فصل: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا قُدِّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


النَّوْعُ الْأَوَّلُ‏:‏ مَا قُدِّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ

وَمُقْتَضَيَاتُهُ كَثِيرَةٌ، قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِنْهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبْدُونٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏

سَقَاكَ الْحَيَا مِنْ مَغَانٍ سِفَاحِ *** فَكَمْ لِي بِهَا مِنْ مَعَانٍ فِصَاحِ

أَحَدُهَا‏:‏ السَّبْقُ

وَهُوَ أَقْسَامٌ‏:‏ مِنْهَا السَّبْقُ بِالزَّمَانِ وَالْإِيجَادِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 68‏)‏ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ‏:‏ الْمُرَادُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 75‏)‏ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَفْضِيلُ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمَلَكُ لِسَبْقِهِ فِي الْوُجُودِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 59‏)‏ فَإِنَّ الْأَزْوَاجَ أَسْبَقُ بِالزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُنَّ؛ لِكَوْنِهِنَّ بَضْعَةً مِنْهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 74‏)‏‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ ‏(‏الْأَعْلَى‏:‏ 19‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 36- 37‏)‏ فَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ مُوسَى لِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِالتَّرْكِ، وَكَانَتْ صُحُفُ مُوسَى مُنْتَشِرَةً أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَثَانِيهِمَا‏:‏ مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

وَقَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ التَّحْقِيرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ تَقَدَّمَ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْبَقَ مِنَ النَّصَارَى، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاوَرَةِ‏.‏

وَقَدْ لَا يُلْحَظُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 38‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 50- 51‏)‏‏.‏

وَمِنَ التَّقْدِيمِ بِالْإِيجَادِ تَقْدِيمُ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 255‏)‏ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ السِّنَةُ قَبْلَ النَّوْمِ، فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ الْعَادَةِ‏.‏

ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَذَكَرَ مَعَهُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ وَالثَّنَاءِ، وَافْتِقَادُ السِّنَةِ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ، فَبُدِئَ بِالْأَفْضَلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحَالَتْ عَلَيْهِ السِّنَةُ فَأَحْرَى أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ النَّوْمُ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الظُّلْمَةِ عَلَى النُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 1‏)‏ فَإِنَّ الظُّلُمَاتِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ فِي الْإِحْسَاسِ، وَكَذَلِكَ الظُّلْمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ الْمَعْنَوِيِّ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 78‏)‏ فَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ ظُلْمَةٌ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى نُورِ الْإِدْرَاكَاتِ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 12‏)‏ ‏{‏سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 18‏)‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 33‏)‏ ‏{‏حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 17‏)‏ وَلِذَلِكَ اخْتَارَتِ الْعَرَبُ التَّارِيخَ بِاللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ؛ وَإِنْ كَانَتِ اللَّيَالِي مُؤَنَّثَةً وَالْأَيَّامُ مُذَكَّرَةً وَقَاعِدَتُهُمْ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ إِلَّا فِي التَّارِيخِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 40‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي ‏"‏ قَوَاعِدِهِ ‏"‏ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَبْقِ اللَّيْلَةِ عَلَى الْيَوْمِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ تُدْرِكُ الْقَمَرَ فِي سُلْطَانِهِ وَهُوَ اللَّيْلُ، أَيْ‏:‏ لَا تَجِيءُ الشَّمْسُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 40‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا يَأْتِي اللَّيْلُ فِي بَعْضِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَهُوَ النَّهَارُ، وَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُقَابَلَةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 6‏)‏ مُشْكِلٌ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاجَ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ، وَهَذَا الْبَحْثُ يُنَافِيهِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ الْمَشْهُورُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِقْدَارًا مِنَ النَّهَارِ، وَمِنَ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ مِقْدَارًا مِنَ اللَّيْلِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ‏:‏ يُولِجُ بَعْضَ مِقْدَارِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَبَعْضَ مِقْدَارِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُ اللَّيْلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّهَارُ، وَيَجْعَلُ النَّهَارَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّيْلُ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي مَكَانِ النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي مَكَانِ اللَّيْلِ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 1‏)‏ أَيِ‏:‏ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 32- 33‏)‏‏.‏

وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا، أَعْنِي سَبْقَ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ، إِذْ كَانَا إِنَّمَا هُمَا أَسْمَاءٌ لِسَاعَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ قَطْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ دَرَجَ الْفَلَكِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَأَنَّهُ لَا شَمْسَ وَلَا قَمَرَ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- يَعْنِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ- صَرِيحٌ فِيهِ؛ فَإِنَّ فِيهِ‏:‏ وَخَلَقَ اللَّهُ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ‏:‏ وَيَعْنِي بِهِ الشَّمْسَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأَخُّرَ خَلْقِ الْأَيَّامِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ لَازِمٌ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ الْحَدِيثُ كَالْمُصَرِّحِ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، حِينَ خَلَقَ الْبَرِّيَّةَ، وَهِيَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَيَّامِ كُلِّهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ قَدْ نَبَّهَ الطَّبَرِيُّ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ قَبْلَ خَلْقِ التُّرْبَةِ، وَخَلَقَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا ثُمَّ قَدَّرَ كُلَّ يَوْمٍ مِقْدَارًا، فَخَلَقَ التُّرْبَةَ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ السَّبْتِ قَبْلَ خَلْقِهِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَذَا الْبَاقِي‏.‏

وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَكِنْ أَوْجَبَهُ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ؛ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ خَلْقِ الْأَيَّامِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّمَانَ قِسْمَانِ‏:‏ تَحْقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ؛ وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ التَّقْدِيرِيُّ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 17‏)‏ ‏{‏مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 137‏)‏ وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتَغْنَى عَنْ أَحَدِهِمَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ فَقَطْ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَرَبُّ الْمَشَارِقِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 5‏)‏ ‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 2‏)‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 44‏)‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 28‏)‏‏.‏

وَيُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ‏:‏

مِنْهَا أَنَّ فِيهِ قَهْرًا لِلْخَلْقِ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ كَلَا حَيَاةٍ، وَمَآلُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّ الْمَوْتَ تَقَدَّمَ فِي الْوُجُودِ؛ إِذِ الْإِنْسَانُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَانَ مَيِّتًا لِعَدَمِ الرُّوحِ، وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِالْمَوْتِ عَدَمُ الْوُجُودِ، بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 28‏)‏ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ بَعْدَ الْوُجُودِ، فَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْمَوْتِ‏:‏ هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَالْحَيَاةِ أَوْ لَا‏؟‏

وَقِيلَ بِالْوَقْفِ، فَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ‏:‏ الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا‏.‏

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُضَادُّ الْحَيَاةَ، مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 2‏)‏ وَالْحَدِيثُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ وَذَبْحِهِ‏.‏

وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْخَلْقَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمُقَدَّرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ؛ لِبَيَانِ انْقِطَاعِ الْمَوْتِ وَثُبُوتِ الْخُلُودِ‏.‏

فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ عَدَمِيٌّ، فَالتَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ، وَعَلَى الصَّحِيحِ تَقَابُلُ التَّضَادِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وُجُودِيٌّ، يَجِبُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ تَقْدِيمُ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ سَابِقًا أَوْ مَعْدُومَ الْحَيَاةِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ الْغَايَةَ الَّتِي يُسَاقُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ بِعَدَمِ تَحْقِيقِهَا لِتَحَقُّقِهِ؛ فَخَصَّ الْعِلَّةَ الْعَامَّةَ كَمَا وَقَعَ تَأْكِيدُهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 15‏)‏ أَوْ تَزْهِيدًا فِي الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَتَرْغِيبًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ ‏"‏ الْحَيَاةِ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 25‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 162‏)‏‏.‏

قُلْنَا‏:‏ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فَلِأَنَّ حَيَاتَهُمَا فِي الدُّنْيَا سَبَقَتِ الْمَوْتَ، وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْقِ بِالْخِطَابِ لِمَنْ هُوَ حَيٌّ يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ، فَمَا التَّقْدِيمُ بِالتَّرْتِيبِ، وَكَذَا الْآيَةُ بَعْدَهُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ مُنْكِرِ الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 24‏)‏ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ نَحْيَا وَنَمُوتُ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 60‏)‏ مَعَ أَنَّ الرَّفْعَ سَابِقٌ‏.‏

قِيلَ‏:‏ فِيهِ جَوَابَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الْمُرَادُ التَّوَفِّي فِي النَّوْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 60‏)‏‏.‏

وَثَانِيهِمَا‏:‏ أَنَّ التَّاءَ فِي ‏"‏ مُتَوَفِّيكَ ‏"‏ زَائِدَةٌ؛ أَيْ‏:‏ مُوَفِّيكَ عَمَلَكَ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ سَبْقُ إِنْزَالٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 3- 4‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 157‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 199‏)‏ فَإِنَّمَا قَدَّمَ الْقُرْآنَ مُنَبِّهًا لَهُ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ‏.‏

وَمِنْهَا سَبْقُ وُجُوبٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 77‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 29‏)‏‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 43‏)‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمُ السُّجُودُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ بِـ ‏"‏ ارْكَعِي ‏"‏ اشْكُرِي‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أَرَادَ بِـ ‏"‏ اسْجُدِي ‏"‏ صَلِّي وَحْدَكِ، وَبِـ ‏"‏ ارْكَعِي ‏"‏ صَلِّي فِي جَمَاعَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 43‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا سَبْقُ تَنْزِيهٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 285‏)‏ فَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 285‏)‏ فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الشَّرْعِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَمَلَائِكَتِهِ ‏"‏؛ مُرَاعَاةً لِإِيمَانِ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَكِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْكِتَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ، ثُمَّ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ‏.‏ وَإِنَّمَا عَرَفَ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِيمَانِهِ بِهِ، فَتَرَتَّبَ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 285‏)‏ لِأَنَّ الْمَلَكَ هُوَ النَّازِلُ بِالْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ أَقْدَمَ مِنَ الْمَلَكِ، وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمَلَكِ كَانَتْ قَبْلَ سَمَاعِهِ الْكِتَابَ، وَأَمَّا إِيمَانُنَا نَحْنُ بِالْعَقْلِ، آمَنَّا بِاللَّهِ؛ أَيْ‏:‏ بِوُجُودِهِ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَّفَنَا اسْمَهُ وَوُجُوبَ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهِ، فَآمَنَّا بِالرَّسُولِ، ثُمَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَبِالْمَلَكِ النَّازِلِ بِهِ، فَلَوْ تَرَتَّبَ اللَّفْظُ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِنَا لَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي هُوَ إِمَامُ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي ‏"‏ أَمَالِيهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ لَطِيفٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّورَ وَالْكَمَالَ وَالرَّحْمَةَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَسَائِطُ فِي ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُقَابِلُ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، فَلَا بُدَّ أَوَّلًا‏:‏ مِنْ أَصْلٍ، وَثَانِيًا‏:‏ مِنْ وَسَائِطَ، وَثَالِثًا‏:‏ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَرَابِعًا‏:‏ مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْمُقَابِلِ لَهَا، وَالْأَصْلُ الْمُقْتَضِي لِلْخَيْرَاتِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ اللَّهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ إِنْزَالُ كُتُبِهِ إِلَيْهِمْ، وَالْمُوَصِّلُ لَهَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُقَابِلُ لَهَا الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَجَاءَ التَّرْتِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ بِالذَّاتِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ، التَّقْدِيمُ بِالذَّاتِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 3‏)‏ وَنَحْوِهِ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 7‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 22‏)‏ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْدَادِ كُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا فَوْقَهَا بِالذَّاتِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 46‏)‏ فَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَثْنَى أَنَّ الْمَعْنَى حَثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ، وَتَرْكِ الْهَوَى مُجْتَمِعِينَ مُتَسَاوِيِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ مُتَفَكِّرِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَهَمَّ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ فَبَدَأَ بِهَا‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ بِالْعِلَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ

كَتَقْدِيمِ ‏"‏ الْعَزِيزِ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ الْحَكِيمِ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ عَزَّ فَحَكَمَ، وَتَقْدِيمِ ‏"‏ الْعَلِيمِ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ الْحَكِيمِ ‏"‏؛ لِأَنَّ الْإِتْقَانَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ، وَكَذَا أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ وَصْفِ الْعِلْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ؛ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 32‏)‏‏.‏

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُدِّمَ وَصْفُ الْعِلْمِ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ‏{‏لَا عِلْمَ لَنَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 32‏)‏ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُدِّمَ وَصْفُ الْعِلْمِ هُنَا وَفِي غَيْرِهِ مِنْ نَظَائِرِهِ؛ لِأَنَّهُ صِفَاتُ ذَاتٍ فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ قَبْلَهُ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ قُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُصُولِ الْإِعَانَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 222‏)‏ فَإِنَّ التَّوْبَةَ سَبَبُ الطَّهَارَةِ‏.‏

وَكَذَا‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 7‏)‏ لِأَنَّ الْإِفْكَ سَبَبُ الْإِثْمِ‏.‏

وَكَذَا‏:‏ ‏{‏وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْمُطَفِّفِينَ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 48- 49‏)‏ قَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ إِحْيَاءِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ، وَقَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْيَا بِهِ النَّاسُ بِأَكْلِ لُحُومِهَا وَشُرْبِ أَلْبَانِهَا‏.‏

وَكَذَا كُلُّ عِلَّةٍ مَعَ مَعْلُولِهَا؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 28‏)‏ قِيلَ‏:‏ قُدِّمَ الْأَمْوَالُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ النِّكَاحُ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَئُونَتِهِ فَهُوَ سَبَبٌ وَالتَّزْوِيجُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ سَبَبٌ لِلتَّنْعِيمِ بِالْوَلَدِ، وَفَقْدَهُ سَبَبٌ لِشَقَائِهِ‏.‏

وَكَذَا تَقْدِيمُ النِّسَاءِ عَلَى الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 14‏)‏ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَنِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ الطَّبْعَ يَحُثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فَيَحْصُلُ النِّكَاحُ، وَالنِّسَاءُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَوْلَادِ فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ، وَالْبَنُونَ أَقْعَدُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالذَّهَبُ أَقْعَدُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَنْعَامِ؛ إِذْ هِيَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ النِّعَمِ، فَلَمَّا صُدِّرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِ الْحُبِّ، وَكَانَ الْمَحْبُوبُ مُخْتَلِفَ الْمَرَاتِبِ، اقْتَضَتْ حِكْمَةُ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ فِي رُتْبَةِ الْمَحْبُوبَاتِ‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 147‏)‏ قُدِّمَ الشُّكْرُ عَلَى الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي خَلْقِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَنَافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا، فَإِذَا انْتَهَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُتَّصِلًا، فَكَانَ الشُّكْرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَأَنَّهُ أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَدَارُهُ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَجَعَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الشُّكْرِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ بِالرُّتْبَةِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ، التَّقْدِيمُ بِالرُّتَبِةِ

كَتَقْدِيمِ ‏"‏ سَمِيعٍ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ عَلِيمٍ ‏"‏ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْوِيفَ وَالتَّهْدِيدَ، فَبَدَأَ بِالسَّمِيعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَصْوَاتِ، وَإِنَّ مَنْ سَمِعَ حِسَّكَ فَقَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ فِي الْعَادَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِمَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 173‏)‏ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ سَلَامَةٌ، وَالرَّحْمَةَ غَنِيمَةٌ، وَالسَّلَامَةُ مَطْلُوبَةٌ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ فِي آيَةِ سَبَأٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الرَّحِيمُ الْغَفُورُ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 2‏)‏ لِأَنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِ تَعْدَادِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 2‏)‏ فَالرَّحْمَةُ شَمِلَتْهُمْ جَمِيعًا، وَالْمَغْفِرَةُ تَخُصُّ بَعْضًا، وَالْعُمُومُ قَبْلَ الْخُصُوصِ بِالرُّتْبَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 11‏)‏ فَإِنَّ الْهَمَّازَ هُوَ الْمُغْتَابُ؛ وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ بِخِلَافِ النَّمِيمَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 27‏)‏ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، وَالَّذِينَ يَأْتُونَ عَلَى الضَّامِرِ مِنَ الْبَعِيدِ‏.‏ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي الْمَشْيِ مُضَاعَفٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 239‏)‏ مَعَ أَنَّ الرَّاكِبَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاشِي، فَجَبْرًا لَهُ فِي بَابِ الرُّخْصَةِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 26‏)‏ فَقَدَّمَ الطَّائِفِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْقَائِمِينَ وَهُمُ الْعَاكِفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَخُصُّونَ مَوْضِعًا بِالْعُكُوفِ، وَالطَّوَافُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ أَعَمَّ مِنْهُ، وَالْأَعَمُّ قَبْلَ الْأَخَصِّ بِالْمَرْتَبَةِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ‏.‏

ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ كَيْفَ جَمَعَ الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ جَمْعَ سَلَامَةٍ، وَالرُّكَّعَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ‏.‏ وَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْفِعْلِ؛ فَـ ‏(‏طَائِفُونَ‏)‏ بِمَنْزِلَةِ ‏(‏يَطُوفُونَ‏)‏ فَفِي لَفْظِهِ إِشْعَارٌ بِصِلَةِ التَّطْهِيرِ، وَهُوَ حُدُوثُ الطَّوَافِ وَتَجَدُّدُهُ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ ‏(‏بِالطُّوَّافِ‏)‏ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ يُخْفِي ذَلِكَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي ‏(‏الْقَائِمَيْنِ‏)‏ وَأَمَّا ‏(‏الرَّاكِعُونَ‏)‏ فَلِمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنَهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ، فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ سَلَامَةٍ؛ إِذْ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْفِعْلِ الْبَاعِثِ عَلَى التَّطْهِيرِ كَمَا احْتِيجَ فِيمَا قَبْلَهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ كَيْفَ وَصَفَ الرُّكَّعِ بِالسُّجُودِ، وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ‏؟‏

وَالْجَوَابُ‏:‏ لِأَنَّ الرُّكَّعَ هُمُ السُّجُودُ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، فَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ إِرَادَةَ الْمَصْدَرِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِعَ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَيْسَ بِرَاكِعٍ شَرْعًا، وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ، كَالَّذِي قَبْلَهُ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ هَلَّا قِيلَ‏:‏ ‏(‏السُّجَّدُ‏)‏ كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏(‏الرُّكَّعُ‏)‏ وَكَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى‏:‏ ‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 29‏)‏ وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ‏؟‏ وَالْجَوَابُ أَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ وَعَلَى الْخُشُوعِ، فَلَوْ قَالَ‏:‏ السُّجَّدُ، لَمْ يَتَنَاوَلْ إِلَّا الْمَعْنَى الظَّاهِرَ، وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 29‏)‏ وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَرُؤْيَةُ الْعَيْنِ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالظَّاهِرِ، فَقُصِدَ بِذَلِكَ الرَّمْزُ إِلَى السُّجُودِ الْمَعْنَوِيِّ وَالصُّورِيِّ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَعْمَالِ الظَّاهِرِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْبَيْتُ كَمَا فِي الطَّوَافِ وَالْقِيَامِ الْمُتَقَدِّمِ، دُونَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، فَجُعِلَ السُّجُودُ وَصْفًا لِلرُّكُوعِ وَتَتْمِيمًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَسِرُّهَا الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ بِالدَّاعِيَةِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ، التَّقْدِيمُ بِالدَّاعِيَةِ

كَتَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ عَلَى حِفْظِ الْفُرُوجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 30‏)‏ لِأَنَّ الْبَصَرَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْفَرْجِ؛ لِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ التَّعْظِيمُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ، التَّقْدِيمُ بِالتَّعْظِيمِ

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 69‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏)‏‏.‏

‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 18‏)‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 55‏)‏‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ الشَّرَفُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ، التَّقْدِيمُ بِالشَّرَفِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ

مِنْهَا شَرَفُ الرِّسَالَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 52‏)‏ فَإِنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ؛ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 157‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 54‏)‏ وَمِنْهَا شَرَفُ الذُّكُورَةِ‏.‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 21‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 49‏)‏ فَلِجَبْرِهِنَّ؛ إِذْ هُنَّ مَوْضِعُ الِانْكِسَارِ، وَلِهَذَا جَبَرَ الذُّكُورَ بِالتَّعْرِيفِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ التَّقْدِيمِ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَقْدِيمَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الْعِبَادِ‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 178‏)‏ وَمِنَ الْغَرِيبِ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْحُرَّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَبْدِ أَمْ لَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْعَقْلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 41‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَنْعَامِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ‏}‏ ‏(‏السَّجْدَةِ‏:‏ 27‏)‏ فَمِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ، وَقَدْ سَبَقَ‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْإِيمَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 87‏)‏ وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَالطَّائِعِ عَلَى الْعَاصِي، ‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 27 و 41‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْعِلْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 9‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْحَيَاةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 19‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 22‏)‏ وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 2‏)‏ فَمِنْ تَقَدُّمِ السَّبْقِ بِالْوُجُودِ، وَقَدْ سَبَقَ‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْمَعْلُومِ؛ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 92‏)‏ فَإِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِيَّاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 3‏)‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 4‏)‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 7‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنَ السِّرِّ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ‏:‏ السِّرُّ‏:‏ مَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ مِمَّا يَكُونُ فِي غَدٍ، عِلْمُ اللَّهِ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآتِيَ أَبَلَغُ وَفِيهِ وَجْهَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَسْتَدْعِي مُفَضَّلًا عَلَيْهِ، عُلِمَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِي نَفْسِهِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ السِّرِّ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَثَانِيهِمَا‏:‏ مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْإِدْرَاكِ، كَتَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ، وَالسَّمِيعِ عَلَى الْبَصِيرِ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ أَشْرَفُ عَلَى أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَقُدِّمَ الْقَلْبُ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 7‏)‏ لِأَنَّ الْحَوَاسَّ خَدَمَةُ الْقَلْبِ، وَمُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ؛ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 23‏)‏ فَأُخِّرَ الْقَلْبُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ هُنَاكَ بِذَمِّ الْمُتَصَامِّينَ عَنِ السَّمَاعِ؛ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ فِي آذَانِهِمْ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا، وَلِهَذَا صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِمْ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 7- 8‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْمُجَازَاةِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 160‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْعُمُومِ؛ فَإِنَّ الْعَامَّ أَشْرَفُ مِنَ الْخَاصِّ، كَتَقْدِيمِ ‏(‏الْعَفُوِّ‏)‏ عَلَى ‏(‏الْغَفُورِ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَفُوٌّ عَمَّا لَمْ يُؤَاخِذْنَا بِهِ مِمَّا نَسْتَحِقُّهُ بِذُنُوبِنَا، غَفُورٌ لِمَا وَاخَذَنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا، قَبِلْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَتَقَدَّمَ الْعَفُوُّ عَلَى الْغَفُورِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ، وَأُخِّرَتِ الْمَغْفِرَةُ لِأَنَّهَا أَخَصُّ‏.‏

وَمِنْهَا شَرَفُ الْإِبَاحَةِ لِلْإِذْنِ بِهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 116‏)‏ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ الْحَرَامُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 59‏)‏ فَلِلزِّيَادَةِ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِأَجْلِ السِّيَاقِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 114‏)‏ ثُمَّ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 115‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا الشَّرَفُ بِالْفَضِيلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 69‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 29‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 48‏)‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 75‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 122- الشُّعَرَاءِ‏:‏ 48‏)‏ فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ، فَإِنَّ مُوسَى اسْتَأْثَرَ بِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى لَهُ بِتَكْلِيمِهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَقَدْ جَاءَ‏:‏ ‏{‏هَارُونَ وَمُوسَى‏}‏ فِي سُورَةِ طه بِتَقْدِيمِ هَارُونَ‏.‏

قُلْنَا‏:‏ لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 98‏)‏ لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْعِلْمِ، وَمِيكَائِيلَ صَاحِبُ الْأَرْزَاقِ، وَالْخَيْرَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ ‏(‏الْمُهَاجِرِينَ‏)‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 117‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 100‏)‏ وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْهِجْرَةِ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ وَبِالْآيَةِ احْتَجَّ الصِّدِّيقُ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ وَتَعْيِينِ الْإِمَامَةِ فِيهِمْ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏)‏ فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏)‏ قُدِّمَ الْقَرِيبُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

وَتَقْدِيمُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي نَحْوِ‏:‏ ‏{‏جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 15‏)‏ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ‏}‏ ‏(‏الْمَعَارِجِ‏:‏ 37‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 111‏)‏ وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 72‏)‏ فَوَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْجِهَادَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّبْقِ بِالسَّبَبِيَّةِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 27‏)‏ فَإِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ السَّمَاوَاتِ عَلَى الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 44‏)‏ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ ‏"‏ السَّمَاوَاتُ ‏"‏ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْأَرْضُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً‏.‏

وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 61‏)‏ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 61‏)‏ وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَعَمَلُهُمْ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سَبَأٍ، فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِيَاقِ عِلْمِ الْغَيْبِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 67‏)‏ فَلِأَنَّ الْآيَةَ فِي سِيَاقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَلُهُمْ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ‏.‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 48‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 88‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 39‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 56‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ ‏(‏الْجِنِّ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 14- 15‏)‏‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 130‏)‏ فَلِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ فِي الْخَلْقِ، فَيَكُونُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي التَّقْدِيمَ بِالزَّمَانِ، وَلِهَذَا لَمَّا أَخَّرَ فِي آيَةِ الْحِجْرِ صَرَّحَ بِالْقَبْلِيَّةِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 27‏)‏‏.‏

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْثِلَةِ السَّالِفَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَعْجَبِ؛ لِأَنَّ خَلْقَهَا أَغْرَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 45‏)‏‏.‏

أَوْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى أَجْسَامًا وَأَعْظَمُ أَقْدَامًا، وَلِهَذَا قُدِّمُوا فِي‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ 33‏)‏ وَفِي‏:‏ ‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 17‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ السُّجَّدِ عَلَى الرَّاكِعِينَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 43‏)‏ وَسَبَقَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ، وَالْبِغَالِ عَلَى الْحَمِيرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 8‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 34‏)‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَهَلْ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ هَيْهَاتَ، الذَّهَبُ أَيْضًا مُؤَنَّثٌ، وَلِهَذَا يُصَغَّرُ عَلَى ‏"‏ ذُهَيْبَةٍ ‏"‏ كَـ ‏"‏ قَدَمٍ ‏"‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الصُّوفِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 80‏)‏ وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى اخْتِيَارِ لُبْسِ الصُّوفِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَابِسِ، وَأَنَّهُ شِعَارُ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ مُسَوَّمِينَ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 125‏)‏ قِيلَ‏:‏ سِيمَاهُمْ يَوْمَئِذٍ الصُّوفُ، وَعَنْ عَلِيٍّ‏:‏ الصُّوفُ الْأَبْيَضُ‏.‏ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ ‏"‏ مَدْحِ الصُّوفِ ‏"‏، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏"‏ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَبْلَكُمْ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ ‏"‏‏.‏ وَفِي الصَّحِيحِ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 18‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 61‏)‏ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 5‏)‏

وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

يَا مُفْرَدًا بِالْحُسْنِ وَالشَّكْلِ *** مَنْ دَلَّ عَيْنَيْكَ عَلَى قَتْلِي

الْبَدْرُ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى نُورُهُ *** وَالشَّمْسُ مِنْ نُورِكَ تَسْتَمْلِي

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا‏}‏ ‏(‏نُوحٍ‏:‏ 15- 16‏)‏ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ‏:‏ مُنَاسَبَةَ رُءُوسِ الْآيِ، أَوْ أَنَّ انْتِفَاعَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بِهِ أَكْثَرُ‏.‏ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْقَمَرَ وَجْهُهُ يُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، وَظَهْرُهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ نُورِهِ يُضِيءُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ الْغَلَبَةُ وَالْكَثْرَةُ التَّقْدِيمُ فِي الْقُرْآنِ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَثْرَةِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 32‏)‏ قَدَّمَ الظَّالِمَ لِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ الْمُقْتَصِدَ، ثُمَّ السَّابِقَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 105‏)‏‏.‏

‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 152‏)‏‏.‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 26‏)‏‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ ‏{‏فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 2‏)‏ يَعْنِي بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 103‏)‏ وَحَدِيثِ بَعْثِ النَّارِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 56‏)‏ قُدِّمَ ذِكْرُ الْعَذَابِ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى وَرَامُوا قَتْلَهُ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلُهُ مِنْ ذِكْرِ حُكْمِهِ، فَقَالَ نَبِيُّهُمْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ فَنَابَ الْعُدَاةَ مِنْهُمْ‏.‏

وَجُعِلَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 38‏)‏ لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي الذُّكُورِ أَكْثَرُ‏.‏

وَقَدَّمَ فِي الزِّنَى الْمَرْأَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 2‏)‏ لِأَنَّ الزِّنَا فِيهِنَّ أَكْثَرُ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 3‏)‏ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ سِيقَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا لِعُقُوبَتِهِمَا عَلَى مَا جَنَيَا، وَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمَادَّةُ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُطْمِعِ الرَّجُلَ وَتُمَكِّنْهُ لَمْ يَطْمَعْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ، فَلَمَّا كَانَتْ أَصْلًا وَأَوَّلًا فِي ذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِهَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ، وَالرَّجُلُ أَصْلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّاغِبُ وَالْخَاطِبُ وَمِنْهُ يَبْدَأُ الطَّلَبُ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 30‏)‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ ‏"‏ قَدَّمَ غَضَّ الْبَصَرِ لِأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الْفُجُورِ وَالْبَلْوَى بِهِ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ، وَلَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ ‏"‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا وَرَدَ‏:‏ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ التَّعْذِيبِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ فَلِلسِّيَاقِ؛ لِأَنَّهُ قُوبِلَ بِذِكْرِ تَقَدُّمِ السَّرِقَةِ عَلَى التَّوْبَةِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 14‏)‏ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي ‏"‏ أَمَالِيهِ ‏"‏ إِنَّمَا قُدِّمَ الْأَزْوَاجُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ أَنَّ فِيهِمْ أَعْدَاءً، وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْأَزْوَاجِ أَقْعَدُ مِنْهُ فِي الْأَوْلَادِ؛ فَكَانَ أَقْعَدَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَقُدِّمَ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 15‏)‏ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تَكَادُ تُفَارِقُهَا الْفِتْنَةُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 6- 7‏)‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 16‏)‏ وَلَيْسَتِ الْأَوْلَادُ فِي اسْتِلْزَامِ الْفِتْنَةِ مِثْلَهَا، وَكَانَ تَقَدُّمُهَا أَوْلَى‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ سَبْقُ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

وَهُوَ دَلَالَةُ السِّيَاقِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 6‏)‏ لَمَّا كَانَ إِسْرَاحُهَا وَهِيَ خِمَاصٌ، وَإِرَاحَتُهَا وَهِيَ بِطَانٌ، قَدَّمَ الْإِرَاحَةَ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ بِهَا حِينَئِذٍ أَفْخَرُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 91‏)‏ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 91‏)‏ وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِابْنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 50‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 79‏)‏ فَإِنَّهُ قَدَّمَ الْحُكْمَ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِهِ لِلْحُكْمِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السِّيَاقُ فِي الْحُكْمِ قَدَّمَهُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 78‏)‏ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحِكْمَةَ، وَبِهَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 22‏)‏ وَأَمَّا تَقْدِيمُ ‏(‏الْحَكِيمِ‏)‏ عَلَى ‏(‏الْعَلِيمِ‏)‏ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلِأَنَّهُ مَقَامُ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ فَقَدَّمَ ‏(‏الْعَلِيمَ‏)‏ عَلَى ‏(‏الْحَكِيمِ‏)‏، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 101‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَحْوِ عَلَى الْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 39‏)‏ فَإِنَّ قَبْلَهُ‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 38‏)‏ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَحْوُ أَقَلُّ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ ‏"‏ يُثَبِّتُ ‏"‏ فَإِنَّهَا نَاصَّةٌ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ لَا الِاسْتِئْنَافُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 24‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 38‏)‏ قَدَّمَ ‏(‏رُسُلًا‏)‏ هُنَا عَلَى ‏"‏ مِنْ قَبْلِكَ ‏"‏ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي الرُّسُلِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 245‏)‏ قَدَّمَ الْقَبْضَ لِأَنَّ قَبْلَهُ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 245‏)‏ وَكَانَ هَذَا بَسْطًا، فَلَا يُنَاسِبُ تِلَاوَةَ الْبَسْطِ، فَقَدَّمَ الْقَبْضَ لِهَذَا وَلِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْهُ سَبَبُهُ خَوْفُ الْقِلَّةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْجِيهِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ مُقَدَّرٌ وَلَا بُدَّ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ مُرَاعَاةُ اشْتِقَاقِ اللَّفْظِ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 37‏)‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ‏}‏ ‏(‏الِانْفِطَارِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

‏{‏يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 13‏)‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 49- 50‏)‏‏.‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخَرِينَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 39- 40‏)‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 24‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 61‏)‏ فَقُدِّمَ نَفْيُ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ التَّقْدِيمُ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّقْدِيمِ نَفْيًا لِأَطْرَافِ الْكَلَامِ كُلِّهِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ ‏(‏الْبُرُوجِ‏:‏ 13‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 29‏)‏‏.‏

‏{‏لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

‏{‏لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 70‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 3‏)‏ ‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 220‏)‏

فَإِنْ قُلْتَ قَدْ جَاءَ‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 25‏)‏ ‏{‏أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 24- 25‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لِمُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 38‏)‏ وَلِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ فَقُدِّمُوا

الْحَادِيَ عَشَرَ‏:‏ لِلْحَثِّ عَلَيْهِ خِيفَةً مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ التَّقْدِيمِ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَتَقْدِيمِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 11‏)‏ فَإِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ سَابِقٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لَكِنْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ بِتَأْخِيرِهَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ‏.‏

وَنَظِيرُهُ ‏{‏يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 49‏)‏ قَدَّمَ الْإِنَاثَ حَثًّا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ‏.‏

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي ‏"‏ النَّتَائِجِ ‏"‏‏:‏ إِنَّمَا قُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهَا قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي تَعَوَّذَ الرَّسُولُ مِنْهُ فَبُدِئَ بِهَا لِلْفَضْلِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ وَالدَّيْنَ لِغَيْرِهِ، وَنَفْسُكَ قَبْلَ نَفْسِ غَيْرِكَ، تَقُولُ‏:‏ هَذَا لِي وَهَذَا لِغَيْرِي، وَلَا تَقُولُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ‏:‏ هَذَا لِغَيْرِي وَهَذَا لِي‏.‏

الثَّانِيَ عَشَرَ‏:‏ لِتَحَقُّقِ مَا بَعْدَهُ وَاسْتِغْنَائِهِ هُوَ عَنْهُ فِي تَصَوُّرِهِ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 96‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 153‏)‏‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ الِاهْتِمَامُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ

التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 86‏)‏‏.‏

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَهُ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْهُ‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 41‏)‏ لِفَضْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 92‏)‏‏.‏

فَقَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ، وَعَكَسَ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 92‏)‏‏.‏

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي ‏"‏ الْحَاوِي ‏"‏‏:‏ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَافِرَ يَرَى تَقْدِيمَ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ إِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهُمَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ؛ لِئَلَّا يُلْحَقَ بِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 92‏)‏ فَضَمَّ إِلَيْهِ الدِّيَةَ إِلْحَاقًا بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ‏.‏

وَقَالَ الْفَقِيهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يُهْدِرُ الدِّمَاءَ وَهُوَ مَوْجُودٌ، كَانَ الْغَايَةَ بِبَذْلِ الدَّمِ عِنْدَ الْعِصْمَةِ لِأَجْلِ الْمِيثَاقِ أَتَمَّ؛ لِأَنَّهُ يُغْمِضُ حُكْمَهُ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الدِّيَةُ فِيهِ، وَأُخِّرَتِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا قَدْ سَبَقَ، وَلَمَّا كَانَتْ عِصْمَةُ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةً، وَقِيَاسُ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ خُصُوصًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنِ الْخَطَأِ- كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ أَتَمَّ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُغْمِضُ؛ فَقُدِّمَتْ‏.‏

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 85- 86‏)‏ قِيلَ‏:‏ لِمَاذَا بَدَأَ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ مَسْكَنُ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ؛ إِمَّا لِتَمَرُّدِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ طُغْيَانِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْنَا عِلْمُهُ‏.‏

وَمِنْ هَذَا أَنَّ تَأَخُّرَ الْمَقْصُودِ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَوْلَى مِنْ تَقَدُّمِهِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ، وَهُمْ فِي هَذَا بِذِكْرِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَهَمُّ‏.‏

فَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 30 و44‏)‏ فَإِنَّ الْمَمْدُوحَ هُنَا بِـ ‏"‏ نِعْمَ الْعَبْدُ ‏"‏ هُوَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى‏.‏ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ فِي الْآيَتَيْنِ ضَمِيرُ سُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ، وَتَقْدِيرُهُ‏:‏ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ؛ إِنَّهُ أَوَّابٌ

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ لَا مُقَيَّدٌ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 100‏)‏ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ‏"‏ اللَّهَ ‏"‏ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ ‏"‏ جَعَلَ ‏"‏ وَ ‏"‏ شُرَكَاءَ ‏"‏ مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَيَكُونُ ‏"‏ الْجِنَّ ‏"‏ فِي كَلَامٍ ثَانٍ مُقَدَّرٍ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ فَمَنْ جَعَلُوا شُرَكَاءَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ الْجِنُّ‏.‏ وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْإِنْكَارِ عَلَى جَعْلِهِمْ ‏"‏ لِلَّهِ شُرَكَاءَ ‏"‏ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَيَدْخُلُ مُشْرِكَةُ غَيْرِ الْجِنِّ‏.‏ وَلَوْ أَخَّرَ فَقِيلَ‏:‏ وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، كَانَ الْجِنُّ مَفْعُولًا أَوَّلًا وَ ‏(‏شُرَكَاءَ‏)‏ ثَانِيًا، فَتَكُونُ الشَّرِكَةُ مُقَيِّدَةً غَيْرَ مُطْلَقَةٍ؛ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى الْجِنِّ، فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ تَوَجَّهَ لِجَعْلِ الْمُشَارَكَةِ لِلْجِنِّ خَاصَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ سَبَقَتْ‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مُرَتَّبٌ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 35‏)‏ قَدَّمَ الْجِبَاهَ ثُمَّ الْجُنُوبَ؛ لِأَنَّ مَانِعَ الصَّدَقَةِ فِي الدُّنْيَا كَانَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ أَوَّلًا عَنِ السَّائِلِ ثُمَّ يَنُوءُ بِجَانِبِهِ، ثُمَّ يَتَوَلَّى بِظَهْرِهِ‏.‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ التَّنَقُّلُ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

وَهُوَ أَنْوَاعٌ‏:‏ إِمَّا مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21- 22‏)‏ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 5‏)‏ لِقَصْدِ التَّرَقِّي‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 86‏)‏‏.‏

وَإِمَّا بِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْجَاثِيَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 3، 4‏)‏‏.‏

وَإِمَّا مِنَ الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 18‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 49‏)‏‏.‏

وَإِمَّا مِنَ الْأَدْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 121‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 49‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 255‏)‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ لِمَ لَا اكْتَفَى بِنَفْيِ الْأَدْنَى لِيُعْلَمَ مِنْهُ نَفْيُ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالزَّمَانِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 31‏)‏ الْآيَةَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 172‏)‏ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ سِيَاقَهَا يَقْتَضِي التَّرَقِّيَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ لَا يَسْتَنْكِفُ فُلَانٌ عَنْ خِدْمَتِكَ، وَلَا مَنْ دُونَهُ؛ بَلْ وَلَا مَنْ فَوْقَهُ‏.‏

وَجَوَابُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ الْوَلَدِيَّةَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَوَارِقِ وَالْمُعْجِزَاتِ؛ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَغَيْرِهِ، وَلِكَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ‏.‏ وَالتَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا وَغَالِبِ هَذِهِ الْأُمُورِ هِيَ لِلْمَلَائِكَةِ أَتَمُّ، وَهُمْ فِيهَا أَقْوَى، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ أَوْجَبَتْ عِبَادَتَهُ فَهُوَ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، بَلْ وَلَا مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ لِلتَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فِي الْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ الشَّرَفُ الْمُطْلَقُ وَالْفَضِيلَةُ عَلَى الْمَسِيحِ‏.‏

السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ التَّرَقِّي التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 195‏)‏ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَدَأَ مِنْهَا بِالْأَدْنَى لِغَرَضِ التَّرَقِّي؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصْفِ الرَّابِعِ أَهَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّالِثِ، فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ، وَمَنْفَعَةَ الثَّالِثِ أَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّانِي، وَمَنْفَعَةَ الثَّانِي أَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ قُرِنَ السَّمْعُ بِالْعَقْلِ وَلَمْ يُقْرَنْ بِهِ الْبَصَرُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 42- 43‏)‏ وَمَا قُرِنَ بِالْأَشْرَفِ كَانَ أَشْرَفَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبْعِيِّ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ‏:‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ الْوَصْفُ الْأَعْلَى، ثُمَّ مَا دُونَهُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَضْعَفِهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَدَأَ بِسَلْبِ الْوَصْفِ الْأَعْلَى، ثُمَّ بِسَلْبِ مَا دُونَهُ، كَانَ ذَلِكَ أَبْلِغَ فِي الذَّمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَلْبِ الْأَعْلَى سَلْبُ مَا دُونَهُ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ لَيْسَ زَيْدٌ بِسُلْطَانٍ، وَلَا وَزِيرٍ، وَلَا أَمِيرٍ، وَلَا وَالٍ‏.‏ وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ مَا ذَكَرْتَهُ طَرِيقٌ حَسَنَةٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَعْبُدُهَا الْكُفَّارُ أَمْثَالُ الْكُفَّارِ، فِي أَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مَرْبُوبَةٌ، ثُمَّ حَطَّهَا عَنْ دَرَجَةِ الْمِثْلِيَّةِ بِنَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْكُفَّارِ عَنْهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الذَّوَاتِ الْمُتَنَائِيَةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهَا؛ إِذْ هِيَ أَسْبَابٌ فِي ثُبُوتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا، وَتَقْوَى الْمُمَاثَلَةُ بِقُوَّةِ أَسْبَابِهَا، وَتَضْعُفُ بِضَعْفِهَا، فَإِذَا سُلِبَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِإِحْدَى الذَّاتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى انْتَفَى وَجْهٌ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِذَا سُلِبَ وَصْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ انْتَفَى وَجْهٌ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْلُبُ أَسْبَابَ الْمُمَاثَلَةِ، أَقْوَاهَا فَأَقْوَاهَا، حَتَّى تَنْتَفِيَ الْمُمَاثَلَةُ كُلُّهَا بِهَذَا التَّدْرِيجِ‏.‏ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَلْطَفُ مِنْ سَلْبِ أَسْبَابِ الْمُمَاثَلَةِ؛ أَقْوَاهَا ثُمَّ أَضْعَفِهَا فَأَضْعَفِهَا‏.‏

الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ مُرَاعَاةُ الْإِفْرَادِ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

فَإِنَّ الْمُفْرَدَ سَابِقٌ عَلَى الْجَمْعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْمَالُ وَالْبَنُونَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 46‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 55‏)‏ وَلِهَذَا لَمَّا عُبِّرَ عَنِ الْمَالِ بِالْجَمْعِ أُخِّرَ عَنِ الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 14‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 28‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 50‏)‏‏.‏

التَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ التَّحْذِيرُ مِنْهُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 3‏)‏ قَرَنَ الزِّنَى بِالشِّرْكِ وَقَدَّمَهُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 14‏)‏ قَدَّمَهُنَّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ بِهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الْمِحْنَةِ بِالْأَوْلَادِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ‏:‏ مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِي النَّاسِ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ النِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا وَخَتَمَ بِـ ‏"‏ الْحَرْثِ ‏"‏ وَهُمَا طَرَفَانِ مُتَشَابِهَانِ، وَفِيهِمَا الشَّهْوَةُ وَالْمَعَاشُ الدُّنْيَوِيُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ أَخَّرَ ذِكْرَ الْأَزْوَاجِ كَمَا يَجِبُ فِي التَّرْتِيبِ الْأُخْرَوِيِّ، وَخَتَمَ بِالرِّضْوَانِ‏.‏ وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَجَبِ إِذَا حَضَرَ لَهُ الذِّهْنُ، وَفَرَغَ لَهُ الْفَهْمُ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ نَفْيِ الْوَلَدِ عَلَى نَفْيِ الْوَالِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏}‏ ‏(‏الْإِخْلَاصِ‏:‏ 3‏)‏ فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْأَوَّلِ مُنَازَعَةُ الْكَفَرَةِ وَتَقَوُّلُهُمُ اقْتَضَتِ الرُّتْبَةُ بِالطَّبْعِ تَقْدِيمَهُ فِي الذِّكْرِ؛ اعْتِنَاءً بِهِ، قَبْلَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْوَالِدِ الَّذِي لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ‏.‏

الْعِشْرُونَ‏:‏ التَّخْوِيفُ مِنْهُ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 105‏)‏ وَنَظَائِرِهِ السَّابِقَةِ فِي الثَّامِنِ‏.‏

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 79‏)‏‏.‏

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ ‏"‏ قَدَّمَ الْجِبَالَ عَلَى الطَّيْرِ؛ لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا لَهُ وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهَا جَمَادٌ، وَالطَّيْرَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ‏"‏‏.‏

قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ‏:‏ وَلَيْسَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِـ ‏"‏ نَاطِقٍ ‏"‏ مَا يُرَادُ بِهِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ‏.‏

الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ كَوْنُهُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 45‏)‏‏.‏

وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ قَصْدُ التَّرْتِيبِ

كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَسْحِ بَيْنَ الْغَسْلَيْنِ وَقَطْعَ النَّظَرِ عَنِ النَّظِيرِ مَعَ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي لِسَانِهِمْ، دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّرْتِيبِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْبَدَاءَةُ فِي الصَّفَا بِالسَّعْيِ، وَمِثْلُهُ الْكَفَّارَةُ الْمُرَتَّبَةُ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ‏.‏

وَهُنَا قَاعِدَةٌ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُرَتَّبَةَ بَدَأَ اللَّهُ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ، وَالْمُخَيَّرَةَ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ وَلِهَذَا حَمَلُوا آيَةَ الْمُحَارَبَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 33‏)‏ الْآيَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ؛ خِلَافًا لِمَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ‏.‏

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ خِفَّةُ اللَّفْظِ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَمَا فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ مَعَ أَنَّ مُضَرَ أَشْرَفُ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مُضَرَ لَتَوَالَى حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَذَلِكَ يَثْقُلُ، فَإِذَا قَدَّمُوا رَبِيعَةَ وَوَقَفُوا عَلَى مُضَرَ بِسُكُونِ الرَّاءِ، نَقُصَ الثِّقَلُ لِقِلَّةِ الْحَرَكَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ مِنْ ذَلِكَ، فَالْإِنْسُ أَخَفُّ لِمَكَانِ النُّونِ وَالسِّينِ الْمَهْمُوسَةِ‏.‏

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

كَتَأْخِيرِ الْغَفُورِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 60‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 54‏)‏‏.‏

وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ تَأْخِيرَ مَا هُوَ الْأَبْلَغُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ، وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ، وَسَبَقَ لَهُ نَظَائِرُ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 30- 31‏)‏ وَلَوْ قَالَ‏:‏ صَلُّوهُ الْجَحِيمَ لَأَفَادَ الْمَعْنَى، وَلَكِنْ يَفُوتُ الْجَمْعُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ فَائِدَتُهُ الِاخْتِصَاصُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 114‏)‏ فَقَدَّمَ ‏"‏ إِيَّاهُ ‏"‏ عَلَى تَعْبُدُونَ لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

تنبيه‏:‏

قَدْ يَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ سَبَبَانِ فَأَكْثَرُ لِلتَّقْدِيمِ، فَإِمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ إِعَادَةُ الْكُلِّ، أَوْ يُرَجَّحَ بَعْضُهَا لِكَوْنِهِ أَهَمَّ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ‏.‏ وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى أَهَمَّ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْأَسْبَابُ رُوعِيَ أَقْوَاهَا، فَإِنْ تَسَاوَتْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ فِي تَقْدِيمِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ‏.‏

النَّوْعُ الثَّانِي‏:‏ مِمَّا قُدِّمَ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

فَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْرَابُ، كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 28‏)‏ وَ‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 37‏)‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 124‏)‏‏.‏

وَنَحْوِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَصْرِ كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 64‏)‏ ‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 14‏)‏‏.‏

وَكَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 2‏)‏ وَلَوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ ‏"‏ لَمَا أَشْعَرَ بِزِيَادَةِ وُثُوقِهِمْ بِمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ‏.‏

وَكَذَا‏:‏ ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 46‏)‏ وَلَوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَأَنْتَ رَاغِبٌ عَنْهَا ‏"‏ مَا أَفَادَتْ زِيَادَةَ الْإِنْكَارِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 97‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ فَإِذَا أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ ‏"‏ وَكَانَ يُسْتَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالشُّخُوصِ‏.‏

وَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 72‏)‏ قَالَ الْبَغَوِيُّ‏:‏ ‏"‏ هَذَا أَوَّلُ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي التِّلَاوَةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ‏:‏ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَاتِلِ قَبْلَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 67‏)‏ الْآيَةَ، عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُذْبَحُ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَاتِلٍ خَفِيَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِلْمُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 72‏)‏ عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لَا أَنَّهُ عَرَّفَهُمُ الِاخْتِلَافَ فِي الْقَاتِلِ بَعْدَ أَنْ دَلَّهُمْ عَلَى ذَبْحِ الْبَقَرَةِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمُقَدَّمُ، وَتَأْوِيلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فَسَأَلْتُمْ مُوسَى فَقَالَ لَكُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 67‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيرَادَهَا إِنَّمَا كَانَ يَتَأَتَّى عَلَى الْوَجْهِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِمَعْنًى حَسَنٍ لَطِيفٍ اسْتَخْرَجَهُ وَأَبْدَاهُ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 23‏)‏ وَأَصْلُ الْكَلَامِ‏:‏ ‏"‏ هَوَاهُ إِلَهَهُ ‏"‏ كَمَا تَقُولُ‏:‏ اتَّخَذَ الصَّنَمَ مَعْبُودًا، لَكِنْ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِلْعِنَايَةِ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ عَلِمْتُ مُنْطَلِقًا زَيْدًا؛ لِفَضْلِ عِنَايَتِكَ بِانْطِلَاقِهِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 1‏)‏ الْآيَةَ؛ أَيْ‏:‏ أَنْزَلَهُ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا‏.‏ قَالَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ‏.‏

وَرَدَّهُ فَخْرُ الدِّينِ فِي ‏"‏ تَفْسِيرِهِ ‏"‏ بِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 1- 2‏)‏ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَامِلٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَنَّ قَيِّمًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِغَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ سَابِقٌ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ أَنَّهُ قَائِمٌ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ، قَالَ‏:‏ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَهَذَا فَهْمٌ عَجِيبٌ مِنَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا يَقُولُ بِأَنَّ كَوْنَهُ ‏"‏ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ‏"‏ مُتَأَخِّرٌ عَنْ كَوْنِهِ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ اللَّفْظِ لِأَجْلِ الْإِعْرَابِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ ثَابِتًا قَبْلَ الْآخَرِ وَيُذْكَرُ بَعْدَهُ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقَيِّمِ بِالْمُسْتَقِيمِ، فَأَمَّا إِذَا فُسِّرَ بِالْقِيَامِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ‏.‏

وَهَاهُنَا أَمْرَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْأَظْهَرَ جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ- أَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 1- 2‏)‏- مِنْ جُمْلَةِ صِلَةِ ‏"‏ الَّذِي ‏"‏ وَتَمَامِهَا، وَعَلَى هَذَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْحَالِ وَعَامِلِهَا، وَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَهَا النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ ‏"‏ الْكِتَابَ ‏"‏ وَالْعَامِلُ فِيهَا ‏"‏ أَنْزَلَ ‏"‏‏.‏

قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ فَيَجُوزُ فِي نَصْبِهِ وُجُوهٌ‏:‏

أَحَدُهَا- وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ-‏:‏ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ ‏"‏ الْكِتَابَ ‏"‏، وَالْعَامِلُ فِيهِ ‏"‏ أَنْزَلَ ‏"‏، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏"‏، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا اعْتِرَاضًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَتَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا ‏"‏ فَيَكُونُ مَفْعُولًا لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 1- 2‏)‏ وَتَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً‏.‏

وَاخْتَارَ صَاحِبُ ‏"‏ الْكَشَّافِ ‏"‏ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا عِنْدَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَ حَالًا يَكُونُ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ بَعْضِ الصِّلَةِ وَتَمَامِهَا، فَكَانَ الْأَحْسَنُ جَعْلَهُ مَعْمُولًا لِمُقَدَّرٍ‏.‏

وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي ‏"‏ تَفْسِيرِ الْبَحْرِ ‏"‏ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ‏:‏ ‏"‏ وَعَجِيبٌ مِنْهُ كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلِ الْفَاصِلَ الْمَذْكُورَ حَالًا أَيْضًا، وَلَا فَصَلَ، بَلْ هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ أَنْزَلَ الْكِتَابَ غَيْرَ مُعْوَجٍّ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ- وَهُوَ جَعْلُ الْجُمْلَةِ حَالًا- قَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ قَبْلَ ابْنِ الْمُنَيِّرِ‏.‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَرْتَضِ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْجُمْلَةِ حَالًا لَا يُفِيدُهُ مَا يُفِيدُ الْعَطْفُ، مِنْ نَفْيِ الْعِوَجِ عَنِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْإِنْزَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَالْفَائِدَةُ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ، كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ‏:‏ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ رُبَّمَا لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ غَيْرِ مَا قَالَ، لَكِنْ مَا قَالَ هُوَ الْأَحْسَنُ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْمُنَيِّرِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ‏:‏ إِنَّ الْجُمْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً فَهِيَ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلْعَطْفِ، فَلَمْ يَقَعْ فَصْلٌ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ ‏"‏ الْكَشَّافِ ‏"‏ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ ‏"‏ عِوَجًا ‏"‏ وَيَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ الْفَصْلِ وَانْقِطَاعِ الْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ‏:‏ وَتَحْتَمِلُ السَّكْتَةُ وَجْهًا آخَرَ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ نَعْتًا لِلْعِوَجِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَدْعِي النَّعْتَ غَالِبًا، وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ إِيلَاءُ النَّكِرَةِ الْجَامِدَةِ نَعْتَهَا؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 68‏)‏ وَ‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 2‏)‏ فَإِذَا وَلِيَ النَّكِرَةَ الْجَامِدَةَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ نَكِرَةٌ ظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى الْوَصْفِ، فَرُبَّمَا خِيفَ اللَّبْسُ فِي جَعْلِ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ نَعْتًا لِـ ‏"‏ عِوَجٍ ‏"‏ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بِهَذِهِ السَّكْتَةِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، وَلَا يَصْلُحُ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِـ ‏"‏ عِوَجٍ ‏"‏، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يُوصَفُ بِضِدِّهِ؛ لِأَنَّ الْعِوَجَ لَا يَكُونُ قَيِّمًا، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ نَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ ‏"‏ قَيِّمًا ‏"‏ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ عِوَجًا ‏"‏ وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏)‏ قِيلَ‏:‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، وَهَمَّ بِهَا‏.‏ وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لَكِنْ فِي تَأْوِيلِهِ قَلَقٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الصَّغَائِرَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 71‏)‏ قِيلَ‏:‏ أَصْلُهُ‏:‏ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ، وَقِيلَ‏:‏ ضَحِكَتْ، أَيْ‏:‏ حَاضَتْ بَعْدَ الْكِبَرِ عِنْدَ الْبُشْرَى، فَعَادَتْ إِلَى عَادَاتِ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 79‏)‏ قُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلتَّوَافُقِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى‏}‏ ‏(‏الْأَعْلَى‏:‏ 5‏)‏ أَيْ‏:‏ أَحَوَى غُثَاءً، أَيْ‏:‏ أَخْضَرَ يَمِيلُ إِلَى السَّوَادِ، وَالْمُوجِبُ لِتَأْخِيرِ ‏(‏أَحَوَى‏)‏ ‏(‏الْأَعْلَى‏:‏ 5‏)‏ رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 85‏)‏ قَالَ ابْنُ بُرْهَانَ النَّحْوِيُّ‏:‏ أَصْلُهُ‏:‏ وَمَنْ يَبْتَغِ دِينًا غَيْرَ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 27‏)‏ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ‏:‏ الْغِرْبِيبُ‏:‏ الشَّدِيدُ السَّوَادِ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ‏.‏ وَقَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ ‏"‏‏:‏ قَالَ ابْنُ عِيسَى‏:‏ الْغِرْبِيبُ‏:‏ الَّذِي لَوْنُهُ لَوْنُ الْغُرَابِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ غُرَابٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْغُرَابُ يَكُونُ أَسْوَدَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ‏.‏ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ فِيهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 105‏)‏ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الذِّكْرَ هُنَا الْقُرْآنُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 27‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا‏}‏ ‏(‏الشَّمْسِ‏:‏ 14‏)‏ أَيْ‏:‏ فَعَقَرُوهَا، ثُمَّ كَذَّبُوهُ فِي عَقْرِهَا وَفِي إِجَابَتِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 2‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى، أَيْ‏:‏ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 30‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَوْثَانَ مِنَ الرِّجْسِ‏.‏

‏{‏هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 154‏)‏ أَيْ‏:‏ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 5‏)‏ أَيِ‏:‏ الَّذِينَ هُمْ حَافِظُونَ لِفُرُوجِهِمْ‏.‏

‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 47‏)‏ أَيْ‏:‏ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ‏.‏

‏{‏بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 14‏)‏ أَيْ‏:‏ بَلِ الْإِنْسَانُ بَصِيرٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُهُودِ جَوَارِحِهِ عَلَيْهِ‏.‏

‏{‏خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 37‏)‏ خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ‏.‏

‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 129‏)‏ أَيْ‏:‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لَازِمًا لَهُمْ‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 45‏)‏ أَيْ‏:‏ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏(‏الْعَادِيَاتِ‏:‏ 8‏)‏ أَيْ‏:‏ لَشَدِيدٌ لِحُبِّ الْخَيْرِ‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 137‏)‏ أَيْ‏:‏ زَيَّنَ لِلْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يُحَسِّنُونَ لَهُمْ قَتْلَ بَنَاتِهِمْ خَشْيَةَ الْعَارِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 83‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 55‏)‏ أَيْ‏:‏ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 18‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ مَثَلُ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 77‏)‏ أَيْ‏:‏ فَأَنَا عَدُوُّ آلِهَتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ وَكُلِّ مَعْبُودٍ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 51‏)‏ أَيْ‏:‏ فَزِعُوا وَأُخِذُوا فَلَا فَوْتَ؛ لِأَنَّ الْفَوْتَ يَكُونُ بَعْدَ الْأَخْذِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 1‏)‏ يَعْنِي الْقِيَامَةَ، ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 2‏)‏ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 3‏)‏ وَالنَّصَبَ وَالْعَمَلُ يَكُونَانِ فِي الدُّنْيَا، فَكَأَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مَعْنَاهُ‏:‏ وُجُوهٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 8‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 10‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ دُعِيتُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَكَفَرْتُمْ، وَمَقْتُهُ إِيَّاكُمُ الْيَوْمَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ دُعِيتُمْ إِلَى النَّارِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏ لِأَنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ لَهُ سَوَادٌ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّيْلِ؛ أَيْ‏:‏ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ الصُّبْحِ مِنْ بَقِيَّةِ سَوَادِ اللَّيْلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 73‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَأَنْ لَمْ تَكُنْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 73‏)‏ مَنْظُومٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 72‏)‏ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الشَّمَاتَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 51‏)‏ أَيْ‏:‏ اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ اثْنَيْنِ يَقَعُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَ ‏"‏ إِلَهَيْنِ ‏"‏ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَـ ‏"‏ إِلَهَيْنِ ‏"‏ أَخَصُّ، فَكَانَ جَعْلُهُ صِفَةً أَوْلَى‏.‏

النَّوْعُ الثَّالِثُ‏:‏ مَا قُدِّمَ فِي آيَةٍ وَأُخِّرَ فِي أُخْرَى التَّقْدِيمُ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي فَاتِحَةِ الْفَاتِحَةِ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏)‏ وَفِي خَاتِمَةِ الْجَاثِيَةِ‏:‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 36‏)‏ فَتَقْدِيمُ ‏"‏ الْحَمْدِ ‏"‏ فِي الْأَوَّلِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ، وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرِ‏:‏ لِمَنِ الْحَمْدُ وَمَنْ أَهْلُهُ‏؟‏ فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ نَظِيرُهُ‏:‏ ‏{‏لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 16‏)‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 16‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 20‏)‏ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَرْفُوعِ؛ لِاشْتِمَالِ مَا قَبْلَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الرُّسُلَ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، فَكَانَ مَظِنَّةُ التَّتَابُعِ عَلَى مَجْرَى الْعِبَارَةِ، تِلْكَ الْقَرْيَةَ، وَيَبْقَى مُخَيَّلًا فِي فِكْرِهِ‏:‏ أَكَانَتْ كُلُّهَا كَذَلِكَ، أَمْ كَانَ فِيهَا ‏[‏فَنَظَرَ أَنْ أَفَاضَ‏]‏ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 68‏)‏ وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 83‏)‏ فَإِنَّ مَا قَبْلَ الْأُولَى‏:‏ ‏{‏أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 67‏)‏ وَمَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ‏:‏ ‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 82‏)‏ فَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَاكَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ تُرَابًا، وَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَا كَوْنُهُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا، وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْأُولَى أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي تَبْعِيدِ الْبَعْثِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 33‏)‏ فَقُدِّمِ الْمَجْرُورُ عَلَى الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ- وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ تَمَامَ الْوَصْفِ بِتَمَامِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ، وَتَمَامُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 33‏)‏- لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا‏؟‏ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا‏:‏ ‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 24‏)‏ فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 70‏)‏ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 48‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 151‏)‏ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 31‏)‏ قَدَّمَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْأُولَى فِي الْفُقَرَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ إِمْلَاقٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 151‏)‏ فَكَانَ رِزْقُهُمْ عِنْدَهُمْ أَهَمَّ مِنْ رِزْقِ أَوْلَادِهِمْ، فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ، وَالْخِطَابُ فِي الثَّانِيَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ بِدَلِيلِ‏:‏ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 31‏)‏ فَإِنَّ الْخَشْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ، فَكَانَ رِزْقُ أَوْلَادِهِمْ هُوَ الْمَطْلُوبَ دُونَ رِزْقِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ، فَكَانَ أَهَمَّ، فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِهِمْ‏.‏

وَمِنْهَا ذِكْرُ اللَّهِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 38‏)‏ فَقَدَّمَ ذِكْرَ السَّمَاوَاتِ؛ لِأَنَّ مَعْلُومَاتِهَا أَكْثَرُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَدَلَّ عَلَى صِفَةِ الْعَالِمِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 40‏)‏ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ تَعْجِيزِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْخَلْقِ وَالْمُشَارَكَةِ، وَأَمْرُ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِكَثِيرٍ، فَبَدَأَ بِالْأَرْضِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ عَنْ أَعْظَمِهِمَا أَعْجَزَ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 41‏)‏ فَقَدَّمَ السَّمَاوَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ خَلْقَهَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ؛ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَعْظَمِ كَانَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَصْغَرِ أَقْدَرَ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَهَلَّا اكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ الْبَيِّنِ، الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَرَادَ ذِكْرَهَا مُطَابَقَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ، فَانْظُرْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا أُودِعَهُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتِّبْيَانِ؛ تَحْمَدْ عَاقِبَةَ النَّظَرِ، وَتَنْتَظِرْ خَيْرَ مُنْتَظَرٍ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ أَنْ يُقَدَّمَ اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ وَيَتَأَخَّرَ فِيهَا؛ لِقَصْدِ أَنْ يَقَعَ الْبَدَاءَةُ وَالْخَتْمُ بِهِ، لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 106‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏(‏الْجُمُعَةِ‏:‏ 11‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ‏}‏ ‏(‏الْجُمُعَةِ‏:‏ 11‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 33‏)‏ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا أَسْلَفْنَاهُ لَقِيلَ‏:‏ مَا تَكْتُمُونَ وَتَبْدُونَ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِعِلْمِهِ أَمْدَحُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 3‏)‏ وَ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 9‏)‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 19‏)‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 7‏)‏ قُلْتُ‏:‏ لِأَجْلِ تَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ التَّقْدِيمُ فِي مَوْضِعٍ وَالتَّأْخِيرُ فِي آخَرَ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، لِلتَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى عِدَّةِ أَسَالِيبَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 58‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 161‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 7‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 23‏)‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ‏"‏ كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ ‏"‏‏:‏ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ كِلَا الطَّرِيقَيْنِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْحُسْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالتَّثْنِيَةِ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَإِنَّهُ حَسَنٌ مُؤَدٍّ إِلَى الْغَرَضِ، وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ‏:‏ وَلَمْ يُجْعَلْ لِلرَّجُلِ مَنْزِلَةً بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ بِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجَائِي؛ كَأَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ مَرَرْتُ بِهِمَا، يَعْنِي فِي قَوْلِكَ‏:‏ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَجَاءَنِي، إِلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ تَقْدِيمُ الْأَفْضَلِ، فَالْقَلْبُ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ، وَالْمُضْغَةُ لَهَا الشَّأْنُ، ثُمَّ السَّمْعُ طَرِيقُ إِدْرَاكِ وَحْيِ اللَّهِ، وَكَلَامِهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ كُلُّهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ‏.‏