فصل: (فرع: رجوع الباذل ببذله)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: رجوع الباذل ببذله]

وهل يجوز للباذل الرجوع عنه بعد البذل؟ ينظر فيه:
فإن كان قد أحرم عن المبذول عنه.. لم يجز له الرجوع؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيه. وإن كان لم يحرم عنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له الرجوع؛ لأنه قد لزم المبذول له الحج ببذله، فلزم الباذل.
والثاني: يجوز له الرجوع، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجب عليه البذل، فلم يلزمه بالبذل حكم.

.[فرع: وجوب الحج على المطاع بيسار ولده أو ببذل الأجنبي]

فإن كان الولد المطيع معضوبا، لا يقدر على الحج عن والده بنفسه، ولكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه، وبذل له ذلك.. فذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ في "التعليق" و " المجموع " و "الشامل": أنه يجب الحج على المبذول له بذلك وجها واحدا؛ لأنا قد أقمنا المطيع مقام المطاع، وقد ثبت أن اليسار الذي في المطيع لو كان في المطاع.. لوجب عليه الحج به، فكذلك إذا كان فيمن أقمناه مقامه.. وجب عليه الحج بذلك.
فأما إذا بذل الولد لوالده المال ليستأجر هو به عن نفسه من يحج عنه، أو كان الوالد صحيحا معسرا فبذل له الولد المال ليحج عن نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الحج بذلك، كما يلزمه الحج إذا بذل الحج لا بنفسه.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه لا يصير قادرا على الحج إلا بعد تملك المال، وتملك المال اكتساب، والاكتساب لا يجب عليه. والفرق بينه وبين بذل الحج بالبدن: أن الإنسان لا يلحقه كثير منة بعمل البدن، وتلحقه المنة العظيمة بقبول قليل المال.
وأما إذا بذل له الأجنبي المال؛ ليستأجر به عن نفسه، أو يحج به عن نفسه.. قال صاحب "الفروع":
فإن قلنا في الولد: لا يلزمه.. ففي الأجنبي أولى أن لا يلزمه.
وإن قلنا: يلزمه ببذل الولد له ذلك.. ففي الأجنبي وجهان، الصحيح: أنه لا يلزمه؛ لأن مال ولده كماله في النفقة وغيرها، بخلاف مال الأجنبي.

.[مسألة:الحج على التراخي]

إذا وجدت شرائط وجوب الحج.. وجب عليه الحج، ويجوز له أداؤه على التراخي.
والمستحب له: أن يقدمه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: الحج يجب على الفور، فمتى أخر الحج عن أول سنة يمكنه الحج فيها.. أثم، وبه قال مالك، وأحمد، والمزني، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة. وليس بمشهور عنه.
واحتجوا بقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه الحج، فلم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، أو نصرانيا»، فلو كان على التراخي.. لما توعده.
دليلنا: ما روي: أن فريضة الحج أنزلت سنة ست من الهجرة، وحكى الطبري وجها آخر: أنه كان واجبا قبل الهجرة، وليس بشيء.
وبالإجماع: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحج إلا سنة عشر من الهجرة ومعه مياسير الصحابة، مثل: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما، فلو كان الحج على الفور.. لما جاز لهم التأخير مع إمكانه.
فإن قيل: إنما أخره النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سنة عشر؛ لأن المشركين صدوه عن المسجد الحرام، أو كان غير واجد للزاد والراحلة إلى سنة عشر.
فالجواب: أن هذا غلط؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحصر بالحديبية سنة ست، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فخرج إليه سهيل بن عمرو، وصالحه على: أن يرجع إلى المدينة تلك السنة، ثم يرجع إلى مكة العام المقبل، فرجع إلى المدينة، ثم دخل مكة في العام المقبل معتمرا، ولهذا سميت عمرة القضاء، وقد كان يمكنه أن يجعل بدل العمرة الحج.
وأيضا: فإنه قد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وصارت دار الإسلام وقد بقي بينه وبين الحج مدة قريبة، ولا يكاد يعدم النفقة لتلك المدة، فلم يقم بمكة، بل أمر عليها عتاب بن أسيد، ورجع إلى المدينة، وأمر أبا بكر على الحج سنة تسع، وأردفه بعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسار بعد ذلك إلى قتال هوازن، فلما فرغ منهم اعتمر من الجعرانة، وقد كان بقي بينه وبين الحج عشرون يوما، فلم يقف بل رجع إلى المدينة، ولم يكن عادما للزاد، لأنه روي: «أنه أهدى في عمرته سبعين
بدنة» فلما كان سنة عشر، حج من المدينة، وحج معه مياسير الصحابة، فدل على: أن الحج على التراخي.
وأما الخبر الذي احتجوا به: فلا يدل على أن الحج على الفور؛ لأن من وجد الزاد والراحلة فلم يحج حتى مات.. فهو متوعد، ونحن نقول: إنه يأثم.
ولأن التعلق بظاهر الخبر لا يمكن؛ لأنه يقتضي: أن من وجب عليه الحج، وأمكنه الحج، فلم يفعل حتى مات.. إن موته كموت اليهودي والنصراني، ولا يقول بهذا أحد؛ لأن الإنسان لا يكفر بترك الحج، فعلم: أن المراد بالخبر إذا تركه ولم يعتقد وجوبه.. فإنه يموت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
إذا ثبت ما ذكرناه: ووجب عليه الحج، فلم يحج حتى مات.. فهل يأثم بذلك؟
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ حكاه القفال ـ: أنه لا يأثم بذلك؟ لأنا جاوزنا التأخير، فلم يفعل شيئا محظورا.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ: إن خاف الكبر والفقر والضعف، فلم يحج حتى مات.. أثم بذلك. وإن اخترمته المنية قبل خوف الفوات.. لم يأثم؛ لأنه لا يمتنع أن يعلق الحكم على غلبة ظنه، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]. وأراد: إذا غلب على ظنه.
والثالث ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يأثم؛ لأنه إنما جاوزنا له التأخير بشرط السلامة، كما جوز للمعلم ضرب الصبي، وللزوج ضرب زوجته بشرط السلامة، فأما إذا أفضى ضربهما إلى التلف.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا بهذا: فمتى يأثم؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يأثم بتأخيره عن السنة الأخيرة التي فاته الحج بتأخيره عنها؛ لأن الفوات حصل بها.
والثاني: يأثم بتأخيره عن السنة الأولى؛ لأنه إنما جوز له التأخير عنها، بشرط أن يفعله بعدها، فإذا لم يفعل.. تبين أنه أثم بتأخيره عنها.
والثالث: أنه يأثم لا في وقت بعينه، وإنما يحكم عليه بالموت قبل الحج بالإثم.
والرابع: أنه يأثم من حين تبين في نفسه الضعف والكبر؛ لأنه كان من سبيله أن يحج قبل ذلك.
فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فلم يصل حتى مات.. فهل يكون عاصيا؟
إن قلنا: لا يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة أولى أن لا يكون عاصيا.
وإن قلنا: يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة وجهان.
والفرق بينهما: أن لوقت الصلاة آخرا معلوما، فلا يكون عاصيا مفرطا بالتأخير إليه، وليس لوقت الحج آخر معلوم؛ لأن آخر وقته العمر، وذلك غير معلوم، فكان من سبيله التعجيل، فإذا لم يفعل.. كان عاصيا.

.[مسألة:الحج عن الميت]

إذا وجدت في الإنسان الشرائط التي يجب عليه بها الحج، فمات قبل أن يتمكن من الأداء.. لم يجب عليه القضاء.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": أن أبا يحيى البلخي قال: يجب القضاء من ماله.
وليس بشيء؛ لأنه مات قبل أن يتمكن من أدائه، فلم يجب عليه القضاء، كما لو هلك المال بعد الحول، وقبل التمكن من أداء الزكاة
فإن وجدت فيه الشرائط، وتمكن من فعل الحج، فمات.. لم يسقط عنه الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يسقط عنه بموته، ولا يجوز الحج عنه، إلا إذا أوصى، ويكون تطوعا).
دليلنا: «أن المرأة الخثعمية قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم»، قالت: أو ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته.. نفعه»، فأذن لها بالحج عن أبيها، ولم يسأل عنه: أحي هو أم ميت؟ ولم يفرق بين أن يوصي أو لم يوص، ولأنه شبهه بقضاء الدين، وقضاء الدين يجوز بعد الموت بغير وصية، فكذلك الحج.
«وروى ابن عباس: أن امرأة سألته أن يسأل لها رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن أمها ماتت ولم تحج، فهل يجزئها أن تحج عنها؟ فقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو كان على أمها دين فقضته عنها.. أما كان يجزئ عنها؟»
ولأنه حق تدخله النيابة، استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين.
فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الصلاة والصوم.
وقولنا: (استقر وجوبه في حال الحياة) احتراز منه إذا مات قبل أن يتمكن منه، ومن مال الكتابة؛ لأنه يسقط بموت المكاتب.
إذا ثبت هذا: فإن كان له مال.. قضي عنه من رأس المال، وذكر الشافعي في موضع: (أنه لو قيل: إن أوصى بحج.. حج له من الثلث، وإن لم يوص.. لم يحج).
قال صاحب "الإبانة" [ق\ 174] فمن أصحابنا من جعل هذا قولا آخر.
ومنهم من قال: يحج عنه من رأس المال قولا واحدا، وهو الصحيح.
وحيث قال: (يحج عنه من ثلثه) إنما قاله حكاية لمذهب أبي حنيفة؛ لأنه مذهبه.
وإن اجتمع الحج والدين، وضاقت التركة عنهما.. ففيه ثلاثة أقوال، ذكرناها في الزكاة.
وإن لم يكن له مال.. لم يجب على وارثه أن يحج عنه، فإن تطوع عنه وارثه جاز، ويكون بالخيار: بين أن يحج عن نفسه بنفسه، أو يستأجر من يحج عنه من ماله، وإذا فعل ذلك.. سقط الفرض عنه، ولا يفتقر إلى إذنه؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الإذن.

.[مسألة:النيابة في الحج]

الحج تدخله النيابة، ويقع الحج عن المحجوج عنه، وهي رواية الأصول عن أبي حنيفة.
وروي عنه رواية شاذة، رواها عنه محمد: أن الحج لا يدخله النيابة، وإذا استناب.. وقع الحج عن الحاج، وللمحجوج عنه أجر النفقة.
دليلنا: ما ذكرناه من خبر الخثعمية، وخبر ابن عباس، ولأنها عبادة تدخلها الاستنابة، فدخلتها النيابة، كالزكاة.
والمراد بقولنا: (الاستنابة): هو أنه يلزمه أن يدفع المال إلى من يحج عنه.
إذا ثبت هذا: فيجوز للرجل أن يحج عن الرجل والمرأة، ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل والمرأة.
وقال الحسن بن صالح: يكره أن تحج المرأة عن الرجل.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث الخثعمية.

.[فرع: مواضع الإنابة في الحج]

ويجوز النيابة في حج الفرض في موضعين:
أحدهما: في حق الميت: لحديث ابن عباس الذي تقدم.
والثاني: في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة؛ لما ذكرناه من حديث الخثعمية.
فأما إذا أراد الصحيح أن يستأجر من يحج عنه حجا واجبا أو تطوعا، أو أراد إنسان أن يحج عن المعضوب بغير إذنه، أو أراد إنسان أن يحج عن الميت حجا ليس بواجب عليه ولم يوص به.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب: أنه لا يجوز النيابة في هذه المسائل.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز للصحيح القادر أن يستنيب في حج التطوع).
دليلنا: أنه قادر على أداء الحج بنفسه، فلم تجزه الاستنابة فيه، كالفرض.
فإذا أراد المعضوب أن يستأجر من يحج عنه تطوعا، أو أوصى الميت أن يحج عنه تطوعا.. فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن كل عبادة دخلت النيابة في فرضها.. دخلت النيابة في نفلها، كالزكاة، وعكسه الصلاة والصوم.
والثاني: لا يجوز، وهو اختيار المحاملي؛ لأنه من عبادة البدن، وإنما دخلت النيابة في الفرض منه لموضع الضرورة، ولا ضرورة إلى التطوع.
ودليل هذا القول: ينكسر بالتيمم.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: تجوز النيابة في حج التطوع.. جاز للمعضوب أن يستأجر من يحج عنه حجتين وثلاثا وأكثر، وكذلك تجوز الوصية بحجتين وثلاث وأكثر، ويستحق الأجير الأجرة المسماة.
وإن قلنا: لا تجوز النيابة في حج التطوع، فخالف المعضوب واستأجر من يحج عنه أو أوصى بذلك، وحج الأجير عنه.. كانت الإجارة فاسدة، ووقع الحج عن الأجير، ولا يستحق الأجير المسمى قولا واحدا، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن الإحرام انعقد له، فلم يستحق أجرة، كما لو استأجر صرورة.
والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأنه لم يبذل له منافعه إلا بعوض يحصل له، وقد تلفت عليه تلك المنافع؛ لأنه لم يحصل له بالحج فائدة؛ لأن فرضه لم يسقط به، فاستحق أجره، ولا يحصل له ثواب؛ لأن الثواب إنما يكون على القصد، ولم يقصد التطوع عن نفسه، فاستحق أجرة المثل، كما لو غصب من رجل شيئا، واستأجر من ينقله من مكان إلى مكان.. فإن الناقل يستحق عليه الأجرة، ويخالف الصرورة؛ فإن الفرض يسقط عنه، فحصل له الثواب.

.[فرع: استحقاق الأجير أجره بصرفه الإحرام لنفسه]

إذا أحرم الأجير عن المستأجر في موضع يصح إحرامه عنه فيه، ثم بعد ذلك صرف الأجير الإحرام إلى نفسه، وأتى بالأفعال معتقدا أنها عن نفسه.. لم ينصرف إليه؛ لأن الإحرام إذا انعقد عن شخص.. لم ينتقل إلى غيره، وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا أجرة له؛ لأنه قد اعتقد أن الأفعال لنفسه، فلم يستحق أجرتها على غيره.
والثاني: يستحق الأجرة، وهو الصحيح؛ لأن النسك حصل للمحجوج عنه، ولا تأثير لما اعتقده الأجير، كما لو استأجره لبناء، فبناه معتقدا أنه لنفسه.

.[فرع: استنابة المريض]

وأما المرض: فضربان:
ضرب: خفيف لا يخشى منه التلف، كالصداع، ووجع العين والضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز أن يحج الغير عنه فيه بلا خلاف؛ لأنه متمكن منه بنفسه.
والضرب الثاني إن كان المرض مخوفا، فإن كان غير ميؤس من برئه.. لم يجز له أن يستنيب الغير، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز).
دليلنا: أنه غير ميؤس من حجه بنفسه، فلا يجوز له الاستنابة، كالفقير.
إذا ثبت هذا: فإن خالف، فاستناب عن نفسه من حج عنه.. نظرت: فإن برئ من مرضه.. وجب عليه إعادة الحج بنفسه؛ لأن الأول لم يقع عنه. وإن مات من ذلك المرض أو صار ميؤسا منه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان:
أحدهما: يجزئه لأنا تبينا أن المريض كان ميؤسا منه، حيث اتصل به الموت.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه استناب وهو غير ميؤس منه، فأشبه إذا برئ.
فأما إذا كان ميؤسا من برئه.. جاز له أن يستنيب.
فإن حج عنه.. نظرت: فإن مات.. فقد أجزأه. وإن برئ من مرضه.. ففيه طريقان:
الطريق الأول من أصحابنا من قال: فيه قولان كالأولى:
أحدهما إن قلنا ثَمَّ: يجزئه اعتبارا بما آل إليه.. لم يجزئه هاهنا؛ لأنه آل إلى الصحة.
والثاني: إن قلنا ثَمَّ: لا يجزئه اعتبارا بحال الاستنابة.. فهاهنا يجزئه؛ لأن حال الاستنابة كان محكوما بإياس البرء منه.
والطريق الثاني من أصحابنا من قال: لا يجزئه قولا واحدا؛ لأنا تبينا أنه لم يكن ميؤسا منه، وإنما أخطأنا في ظننا، فيجب عليه أن يحج بنفسه.
فكل موضع قلنا: يصح الحج عن المريض.. استحق الأجير الأجرة المسماة. وكل موضع قلنا: لا يقع الحج عن المريض.. فقد وقع عن الأجير، ولم يستحق الأجرة المسماة، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان، كما قلنا في الأجير، إذا صرف الإحرام إلى نفسه.

.[فرع: الاستنابة عن المجنون]

الجنون غَيْر ميؤس من زواله، فإذا وجب عليه الحج، ثم جن.. لم يجز أن يستنيب من يحج عنه.
قال ابن الصباغ: فإذا استنيب عنه في حال جنونه من يحج عنه، ثم أفاق.. لزمته الإعادة قولا واحدا. فإن مات فيه.. فينبغي أن يكون على القولين، مثل التي قبلها.

.[مسألة:الاستنابة لمن عليه الحج]

لا يجوز لمن عليه حجة الإسلام، أو حجة نذر أو قضاء أن يحج عن غيره، وكذلك في العمرة.
فإن أحرم عن غيره.. وقع الحج عن الحاج، لا عن المحجوج عنه، وبه قال ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى: (أنه لا ينعقد عنه، ولا عن غيره).
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يحج عن غيره، وعليه فرض الحج، أو نذره أو قضاؤه).
وقال الثوري: إن كان قادرا على الحج عن نفسه.. لم يجز أن يحج عن غيره، وإن كان غير قادر لعدم الزاد والراحلة. جاز أن يحج عن غيره.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا يلبي عن شبرمة، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن شبرمة؟» قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحججت عن نفسك؟» فقال: لا، قال: فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة»
ومعنى قوله: «حج عن نفسك» أي: استدم هذا الحج عن نفسك؛ لأن المتلبس بالشيء إذا خوطب بفعله.. فمعناه الاستدامة له، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] أي استديموا الإيمان.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] وأراد استدام التقى؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يفارقه التقى.
وقد روي عنه: أنه قال له: «هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة،» وهذا نص.
ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فلم يقع فعله عن غيره وعليه فرضه، كطواف الزيارة.
ولا يجوز أن يحج العبد عن غيره وإن كان بإذن سيده؛ لأنه لم يحج عن نفسه حجة الإسلام، فلم يصح أن يحج عن غيره، كالصبي والكافر.

.[فرع: إحرام التطوع والنذر لمن عليه حجة الإسلام]

وحكم تسمية الصرورةولا يجوز أن يحرم بتطوع الحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك لا يجوز أن يحرم بهما عن النذر وعليه فرضهما.
فإن أحرم عن النذر، أو عن التطوع وعليه حجة الإسلام.. انصرف إلى فرض حجة الإسلام.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يتطوع بالحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك يأتي بالنذر عنهما وعليه فرضهما).
دليلنا: أنه أحرم بالحج وعليه فرضه، فوقع عن الفرض، كما لو أحرم مطلقا.
فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن التطوع، أو عن النذر، وعليه فرضه.. انعقد عن الفرض؛ لأنه قائم مقامه، وحكمه في نفسه هكذا، فكذلك من يقوم مقامه.
قال الشافعي: (وأكره أن يسمى من لم يحج صرورة)؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا صرورة في الإسلام» وقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم ليس بصرورة». والكراهية كراهية تنزيه لا تحريم، و(الصرورة) ـ عند العرب ـ: من لم يحج، أومن لم يتزوج، قال النابغة:
لو أنها عرضت لأشمط راهب... عبد الإله صرورة المتعبد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها... ولخاله رشدا وإن لم يرشد

.[مسألة:الاستنابة لحجتين في عام واحد]

إذا كان على المعضوب حجتان: حجة الإسلام، وحجة نذر، فأحرم عنه رجلان بإذنه، في سنة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجرئه عن حجة الإسلام دون حجة النذر؛ لأنه لا يجوز أن يحج عن نفسه في سنة واحدة حجتين، فكذلك من يقوم مقامه عنه.
والثاني: يجزئه عنهما، وهو المنصوص؛ لأنه لا يؤدي إلى وقوع المنذورة قبل حجة الإسلام، بل يقعان معًا.