فصل: (فرع: دخول البريد مكة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:وجوب العمرة]

وأما العمرة: فهل تجب؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (لا تجب، ولا أرخص بتركها لمن قدر عليها).
وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو قول الشعبي، وروي ذلك عن ابن مسعود من الصحابة؛ لما روى جابر: «أن رجلا سأل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، العمرة واجبة؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» وروى سراقة بن مالك أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأراد: أن وجوبها دخل في وجوب الحج.
ولأنها نسك لا تختص بوقت معين، فلم تكن واجبة بالشرع، كطواف القدوم.
والثاني: قال في الجديد: (هي وجبة). وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: عطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وروي عن ابن عمر، وابن عباس: أنهما كانا يقرآن، (وأقيموا الحج والعمرة لله)، والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد.
وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»
ووجه الدلالة منه: أنها سألته عن وجوب الجهاد على النساء؟ فقال: نعم، وفسره بوجوب الحج والعمرة.
وروى جابر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحج والعمرة فريضتان، لا تبال بأيهما بدأت».
ولأنها عبادة من شرطها الطواف، فجاز أن تكون واجبة بالشرع، كالحج.
وأما الخبر الأول: فغير صحيح؛ لأنه رواية الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف مدلس، وإن صح... فيحمل على: أن الرجل سأله عن وجوب العمرة في حق نفسه، فعلم النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاله، وأنها لا تجب عليه، بدليل أنه قال له: «وأن تعتمر خير لك»، ولو كان السؤال على العموم.. لقال: وأن تعتمروا خير لكم.
وأما الخبر الثاني: فلا حجة في ظاهره؛ لأنه يقتضي: أن العمرة قد كانت واجبة، ودخل وجوبها في وجوب الحج، وهذا لا يقوله أحد، وإذا كان ذلك كذلك.. كان له تأويلان:
أحدهما: أن وقت العمرة دخل في وقت الحج إلى يوم القيامة؛ لأن العرب كانت لا ترى العمرة في أشهر الحج، فأمرهم النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتمروا في أشهر الحج، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
والثاني: أنه أراد أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج، إذا جمع بينهما القران.
وأما طواف القدوم: فليس من الأفعال الراتبة في الحج، وإنما هو لتعظيم البيت، فلم يجب كتحية المسجد.
إذا ثبت هذا: فإن الحج والعمرة لا يجبان - بالشرع - في العمر إلا مرة واحدة.
وقال بعض الناس: يجب في كل سنة. وهذا القائل محجوج بإجماع الأمة، وبما روي: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقام رجل فقال يا رسول الله، الحج واجب في كل سنة؟ فسكت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعادها ثانيا، فسكت، فأعادها ثالثا، فقال: لو قلت نعم.. لوجب، ولو وجب.. لم تقوموا به»
وروي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله: الحج في الدهر مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما زاد فهو تطوع».
«وروي أنه قيل له: يا رسول الله، أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد»

.[مسألة:دخول مكة لغير الحج]

ومن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة... فهو ينقسم على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يدخلها لقتال، مثال: أن يكون فيها قوم بغاة على الإمام، فيحتاج إلى
قتالهم، أو يدخلها خائفا من ظالم، أو يخاف غريما له يلازمه ويحبسه، ولا يتمكن من أداء حقه، فيجوز له أن يدخلها بغير إحرام؛ لـ «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم الفتح وعلى رأسه المغفر»، وهذه صفة من ليس بمحرم.
فإن قيل: فهذا كان خاصا له لأنه قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة حرام، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار».
فالجواب: أن معناه: أحلت لي ولمن هو في مثل حالي.
فإن قيل فعندكم: أنه دخلها مصالحا. قلنا: إنما وقع منه الصلح مع أبي سفيان، ولم يك ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنا من غدرهم، فلذلك دخلها بغير إحرام.
والضرب الثاني: أن يدخلها لتجارة، أو زيارة، أو كان مكيا، فسافر إلى غيرها، ثم رجع إلى وطنه.. ففيه قولان:
أحدهما: يستحب له الإحرام، ولا يجب عليه، وبه قال ابن عمر، لما روي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله، الحج مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما زاد فهو تطوع» ولأنه داخل إلى مكة لغير نسك، فلم بجب عليه الإحرام، كالحطابين.
والثاني ـ هو الأشهر ـ: أنه يجب عليه الإحرام؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار».
والضرب الثالث: أن يدخلها لحاجة تتكرر، كالحطابين، والصيادين، ومن ينقل الميرة، فالمنصوص: (أنه يجوز لهم أن يدخلوها بغير إحرام).
غير أن الشافعي قال: (ينبغي لهم أن يحرموا في كل سنة مرة؛ لكي لا يستخفوا بحرمة الحرم، ولا تلحقهم مشقة في ذلك).
والأول أصح؛ لأن دخولهم يكثر، فلو أوجبنا عليهم الإحرام.. شق وضاق، ولا معنى لوجوبه في وقت دون وقت.
وهذا نقل الشيخ أبي حامد.
وذكر المسعودي [" في الإبانة " ق \ 180 "] هل يجب عليهم الإحرام؟ فيه وجهان:
فإن قلنا: يجب الإحرام على من يدخلها لزيارة أو تجارة لا تتكرر، فدخلها بغير إحرام.. لم يجب عليه القضاء.
وقال أبو حنيفة: (عليه أن يقضي، فإن أتى بباقي سنته بحج أو عمرة.. أجزأه عن القضاء).
دليلنا: حديث الأقرع بن حابس، ولأن الإحرام لدخول مكة مشروع؛ لحرمة المكان، فإذا لم يأت به... لم يجب قضاؤه، كتحية المسجد.
فإن قلنا: تحية المسجد لا تقضى؛ لأنها سنة، والإحرام لدخول مكة واجب: فالجواب: أن تحية المسجد لم يسقط قضاؤها، لكونها سنة؛ لأن المسنونات تقضى، ألا ترى أن النوافل الراتبة تقضى، وليست بواجبة، وكذلك التكبيرات في الصلاة والتسبيح، وإنما لم تقض؛ لأنها متعلقة بحرمة المكان.
قال ابن الصباغ: وذكر أصحابنا دليلا آخر: وهو أن إيجاب القضاء يؤدي إلى تسلسل القضاء، فإن الدخول الثاني يجب لأجله أيضا إحرام، وما أتى به كان عما تقدم قبله.
وقد فرع ابن القاص على هذا الدليل، فقال: لا يجب القضاء إلا في مسألة واحدة، وهو إذا دخل بغير إحرام، ثم صار حطّابا... فإنه يجب القضاء؛ لأنه لا يتسلسل القضاء.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الدخول إذا كان بإحرام... كفاه، سواء كان لأجله أو لأجل غيره، كالصوم في الاعتكاف، قال: وهذا كما قلنا - فيمن أفسد القضاء في الحج ـ: لا يجب عليه قضاءان، وإنما يجب عليه قضاء واحد. والدليل الصحيح: ما تقدم.

.[فرع: دخول البريد مكة]

وأما البريد: فإنه يتكرر دخوله، قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: هم مثل الحطّابين، ومنهم من قال: فيه وجهان.

.[مسألة:شروط الحج]

ولا يجب الحج والعمرة، إلا على مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع.
فأما الكافر: فإن كان أصليا: فلا يصح منه؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما أعرابي حج، ثم هاجر... فعليه حجة الإسلام» وأراد بقوله: «هاجر " أي: أسلم. وهل يأثم بتركه
في حال كفره؟ فيه وجهان، بناء على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات.
وإن كان مرتدا... لم يصح منه؛ لأن الكفر ينافي العبادات، فلا يصح فعلها معه، كالصلاة والصوم، ولكنه يأثم بتركه في حالة الردة؛ لأنه قد التزم وجوبه بالإسلام، فلا يسقط بالردة.
وأما المجنون: فلا يصح منه؛ لأنه ليس من أهل العبادات، ولا يجب عليه؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة " فذكر فيه: «وعن المجنون حتى يفيق».

.[مسألة:حج الصبي]

وأما الصبي: فلا يجب عليه الحج؛ للخبر، ولأن الحج من عبادات البدن، فلا يجب عليه، كالصلاة والصوم.
ويصح منه، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الحج من الصبي، وإنما يأذن له الولي في الإحرام؛ ليتعلم أفعال الحج، ويجتنب ما يتجنب المحرم، فإن فعل شيئا من ذلك.. فلا فدية عليه).
دليلنا: ما روى ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قفل من مكة، فلما بلغ الروحاء.. لقيه ركب، فقال: «من القوم؟» قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: «رسول الله " فرفعت امرأة صبيا من محفتها، وقالت: يا رسول الله، ألهذا الصبي حج؟ فقال: نعم، ولك أجر»
وروي «عن ابن عباس: قال: خرجنا مع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكنا نحرم عن أنفسنا وعن الصبيان»
ولأن الحج عبادة يصح التنفل بها، فصحت من الصبي، كالطهارة.
إذا ثبت هذا: فإن كان الصبي مميزا وأحرم بإذن الولي صح إحرامه، وإن أحرم بغير إذن الوالي ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، وهو قول أبي إسحاق؛ لأنه عبادة، فصح إحرامه فيها بغير إذن الولي، كالصلاة والصوم.
والثاني لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن الحج يتعلق أداؤه بإنفاق المال، والصبي لا يملك إنفاق المال بغير إذن الولي، كالبيع والشراء، بخلاف الصلاة والصوم.
وإن كان الصبي غير مميز.. أحرم عنه الولي.
قال الشيخ أبو حامد: فينوي الولي أنه جعله محرما، فيصير الصبي محرما بذلك، سواء كان الولي محلا أو محرما، وسواء كان الولي قد حج عن نفسه أو لم يحج، فإنه يصح؛ لأنه لا يحرم هو، وإنما يعقد الإحرام له.
وأما الولي الذي يحرم عنه: فذكر الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: إن كان الولي أبا أو جدا.. جاز أن يحرم عنه إن كان غير مميز، ويأذن له في الإحرام إن كان مميزا؛ لأنهما يليان على ماله بغير تولية.
فأما غيرهما من العصبات: كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم.. فإن لهم حقا في الحضانة، وتعليم الصبي وتأديبه، ولا يملكون التصرف في ماله بأنفسهم إلا بوصية من الأب أو الجد، أو تولية من الحاكم، فإن جعل لهم التصرف بماله.. كان لهم أن يحرموا عنه، أو يأذنوا له في الإحرام، وإن لم يجعل إليهم التصرف بماله..فلهم أن يحرموا عنه بالحج، أو يأذنوا له في الإحرام؟ فيه وجهان:
أحدهما: لهم ذلك؛ لأنه لما كان لهم تعليمه وتأديبه والإنفاق على تلك الأشياء من ماله، فكذلك الإحرام بالحج.
والثاني: ليس لهم الإحرام عنه، ولا الإذن له بالإحرام، وهو الصحيح؛ لأنهم لا يملكون التصرف في ماله، فلم يكن لهم الإحرام عنه، ولا الإذن بالإحرام كالأجانب، ويخالف النفقة على التأديب والتعليم؛ لأنه نفل، فسومح به.
وأما الأم: فإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأنها تلي على ماله بنفسها.. فلها أن تحرم عنه، وقد احتج الإصطخري بهذا الخبر، حيث قال لها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم، ولك أجر»
وإن قلنا بمذهب الشافعي، وأنها لا تلي بنفسها على مال الصبي.. فهي كسائر العصبات: من الإخوة وبينهم، والأعمام وبينهم، وقد ذكرنا حكمهم.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في "المهذب" أن الأم تحرم عنه؛ للخبر، ويجوز للأب والجد أن يحرما عنه، قياسا على الأم.
قال ابن الصباغ: وليس في الخبر ما يدل على أن الأم أحرمت عنه، ويحتمل أن يكون أحرم عنه وليه، وإنما جعل لها الأجر بحملها له، ومعونتها له على مناسك الحج، والإنفاق عليه.
إذا تقرر ما ذكرناه، وصح إحرام الصبي... فإنه يفعل بنفسه ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه.. يفعله عنه الولي؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نحج بصبياننا، فمن استطاع منهم.. رمى، ومن لم يستطع.. رمي عنه).

.[فرع: نفقة الصبي في الحج]

وأما نفقة الصبي في الحج: قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب أن القدر الذي يحتاج إليه من النفقة في الحضر يكون في ماله، وما زاد على ذلك لأجل الحج.
فيه وجهان. وأما القاضي أبو الطيب: فحكاهما قولين، واختار ذلك الشيخ أبو إسحاق صاحب "المهذب" إلا أنه قال: وفي نفقة حج الصبي قولان - ولعله أراد ما زاد لأجل الحج:
أحدهما: يتعلق بمال الصبي؛ لأنه يتعلق بمصلحته، فهو كأجرة التعليم.
والثاني: في مال الولي، وهو الصحيح؛ لأنه أدخله فيما له منه بد.
قال الشيخ أبو حامد: ويفارق أجرة التأديب والتعليم؛ لأن ذلك نفقة يسيرة ولا تجحف بماله، ونفقة الحج كثيرة. ولأن بالصبي حاجة إلى تعلم القرآن الصلاة قبل البلوغ ليتمرن عليه ولا يكسل عن ذلك بعد البلوغ، ولا حاجة به إلى التطوع بالحج. ولأن الصلاة تجب على الفور إذا بلغ، ومن شرط صحتها القراءة، فإذا لم يتعلم القراءة قبل البلوغ.. احتاج إلى أن يتعلمها بعد البلوغ، وإلى أن يتعلمها تفوته الصلاة، بخلاف الحج، فإنه على التراخي.

.[مسألة:حج العبد]

وأما العبد: فلا يجب عليه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلم يجب عليه، فإن أحرم بإذن المولى.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل العبادات، وإن أحرم بغير إذن المولى.. صح إحرامه، وللمولى أن يحلله منه؛ لأن عليه ضررا في بقائه على الإحرام.
وقال داود: (لا يصح إحرامه بغير إذن المولى).
دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأيما عبد حج ثم أعتق.. فعليه حجة الإسلام». ولم
يفرق بين أن يحرم بإذن سيده أو بغير إذنه، ولأنها عبادة بدنية، فصحت منه بغير إذن سيده، كصلاة النافلة.
فإن إذن له السيد بالإحرام، ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يحرم العبد، وعلم العبد بذلك.. بطل الإذن، فإن أحرم بعد ذلك.. كان له أن يحلله؛ لأن إذنه الأول قد زال، فصار كما لو لم يأذن له. وإن لم يعلم العبد بالرجوع، حتى أحرم.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو أحرم بغير إذنه.
والثاني: حكمه حكم من أحرم بإذنه، بناء على القولين في الموكل إذا عزل الوكيل، فتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به.
وإن رجع السيد في الإذن بعد إحرام العبد.. لم يبطل إذنه، ولم يكن له تحليله.
وقال أبو حنيفة: (لا تلزمه الإقامة على الإذن، وله تحليله).
دليلنا: أنه عقد لازم، عقده بإذن السيد، فلم يكن للسيد منعه منه، كالنكاح.

.[فرع: ارتكاب العبد لما يوجب الفدية]

وإن ارتكب العبد شيئا من محظورات الإحرام، مثل: أن تطيب أو لبس أو قتل صيدا. وجبت الفدية على العبد؛ لأنها وجبت بجنايته، ويجب الصوم عليه؛ لأنه لا يملك المال، وللسيد منعه من الصوم؛ لأنه وجب عليه بغير إذنه.
وإن ملكه السيد مالا، وأذن له أن يفتدي به، فإن قلنا: إنه لا يملك المال.. لم يكن له أن يفتدي به، وإن قلنا: إنه يملك المال... كان له أن يفتدي به.
وإن أذن له في التمتع أو القران، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال إذا ملكه السيد.. ففرضه الصوم، وليس للسيد منعه منه؛ لأنه وجب عليه بإذنه.
وإن قلنا: إنه يملكه إذا ملكه السيد.. فهل يلزم السيد أن يدفع إليه المال ليفتدي به؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه أذن له في سببه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه أذن له في الإحرام، فلم يلزمه ما يجب بسببه، ألا ترى أن العبد إذا أذن له السيد في النكاح... فإن النفقة والمهر لا يجبان في مال السيد، وإنما يجبان في كسب العبد.

.[فرع: حج الصبي والعبد باعتبار كمالهما]

فإن حج الصبي ثم بلغ بعد الفراغ من الحج، أو حج العبد ثم أعتق بعد الفراغ منه.. لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما صبي حج، ثم بلغ.. فعليه حجة أخرى، وأيما أعرابي حج، ثم هاجر... فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق فعليه حجة أخرى».
وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد في الإحرام.. نظرت: فإن كان بعد الوقوف بعرفة، وبعد فوات وقته.. لم يجزئهما عن حجة الإسلام؛ لأن معظم الحج قد فات في حال النقصان، فلم يجزئهما، كما لو أدرك الإمام بعد الركوع.. فإنه لا يحتسب له بتلك الركعة.
وإن كان قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف.. أجزأهما عن حجة الإسلام. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجزئهما).
ولا يتصور الخلاف مع أبي حنيفة، إلا في العبد، فأما الصبي: فلا يصح إحرامه عنده.
دليلنا: أنه وقف بعرفة، وهو كامل في إحرام صحيح، فوجب أن يجزئه عن حجة الإسلام، كما لو كان كاملا حال الإحرام.
وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد بعد الوقوف، وقبل فوات وقته، مثل: أن كان ذلك ليلة النحر بالمزدلفة، ولم يرجعا إلى عرفة.. فهل يجزئهما عن حجة الإسلام؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي عباس بن سريج: أن يجزئهما؛ لأنهما كملا في وقت الوقوف، فأجزأ ما تقدم من وقوفهما، كما لو أحرما، ثم كملا.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: أنه لا يجزئهما؛ لأنهما لم يقفا بعرفة في حال الكمال، فلم يجز عنهما، كما لو كملا بعد مضي وقت الوقوف.

.[فرع: سعي الصبي والعبد قبل كمالهما]

وإن سعى الصبي أو العبد عقيب طواف القدوم، ثم بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف.. فهل يجزئهما ذلك السعي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 210أحدهما: ولم يذكر في "الإفصاح" غيره: أنه لا يجزئ عنهما؛ لأنهما أديا بعض فرائض الحج في حال النقص، فلم يجزئهما، كما لو وقف بعرفة. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق" غيره: أنه يجزئهما؛ لأنهما قد وقفا بعرفة في حال الكمال، فأجزأهما السعي المتقدم، كالإحرام.

.[مسألة:شروط الاستطاعة]

وأما غير المستطيع: فلا يجب عليه الحج والعمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97].
والمستطيع اثنان: مستطيع ببدنه، ومستطيع بغيره.
فأما المستطيع ببدنه: فله شروط: أحدها أن يكون صحيح البدن.
الثاني: أن يكون واجدا للزاد والماء بثمن المثل، في المواضع التي جرت العادة بوجوده فيها.
الثالث: أن يكون واجدا لراحلة تصلح لمثله، إن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة.
الرابع: أن يكون الطريق آمنًا.
الخامس: أن تجتمع هذه الشروط، وقد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج، فإن كان مريضا تلحقه مشقة غير معتادة في الركوب.. لم يلزمه الحج:
لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، فمات ولم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا».

.[فرع: عدم لزوم الحج لغير واجد الزاد]

وإن لم يجد الزاد.. لم يلزمه الحج، وروي ذلك: عن ابن عباس وابن عمر.
وقال ابن الزبير، وعكرمة، وعطاء: (الاستطاعة صحة البدن).
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل الذي قال الله تعالى؟ قال: الزاد والراحلة»
وإن وجد الزاد، ولم يجد الماء.. لم يجب عليه الحج؛ لأن الحاجة إلى الماء أشد وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن مثلهما في المواضع التي جرت العادة بوجودهما فيه.. لم يجب عليه الحج؛ لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن مثله كعدمه.

.[فرع: حكم الراحلة]

وإن لم يجد راحلة، أو وجدها بأكثر من ثمن مثلها أو أجرة مثلها، أو وجد راحلة لا تصلح لمثله، بأن يكون شيخا أو شابا مترفا لا يقدر على الركوب إلا بالمحمل والعمارية... لم يجب عليه الحج، حتى يجد ذلك.
هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: (الراحلة ليست بشرط، فإذا كان قادرا على المشي، أو عادته
المشي.. وجب عليه الحج)، وكذلك لا يعتبر عنده أن يكون مالكا للزاد، بل إذا كان قادرا على تحصيله بصنعة أو سؤال الناس ومن عادته السؤال.. وجب عليه الحج.
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل؟ فقال: الزاد والراحلة»
وروى علي: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه، فلم يحج.. فليمت، إن شاء يهوديا أو نصرانيا»، وفي بعض الأخبار: «ولا عليه، أن يموت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا».
فلما علق الوعيد في ترك الحج على من وجد الزاد والراحلة.. دل على: أن وجودهما شرط في وجوب الحج، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكان من شرط وجوبها الزاد والراحلة، كالجهاد.
فإن وجد الزاد والراحلة لذهابه دون رجوعه، فإن كان له في البلد أهل.. لم يجب عليه الحج، وإن لم يكن له أهل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأن البلاد في حقه سواء.
والثاني: لا يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن عليه مشقة في المقام بغير وطنه.