فصل: (فرع: الإحرام بالحج في غير وقته)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:وجوب الحج في أشهره]

ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر.
وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة: (يصح إحرامه بالحج، ولكن لا يأتي بشيء، من الأفعال قبل أشهر الحج).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
وتقدير الآية: وقت إحرام الحج أشهر، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون تقديرها: وقت أفعال الحج أشهر؛ لأن أفعال الحج تقع في يومين أو ثلاثة، فلا تفتقر إلى الأشهر.
ولأن الله تعالى قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] و(الفرض): هو النية، فثبت أنه: أراد الإحرام.
ولأن الحج عبادة أفعالها مؤقتة، فكان الإحرام به مؤقتا، كالصلاة.
ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فكان مؤقتا، كالوقوف والطواف.
إذا ثبت هذا: فأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وبه قال ابن الزبير، وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن علي وابن عباس.
وقال أبو حنيفة: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، ويوم النحر)، فخالفنا في يوم النحر.
وقال مالك: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وجميع ذي الحجة) وهو قول الشافعي في " الإملاء "، والرواية الأخرى عن علي وابن عباس.
والصحيح هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
و(الرفث): الجماع، والمحرم بالحج يحل له الجماع يوم النحر: لأنه يمكنه أن يطوف ويسعى، ثم يجامع فيه، فثبت أنه: ليس من أشهر الحج؛ ولأن يوم النحر يوم يسن فيه الرمي، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام التشريق. وهذا على أبي حنيفة.
وعلى مالك: أن أيام ذي الحجة زمان لو اعتمر فيه مضافا إلى حجه.. لم يكن متمتعا، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام رمضان، وعكسه: ما قبل يوم النحر.
فإن قيل: الأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة؟
فالجواب: أنه قد يعبر بالجمع عن الاثنين وبعض الثالث، ألا ترى أن الناس يقولون في كتبهم: لثلاث خلون، والمراد به اثنان وبعض الثالثة.

.[فرع: الإحرام بالحج في غير وقته]

فإن أحرم بالحج في غير أشهر الحج.. فالمشهور من المذهب - وهو نقل أصحابنا
البغداديين ـ: أن إحرامه ينعقد بعمرة.
وحكى المسعودي [في "الإبانة"، ق \ 178 و 179] أن الشافعي قال في القديم: (يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة).
فمن أصحابنا من قال: المراد ـ بنصه هذا في القديم ـ: أن إحرامه لا ينعقد بحج ولا عمرة، ولكن يتحلل كما يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة.
ومنهم من قال: بل المراد به: إن شاء صرف إحرامه إلى عمرة.
والصحيح: أنه ينعقد بعمرة.
وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد: (ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يكون مكروها).
دليلنا: أن الحج عبادة مؤقتة، فإذا أحرم به في غير وقته.. لم ينعقد إحرامه، وانعقد ما هو من جنسه، كما لو أحرم بالظهر قبل الزوال.. فإن إحرامه ينعقد بنافلة.
ولا يصح له الإحرام في الحج في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن الوقت يستغرق أفعاله.

.[مسألة:الإحرام بالعمرة في جميع السنة]

وأما العمرة: فيجوز فعلها في جميع السنة، ولا يكره فعلها في وقت من السنة.
وقال أبو حنيفة: (يكره فعلها في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاث).
وقال أبو يوسف: يكره فعلها يوم النحر، وأيام التشريق.
دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق، ولأن كل وقت لم يكره فيه استدامة العمرة.. لم يكره فيه ابتداؤها، كسائر الأوقات.

.[فرع: تكرار العمرة في السنة]

ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثا، وأكثر. ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة). وبه قال النخعي، وابن سيرين.
دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق بين أن تكونا في سنة أو سنتين.
وروي: «أن عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».
وروي عن علي: (أنه كان يعتمر في كل يوم)، وعن ابن عمر: (أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير)، ولأن الحج عبادة تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار، كالصوم، ولأن العمرة إنما سميت عمرة؛ لأنها تفعل في جميع العمر.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تفعل في موضع عامر.
وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.
ويستحب أن يكثر من العمرة في رمضان؛ لما روي: «أن أم معقل الأسدية قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وجملي أعجف، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اعتمري في رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة»

.[فرع: الشك في الإحرام بحج أو عمرة]

وإن أحرم قبل أشهر الحج، ثم شك: هل أحرم بحج أم بعمرة؟ حكم بإحرامه بعمرة، ولا شك فيها.
وإن أحرم بالحج، ثم شك في أشهر الحج: هل كان إحرامه قبل أشهر الحج، أو في أشهر الحج؟ قال الصيمري: فهو في حج؛ لأنه على يقين من هذا الزمان، وفي شك من تقدمه.

.[مسألة:التخيير في كيفية أداء الحج والعمرة]

ومن أراد الحج والعمرة في سنة واحدة.. فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يفرد، أو يتمتع، أو يقرُِن؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حجة الوداع، فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج العمرة...».
إذا ثبت هذا: فالمشهور من المذهب: أن الإفراد والتمتع أفضل من القران، وفي الإفراد والتمتع قولان: أحدهما: أن الإفراد أفضل.
والثاني: أن التمتع أفضل.
وقال أبو حنيفة والثوري: (القران أفضل من الإفراد والتمتع)، واختاره المزني، وأبو إسحاق المروزي، وابن المنذر.
وحكى صاحب "الفروع": أنه قول ثالث للشافعي، ذكره في " أحكام القرآن "، وإنما اختلف في ذلك، لاختلاف الرواية في أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن أو تمتع أو أفرد، فمن قال: إن القران أفضل.. احتج بما روى أنس: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لبيك بحجة وعمرة»
وكذلك رواه عمر بن الخطاب وعمران بن الحصين.
وإذا قلنا: إن التمتع أفضل ـ وبه قال أحمد بن حنبل ـ فوجهه: ما روي عن علي، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تمتع بالحج»، وروي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على حفصة، فقالت: يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر».
وروى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة»، فتأسف على ترك التمتع، فعلم أنه أفضل، ولأنه أتى بالعبادتين في وقت شريف، وهو أشهر الحج، فكان أولى.
وإذا قلنا: إن الإفراد أفضل.. فإنما نريد به: إذا أتى بالحج، ثم أتى بالعمرة بعده، فأما إذا أتى بالحج دون العمرة.. فالتمتع أفضل. وهذا هو الصحيح.
ووجهه: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الودع، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل، وأما أنا: فأهل بالحج»
وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر عن حج النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: (أفرد الحج، ولم يقرن، ولم يتمتع) ثم سأله في العام الثاني؟ فقال: أليس قد سألتني في العام الأول، فأخبرتك؟ فقال: إن أنسا يقول: (إنه قد قرن بين الحج والعمرة) فقال ابن عمر (إن أنسا كان يتولج على النساء، وهن متكشفات لصغره لا يستترن منه، وأنا تحت ناقة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسني لعابها، أسمعه يقول: «لبيك بحج».
وروى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم إحراما موقوفا لا بحج ولا بعمرة، فلما كان بين الصفا والمروة.. انتظر القضاء، فنزل القضاء، وجعل إحرامه حجا)، وفي بعض الروايات: (أمر بالحج».
وأما أخبار من روى: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنا)..» فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن من روى الإفراد أعرف بالقصة، وأكثر ضبطا لها؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي معه في الليل والنهار، فهي أعرف بأموره، وابن عمر كان بالقرب منه، وتحت ناقته، وجابر بن عبد الله اهتم بنقل المناسك أكثر مما اهتم بها سواهُ، ولهذا وصف: أن إحرام النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان موقوفا، وأنه انتظر القضاء، وأنس كان صغيرا، كما قال ابن عمر.
والجواب الثاني: أن نتأولها، فنقول: خبر أنس: أنه سمعه يقول: «لبيك بحجة وعمرة» أي: لبيك بحجة حين كان محرما بالحج، ولبيك بعمرة حين كان محرما بعمرة، فجمع بينهما في الرواية، وهذا كما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استقبال القبلتين» يعني: الكعبة وبيت المقدس، وأراد: أن ذلك كان في وقتين.
وأما حديث علي وابن عباس: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمتع بالحج».. فنحمله على أنه تمتع بالطيب واللباس والحلاق والنساء بعد الفراغ من الحج وقبل العمرة؛ لأنه يسمى تمتعا.
وأما حديث حفصة: فليس على ظاهره؛ لأن أصحاب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكونوا محرمين بالعمرة، وإنما كانوا محرمين بالحج، فكانوا يكرهون الاعتمار في أشهر الحج، فلما قدم النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة.. أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ إحرام الحج، ويتحلل منه بعمل عمرة، فقولها: «حلوا من عمرتهم» تريد: أنهم حلوا من حجتهم بعمل عمرة، وقولها: «وأنت لم تحل من عمرتك» أي: وأنت لم تحل من إحرامك بعمل عمرة. فقال: «لأني لبدت رأسي، وسقت الهدي، وإنما أمرت بفسخ الحج من لم يسق الهدي»، ولهذا قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة»؛ لأن لا أكون في نسك، وهم في نسك غيره؛ لأن التمتع أفضل، ولأن الإفراد مجمع على إباحته، والتمتع والقران مختلف في إباحتهما.
فروي عن عمر وعثمان: (أنهما كرها التمتع)، وكره سلمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان القران، فكان ما أجمع عليه أولى من المختلف فيه.

.[مسألة:معنى الإفراد والتمتع والقران وإدخال الحج على العمرة]

و(الإفراد): هو أن يحرم بالحج، وبعد التحلل منه يأتي بعمرة.
و(التمتع): أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وبعد التحلل منها يأتي بالحج في سنته.
و(القران): هو أن يحرم بحجة وعمرة معا.
فإن أحرم بعمرة، ثم أدخل الحج في أشهر الحج قبل التلبس بالطواف... صح ذلك، وكان قارنا؛ لما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أحرمت بالعمرة، فلما حصلت بسرف حاضت، فدخل عليها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي تبكي، فقال لها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فأهلي بالحج، واصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت ". وفي رواية أخرى: أنه قال لها: «ارفضي عمرتك، وأهلي بالحج»، والمراد بذلك: ارفضي أفعال عمرتك؛ لأن الحيض يمنعها من الطواف دون الإحرام. يدل على ذلك: أنه قال: «طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة.. يكفيك بحجك وعمرتك».
فأما إذا طاف للعمرة، أو أخذ في الطواف، وأراد أن يدخل عليها الحج.. لم يصح إحرامه بالحج، نص عليه الشافعي، واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: العلة فيه: أنه إذا طاف.. فقد أخذ في التحلل، وقرب أن يخرج من عمرته، وإنما يدخل عليها الحج ما دام زمنها تاما.
ومنهم من قال: العلة فيه: أنه قد أتى بمعظم العمرة وأكثر أفعالها، فلم يجز إدخال نسك آخر عليها.
وإن استلم الركن للطواف ولم يمش خطوة في الطواف.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يصح له الإحرام بالحج؛ لأن الاستلام مقدمة للطواف، وليس منه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه أول أبعاض الطواف.

.[فرع: إدخال الحج على العمرة]

وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، أو في غير أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحج في غير أشهر الحج.. لم يصر قارنا، وإنما يتعين إحرامه بالعمرة؛ لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لا يصح.
وإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأدخل عليها الحج في أشهر الحج قبل الطواف.. صح ذلك، وكان قارنا قولا واحدا؛ لأن إحرامه في كل واحد منهما في وقته صحيح.

.[فرع: إدخال العمرة على الحج]

وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة.. فهل يصح؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يصح ويكون قارنا). وبه قال أبو حنيفة: لأنه أحد النسكين، فصح إدخال الآخر عليه، كالعمرة.
[الثاني قال في الجديد: (لا يصح إحرامه بالعمرة). وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن الحج أقوى من العمرة؛ لأن فيه وقوفا ورميا، فلم يصح إدخال الأضعف عليه وإن صح دخوله على العمرة، كما أن الفراش بالنكاح، لما كان أقوى من الفراش بملك اليمين؛ لأنه يتعلق به أحكام كالطلاق والظهار والإيلاء.. صح أن يدخل فراش النكاح على فراش ملك اليمين، وهو إذا كان تحته أمة يطؤها بملك اليمين ثم تزوج أختها.. فإنه يصح النكاح، ويحرم عليه المملوكة، فإن كان عنده زوجة، ثم ملك أختها.. لم يجز له وطء المملوكة.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالجديد.. فلا تفريع عليه، وإن قلنا بالقديم.. جاز إدخال العمرة على الحج قبل الوقوف بعرفة.
وأما إذا وقف بعرفة، ولم يرم، ولم يطف.. فهل يصح إدخال العمرة هاهنا؟ فيه وجهان مبنيان على التعليلين في أنه لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف:
أحدهمافإن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أتى بمعظم العمرة.. لم يجز هاهنا أيضا؛ لأنه قد أتى بمعظم الحج.
والثاني: إن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أخذ في التحلل.. جاز إدخال العمرة هاهنا على الحج؛ لأنه لا يأخذ في التحلل من الحج إلا بالرمي والطواف.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز له أن يعتمر وقد بقي عليه شيء من أفعال الحج. فلا يصح له أن يعتمر يوم النحر، ولا في اليوم الأول من أيام التشريق؛ لأن عليه الرمي وهو من أفعال الحج.
وأما في اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن كان قبل الزوال.. لم يصح؛ لما ذكرناه. وأما بعد الزوال والرمي.. فينظر فيه: فإن نفر وخرج من منى قبل الغروب.. صح له أن يعتمر؛ لأنه بنفره قد سقط عنه رمي يوم الثالث، وإن لم ينفر حتى غابت الشمس.. لزمه رمي يوم الثالث، فلا يجوز له أن يعتمر حتى يرمي في اليوم الثالث.

.[فرع: إدخال الحج على عمرة فاسدة]

وإن أحرم بالعمرة فأفسدها، ثم أدخل عليها الحج.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينعقد الحج، ويكون فاسدا؛ لأنه إدخال حج على عمرة، فأشبه إذا كانا صحيحين.
والثاني: لا ينعقد الحج، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يقال: إن إحرامه بالحج يقع صحيحا؛ لأنه مقارن لفاسد، ولا يجوز أن يقال: إنه ينعقد ويكون فاسدا؛ لأنه لم يطرأ على إحرامه ما يفسده، ولا يفسد بالوطء قبله، فلم يبق إلا أن يقال: لا ينعقد أصلا.

.[مسألة:جواز التمتع وشروط وجوب الدم]

قد ذكرنا أن التمتع جائز، وهو قول كافة أهل العلم، إلا ما روي عن عمر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان ينهى عنه)، فروي عنه: أنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا أنهى عنهما، بل أعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
فأباح التمتع، وأوجب فيه الهدي.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل».
وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالشام: أيجوز التمتع؟ فقال: يجوز، فقال: إن أباك كان ينهى عنه، فقال: أرأيت لو فعل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا، ونهى عنه أبي.. أكنت تأخذ بفعل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بنهي أبي؟ فقال: بل بفعل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (تمتع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمتعنا معه»
قال الشيخ أبو حامد: وما روي عن عمر، فله تأويلان:
أحدهما: أنه كان ينهى عن التمتع الذي فعله أصحاب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو: أن يحرم بالحج، ثم يفسخه إلى عمرة؛ لأن ذلك كان خاصا لهم؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز الاعتمار في أشهر الحج، ففسخ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجهم إلى عمرة؛ ليبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج.
والثاني: أن عمر كان ينهى عن التمتع اختيارا منه للإفراد؛ لكي يزيل الإنسان شعره وشعثه في الحج لا في العمرة.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب على المتمتع دم؛ للآية، وإنما يجب عليه الدم بشروط:
الشرط الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم حج في أشهره.. لم يلزمه الدم.
وقال طاووس: بل يلزمه الدم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
فأقام (إِلَى) مقام (في)؛ لأن حروف الصفات ينوب بعضها مناب بعض، وهذا يقتضي: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج. ولأنه لم يأت بالعمرة في أشهر الحج. فلم يجب عليه الدم، كالمفرد.
فإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى بأفعالها في أشهر الحج... ففيه قولان:
أحدهما: لا دم عليه، وهو قول قتادة، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن جابر؛ لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فهو كما لو فرغ من العمرة قبل أشهر الحج.
والثاني: عليه الدم، وهو قول الحسن، والحكم، وابن شبرمة؛ لأنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج.
فإن طاف للعمرة في غير أشهر الحج.. قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الدم قولا واحدا.
وقال القفال: إذا أتى بالحلاق في أشهر الحج وحده، وقلنا: إنه نسك، وأتى بباقي أفعالها في غير أشهر الحج.. فهل يكون متمتعا؟ فيه قولان، كما لو أحرم بها في غير أشهر الحج، وأتى بباقي أفعالها في أشهر الحج. وهذا يوافق قول مالك، وعطاء، والحسن.
دليلنا عليهم: أنه أتى بأفعال العمرة في غير أشهر الحج، فهو كما لو تحلل منها في غير أشهر الحج.
فإذا قلنا: يجب عليه الدم.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يجب عليه الدم.. فقال أبو العباس بن سريج: إنما لا يجب عليه الدم، إذا مر بالميقات قبل أشهر الحج، فأما إذا مر بالميقات في أشهر الحج.. لزمه الدم؛ لأنه مر بالميقات في أشهر الحج، وهو مريد للحج.
والشرط الثاني: أن يحج من سنته، وهل يشترط أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد؟ فيه وجهان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: لا يشترط.
والثاني: قال أحمد وأبو علي بن خيران: (يشترط).
فأما إذا اعتمر في سنة، ثم حج في عام آخر.. لم يجب عليه الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
ولأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه الدم، كالمفرد.
والشرط الثالث: أن لا يعود لإحرام الحج إلى ميقات بلده، فإن عاد إلى ميقات
بلده، وأحرم منه بالحج.. لم يجب عليه الدم؛ لأنه إنما وجب عليه الدم لأجل ترك الميقات للحج، وهذا لم يتركه.
قال الطبري: وهكذا لو لم يرجع إلى ميقات بلده الذي مر به، لكن رجع إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى، وأحرم بالحج منها.. لم يجب عليه الدم.
وذكر صاحب ["الإبانة" (ق\187)]: أنه إذا سافر بعد عمرته سفرا تقصر فيه الصلاة، ثم حج من سنته.. أنه لا دم عليه.
فعلى قياس ما ذكره الطبري، وصاحب "الإبانة": إذا أحرم الأفقي بالعمرة في أشهر الحج من ميقات بلده، وتحلل منها، ثم خرج إلى مدينة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحرم بالحج من ذي الحليفة، ثم حج من سنته.. فإنه لا يجب عليه دم التمتع.
قال ابن الصباغ: ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في القديم: (إذا مر بالميقات، ولم يحرم بالعمرة منه حتى صار بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فأحرم بالعمرة من هناك.. لم يلزمه دم التمتع)؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام، وإنما يجب عليه دم لترك الميقات.