فصل: فصل في الجعل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في الجعل:

والأصل فيه قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (يوسف: 72) فقد جعل له جعلاً على الإتيان في الصواع ولم يضرب له أجلاً فدل ذلك على أنه إن طلب ولم يأت به فلا شيء له والأصل فيه حديث الرقية، وهو أن نفراً من الصحابة سافروا حتى نزلوا على حي من العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فلدغ سيدهم فأتى الملدوغ لبعض أولئك الصحابة يرقيه فرقاه على أن جعل له قطيعاً من الغنم فبرئ ووفى له بجعله، فذكروا ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) إلخ. والقصة في البخاري عن أبي سعيد الخدري ونقلها (ح) وغيره. وعرفه ابن عرفة بتعريفين أوجزهما، وعليه نقتصر عقد معاوضه على عمل آدمي يجب عوضه بتمامه لا بعضه ببعضه، فخرج بقوله عمل آدمي كراء الرواحل والسفن والنكاح وكراء الأرضين، وبقوله يجب عوضه بتمامه القراض والمساقاة والشركة في الحرث لجواز عدم الربح والغلة والزرع، وبقوله لا بعضه ببعضه الإجارة لوجوب بعض العوض إذا ترك الأجير العمل قبل تمامه.
الجُعْلُ عَقْدٌ جائِزٌ لا يَلْزَمُ ** لكن بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ يُحْكَمُ

(الجعل عقد جائز لا يلزم) فكل منهما أن يفسخه قبل الشروع في العمل على المشهور (لكن به) أي باللزوم (بعد الشروع يحكم) على الجاعل فقط، وهو باذل العوض فالمجرور والظرف متعلقان بيحكم، وأما المجعول فله الترك ولو بعد الشروع أو العمل الكثير، ولا يلزمه الإتمام بحال (خ): ولزمت الجاعل بالشروع. واعلم أن الجعالة تفارق الإجارة من وجوه، فمنها أن ضرب الأجل يفسدها كما أشار له الناظم فيما يأتي بقوله: ولا يحد بزمان لاحق إلخ. أي: لا يؤجل بأجل إلا أن يشترط المجعول الترك متى شاء بخلاف الإجارة فلا تصح بدون أجل، ومنها أنها عقد غير لازم كما قال الناظم هاهنا فهو كالقراض والتوكيل والتحكيم بخلاف الإجارة، فإنها تلزم بالعقد، وقد نظم ابن غازي ما يلزم بالعقد وما لا يلزم به وما فيه خلاف هل يلزم به أم لا فقال:
أربعة بالقول عقدها فرا ** بيع نكاح وسقاء وكرا

لا الجعل والقراض والتوكيل ** والحكم بالفعل بها كفيل

لكن في الغراس والمزارعه ** والشركات بينهم منازعه

وفرا آخر الشطر الأول بالفاء بمعنى قطع، ومنه فرى الأوداج أي قطعها، والوجه الثالث الذي يخالف فيه الجعل الإجارة أنه لا شيء له إلا بتمام العمل كما قال:
وَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ مِمَّا يُجْعَلُ ** شَيْئاً سِوَى إذَا يَتِمُّ العَمَلُ

(وليس يستحق) المجعول (مما) أي الجعل الذي (يجعل) له (شيئاً) مفعول يستحق (سوى إذا يتم العمل) فإن لم يتمه فلا شيء له بخلاف الإجارة فإن له فيها بحساب ما عمل (خ): صحة الجعل بالتزام أهل الإجارة جعلاً يستحقه السامع بالتمام ككراء السفن إلا أن يستأجر على التمام فنسبة الثاني إلخ. أي محل كونه لا شيء له إذا لم يتمه الجاعل بنفسه أو عبيده أو يستأجر عليه وإلاَّ فله فبنسبة الثاني فإذا جاعله على الإتيان بخشبة إلى موضع كذا بخمسة دراهم مثلاً فحملها نصف الطريق وتركها فلا شيء له، فإذا جاعل صاحبها شخصاً آخر على بقية الطريق بعشرة فإنما يكون للأول عشرة لأنها التي تنوب فعله من عمل الثاني لأن الثاني لما استؤجر نصف الطريق بعشرة علم أن قيمة الإتيان بها في الطريق كلها يوم استؤجر عشرون، ولو حملها الأول ربع الطريق وتركها وحملها الثاني بقية الطريق بعشرة أيضاً كان للأول ثلاثة وثلث لأن الثاني حمل كل ربع من الثلاثة الأرباع بثلاثة وثلث، وقس على ذلك لو حملها الأول ثلاثة أرباع الطريق ونحو ذلك والحفر في البئر مثل الخشبة وإذا حملها بقية الطريق بنفسه أو عبده يقال ما قيمة ذلك أن لو جوعل أو استؤجر عليه. ابن رشد: وشبه هذا الدلال يجعل له الجعل على شيء فيسوقه ثم يبيعه ربه بغير حضرته، ولو باعه دلال آخر بجعل كان الجعل بين الدلالين بقدر عنائهما، لأن الدلال الثاني هو المنتفع بتسويق الأول. اهـ. وتأمل هذا مع ما يفعله الناس اليوم من كون الدلال الثاني يستبد بجميع الجعل وذلك ظلم للأول كما ترى، وهذا ظاهر إذا كان الدلال الثاني دلل الثوب مثلاً في اليوم الذي دلله فيه الأول، وفي ذلك السوق بعينه وإلاَّ فلا شيء للأول بخلاف تدليل الأصول الجمعة والشهر ونحوه، فإنه يشارك الثاني ولو دللها في غير يومها وسوقها ثم ما مر من أن للأول بنسبة الثاني هو المشهور، واعترضه التونسي وابن يونس قالا: لأن الأول إذا رضي أن يحملها جميع الطريق بخمسة، فكان يجب إذا تركها في نصف الطريق أن يعطى نصف الخمسة، وأجاب ابن عبد السلام بأن عقد الجعل لما كان منحلاً من جهة العامل بعد العمل فلما ترك بعد حمله نصف المسافة صار تركه إبطالاً للعقد من أصله وصار الثاني كاشفاً لما يستحقه الأول. اهـ.
تنبيهان:
الأول: أركان الجعل ثلاثة: عاقد وشرطه أهلية البيع وعمل وهو كعمل الإجارة من كونه منفعة تتقوم قدر على تسليمها بلا استيفاء عين ولا حظر وتعين إلخ. إلا أنه لا يشترط العلم به هنا إذ مسافة الآبق والضالة مجهولة انظر شرحنا للشامل. وجعل وشرطه أن يكون معلوماً منتفعاً به ظاهراً مقدوراً على تسليمه إلى غير ذلك مما يشترط في ثمن المبيع، وتقدم عن ابن سراج في فصل الإجارة أنه أجاز كراء السفينة بالجزء من ربحها إذا دعت إلى ضرورة قال: لأنه قد علم من مذهب مالك رحمه الله مراعاة المصلحة إذا كانت كلية حاجية، وأيضاً فإن ابن حنبل وجماعة من علماء السلف أجازوا الإجارة بالجزء في جميع الإجارات قياساً على القراض والمساقاة، وقد اختلف الأصوليون في جواز الانتقال من مذهب إلى آخر في بعض المسائل، والصحيح من جهة النظر جوازه قال: ومما يدل للجواز أيضاً ما ذكره الشعبي عن أصبغ من أن جميع ما يضطر إليه الناس ولا يجدون منه بدًّا مثل حارث الزرع يستأجر بجزء منه، ولا يجد من يحرس له إلا بذلك الوجه فأرجو أن لا يكون به بأس اه باختصار. ونقل ولد الناظم كلامه في فصل الإجارة وقال عقبه: إن عمل بمقتضى هذه الفتوى فتحت مسائل كثيرة ظاهرها المنع على أصل المذهب. اهـ. وبالجملة فهذه الفتوى اعتمدها غير واحد من المتأخرين ومحلها عندهم وعند ابن سراج إذا دعت الضرورة إلى ذلك ولم يجد في البلد من يعمل بالأجر المعلوم كما ترى، وتقدم في فصل الإجارة أن مجاعلة الدلال من هذا القبيل وإلاَّ فهي ممنوعة. انظر شرحنا للشامل عند قوله: والعمل في الجعل من شرطه عدم تأجيله إلخ. ومما يجوز فيه الجعل مع جهل العوض أيضاً قوله: اقتض ديني وما اقتضيت فلك نصفه، أو القط زيتوني وما لقطت فلك نصفه، وجذ من نخلي ما شئت، أو احصد من زرعي ما شئت ولك نصف ما تحصد أو تجذ، فإن ذلك كله جعالة وله الترك متى شاء كما اقتصر عليه في الشامل وغيره، فإن قال: احصد زرعي هذا سواء قال كله أم لا. كما في الرجراجي أو قال: جذ نخلي هذا أو القط زيتوني هذا ولك نصفه، فهو إجارة لازمة لأنه معلوم بالحزر وليس له الترك كما نص عليه في المدونة.
الثاني: كل مسألة يصح الجعل فيها مع اعتبار شروطه من عدم ضرب الأجل ونحوه تصح فيها الإجارة مع اعتبار شروطها أيضاً من ضرب الأجل وغيره، ولا عكس. ألا ترى أن حفر الآبار يصح بجعالة كما قال:
كالحَفْرِ لِلْبِئْرِ وَرَدِّ الآبِقِ ** وَلاَ يُحَدُّ بِزَمَانٍ لاحِقِ

(كالحفر للبئر) بشرط أن تكون في غير ملك الجاعل، وأن يعرفا شدة الأرض ورخاوتها على ما لصاحب المعونة لا على ما لابن رشد وابن الحاجب فإنهما لا يشترطان معرفة شدتها ورخاوتها وهو أظهر والآلات والفؤوس على الحافر إلا أن يشترطها على الجاعل ويصح إجارة أيضاً كانت في أرض يملكها الجاعل أم لا. والآلة والفؤوس على المستأجر بالكسر، وكذا بيع الثياب يصح إجارة وجعالة وكذا مشارطة الطبيب. (ورد الآبق) والشارد يصح فيهما الأمران أيضاً وتنفرد الإجارة بخياطة الثوب وحفر البئر في ملك الجاعل ونحوهما مما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك فإنه لا يصح جعالة وإنما يصح إجارة فالإجارة أعم من الجعل مطلقاً كما قال (خ): في كل ما جاز فيه الإجارة بلا عكس إلخ. وهذا واضح على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة، وأما على مقابله وهو مذهب ابن القاسم من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل فيتساوى الجعل والإجارة ولا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء.
تنبيهان:
الأول: قال في المتيطية: وكره مالك الجعل على الخصومة على أنه لا يأخذ شيئاً إلا بإدراك الحق لأنه لا يعرف لفراغها غاية فإن عمل هذا فله أجر مثله. اهـ. وقال قبل ذلك: ويجوز في أحد قولي مالك أن يجاعل الطبيب على البرء والخصم على إدراك الحق وهو المعمول به عند الموثقين. اهـ. ونحوه في المجالس المكناسية، وما تقدم في الطبيب محله إذا كان الدواء من عند العليل وإلا لم يجز لأنه غرر إن برئ أخذ حقه وإلاَّ ذهب دواؤه باطلاً. قال ابن ناجي: وبه حكمت ونظمه في العمل المطلق.
الثاني: من سرق له شيء أو ضاع له مثلاً فالتزم ربه الجعل المسمى بالبشارة اليوم، فإنه يجوز ذلك الالتزام ويقضي للمبشر بأخذه بشرطين أن يلتزم له ذلك قبل وجود المسروق ونحوه، وأن يكون مكانه مجهولاً، فمن وجد الآبق أو المسروق أو علم مكانهما ثم جاء إلى ربه، فطلب أن يلتزم له بالبشارة على رده أو على الدلالة على مكانه فلا جعل له وإن قبضه رده قال في العمليات:
وخذ بشارة بجعل جعلا ** قبل الوجود والمكان جهلا

انظر الأنقال على ذلك في شرحه، لكن ذكر أبو العباس الملوي في بعض تقاييده ونحوه في شرح العمل المذكور أن بعض قضاة فاس أفتى بوجوب الحكم بالبشارة مطلقاً مراعاة للمصالح العامة وخوفاً من ضياع أموال المسلمين بكتمان الضوال والمسروق. قال: وقد نص العلماء على أن الفتوى دائرة على مقتضى الحال وحيث أخذت البشارة من المسروق له، فإنه يرجع بها على السارق لأنه ظالم تسبب في إغرام رب البشارة. قلت: وهذه الفتوى جارية على ما تقدم عن ابن سراج وغيره من رعي المصالح وعلى مقتضاها عامة المسلمين اليوم فلا يستطيع أن يردهم عن كتمان الضوال راد إن لم يأخذوا البشارة والله أعلم.
(ولا يحد بزمان لاحق) أي لا يجوز أن يؤجل عمل الجعل بأجل ولا يقدر بزمن كيوم أو عشرة مثلاً لأنه قد ينقضي الأجل قبل تمام العمل، فيذهب سعيه باطلاً. (خ): بلا تقدير زمن إلا بشرط ترك متى شاء فيجوز حينئذ ضرب الأجل فيه كما مر، وذلك لأنه مع عدم الشرط دخل على التمام فقوى الغرر بسبب ذلك مع ضرب الأجل، بخلاف ما إذا شرط الترك متى شاء مع الأجل فقد دخلا على التخيير فخف بذلك الغرر وسكت الناظم عن شرط النقد فيه وهو ممنوع لتردد المنقود بين السلفية والثمنية لا إن نقد تطوعاً فيجوز، وهل على اختلافهما في قدر الجعل وحكمه أنه كالصانع، فإن كان الآبق مثلاً محوزاً بيده وأشبه قوله، فالقول له أشبه الجاعل أم لا، وإلاَّ صدق الجاعل إن أشبه وإلا تحالفا وكان له جعل مثله.