وَهِيَ عِنْدُهُمْ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ‏.‏ قَالَ الطَّرْطُوسِيُّ‏:‏ وَأَكْثَرُ أَمْثَالِهِمُ الْفَصِيحَةِ عَلَى مَجَارِي الْكِنَايَاتِ‏.‏

وَقَدْ أَلَّفَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُتُبًا فِي الْأَمْثَالِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏"‏ فُلَانٌ عَفِيفُ الْإِزَارِ ‏"‏ وَ ‏"‏ طَاهِرُ الذَّيْلِ ‏"‏ وَ ‏"‏ لَمْ يُحْصِنْ فَرْجَهُ ‏"‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ‏:‏ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ‏.‏ فَكَنَّوْا عَنْ تَرْكِ الْوَطْءِ بِشَدِّ الْمِئْزَرِ، وَكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالْعُسَيْلَةِ، وَعَنِ النِّسَاءِ بِالْقَوَارِيرِ لِضَعْفِ قُلُوبِ النِّسَاءِ‏.‏

وَيُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِرَبَّةِ الْبَيْتِ، وَعَنِ الْأَعْمَى بِالْمَحْجُوبِ وَالْمَكْفُوفِ، وَعَنِ الْأَبْرَصِ بِالْوَضَّاحِ، وَبِالْأَبْرَشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 235‏)‏‏.‏

وَالْكِنَايَةُ عَنِ الشَّيْءِ؛ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِ‏.‏ وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ إِثْبَاتَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَلَا يَذْكُرُهُ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مِنَ اللُّغَةِ؛ وَلَكِنْ يَجِيءُ إِلَى مَعْنًى هُوَ تَالِيهِ وَرَدِيفُهُ فِي الْوُجُودِ، فَيُومِي بِهِ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَيَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى؛ مِثَالُهُ، قَوْلُهُمْ‏:‏ طَوِيلُ النِّجَادِ، وَكَثِيرُ الرَّمَادِ؛ يَعْنُونَ طَوِيلَ الْقَامَةِ، وَكَثِيرَ الضِّيَافَةِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمُرَادَ بِلَفْظِهِ الْخَاصِّ بِهِ، وَلَكِنْ تَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِذِكْرِ مَعْنًى آخَرَ، هُوَ رَدِيفُهُ فِي الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ الْقَامَةَ إِذَا طَالَتْ طَالَ النِّجَادُ؛ وَإِذَا كَثُرَ الْقِرَى كَثُرَ الرَّمَادُ‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، فَقَالَ الطَّرْطُوسِيُّ فِي الْعُمَدِ‏:‏ قَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُودِ الْكِنَايَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي الْمَجَازِ؛ فَمَنْ أَجَازَ وُجُودَ الْمَجَازِ فِيهِ أَجَازَ الْكِنَايَةَ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَنْكَرَ هَذَا‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ‏:‏ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَجَازٍ؛ لِأَنَّكَ اسْتَعْمَلْتَ اللَّفْظَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَأَرَدْتَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهَذَا شَبِيهٌ؛ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 23‏)‏ انْتَهَى‏.‏

‏[‏أَسْبَابُ الْكِنَايَةِ‏]‏

وَلَهَا أَسْبَابٌ الْكِنَايَةُ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 189‏)‏ كِنَايَةً عَنْ آدَمَ‏.‏

ثَانِيهَا‏:‏ فِطْنَةُ الْمُخَاطَبِ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُدَ‏:‏ ‏{‏خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 22‏)‏ فَكَنَّى دَاوُدَ بِخَصْمٍ عَلَى لِسَانِ مَلَكَيْنِ تَعْرِيضًا‏.‏

وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَزَيْدٍ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 40‏)‏ أَيْ زَيْدٍ ‏{‏وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 40‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَلَّا تُعَانِدُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ، فَتَمَسَّكُمْ هَذِهِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 8‏)‏ الْآيَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ لَا تَظُنُّ أَنَّكَ مُقَصِّرٌ فِي إِنْذَارِهِمْ؛ فَإِنَّا نَحْنُ الْمَانِعُونَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، فَقَدْ جَعَلْنَاهُمْ حَطَبًا لِلنَّارِ؛ لِنُقَوِّيَ الْتِذَاذَ الْمُؤْمِنِ بِالنَّعِيمِ، كَمَا لَا تَتَبَيَّنُ لَذَّةُ الصَّحِيحِ إِلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَرِيضِ‏.‏

ثَالِثُهَا‏:‏ تَرْكُ اللَّفْظِ إِلَى مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْهُ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 23‏)‏ فَكَنَّى بِالْنَّعْجَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، كَعَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُكَنِّي بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 16‏)‏ كَنَّى بِالتَّحَيُّزِ عَنِ الْهَزِيمَةِ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 90‏)‏ كَنَّى بِنَفْيِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادِفُهُ‏.‏

رَابِعُهَا‏:‏ أَنْ يَفْحُشَ ذِكْرُهُ فِي السَّمْعِ، فَيُكَنَّى عَنْهُ بِمَا لَا يَنْبُو عَنِ الطَّبْعِ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 72‏)‏ أَيْ كَنَّوْا عَنْ لَفْظِهِ، وَلَمْ يُورِدُوهُ عَلَى صِيغَتِهِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ قَوْمِ هُودٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 66‏)‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 67‏)‏ فَكَنَّى عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَحْسَنَ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 235‏)‏ فَكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالسِّرِّ‏.‏ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى، لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فِي السِّرِّ غَالِبًا، وَلَا يُسِرَّهُ- مَا عَدَا الْآدَمِيِّينَ- إِلَّا الْغُرَابُ‏.‏ فَإِنَّهُ يُسِرُّهُ؛ وَيُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ أَسَرَّ إِلَى ‏"‏ أَبِي عَلِيٍّ الْحَاتِمِيِّ ‏"‏ كَلَامًا، فَقَالَ‏:‏ لِيَكُنْ عِنْدَكَ أَخْفَى مِنْ سِفَادِ الْغُرَابِ، وَمِنَ الرَّاءِ فِي كَلَامِ الْأَلْثَغِ، فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا سَيِّدَنَا؛ وَمِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَعِلْمِ الْغَيْبِ‏.‏

وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجِمَاعِ بِاللَّمْسِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالرَّفَثِ، وَالدُّخُولِ، وَالنِّكَاحِ، وَنَحْوِهِنَّ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏ فَكَنَّى بِالْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْجِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 43‏)‏ إِذْ لَا يَخْلُوا الْجِمَاعُ عَنِ الْمُلَامَسَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي الْكِنَايَةِ عَنْهُنَّ‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏ وَاللِّبَاسُ مِنَ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ الِاخْتِلَاطُ وَالْجِمَاعُ‏.‏

وَكَنَّى عَنْهُنَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 223‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 23‏)‏ كِنَايَةٌ عَمَّا تَطْلُبُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 189‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا‏:‏ ‏{‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 75‏)‏ فَكَنَّى بِأَكْلِ الطَّعَامِ عَنِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْهُ مُسَبَّبَانِ، إِذْ لَا بُدَّ لِلْآكْلِ مِنْهُمَا، لَكِنِ اسْتُقْبِحَ فِي الْمُخَاطَبِ ذِكْرُ الْغَائِطِ، فَكَنَّى بِهِ عَنْهُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

قُلْنَا‏:‏ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى خِطَابِ الْعَرَبِ وَمَا يَأْلَفُونَ؛ وَالْمُرَادُ تَعْرِيفُهُمُ الْأَحْكَامَ، فَكَانِ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ؛ عَلَى أَنَّ الْغَائِطَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ النَّجْوِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا قَضَاءَ حَاجَتِهِمْ أَبْعَدُوا عَنِ الْعُيُونِ إِلَى مُنْخَفَضٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسُمِّيَ مِنْهُ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ؛ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ‏.‏

وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 75‏)‏ هُوَ الْمَشْهُورُ وَأَنْكَرَهُ الْجَاحِظُ، وَقَالَ بَلِ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ نَفْسُ أَكْلِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَأْكُلُهُ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ مُحْدِثًا، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَاعِمًا، قَالَ الْخَفَاجِيُّ‏:‏ وَهَذَا صَحِيحٌ‏.‏

‏(‏وَيُقَالُ لَهُمَا‏)‏‏:‏ الْكِنَايَةُ عَنِ الْغَائِطِ فِيهِ تَشْنِيعٌ وَبَشَاعَةٌ عَلَى مَنِ اتَّخَذَهَا آلِهَةً، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 20‏)‏ فَهُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ‏.‏

قَالَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ‏:‏ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فُضِّلَ الْعَالِمُ الْمُتَصَدِّي لِلْخَلْقِ عَلَى الزَّاهِدِ الْمُنْقَطِعِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ كَالطَّبِيبِ، وَالطَّبِيبُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَرْضَى، فَلَوِ انْقَطَعَ عَنْهُمْ هَلَكُوا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏}‏ ‏(‏الْفِيلِ‏:‏ 5‏)‏ كَنَّى بِهِ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْعَذِرَةِ، فَإِنَّ الْوَرَقَ إِذَا أُكِلَ انْتَهَى حَالُهُ إِلَى ذَلِكَ‏.‏ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 21‏)‏ أَيْ لِفُرُوجِهِمْ، فَكَنَّى عَنْهَا بِالْجُلُودِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 91‏)‏ فَصَرَّحَ بِالْفَرْجِ‏؟‏ قُلْنَا‏:‏ أَخْطَأَ مَنْ تَوَهَّمَ هُنَا الْفَرْجَ الْحَقِيقِيَّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَاتِ وَأَحْسَنِهَا، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجِ الْقَمِيصِ، أَيْ لَمْ يَعْلَقْ ثَوْبَهَا رِيبَةٌ، فَهِيَ طَاهِرَةُ الْأَثْوَابِ، وَفُرُوجُ الْقَمِيصِ أَرْبَعَةٌ‏:‏ الْكُمَّانُ، وَالْأَعْلَى، وَالْأَسْفَلُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَهُ مَعْنًى، وَأَلْطَفُ إِشَارَةً، وَأَمْلَحُ عِبَارَةً مِنْ أَنْ يُرِيدَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهْمُ الْجَاهِلِ، لَاسِيَّمَا وَالنَّفْخُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ بِأَمْرِ الْقُدُّوسِ، فَأُضِيفَ الْقُدْسُ إِلَى الْقُدُّوسِ، وَنُزِّهَتِ الْقَانِتَةُ الْمُطَهَّرَةُ عَنِ الظَّنِّ الْكَاذِبِ وَالْحَدْسِ‏.‏ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 26‏)‏ يُرِيدُ الزُّنَاةَ‏.‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏}‏ ‏(‏الْمُمْتَحَنَةِ‏:‏ 12‏)‏ فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الزِّنَا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ أَرَادَ طَرْحَ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ بَطْنَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَقْتَ الْحَمْلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 19‏)‏ وَإِنَّمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ السَّبَّابَةُ فَذَكَرَ الْإِصْبَعَ وَهُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ أَدَبًا؛ لِاشْتِقَاقِهَا مِنَ السَّبِّ، أَلَا تَرَاهُمْ كَنَّوْا عَنْهَا بِالْمُسَبِّحَةِ، وَالدَّعَّاءَةِ، وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ‏.‏ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ‏:‏ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ ذِكْرَ الْإِصْبَعِ هَنَا جَامِعٌ لِأَمْرَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ التَّنَزُّهُ عَنِ اللَّفْظِ الْمَكْرُوهِ، وَالثَّانِي‏:‏ حَطُّ مَنْزِلَةُ الْكُفَّارِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِاللَّفْظِ الْمَحْمُودِ، وَالْأَعَمُّ يُفِيدُ الْمَقْصُودَيْنِ مَعًا، فَأَتَى بِهِ وَهُوَ لَفْظُ الْإِصْبَعِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِالتَّعْبِيرِ بِالْأَحْسَنِ مَكَانَ الْقَبِيحِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ‏:‏ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ وَيَخْرُجْ أَمَرَ بِذَلِكَ إِرْشَادًا إِلَى إِيهَامِ سَبَبٍ أَحْسَنَ مِنَ الْحَدَثِ، وَهُوَ الرُّعَافُ، وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ مِنَ الشَّرْعِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِخْفَاءِ الْقَبِيحِ، وَقَدْ صَحَّ نَهْيُهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يُقَالَ‏:‏ الْكَرْمُ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ كَرِهَ الشَّارِعُ تَسْمِيَتَهَا بِالْكَرْمِ لِأَنَّهَا تُعْتَصَرُ مِنْهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ‏.‏

وَحَدِيثِ‏:‏ كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرَّأْسِ وَهُوَ صَائِمٌ قِيلَ‏:‏ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْلَةِ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْقُبْلَةِ مُسْتَهْجَنًا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءُ الدِّمْنِ‏.‏

خَامِسُهَا‏:‏ تَحْسِينُ اللَّفْظِ مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَيْضٌ مَكْنُونٌ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 49‏)‏ فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ مِنْ عَادَتِهِمُ الْكِنَايَةُ عَنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ بِالْبَيْضِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ‏:‏

وَبَيْضَةُ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا *** تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 4‏)‏ وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ‏:‏

فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ *** لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ

سَادِسُهَا‏:‏ قَصْدُ الْبَلَاغَةِ مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 18‏)‏ فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ- كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُنَّ يُنَشَّأْنَ فِي التَّرَفُّهِ وَالتَّزَيُّنِ وَالتَّشَاغُلِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقِيقِ الْمَعَانِي، وَلَوْ أَتَى بِلَفْظِ النِّسَاءِ لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ؛ وَالْمُرَادُ نَفْيُ حَمْلِ ذَلِكَ- أَعْنِي الْأُنُوثَةَ- عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَوْنِهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ؛ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 175‏)‏ أَيْ هُمْ فِي التَّمْثِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ بِهَذَا التَّعَجُّبِ‏.‏

سَابِعُهَا‏:‏ قَصْدُ الْمُبَالِغَةِ فِي التَّشْنِيعِ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 64‏)‏ فَإِنَّ الْغُلَّ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُخْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 29‏)‏ لِأَنَّ جَمَاعَةً كَانُوا مُتَمَوِّلِينَ، فَكَذَبُوا النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ، وَهُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 64‏)‏ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالْمُطَابَقَةِ لِلَّفْظِ، وَلِهَذَا قِيلَ‏:‏ إِنَّهُمْ أَبْخَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُمْ تُغَلُّ أَيْدِيهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِسَارِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ وَأَغْلَالِ النَّارِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 64‏)‏ كِنَايَةٌ عَنْ كَرَمِهِ، وَثَنَّى الْيَدَ وَإِنْ أُفْرِدَتْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّخَاءِ وَالْجُودِ‏.‏

ثَامِنُهَا‏:‏ التَّنْبِيهُ عَلَى مَصِيرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏ ‏(‏الْمَسَدِ‏:‏ 1‏)‏ أَيْ جُهَنَّمِيٌّ مَصِيرُهُ إِلَى اللَّهَبِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ ‏(‏الْمَسَدِ‏:‏ 4‏)‏ أَيْ نَمَّامَةً وَمَصِيرُهَا إِلَى أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِجَهَنَّمَ‏.‏

تَاسِعُهَا‏:‏ قَصْدُ الِاخْتِصَارِ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ وَمِنْهُ الْكِنَايَةُ عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِلَفْظِ ‏"‏ فَعَلَ ‏"‏، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 79‏)‏، ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 66‏)‏، ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَنْ تَأْتُوا‏.‏

عَاشِرُهَا‏:‏ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى جُمْلَةٍ وَرَدَ مَعْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَيَأْخُذَ الْخُلَاصَةَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُفْرَدَاتِهَا بِالْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ، مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ فَتُعَبِّرَ بِهَا عَنْ مَقْصُودِكَ؛ وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ اسْتَنْبَطَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَخَرَّجَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 5‏)‏ فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُلْكِ، فَجَعَلُوهُ كِنَايَةً عَنْهُ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 67‏)‏ الْآيَةَ، إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضِ وَالْيَمِينِ إِلَى جِهَتَيْنِ‏:‏ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ‏.‏

وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا تَفْتَحُ بَابَ تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 12‏)‏ الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَابِ إِلَى نَعْلٍ وَخَلْعِهِ، وَكَذَا نَظَائِرُهُ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ إِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، بِخِلَافِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِ‏.‏

تنبيهانِ

الْأَوَّلُ‏:‏ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْكِنَايَةِ قَرِينَةٌ كَالْمَجَازِ‏؟‏ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّهَا مَجَازٌ أَمْ لَا‏.‏ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 77‏)‏ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ إِنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَالسُّخْطِ عَلَيْهِمْ، تَقُولُ‏:‏ فُلَانٌ لَا يَنْظُرُ إِلَى فُلَانٍ، تُرِيدُ نَفْيَ اعْتِدَادِهِ بِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، قَالَ‏:‏ وَأَصْلُهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ الْكِنَايَةُ؛ لِأَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَأَعَارَهُ نَظَرَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عِبَارَةً عَنِ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ، ثُمَّ جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مُجَرَّدًا لِمَعْنَى الْإِحْسَانِ، مَجَازًا عَمَّا وَقَعَ كِنَايَةً عَنْهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ؛ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَجَازٌ وَبِهِ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 235‏)‏‏.‏ وَصَرَّحَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَرِينَةٍ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ قِيلَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تُكَنِّي عَنِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ يَقْبُحُ ذِكْرُهُ، وَذَكَرُوا احْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 21‏)‏‏.‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ كَنَّى بِالْإِفْضَاءِ عَنِ الْإِصَابَةِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ كَنَّى عَنِ الْخُلْوَةِ‏.‏

وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تُكَنِّي عَمَّا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ، وَلَا يُقْبُحُ ذِكْرُ الْخُلْوَةِ‏.‏ وَهَذَا حَسَنٌ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ‏.‏

وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِ الْعَرَبِ لَا تُكَنِّي إِلَّا عَمَّا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ فَغَلَطٌ، فَكَنَّوْا عَنِ الْقَلْبِ بِالثَّوْبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 4‏)‏ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ‏.‏

‏[‏التَّعْرِيضُ‏]‏

وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَسُمِّيَ تَعْرِيضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِهِ يُفْهَمُ مِنْ عُرْضِ اللَّفْظُ أَيْ مِنْ جَانِبِهِ، وَيُسَمَّى التَّلْوِيحَ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُلَوِّحُ مِنْهُ لِلسَّامِعِ مَا يُرِيدُهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 63‏)‏ لِأَنَّ غَرَضَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَاسْأَلُوهُمْ‏)‏ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَّضَ لَهُمْ بِهِ؛ مِنْ عَجْزِ كَبِيرِ الْأَصْنَامِ عَنِ الْفِعْلِ، مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ إِجَابَتِهِمْ إِذَا سُئِلُوا، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 63‏)‏ نِسْبَةَ الْفِعْلِ الصَّادِرِ عَنْهُ إِلَى الصَّنَمِ، فَدَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَجْزُ كَبِيرِ الْأَصْنَامِ عَنِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ‏.‏

وَمِنْ أَقْسَامِهِ التَّعْرِيضُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُخَاطَبَ الشَّخْصُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ نَفْسِهِ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 65‏)‏، ‏{‏وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 120‏)‏‏.‏ ‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 209‏)‏ تَعْرِيضًا بِأَنَّ قَوْمَهُ أَشْرَكُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَزَلُّوا فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأَبْرَزَ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي مَعْرِضِ الْحَاصِلِ ادِّعَاءً‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 209‏)‏ فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالتَّعْرِيضَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الزَّلَلَ لَهُمْ لَا لِلْمُؤْمِنِينَ‏.‏

فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ‏:‏ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَإِخْرَاجُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي‏.‏

وَأَمْرٌ رَابِعٌ؛ وَهُوَ ‏"‏ إِنِ ‏"‏ الشَّرْطِيَّةَ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي هِيَ لَازِمَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، مَعَ الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ الشَّرْطِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ وُقُوعِهِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَرَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلَ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ صِحَّةُ وُقُوعِهِ؛ بَلْ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُحَالِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 81‏)‏ إِذَا جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً لَا نَافِيَةً‏.‏ وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 17‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ الْمُرَادُ مَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ وَلَوْلَا التَّعْرِيضُ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ ‏"‏ وَإِلَيْهِ أُرْجَعُ ‏"‏، وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 23‏)‏ وَالْمُرَادُ أَتَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ‏{‏إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ وَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 25‏)‏ دُونَ ‏"‏ رَبِّي ‏"‏ وَ ‏"‏ أَتْبَعُهُ ‏"‏، ‏"‏ فَاسْمَعُوهُ ‏"‏‏.‏

وَوَجْهُ حُسْنِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِعْلَامُ السَّامِعِ عَلَى صُورَةٍ لَا تَقْتَضِي مُوَاجَهَتَهُ بِالْخِطَابِ الْمُنْكَرِ، كَأَنَّكَ لَمْ تَعْنِهِ وَهُوَ أَعْلَى فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَأَقْرَبُ لِلْقَبُولِ، وَأَدْعَى لِلتَّوَاضُعِ، وَالْكَلَامُ مِمَّنْ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَزَّلَهُ بِلُغَتِهِمْ، وَتَعْلِيمًا لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 25‏)‏ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فِي قَالَبِ التَّلَطُّفِ، وَكَانَ حَقُّ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، لَوْلَاهُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ لَا تَسْأَلُونَ عَمَّا عَمِلْنَا، وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا تُجْرِمُونَ‏.‏

وَكَذَا مِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 24‏)‏ حَيْثُ رَدَّدَ الضَّلَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَفْسِهِمْ، وَالْمُرَادُ‏:‏ إِنَّا عَلَى هُدًى وَأَنْتُمْ فِي ضَلَالٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِئَلَّا تَصِيرَ هُنَا نُكْتَةٌ، هُوَ أَنَّهُ خُولِفَ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ وَ ‏"‏ فِي ‏"‏ بِدُخُولِ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ عَلَى الْحَقِّ، ‏"‏ وَفِي ‏"‏ عَلَى الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ، كَأَنَّهُ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٌ يَرْكُضُ بِهِ حَيْثُ أَرَادَ، وَصَاحِبُ الْبَاطِلِ كَأَنَّهُ مُنْغَمِسٌ فِي ظَلَامٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ‏.‏ قَالَ السَّكَّاكِيُّ‏:‏ وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الْخِطَابَ الْمُنْصِفَ، التَّعْرِيضُ فِي الْقُرْآنِ أَيْ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يُنْصِفَ الْمُخَاطَبَ إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ اسْتِدْرَاجًا لِاسْتِدْرَاجِهِ الْخَصْمِ إِلَى الْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْجَدَلِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمُغَالَطَاتِ الْخِطَابِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 18‏)‏ الْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِذَمِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَشْيَةُ، وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ لِفَرْطِ عِنَادِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أُذُنٌ تَسْمَعُ، وَلَا قَلْبٌ يَعْقِلُ، وَأَنَّ الْإِنْذَارَ لَهُ كَلَا إِنْذَارٍ، وَأَنَّهُ قَدْ أُنْذِرَ مَنْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَتْ لَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 19‏)‏ الْقَصْدُ التَّعْرِيضُ، وَأَنَّهُمْ لِغَلَبَةِ هَوَاهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏ ‏(‏الدُّخَّانِ‏:‏ 49‏)‏ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا بَيْنَ أَخْشَبَيْهَا- أَيْ جَبَلَيْهَا يَعْنِي مَكَّةَ- أَعَزُّ مِنِّي وَلَا أَكْرَمُ، وَقِيلَ‏:‏ بَلْ خُوطِبَ بِذَلِكَ اسْتِهْزَاءً‏.‏

‏[‏التَّوْجِيهُ‏]‏

وَأَمَّا التَّوْجِيهُ‏:‏ وَهُوَ مَا احْتَمَلَ مَعْنِيِّينَ، وَيُؤْتَى بِهِ عِنْدَ فِطْنَةِ الْمُخَاطَبِ، التَّعْرِيضُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 12‏)‏ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي ‏"‏ لَهُ ‏"‏ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى، وَأَنْ يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَبِهَذَا تَخَلَّصَتْ أُخْتُ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّكِ عَرَفْتِهِ، فَقَالَتْ‏:‏ أَرَدْتُ‏:‏ نَاصِحُونَ لِلْمَلِكِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا فِي كَلَامِهَا الْمَحْكِيِّ، وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّ الْحِكَايَةَ مُطَابَقَةٌ لِمَا قَالَتْهُ؛ وَإِنْ كَانَتْ بِلُغَةٍ أُخْرَى‏.‏

وَنَظِيرُهُ جَوَابُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِمَنْ قَالَ لَهُ‏:‏ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏؟‏ أَبُو بَكْرٍ أَمْ عَلِيٌّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَنْ كَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَهُ‏.‏

وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مُشْكِلَاتُ الْقُرْآنِ‏.‏

النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي أَقْسَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ

زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحَصْرِهَا، وَحِكَايَةُ ابْنِ السَّيِّدِ عَنْ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ فِي زَمَانِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ قِسْمَانِ‏:‏ خَبَرٌ، وَغَيْرُ خَبَرٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ عَشَرَةٌ‏:‏ نِدَاءٌ، وَمَسْأَلَةٌ، وَأَمْرٌ، وَتَشَفُّعٌ، وَتَعَجُّبٌ، وَقَسَمٌ، وَشَرْطٌ، وَوَضْعٌ، وَشَكٌّ، وَاسْتِفْهَامٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تِسْعَةٌ، وَأَسْقَطُوا الِاسْتِفْهَامَ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ثَمَانِيَةٌ، وَأَسْقَطُوا التَّشَفُّعَ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ سَبْعَةٌ، وَأَسْقَطُوا الشَّكَّ لِأَنَّهُ فِي قِسْمِ الْخَبَرِ‏.‏

وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ يَرَى أَنَّهَا سِتَّةٌ أَيْضًا، وَهِيَ عِنْدُهُ‏:‏ الْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالنِّدَاءُ، وَالتَّمَنِّي‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ خَمْسَةٌ‏:‏ الْخَبَرُ، وَالْأَمْرُ، وَالتَّصْرِيحُ، وَالطَّلَبُ، وَالنِّدَاءُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ‏.‏

الْأَوَّلُ‏:‏ الْخَبَرُ

وَالْقَصْدُ بِهِ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ، وَقَدْ يُشْرَبُ مَعَ ذَلِكَ مَعَانِي أُخَرُ‏:‏

مِنْهَا التَّعَجُّبُ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ‏:‏ وَهُوَ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى أَضْرَابِهِ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ‏:‏ اسْتِعْظَامُ صِفَةٍ خَرَجَ بِهَا الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَنْ نَظَائِرِهِ، نَحْوُ‏:‏ مَا أَحْسَنَ زَيْدًا‏!‏ وَأَحْسِنْ بِهِ‏!‏ اسْتَعْظَمْتُ حُسْنَهُ عَلَى حُسْنِ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الصَّفِّ‏:‏ مَعْنَى التَّعَجُّبِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ؛ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ‏.‏

وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ‏:‏ الْمَطْلُوبُ فِي التَّعَجُّبِ الْإِبْهَامُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِمَّا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، وَكُلَّمَا اسْتُبْهِمَ السَّبَبُ كَانَ التَّعَجُّبُ أَحْسَنَ؛ قَالَ‏:‏ وَأَصْلُ التَّعَجُّبِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الْخَفِيِّ سَبَبُهُ، وَالصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تُسَمَّى تَعَجُّبًا، يَعْنِي مَجَازًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمِنْ أَجْلِ الْإِبْهَامِ لَمْ تَعْمَلْ ‏"‏ نِعْمَ ‏"‏ إِلَّا فِي الْجِنْسِ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ؛ لِيَقَعَ التَّفْسِيرُ عَلَى نَحْوِ التَّفْخِيمِ بِالْإِضْمَارِ قَبْلَ الذَّكْرِ‏.‏

ثُمَّ قَدْ وَضَعُوا لِلتَّعَجُّبِ صِيَغًا مِنْ لَفْظِهِ، وَهِيَ‏:‏ مَا أَفْعَلَهُ، وَأَفْعِلْ بِهِ، وَصِيَغًا مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ نَحْوُ ‏"‏ كَبُرَ ‏"‏ فِي نَحْوِ‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 5‏)‏، ‏{‏كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 3‏)‏، ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 28‏)‏ وَاحْتَجَّ الثَّمَانِينِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 38‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ‏!‏ وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ- لَمْ يَتَعَجَّبْ بِهِمْ، وَلَكِنْ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ قِيلَ‏:‏ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَلَا يُقَالُ‏:‏ مَا أَعْظَمَ اللَّهَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى‏:‏ شَيْءٌ عَظَّمَ اللَّهَ، كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ صِيَغِ التَّعَجُّبِ، وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ بِجَوَازِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُحَبُّ تَعْظِيمُ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَهُوَ يَرْجِعُ لِاعْتِقَادِ الْعِبَادِ عَظَمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

مَا أَقْدَرَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِي عَلَى شَحَطٍ *** مَنْ دَارُهُ الْحُزْنُ مِمَّنْ دَارُهُ صُولُ

وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا‏:‏ هَذَا أَعْرَابِيٌّ جَاهِلٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ‏:‏ التَّعَحُبُ إِنَّمَا يُقَالُ لِتَعْظِيمِ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ، وَلَا يُخْطَرُ بِالْبَالِ أَنَّ شَيْئًا صَيَّرَهُ كَذَلِكَ، وَخَفِيَ عَلَيْنَا، فَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ التَّعَجُّبُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ هَلْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ التَّعَجُّبِ فِي حَقِّ اللَّهِ- تَعَالَى‏؟‏ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَقِيلَ‏:‏ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ اسْتِعْظَامٌ وَيَصْحَبُهُ الْجَهْلُ، وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ- مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي الْمُقَرِّبِ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَإِنْ وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ صُرِفَ إِلَى الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 175‏)‏ أَيْ هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ‏.‏

وَقِيلَ بِالْجَوَازِ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 175‏)‏ إِنْ قُلْنَا‏:‏ ‏"‏ مَا ‏"‏ تَعَجُّبِيَّةٌ لَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 12‏)‏ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِالضَّمِّ‏.‏

وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أُوِّلَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، أَيْ عَلِمْتُ أَسْبَابَ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ الْعِبَادَ، فَسَمَّى الْعِلْمَ بِالْعَجَبِ عَجَبًا‏.‏

وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفُّ عَلَى خِلَافٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّعَجُّبِ؛ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ خَفَاءُ سَبَبِهِ فَيَتَحَيَّرُ فِيهِ الْمُتَعَجِّبُ مِنْهُ أَوْ لَا‏؟‏ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ صِيغَةُ التَّعَجُّبِ إِلَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 175‏)‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ ‏(‏عَبَسَ‏:‏ 17‏)‏ وَ ‏(‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا أَغَرَّكَ‏)‏ ‏(‏الِانْفِطَارِ‏:‏ 6‏)‏ فِي قِرَاءَةِ مَنْ زَادَ الْهَمْزَةَ‏.‏

ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ‏:‏ التَّعَجُّبُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَلِهَذَا تَلَطَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعَجُّبِ، وَمَجِيءُ التَّعَجُّبِ مِنَ اللَّهِ كَمَجِيءِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَالتَّرَجِّي؛ وَإِنَّمَا هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، أَيْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكُمْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَقُولُوا لَهُمْ هَذِهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 44‏)‏ قَالَ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا‏.‏ قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ‏:‏ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 15‏)‏، ‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُطَفِّفِينَ‏:‏ 1‏)‏ فَقَالَ‏:‏ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ إِنَّهُ دُعَاءٌ هَاهُنَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ بِذَلِكَ قَبِيحٌ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَ إِنَّمَا كُلِّمُوا بِكَلَامِهِمْ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَعَلَى مَا يَعْنُونَ فَكَأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- قِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُطَفِّفِينَ‏:‏ 1‏)‏ وَ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 15‏)‏ أَيْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يُقَالُ لِصَاحِبِ الشَّرِّ وَالْهَلَكَةِ، فَقِيلَ‏:‏ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْهَلَكَةِ، وَوَجَبَ لَهُمْ هَذَا‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَمِنْهَا الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 228‏)‏، ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 233‏)‏ فَإِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ؛ لَا أَنَّهُ خَبَرٌ وَإِلَّا لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ، وَسَبَقَ فِي الْمَجَازِ‏.‏

وَمِنْهَا النَّهْيُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 79‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الْوَعْدُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 53‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 227‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الْإِنْكَارُ وَالتَّبْكِيتُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 49‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الدُّعَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ أَيْ أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ‏.‏

وَرُبَّمَا كَانَ اللَّفْظُ خَبَرًا وَالْمَعْنَى شَرْطًا وَجَزَاءً؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 15‏)‏ فَظَاهِرُهُ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى‏:‏ إِنَّا إِنْ نَكْشِفْ عَنْكُمُ الْعَذَابَ تَعُودُوا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 229‏)‏ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مَرَّتَيْنِ فَلْيُمْسِكْهَا بَعْدَهُمَا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحْهَا بِإِحْسَانٍ‏.‏

وَمِنْهَا التَّمَنِّي، وَكَلِمَتُهُ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ ‏"‏ لَيْتَ ‏"‏ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ ‏(‏لَيْتَ‏)‏ لِلتَّمَنِّي ‏(‏أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏)‏‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ ‏"‏ هَلْ ‏"‏، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 53‏)‏ حُمِلَتْ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ عَلَى إِفَادَةِ التَّمَنِّي لِعَدَمِ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ شَفِيعٍ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَيَتَوَلَّدُ التَّمَنِّي بِمَعُونَةِ قَرِينَةِ الْحَالِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ ‏"‏ وَدَّ ‏"‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏وَدُّوا لَوْ تُدْهِنَ فَيُدْهِنُوا‏)‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 9‏)‏ بِالنَّصْبِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 80‏)‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 167‏)‏، ‏{‏لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 58‏)‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ ‏"‏ لَعَلَّ ‏"‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 36، 37‏)‏ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ هَلِ التَّمَنِّي خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَوْ لَيْسَ بِخَبَرٍ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ؛ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ قَوْلَانِ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، حَكَاهُمَا ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ ‏"‏ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ‏"‏‏.‏ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ، وَاسْتَشْكَلَ دُخُولَ التَّكْذِيبِ فِي جَوَابِهِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 27‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 28‏)‏ وَأَجَابَ بِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِدَةِ، فَدَخَلَهُ التَّكْذِيبُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ‏:‏ التَّمَنِّي حَقِيقَةً لَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَذِبُ؛ وَإِنَّمَا يَرِدُ الْكَذِبُ فِي التَّمَنِّي الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدَ صَاحِبِهِ وُقُوعُهُ؛ فَهُوَ إِذَنْ وَارِدٌ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ ظَنٌّ، وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 28‏)‏ أَنَّ مَا تَمَنَّوْا لَيْسَ بِوَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ذَمٌّ، بَلِ التَّكْذِيبُ وَرَدَ عَلَى إِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ، وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ‏.‏

وَمِنْهَا التَّرَجِّي؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمُمَكِنَاتِ، وَالتَّمَنِّيَ يَدْخُلُ الْمُسْتَحِيلَاتِ‏.‏

وَمِنْهَا النِّدَاءُ؛ وَهُوَ طَلَبُ إِقْبَالِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الدَّاعِي بِحَرْفٍ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا يَصْحَبُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21‏)‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 1‏)‏، ‏{‏يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 16‏)‏، ‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 52‏)‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 1‏)‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

وَرُبَّمَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ جُمْلَةَ النِّدَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 31‏)‏‏.‏

وَإِذَا جَاءَتْ جُمْلَةُ الْخَبَرِ بَعْدَ النِّدَاءِ تَتْبَعُهَا جُمْلَةُ الْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 73‏)‏‏.‏ وَقَدْ تَجِيءُ مَعَهُ الْجُمَلُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالْخَبَرِيَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْخَبَرِ‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 68‏)‏، وَ‏{‏يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 100‏)‏، ‏{‏وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 64‏)‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 15‏)‏ وَفِي الِاسْتِفْهَامِ‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 42‏)‏، ‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 41‏)‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 2‏)‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَهُنَا فَائِدَتَانِ‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- كُلُّ نِدَاءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْقُبُهُ فَهْمٌ فِي الدِّينِ، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي عُقِدَتْ بِهَا سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَإِمَّا مَوَاعِظُ وَزَوَاجِرُ وَقَصَصٌ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ، وَقَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِهِ، فَكَانَ حَقُّ هَذِهِ أَنْ تُدْرَكَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ الْبَلِيغَةِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ النِّدَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْبَعِيدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا؛ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 52‏)‏ لَطِيفَةٌ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا نَادَاهُ نَاجَاهُ أَيْضًا؛ وَالنِّدَاءُ مُخَاطَبَةُ الْأَبْعَدِ، وَالْمُنَاجَاةُ مُخَاطَبَةُ الْأَقْرَبِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ اللَّطِيفَةِ أَخْبَرَ- سُبْحَانَهُ- عَنْ مُخَاطَبَتِهِ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏

وَفِي مَوْضِعٍ‏:‏ ‏{‏وَيَا آدَمُ اسْكُنْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 19‏)‏ ثُمَّ لَمَّا حَكَى عَنْهُمَا مُلَابَسَةَ الْمُخَالَفَةِ، قَالَ فِي وَصْفِ خِطَابِهِ لَهُمَا‏:‏ ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 22‏)‏ فَأَشْعَرَ هَذَا اللَّفْظُ بِالْبُعْدِ لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ، كَمَا أَشْعَرَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ بِالْقُرْبِ عِنْدَ السَّلَامَةِ مِنْهَا‏.‏

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ النِّدَاءُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ مَجَازًا فِي مَوَاضِعَ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ الْإِغْرَاءُ وَالتَّحْذِيرُ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ ‏(‏الشَّمْسِ‏:‏ 13‏)‏ وَالْإِغْرَاءُ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْرِيضُ، وَلِهَذَا خَصُّوا بِهِ الْمُخَاطَبَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الِاخْتِصَاصُ؛ وَهُوَ كَالنِّدَاءِ إِلَّا أَنَّهُ لَا حَرْفَ فِيهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ التَّنْبِيهُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 23‏)‏ لِأَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ يَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ‏.‏

وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَتَى‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 28‏)‏ نِدَاءٌ مُضَافٌ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ هَذَا وَقْتُ حُضُورِ الْوَيْلِ‏.‏ وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 30‏)‏ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نَدَاهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتُهَا‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ النِّدَاءَ خَبَرٌ أَمْ لَا، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ‏:‏ ذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَى أَنَّ قَوْلَكَ‏:‏ يَا زَيْدُ، لَيْسَ بِخَبَرٍ مُحْتَمِلٍ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ وَالتَّصْوِيتِ‏.‏ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِكَ‏:‏ يَا فَاسِقُ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ أَيْضًا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ‏:‏ خَبَرٌ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ نِسْبَتَهُ لِلْفِسْقِ‏.‏

وَمِنْهَا الدُّعَاءُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏ ‏(‏الْمَسَدِ‏:‏ 1‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 4‏)‏، ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 90‏)‏، ‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُطَفِّفِينَ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

قَالَ سِيبَوَيْهِ‏:‏ هَذَا دُعَاءٌ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الطَّرَاوَةِ لِاسْتِحَالَتِهِ هُنَا، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ لِلْخَلْقِ وَإِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي الرَّجَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ‏.‏

فَائِدَةٌ

ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ، نَحْوُ‏:‏ تَاللَّهَ هَلْ قَامَ زَيْدٌ- قَسَمٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ، لِكَوْنِهِ خَبَرًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الِاسْتِخْبَارُ ‏[‏وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ‏]‏

وَهُوَ طَلَبُ خَبَرِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَ الِاسْتِخْبَارِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ‏(‏أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏)‏ فِي الْقُرْآنِ؛ أَيْ طَلَبُ الْفَهْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ مَا سُبِقَ أَوَّلًا وَلَمْ يُفْهَمْ حَقَّ الْفَهْمِ، فَإِذَا سَأَلَتْ عَنْهُ ثَانِيًا كَانَ اسْتِفْهَامًا؛ حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏ وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ طَلَبَ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ تَحْصِيلَهُ فِي الذِّهْنِ، لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ حَقِيقَةً إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْ شَاكٍّ مُصَدِّقٍ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ؛ فَإِنَّ غَيْرَ الشَّاكِّ إِذَا اسْتَفْهَمَ يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِذَا لَمْ يُصَدِّقْ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ انْتَفَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ‏.‏

‏[‏فَوَائِدُ الِاسْتِفْهَامِ‏]‏

وَفِي الِاسْتِفْهَامِ فَوَائِدُ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏

الْأُولَى‏:‏ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ‏:‏ مَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقُرْآنِ، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ حَاصِلٌ، فَيَسْتَفْهِمُ عَنْهُ نَفْسَهُ تُخْبِرُهُ بِهِ، إِذْ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ عِنْدَهَا، فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 87‏)‏ وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 1‏)‏، ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 14‏)‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ إِذَا اسْتَفْهَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَسْتَفْهِمُ خَلْقَهُ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَفْهِمُهُمْ لِيُقَرِّرَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَقَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهَذَا أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ انْفَرَدَ بِهِ خِطَابُ الْقُرْآنِ، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مُخْتَلِفٌ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ الِاسْتِفْهَامُ إِذَا بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ فُهِمَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى جَوَابِهِ أَيَّ جَوَابٍ كَانَ؛ لِأَنَّ سَبْقَهُ عَلَى الْجَوَابِ يَشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ مَنْ يُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إِيرَادُهُ قَبْلَهُ عَبَثًا، فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ تَعْمِيمًا، نَحْوُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ جَاءَكَ فَأُكْرِمَهُ ‏"‏ بِالنَّصْبِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ قَبْلَ ذِكْرِ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ‏:‏ أُكْرِمَهُ، عُلِمَ أَنَّهُ يُكْرِمُ مَنْ يَقُولُ الْمُجِيبُ‏:‏ إِنَّهُ جَاءَ، أَيْ جَاءَ كَانَ، وَكَذَا حُكْمُ ‏"‏ مَنْ ذَا جَاءَكَ أَكْرِمْهُ ‏"‏، بِالْجَزْمِ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ قَدْ يَخْرُجُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ بِأَنْ يَقَعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَيَسْتَغْنِي عَنْ طَلَبِ الْإِفْهَامِ‏.‏

‏[‏أَقْسَامُ الِاسْتِفْهَامِ‏]‏

وَهُوَ قِسْمَانِ لِلِاسْتِفْهَامِ ‏(‏أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏)‏‏:‏ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، وَبِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ بِمَعْنَى الْخَبَرِ؛ وَهُوَ ضَرْبَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ نَفْيٌ، وَالثَّانِي إِثْبَاتٌ، فَالْوَارِدُ لِلنَّفْيِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْوَارِدُ لِلْإِثْبَاتِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ ‏(‏أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏)‏ تَقْرِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بِالْأَوَّلِ إِنْكَارُ الْمُخَاطَبِ، وَبِالثَّانِي إِقْرَارُهُ بِهِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْأَدَاةِ مَنْفِيٌّ

وَلِذَلِكَ تَصْحَبُهُ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 17‏)‏‏.‏

وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ الْمَنْفِيُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 29‏)‏ أَيْ لَا يَهْدِي؛ وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 19‏)‏ أَيْ لَسْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 99‏)‏‏.‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 114‏)‏‏.‏ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 111‏)‏، ‏{‏فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 47‏)‏ أَيْ لَا نُؤْمِنُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ‏}‏ ‏(‏الطُّورِ‏:‏ 39‏)‏ أَيْ لَا يَكُونُ هَذَا‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 8‏)‏ أَيْ مَا أُنْزِلَ‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 19‏)‏ أَيْ مَا شَهِدُوا ذَلِكَ‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 40‏)‏ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 80‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 15‏)‏ أَيْ لَمْ نَعْيَ بِهِ‏.‏

وَهُنَا أَمْرَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدْ يَجِيءُ لِتَعْرِيفِ الْمُخَاطَبِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُدَّعَى مُمْتَنَعٌ عَلَيْهِ؛ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَيْسَ مِنْ قُدْرَتِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 40‏)‏ لِأَنَّ إِسْمَاعَ الصُّمِّ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ؛ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِسْمَاعَهُمْ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الِاسْمُ فِي الْآيَةِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ أَتُسْمِعُ الصُّمَّ‏؟‏ إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارٍ مُوَجَّهٍ عَنْ تَقْدِيرِ ظَنٍّ مِنْهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِإِسْمَاعِ مَنْ بِهِ صَمَّمٌ، وَأَنَّهُ ادَّعَى الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ إِنْكَارِ الْفِعْلِ‏.‏ وَفِيهِ دُخُولُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمُضَارِعِ، فَإِذَا قُلْتَ‏:‏ أَتَفْعَلُ‏؟‏ أَوْ أَأَنْتَ تَفْعَلُ‏؟‏ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ إِنْكَارُ وُجُودِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 28‏)‏ وَالْمَعْنَى لَسْنَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ هَذَا الْإِلْزَامُ، وَإِنْ عَبَّرْنَا بِفِعْلِ ذَلِكَ؛ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى إِنْكَارُ أَصْلِ الْإِلْزَامِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ قَوْلُكُ لِمَنْ يَرْكَبُ الْخَطَرَ‏:‏ أَتَذْهَبُ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ‏؟‏ انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَاسْتَبْصِرْ‏.‏ فَإِذَا قَدَّمَتَ الْمَفْعُولَ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى كَوْنِهِ بِمَثَابَةِ أَنْ يُوقَعَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 14‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 40‏)‏ الْمَعْنَى‏:‏ أَغَيْرَ اللَّهِ بِمَثَابَةِ مَنْ يُتَّخَذُ وَلَّيًا‏!‏‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 24‏)‏ لِأَنَّهُمْ بَنَوْا كَفْرَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَتَّبِعُ صِيغَةَ الْمُسْتَقْبَلِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 99‏)‏ أَوْ لِلِاسْتِقْبَالِ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 32‏)‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْكَارَ التَّكْذِيبُ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ ادَّعَاهُ وَقَصَدَ تَكْذِيبَهُ، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 153‏)‏، ‏{‏أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 21‏)‏، ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 60‏)‏‏.‏

وَسَوَاءٌ كَانَ زَعْمُهُمْ لَهُ صَرِيحًا، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏(‏الطُّورِ‏:‏ 15‏)‏ أَوِ الْتِزَامًا مِثْلُ‏:‏ ‏{‏أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 19‏)‏ فَإِنَّهُمْ لَمَّا جَزَمُوا بِذَلِكَ جَزْمَ مَنْ يُشَاهِدُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ شَهِدَ خَلْقَهُمْ‏.‏

وَتَسْمِيَةُ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مِنْ أَنْكَرَ إِذَا جَحَدَ، وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى ‏"‏ لَمْ يَكُنْ ‏"‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 40‏)‏ أَوْ بِمَعْنَى لَا يَكُونُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أَنُلْزِمُكُمُوهَا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 28‏)‏‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْكَارَ قِسْمَانِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِبْطَالِيٌّ، وَحَقِيقِيٌّ‏.‏

فَالْإِبْطَالِيُّ؛ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا غَيْرَ وَاقِعٍ، وَمُدَّعِيهِ كَاذِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْحَقِيقِيُّ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا وَاقِعًا، وَأَنَّ فَاعِلَهُ مَذْمُومٌ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 95‏)‏، ‏{‏أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 40‏)‏، ‏{‏أَإِفْكًا آلِهَةً‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 86‏)‏، ‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 165‏)‏، ‏{‏أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 20‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَهُوَ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَالتَّقْرِيرُ حَمْلُكَ الْمُخَاطَبَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَمْرٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي الْخَاطِرِيَّاتِ‏:‏ وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ بِـ ‏"‏ هَلْ ‏"‏، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏

جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطُّ ***

وَهَلْ لَا تَقَعُ تَقْرِيرًا كَمَا يَقَعُ غَيْرُهَا مِمَّا هُوَ لِلِاسْتِفْهَامِ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الْكِنْدِيُّ‏:‏ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 72‏)‏ إِلَى أَنَّ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ تُشَارِكُ الْهَمْزَةَ فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَبَا عَلِيٍّ أَبَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْكَارِ انْتَهَى‏.‏

وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، أَنَّ اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ لَا يَكُونُ بِـ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْهَمْزَةُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ تَأْتِي تَقْرِيرًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏ وَالْكَلَامُ مَعَ التَّقْرِيرِ مُوجَبٌ، وَلِذَلِكَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْمُوجَبِ، وَيُعْطَفُ عَلَى صَرِيحِ الْمُوجَبِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}‏ ‏(‏الضُّحَى‏:‏ 6 وَ 7‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ‏}‏ ‏(‏الِانْشِرَاحِ‏:‏ 1، 2‏)‏، ‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ‏}‏ ‏(‏الْفِيلِ‏:‏ 2- 3‏)‏‏.‏

وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 84‏)‏ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ حَيْثُ جَعَلَهَا مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 14‏)‏‏.‏

وَيَجِبُ أَنْ يَلِيَ الْأَدَاةَ الشَّيْءُ الَّذِي تَقَرَّرَ بِهَا، فَتَقُولُ فِي تَقْرِيرِ الْفِعْلِ‏:‏ أَضَرَبْتَ زَيْدًا‏؟‏، وَالْفَاعِلُ نَحْوُ‏:‏ أَأَنْتَ ضَرَبْتَ‏؟‏، أَوِ الْمَفْعُولُ أَزَيْدًا ضَرَبْتَ‏؟‏ كَمَا يَجِبُ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 62‏)‏ يَحْتَمِلُ الِاسْتِفْهَامَ الْحَقِيقِيَّ، بِأَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ الْفَاعِلُ، وَالتَّقْرِيرِيَّ بِأَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا، وَلَا يَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَنِ الْفِعْلِ، وَلَا تَقْرِيرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلِهِ، وَلِأَنَّهُ أَجَابَ بِالْفَاعِلِ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 63‏)‏‏.‏

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 106‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أَرَادَ التَّقْرِيرَ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، لَا التَّقْرِيرَ بِالنَّفْيِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ، أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهَا الْمُنْكِرُ لِلنَّسْخِ‏!‏

وَحَقِيقَةُ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْإِنْكَارُ نَفْيٌ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الْمَنْفِيِّ، وَنَفْيُ الْمَنْفِيِّ إِثْبَاتٌ، وَالَّذِي يُقَرَّرُ عِنْدَكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْرِيرِ الْإِثْبَاتُ قَوْلُ ابْنُ السَّرَّاجِ‏:‏ فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَى لَيْسَ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ كَانَتْ تَقْرِيرًا، وَدَخَلَهَا مَعْنَى الْإِيجَابُ، فَلَمْ يَحْسُنْ مَعَهَا أَحَدٌ، لِأَنَّ أَحَدًا إِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ حَقِيقَةِ النَّفْيِ؛ لَا تَقُولُ‏:‏ أَلَيْسَ أَحَدٌ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى قَوْلِكَ‏:‏ أَحَدٌ فِي الدَّارِ، وَأَحَدٌ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ‏.‏ انْتَهَى

وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 172‏)‏ أَيْ أَنَا رَبُّكُمْ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 40‏)‏‏.‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 81‏)‏‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 36‏)‏‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 37‏)‏‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 32‏)‏‏.‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 51‏)‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ‏.‏ وَقَوْلُ جَرِيرٍ‏:‏

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ***

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَعْلِهِمُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِشْكَالًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّفْيِ لَجَازَ أَنْ يُجَابَ بِنَعَمْ، وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ ‏"‏ كَفَرُوا، وَلَمَا حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَلَوْ لَمْ تُفِدْ لَفْظَةُ الْهَمْزَةِ اسْتِفْهَامًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَوَابُ، إِذْ لَا سُؤَالَ حِينَئِذٍ‏.‏

وَالْجَوَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ، يَدْخُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏

إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ النَّفْيِ، هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا‏؟‏ فَيَبْقَى النَّفْيُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ لِلتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ‏:‏ أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ‏؟‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏(‏الِانْشِرَاحِ‏:‏ 1‏)‏، ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا‏}‏ ‏(‏الضُّحَى‏:‏ 6‏)‏‏.‏

فَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ ‏"‏ نَعَمْ ‏"‏ فِي جَوَابِهِ إِذَا أَرَدْتَ إِيجَابَهُ، بَلْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ ‏"‏ بَلَى ‏"‏، وَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي- وَهُوَ التَّقْرِيرُ- فَلِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ لَفْظٌ وَمَعْنًى، فَلَفْظُهُ نَفْيٌ دَاخِلٌ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ، وَمَعْنَاهُ الْإِثْبَاتُ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِهِ تُجِيبُهُ بِبَلَى، وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَعْنَاهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ إِثْبَاتًا تُجِيبُهُ بِنَعَمْ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ كَوْنَ الْهَمْزَةِ لِلْإِيجَابِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُخَالِفُ الْوَاجِبَ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مَا أَوْ لَيْسَ يَكُونُ تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا، فَالتَّقْرِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 116‏)‏، ‏{‏أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 62‏)‏‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَى مَا أَوْ لَيْسَ ‏(‏أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏)‏‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ، كَمَا ذَكَرْنَا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الْإِثْبَاتُ مَعَ الِافْتِخَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 51‏)‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الْإِثْبَاتُ مَعَ التَّوْبِيخِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 97‏)‏ أَيْ هِيَ وَاسِعَةٌ، فَهَلَّا هَاجَرْتُمْ فِيهَا‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ مَعَ الْعِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 16‏)‏ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعَ سِنِينَ‏.‏ وَمَا أَلْطَفَ مَا عَاتَبَ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 43‏)‏ وَلَمْ يَتَأَدَّبَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ التَّبْكِيتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 116‏)‏ هُوَ تَبْكِيتٌ لِلنَّصَارَى فِيمَا ادَّعُوهُ؛ كَذَا جَعَلَ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ نَوْعِ التَّقْرِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ التَّسْوِيَةُ، وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةٍ يَصِحُّ حُلُولُ الْمَصْدَرِ مَحَلَّهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 10‏)‏ أَيْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ، مُجَرَّدَةً لِلتَّسْوِيَةِ، مُضْمَحِلًّا عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ‏.‏

وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِيهِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عِلْمِ الْمُسْتَفْهَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ، إِمَّا الْإِنْذَارُ وَإِمَّا عَدَمُهُ، وَلَكِنْ لَا يُعَيِّنُهُ، وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ بِعِلْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الِاسْتِوَاءُ يُعْلَمُ مِنْ لَفْظَةِ ‏"‏ سَوَاءٌ ‏"‏ لَا مِنَ الْهَمْزَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ مِنْهُ لَزِمَ التَّكْرَارُ‏.‏

قِيلَ‏:‏ هَذَا الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظَةِ ‏"‏ سَوَاءٌ ‏"‏‏.‏

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ مُسْتَوَيَيْنِ فَجُرِّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَنِ الْمُسْتَوَيَيْنِ، وَلَا يَكُونُ ضَرَرٌ فِي إِدْخَالِ ‏"‏ سَوَاءٌ ‏"‏ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ يَسْتَوِيَانِ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا- أَعْنِي حَذْفَ مُقَدَّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ- كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا فِي النِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لِتَخْصِيصِ الْمُنَادَى وَطَلَبِ إِقْبَالِهِ، فَيُحْذَفُ قَيْدُ الطَّلَبِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ، نَحْوُ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ، فَإِنَّهُ يَنْسَلِخُ عَنْ مَعْنَى الْكَلِمَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعَصَائِبِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 21‏)‏‏.‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 6‏)‏‏.‏ ‏{‏أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 136‏)‏‏.‏ وَتَارَةً تَكُونُ التَّسْوِيَةُ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَارَةً لَا تَكُونُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 109‏)‏‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ التَّعْظِيمُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 255‏)‏‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ التَّهْوِيلُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 1، 2‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ‏}‏ ‏(‏الْقَارِعَةِ‏:‏ 10‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 50‏)‏ تَفْخِيمٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ التَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 39‏)‏‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ التَّفَجُّعُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 49‏)‏‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ التَّكْثِيرُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ الِاسْتِرْشَادُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا مُسْتَرْشِدِينَ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَدَبًا، وَقِيلَ‏:‏ هِيَ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ الِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ

وَهُوَ عَلَى ضُرُوبٍ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مُجَرَّدُ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 3‏)‏ أَيِ اذْكُرُوا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 20‏)‏ أَيْ أَسْلِمُوا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 22‏)‏ أَيْ أَحِبُّوا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 75‏)‏ أَيْ قَاتِلُوا‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 82‏)‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 91‏)‏ انْتَهُوا، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ ‏"‏ انْتَهَيْنَا ‏"‏‏.‏

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 106‏)‏‏.‏ وَقَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 20‏)‏ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ أَتَصْبِرُونَ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ‏؟‏ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِنَعْلَمَ أَتَصْبِرُونَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ النَّهْيُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏ ‏(‏الِانْفِطَارِ‏:‏ 6‏)‏ أَيْ لَا يَغُرُّكَ‏.‏ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ‏:‏ ‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 13‏)‏، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 44‏)‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ التَّحْذِيرُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 16‏)‏ أَيْ قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ فَنَقْدِرُ عَلَيْكُمْ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ التَّذْكِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 89‏)‏، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ ‏(‏الضُّحَى‏:‏ 6‏)‏، ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏(‏الِانْشِرَاحِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ التَّنْبِيهُ؛ وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 258‏)‏‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 45‏)‏‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 243‏)‏‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ‏}‏ ‏(‏الْفِيلِ‏:‏ 1‏)‏، وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ ذَلِكَ‏:‏ انْظُرْ بِفِكْرِكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَتَنَبَّهْ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 63‏)‏ حَكَاهُ صَاحِبُ الْكَافِي عَنِ الْخَلِيلِ، وَلِذَلِكَ رَفَعَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَنْصِبْهُ‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 26‏)‏ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ‏.‏ وَقَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 130‏)‏‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ التَّرْغِيبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 11‏)‏، ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 10‏)‏‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ التَّمَنِّي، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 53‏)‏، ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 259‏)‏، قَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ‏:‏ أَيْ كَيْفَ، وَمَا أَعْجَبَ مُعَايِنَةَ الْإِحْيَاءِ‏!‏

الثَّامِنُ‏:‏ الدُّعَاءُ؛ وَهُوَ كَالنَّهْيِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 155‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏ وَهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى إِنَّكَ سَتَجْعَلُ؛ وَشَبَّهَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ الرَّجُلِ لِغُلَامِهِ وَهُوَ يَضْرِبُهُ‏:‏ أَلَسْتَ الْفَاعِلَ كَذَا‏!‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ هُوَ تَعَجُّبٌ وَضَعْفٌ، وَقَالَ النَّحَّاسُ‏:‏ الْأَوْلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏ قَالُوا‏:‏ وَمَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ‏!‏ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏!‏ وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى أَتَجْعَلُهُمْ فِيهَا أَمْ تَجْعَلُنَا، وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى تَجْعَلُهُمْ وَحَالُنَا هَذِهِ أَمْ يَتَغَيَّرُ‏.‏

التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ‏:‏ الْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا‏:‏ الْأَوَّلُ طَلَبٌ بِرِفْقٍ، وَالثَّانِي بِشِقٍّ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 22‏)‏‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ ‏{‏أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 13‏)‏‏.‏ وَمِنَ الثَّانِي‏:‏ ‏{‏أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 10 وَ 11‏)‏ الْمَعْنَى ائْتِهِمْ وَأْمُرْهُمْ بِالِاتِّقَاءِ‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ الِاسْتِبْطَاءُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 48‏)‏، بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 47‏)‏ وَمِنْهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ الْبَيَانِيِّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 214‏)‏‏.‏

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ‏:‏ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ أَيْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ‏:‏ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا‏:‏ مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ‏؟‏ وَهُوَ حَسَنٌ‏.‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ الْإِيَاسُ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 26‏)‏‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ الْإِينَاسُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 17‏)‏‏.‏ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ‏:‏ الْإِفْهَامُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا أَمْرًا قَدْ خَفِيَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَعْلَمَ مِنْ حَالِهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ لِلتَّقْرِيرِ، فَيَعْرِفُ مَا فِي يَدِهِ حَتَّى لَا يَنْفِرَ إِذَا انْقَلَبَتْ حَيَّةً‏.‏

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ التَّهَكُّمُ وَالِاسْتِهْزَاءُ‏:‏ ‏{‏أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 87‏)‏، ‏{‏أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 92‏)‏‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ التَّحْقِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 41‏)‏ وَمِنْهُ مَا حَكَى صَاحِبُ ‏"‏ الْكِتَابِ ‏"‏‏:‏ مَنْ أَنْتَ زَيْدًا‏؟‏ عَلَى مَعْنَى مَنْ أَنْتَ تَذْكُرُ زَيْدًا‏!‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ التَّعَجُّبُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 20‏)‏‏.‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 28‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِلتَّنْبِيهِ‏.‏

السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ الِاسْتِبْعَادُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 13‏)‏ أَيْ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمُ الرَّسُولُ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ‏.‏

الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ التَّوْبِيخُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 83‏)‏، ‏{‏لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 2‏)‏‏.‏

‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 50‏)‏ وَلَا تَدْخُلُ هَمْزَةُ التَّوْبِيخِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ، أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِعْلٌ قَبِيحٌ‏.‏

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ قَدْ يَجْتَمِعُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاحِدُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّقْرِيرِ، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 81‏)‏ أَيْ لَيْسَ الْكُفَّارُ آمِنِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؛ وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ مَوَاقِعِ التَّقْرِيرِ دُونَ الْإِنْكَارِ، قَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 82‏)‏‏.‏

وَقَدْ يَحْتَمِلُهُمَا، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا‏}‏ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِمَا عِنْدَهُمْ تَقْرِيرَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ التَّقْدِيرُ ‏"‏ لَا ‏"‏ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَفْهَمُوا اسْتِفْهَامَ تَقْرِيرٍ بِمَا لَا جَوَابَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا ‏"‏ لَا ‏"‏ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ قَالُوا؛ وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لِأَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِمْ فَيَكُونُ ‏"‏ مَيْتَةً ‏"‏، وَالْمُرَادُ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ غَيْبَتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَ ‏(‏فَكَرِهْتُمُوهُ‏)‏ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ اكْرَهُوهُ‏.‏ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ، أَنَّهُمْ لَمَّا كَانَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِ نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَكُذِّبُوا فِيهِ، فَيَكُونُ ‏(‏فَكَرِهْتُمُوهُ‏)‏ خَبَرًا‏.‏

الْخَامِسَةُ‏:‏ إِذَا خَرَجَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَإِنْ أُرِيدَ التَّقْرِيرُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى مُعَادِلٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 106‏)‏ فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ‏:‏ ظَاهِرُهُ الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ، وَالْمُعَادِلُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 108‏)‏‏.‏ وَقِيلَ ‏(‏أَمْ‏)‏ مُنْقَطِعَةٌ فَالْمُعَادِلُ عِنْدَهُمْ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ أَمْ عَلِمْتُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ بِمُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخَاطَبَةَ أَمَتَّهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ وَحْدَهُ فَالْمُعَادِلُ مَحْذُوفٌ لَا غَيْرُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ فَيُسْتَغْنَى عَنِ الْمُعَادِلِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمُعَادِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 24‏)‏ أَيْ كَمَنْ يَنْعَمُ فِي الْجَنَّةِ‏؟‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏ أَيْ كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 8‏)‏‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مَوْضِعٌ صَرَّحَ فِيهِ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ، عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ‏}‏ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 15‏)‏ أَيْ أَكْمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي الْجَنَّةِ يُسْقَى مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ، كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ‏؟‏ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ‏.‏

وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِمَا عَلَى الْأَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 122‏)‏‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏}‏ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 14‏)‏‏.‏ فَرَآهُ حَسَنًا‏.‏

السَّادِسَةُ‏:‏ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَاضٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ ‏"‏ الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ‏"‏ وَقَالَ‏:‏ قَدْ يَكُونُ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 50‏)‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 37‏)‏ قَالَ‏:‏ أَنْكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا يُبْغَى لِحَقَارَتِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سَلْبَ الْعِزَّةِ عَنِ اللَّهِ- تَعَالَى، وَهُوَ مُنْكَرٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْبَيَانِيِّينِ، وَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذَكَرَهُ بَلِ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَتَيْنِ عَنْ مَاضٍ، وَدَخَلَهُ الِاسْتِقْبَالُ، تَغْلِيبًا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْمُنْكَرِ بِزَمَانٍ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 61‏)‏ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ- وَهُوَ طَلَبُ الْبَدَلِ- وَقَعَ مَاضِيًا، وَلَا‏:‏ ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 28‏)‏ وَإِنْ كَانَتْ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ تُخَلِّصَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَلْمُوحٌ بِهِ جَانِبُ الْمَعْنَى‏.‏ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جِنِّي فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْإِعْرَابَ قَدْ يَرِدُ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْمَعْنَى‏.‏

السَّابِعَةُ‏:‏ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خُرُوجِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي النَّفْيِ؛ هَلْ تَقُولُ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ‏؟‏ أَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْكُلِّيَّةِ‏؟‏ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ مِنْهُ مَا تَجَرَّدَ كَمَا فِي التَّسْوِيَةِ، وَمِنْهُ مَا يَبْقَى، وَمِنْهُ مَا يَحْتَمِلُ وَيُحْتَمَلُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ‏.‏ وَكَذَلِكَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْإِثْبَاتِ؛ وَهَلِ الْمُرَادُ بِالتَّقْرِيرِ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ، فَيَكُونُ خَبَرًا مَحْضًا‏؟‏ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ طَلَبُ إِقْرَارِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مَعَ كَوْنِ السَّائِلِ يَعْلَمُ، فَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ مُقَرِّرًا بِهِ‏؟‏ وَفِي كَلَامِ النُّحَاةِ وَالْبَيَانِيِّينِ، كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ‏.‏

الثَّامِنَةُ‏:‏ الْحُرُوفُ الْمَوْضُوعَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ الْهَمْزَةُ، وَهَلْ، وَأَمْ، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِمَّا يُسْتَفْهَمُ بِهِ كَمَنْ، وَمَا، وَمَتَى، وَأَيْنَ، وَأَنَّى، وَكَيْفَ، وَكَمْ، وَأَيَّانَ، فَأَسْمَاءُ اسْتِفْهَامٍ، اسْتُفْهِمَ بِهَا نِيَابَةً عَنِ الْهَمْزَةِ‏.‏ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَخْتَصُّ بِطَلَبِ التَّصْدِيقِ، بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ، كَهَلْ وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِطَلَبِ التَّصَوُّرِ كَأَمِ الْمُتَّصِلَةِ، وَمَا لَا يَخْتَصُّ كَالْهَمْزَةِ‏.‏ وَلِكَوْنِ الْهَمْزَةِ أُمَّ الْبَابِ اخْتَصَّتْ بِأَحْكَامٍ لَفْظِيَّةٍ، وَمَعْنَوِيَّةٍ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏.‏

1- فَمِنْهَا كَوْنُ الْهَمْزَةِ لَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا حَتَّى يَهْجِسَ فِي النَّفْسِ إِثْبَاتُ مَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، بِخِلَافِ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ فَإِنَّهُ لَا تُرَجُّحَ عِنْدَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ‏.‏ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ‏:‏ عَنْ بَعْضِهِمْ‏.‏

2- وَمِنْهَا اخْتِصَاصُهَا بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّقْرِيرَ لَا يَكُونُ بِهَلْ، وَالْخِلَافُ فِيهِ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ‏:‏ إِنْ طُلِبَ بِالِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٌ، أَوْ تَوْبِيخٌ، أَوْ إِنْكَارٌ، أَوْ تَعَجُّبٌ، كَانَ بِالْهَمْزَةِ دُونَ هَلْ، وَإِنْ أُرِيدَ الْجَحْدُ كَانَ بِهَلْ، وَلَا يَكُونُ بِالْهَمْزَةِ‏.‏

3- وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِإِنْكَارِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ بَعْدَهَا، كَقَوْلِكَ‏:‏ أَتُضْرِبُ زَيْدًا وَهُوَ أَخُوكَ‏؟‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 28‏)‏ وَلَا تَقَعُ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ هَذَا الْمَوْقِعَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 60‏)‏ فَلَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ لَهُ مَنْ أَصْلِهِ، وَالْمَمْنُوعُ مِنْ إِنْكَارِ إِثْبَاتِ مَا وَقَعَ بَعْدَهَا، قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ‏.‏

4- وَمِنْهَا أَنَّهَا يَقَعُ الِاسْمُ مَنْصُوبًا بَعْدَهَا بِتَقْدِيرِ نَاصِبٍ أَوْ مَرْفُوعًا بِتَقْدِيرِ رَافِعٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، كَقَوْلِكَ‏:‏ أَزَيْدًا ضَرَبْتَ‏؟‏ وَأَزَيْدٌ قَامَ‏؟‏، وَلَا تَقُولُ‏:‏ هَلْ زَيْدًا ضَرَبْتَ‏؟‏ وَلَا هَلْ زَيْدٌ قَامَ‏؟‏ إِلَّا عَلَى ضَعْفٍ‏.‏

وَإِنْ شِئْتَ، فَقُلْ‏:‏ لَيْسَ فِي أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ مَا إِذَا اجْتَمَعَ بَعْدَهُ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ يَلِيهِ الِاسْمُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ إِلَّا الْهَمْزَةُ، فَتَقُولُ‏:‏ أَزَيْدٌ قَامَ‏؟‏ وَلَا تَقُولُ‏:‏ هَلْ زَيْدٌ قَامَ‏؟‏ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ بَلِ الْفَصِيحُ‏:‏ هَلْ قَامَ زَيْدٌ‏؟‏

5- وَمِنْهَا أَنَّهَا تَقَعُ مَعَ أَمِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَا تَقَعُ مَعَ ‏"‏ هَلْ ‏"‏ وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ، فَتَقَعُ فِيهِمَا جَمِيعًا‏.‏ فَإِذَا قُلْتَ‏:‏ أَزَيْدٌ عِنْدِكَ أَمْ عَمْرٌو‏؟‏ فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَا تَقَعُ فِيهِ هَلْ مَا لَمْ تَقْصِدْ إِلَى الْمُنْقَطِعَةِ‏.‏ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ‏.‏

6- وَمِنْهَا أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الشَّرْطِ، تَقُولُ‏:‏ أَإِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ‏.‏ وَأَإِنْ تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَكَ‏؟‏ أَإِنْ تَضْرِبْ أَضْرِبْ‏؟‏ وَلَا تَقُولُ‏:‏ هَلْ إِنْ تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَكَ‏؟‏

7- وَمِنْهَا جَوَازُ حَذْفِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 22‏)‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّي‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 76‏)‏ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ‏:‏ ‏(‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنْذَرْتَهُمْ‏)‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

8- وَمِنْهَا زَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا إِلَّا مُعَادَلَةً أَوْ فِي حُكْمِهَا؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَتَقُولُ‏:‏ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ‏؟‏ وَيَجُوزُ أَلَّا يُذْكَرَ الْمُعَادِلُ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ ذِكْرِ الضِّدِّ‏.‏

وَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّفَّارُ، وَقَالَ‏:‏ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ‏:‏ هَلْ قَامَ زَيْدٌ‏؟‏ فَالْمَعْنَى هَلْ قَامَ أَمْ لَمْ يَقُمْ‏؟‏ لِأَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْيَقِينَ، وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ إِنَّهُ عَزِيزٌ فِي كَلَامِهِمْ، لَا يَأْتُونَ لَهَا بِمُعَادِلٍ فَخَطَأٌ؛ بَلْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 115‏)‏، ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 33‏)‏، ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 19‏)‏، ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 77‏)‏ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا‏.‏

9- وَمِنْهَا تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَاوِ، وَغَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، فَتَقُولُ‏:‏ أَفَلَمْ أُكْرِمْكَ‏؟‏ أَوَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ‏؟‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 75‏)‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 76‏)‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 51‏)‏ فَتُقَدَّمُ الْهَمْزَةُ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ‏:‏ الْوَاوِ، وَالْفَاءِ، وَثُمَّ‏.‏

وَكَانَ الْقِيَاسُ تَأْخِيرَهَا عَنِ الْعَاطِفِ، فَيُقَالُ‏:‏ فَأَلَمْ أَكْرِمْكَ‏؟‏، وَأَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ‏؟‏ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى سَائِرِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 101‏)‏، وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 16‏)‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 26‏)‏ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ الْعَاطِفُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ؛ أَدَوَاتُ الِاسْتِفْهَامِ ‏(‏أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏)‏ لِأَنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ جُزْءٌ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْعَاطِفُ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِي الْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ، فَأَرَادُوا تَقْدِيمَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ‏.‏

وَالزَّمَخْشَرِيُّ اضْطَرَبَ كَلَامُهُ، فَتَارَةً يَجْعَلُ الْهَمْزَةَ فِي مِثْلِ هَذَا دَاخِلَةً عَلَى مَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، فَيُقَدِّرُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَعْطِفُ الْفَاءُ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهَا، وَتَارَةً يَجْعَلُهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْعَاطِفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ الْأَوْلَى‏.‏

وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّ ثَمَّ مَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا تَقْدِيرُ فِعْلٍ قَبْلَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 18‏)‏، ‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 19‏)‏، ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ خَطِيبٍ زَمَلْكَا‏:‏ الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ بَعْدَ الْهَمْزَةِ قَبْلَ الْفَاءِ تَكُونُ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَيْهِ؛ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَإِنْ مَاتَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 144‏)‏ لَوْ صُرِّحَ بِهِ لَقِيلَ‏:‏ أَتُؤْمِنُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ فَإِنْ مَاتَ ارْتَدَدْتُمْ، فَتُخَالِفُوا سُنَنَ اتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ فِي ثَبَاتِهِمْ، عَلَى مُلْكِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ‏؟‏ وَهَذَا مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ‏.‏

فَائِدَةٌ

زَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كَلَامِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُمَلِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا‏.‏

وَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَعْلَمُ وَقَالَ‏:‏ هَذَا بَاطِلٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ‏:‏ هَلْ قَامَ زَيْدٌ أَمْسُ‏؟‏ وَهَلْ أَنْتَ قَائِمٌ أَمْسُ‏؟‏ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 44‏)‏ فَهَذَا كُلُّهُ مَاضٍ غَيْرُ آتٍ‏.‏