فصل: (فرع: قضاء المعذورين للرمي)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:المبيت بمنى]

ويبيت بمنى ليالي الرمي؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها) فإن ترك المبيت بها.. فهل يجب عليه بذلك الدم؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك نسكا.. فعليه دم».
والثاني: لا يجب عليه الدم، كما لا يجب الدم بترك المبيت بمنى ليلة عرفة.
فإذا قلنا: يجب المبيت، فإن ترك المبيت في الليالي الثلاث.. وجب عليه دم.
وإن ترك المبيت ليلة أو ليلتين.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة أو شعرتين.
فإن قيل: لم أوجبتم الدم بترك المبيت ليلة الثالث، وهي مما يجوز له تركها؟
قيل: إنما يجوز له تركها إذا بات الليلة الأولى والثانية، فأما من لم يبت الليلة الأولى والثانية: فلا يجوز له ترك المبيت في الليلة الثالثة).

.[مسألة:الرخصة لرعاة الإبل وأهل السقاية ومن يقاس عليهم]

ويجوز لرعاء الإبل وأهل سقاية العباس أن يتركوا المبيت بمنى ليالي الرمي، وأن يرموا يوم النحر جمرة العقبة، ثم يدعوا الرمي يوم القر، ويرموا يوم النفر ما فاتهم في اليوم الأول.
قال الطبري في "العدة": وأهل السقاية، هم الذين يعدون السويق والماء للحجيج بمكة.
والأصل فيه: ما روى عاصم بن عدي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر».
وروى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته». وهل تختص الرخصة لأهل السقاية ممن كان من أهل بيت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: تختص بهم، فإن استعمل عليها غيرهم.. لم يجز لهم ترك المبيت والرمي.
وبه قال مالك؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لأهل السقاية من أهل بيته».
والثاني: يجوز ذلك لمن كان من أهل السقاية منهم ومن غيرهم، وهو المنصوص؛ لأن المعنى الذي أرخص فيه لهم لأجله موجود فيمن استعمل عليها من غيرهم، وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأن العاملين عليها في زمن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا من أهل بيته، فلذلك خصهم بالرخصة.
فإن أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس.. لم يجز لهم ترك المبيت في هذه الليلة. وإن أقام أهل السقاية بمنى حتى غربت الشمس.. جاز لهم ترك المبيت؛ لأن الرعي لا يكون إلا بالنهار، والاشتغال بالسقاية موجود ليلا ونهارا.
وأما من كان له مال يخاف ضياعه إن بات بمنى، أو كان مريض في غير منى يشق عليه البيتوتة بمنى لأجله، أو أبق له عبد فمضى في طلبه.. فهل يجوز لهم ترك المبيت بمنى لذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز لهم ذلك؛ لـ: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لأهل السقاية ولرعاء الإبل» ولم يرخص لغيرهم.
والثاني: يجوز؛ لأنه المعنى الذي رخص لأجله لأهل السقاية والرعاء موجود فيهم.

.[فرع: قضاء المعذورين للرمي]

فإن تدارك على أهل السقاية أو الرعاء أو غيرهم من المعذورين رمي يومين.. فهل يجب عليهم الترتيب في الرمي أو يستحب؟ فيه قولان. حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء
على أن رمي كل يوم مؤقت بيومه، أو أن جميع أيام التشريق كاليوم الواحد ـ: فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه.. لم يجب الترتيب، وإنما يستحب؛ لأن ما يرميه في اليوم الثاني يكون قضاء، والترتيب في القضاء لا يجب، كما إذا فاتته صلاة الظهر والعصر.. فله أن يقضي العصر أولا ثم الظهر.
فعلى هذا: يستحب له أن يرمي أول الجمرات الثلاث مرتبا لأمسه، ثم يرميها مرتبا ليومه، فإن بدأ فرماها ليومه، ثم رماها لأمسه.. جاز، وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه ذلك.
وإن قلنا: إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. فإن الرمي في اليوم الثاني عن الفائت في اليوم الأول أداء، لا قضاء، فيكون الترتيب فيها واجبا، فيرمي الجمار الثلاث أولا عن أمسه، ثم يرميها عن يومه، فإن رماها ونواها عن يومه أولا.. لم تجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي أمسه، وهل يجزئه ذلك عن أمسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه عن أمسه؛ لأنه لم ينوه عنه.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يجزئه عن أمسه؛ لأن من عليه في الحج فرض ففعل من جنسه بنية غيره.. وقع عن فرضه، كما لو كان عليه طواف الزيارة فطاف بنية النافلة.. فإنه يقع عن طواف الزيارة.
فإن كان عليه رمي يوم النحر فرى جمرة العقبة يوم القر بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه وسبع عن يومه.. أجزأه عن أمسه ولم يجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن نوى بالسبع الأولى عن يومه، وبالثانية عن أمسه.. لم تجزه الأولى عن يومه، وهل تجزئه الثانية عن أمسه؟
على الوجهين الأولين، فإن قلنا: تجزئه الأولى عن أمسه.. لم تجزه الثانية عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن قلنا: لا تجزئه الأولى عن أمسه.. أجزأته السبع الثانية عن؛ لأن الأولى قد سقطت وصار كأن لم يرم لها.

.[مسألة:الخطبة ثاني أيام التشريق والتخيير في النفر]

قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر يوم الثالث من أيام النحر، وهو يوم النفر الأول).
وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب يوم النفر الأول ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ بعد الظهر بمنى، ويعرف الناس ما بقي عليهم، وأن من أراد التعجيل بالنفر.. فله ذلك، ومن أراد التأخير.. فله ذلك، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته والصدقة، ويودع الحاج، وهي الخطبة الرابعة في الحج. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا تسن هذه الخطبة).
دليلنا: ما «روي عن رجلين من بني بكر: أنهما قالا: رأينا رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بمنى على ناقته أوسط أيام التشريق». ولأن بالناس حاجة إلى هذه الخطبة؛ ليعلموا مالهم من النفر وما بقي عليهم.
إذا ثبت هذا: فإن رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق.. فهو بالخيار: بين أن ينفر، ويترك المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث. وبين أن لا ينفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
فإن قيل: أما قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فمفهوم المعنى، وهو: أنه لا إثم عليه في التعجيل، فما معنى قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] والتأخير فضيلة؟
قلنا: أراد من ترك التعجيل الذي أباحه الله ورخص فيه، وثقل على نفسه، وجلس حتى يرمي اليوم الثالث.. فلا إثم عليه في ترك الرخصة، وقيل: إن الآية وردت على سبب، وهو أن قوما قالوا: لا يجوز التعجيل، وقال آخرون: لا يجوز التأخير، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
فإن لم ينفر حتى غربت الشمس.. لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث.
وقال الحسن البصري: إن لم ينفر حتى دخل وقت العصر.. لم يجز له النفر.
وقال أبو حنيفة: (له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
و(اليوم): اسم للنهار، فإذا غربت الشمس.. فقد خرج اليومان.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني.. فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس).

.[فرع: تعجيل النفر من منى]

وإن رحل رجل من منى فغربت الشمس وهو راحل قبل انفصاله من منى.. لم يلزمه المقام: لأن عليه مشقة في الحط بعد الترحال. وإن غابت الشمس وهو مشغول بالتأهب للرحيل.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يلزمه المقام؛ لأنه لم يرحل.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه مشغول بالترحال، فهو كما لو كان قد رحل.
فأما إذا كان قد رحل منها، ثم رجع إليها سائرا إلى موضع أو زائرا لإنسان، أو نسي شيئا من رحله.. لم يلزمه المقام؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالرحيل، فلم يلزمه المقام بعد ذلك، فإن بات بمنى.. لم يلزمه الرمي في اليوم الثالث لأن البيتوتة لم تلزمه.

.[فرع: النفر قبل الوقت المشروع]

إذا خرج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الزوال.. فسمعت الإمام العثماني من أصحابنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يسقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، ولا الرمي في اليوم الثاني، واليوم الثالث؛ لأن ذلك إنما يسقط عنه بنفر جائز، وهذا نفر غير جائز، ولأنه لو سقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث إذا نفر في اليوم الثاني قبل الزوال.. لسقط عنه ذلك إذا خرج من منى يوم النحر أو يوم القر، إذ لا فرق بينهما في أنه لا يجوز له النفر فيه.

.[فرع: رح ما بقي من حصى الجمار]

فرع: [طرح ما بقي من حصى الجمارفإذا نفر في اليوم الثاني وقد بقي معه حصى اليوم الثالث.. قال ابن الصباغ: فإنه يطرحها، أو يدفعها إلى من يرمي بها، فأما ما يفعله الناس من دفنها: فلا أثر فيه.

.[فرع: استحباب النزول في المحصب لمن شاء]

وإذا نفر من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، أو في اليوم الثالث.. فالمستحب: أن ينزل بالمحصب ـ وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبل المتصل بالمقابر إلى الجبال التي في مقابلته، ويسمى: بالمحصب لاجتماع الحصباء فيه؛ لأنه موضع منهبط، والسيل يحمل إليه الحصى من الجمار ـ فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نفر من منى.. نزل بالمحصب فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة، ثم دخل مكة فطاف بالبيت، ثم خرج ورحل إلى المدينة».
إذا ثبت هذا: فإن النزول فيه ليس بنسك.
وقال عمر بن الخطاب: (هو نسك)
دليلنا: ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (المحصب ليس بسنة، وإنما هو منزل نزله رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (المحصب ليس بشيء، وإنما نزله رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون أسمح لخروجه... فمن شاء.. فعل ومن شاء.. ترك».
وروي «عن أبي رافع: أنه قال: (أنا ضربت القبة للنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمحصب، ولم يأمرني به، وكان على رحل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) فدل على: أن أبا رافع فعله برأيه؛ لمصلحة الخروج إلى المدينة.

.[مسألة:وداع البيت الحرام]

قال الشافعي: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت، فيودع وينصرف إلى بلده).
وهذا كما قال: إذا فرغ الحاج من الرمي، فإن كان من أهل مكة، أو من غير أهلها وأراد أن يقيم بها.. فليس عليه وداع البيت؛ لأن الوداع يراد لتوديع البيت، وهذا لا يفارق مكة. وإن كان يريد الانصراف.. فعليه أن يطوف بالبيت سبعا، ويصلي بعده ركعتين، سواء كان منزله قريبا من مكة أو بعيدا منها.
وقال أبو حنيفة: (لا توديع على من كان بالمواقيت أو دونها)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن الناس كانوا ينصرفون من كل وجه، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت».
وهل هو نسك من مناسك الحج يجب بتركه الدم أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه نسك ويجب بتركه الدم ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لما روى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فأخبر: أنه نسك.
وقد قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك نسكا.. فعليه دم».
والثاني: أنه ليس بنسك، فلا يجب بتركه الدم، وإنما يستحب؛ لأن كل ما لو تركه المكي لم يجب عليه به دم.. أوجب إذا تركه غير المكي أن لا يجب به دم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة. ولأنه لو كان يجب به الدم إذا تركه من غير عذر.. لوجب به الدم وإن تركه بعذر، كالرمي.
إذا ثبت هذا: فإن طاف للوداع، وصلى ركعتي الطواف وانصرف من غير لبث، أو اشترى زادا في طريقه.. فقد حصل الوداع.
وإن حضرت صلاة مكتوبة فصلاها، ثم خرج.. لم يلزمه إعادة الطواف.
وقال عطاء: يلزمه؛ ليكون آخر عهده بالبيت.
دليلنا: أنه لم يشتغل عن مسيره بعد الطواف بما يتضمن الإقامة، فأجزأه، كما لو اشترى في طريقه شيئا يحتاج إليه.
وإن أقام بعد الطواف على زيارة صديق، أو شراء متاع، أو عيادة مريض فيها لبث.. فإنه يعيد طواف الوداع، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يعيد الطواف للإقامة بعده شهرا أو شهرين)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ولأنه إذا أقام.. خرج عن أن يكون وداعا، فكان عليه الإعادة.

.[فرع: الوداع يوم النحر]

إذا نوى الحاج النفر من منى بعد الرمي، فودع البيت يوم النحر بعد طواف الزيارة والسعي.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها:
فقال الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمن أراد مفارقة البيت، وهذا قد أراد مفارقته.
ومنهم من قال: لا يجزئه ـ وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الخبر ـ لأن الشافعي قال: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت) فيودع وينصرف إلى بلده.
وفي رواية ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فمنه دليلان:
أما أحدهما: فقوله: «لا ينفرن أحد» ولا يطلق النفر الجائز إلا بعد الرمي
والثاني: قوله: «فإنه آخر نسك في الحج».

.[فرع: طواف الوداع إذا نوى الإقامة بمكة]

إذا قدم إلى مكة، فلما فرغ من أفعال الحج، نوى الإقامة بمكة.. فإنه لا وداع عليه وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر الأول.. لم يسقط عنه طواف الوداع).
دليلنا: أنه غير مفارق للبيت، فلم يلزمه وداعه، كما لو نوى الإقامة قبل زمان النفر.

.[فرع: رجوع الحاج لطواف الوداع]

إذا قلنا: يجب طواف الوداع، فخرج ولم يودع ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يبلغ مسافة القصر.. لم يستقر عليه الدم؛ لأنه في حكم المقيم. وإذا رجع بعد ما بلغ مسافة القصر من مكة.. ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\205]، المشهور: أنه يستقر عليه الدم؛ لأنه قد صار بينه وبين البيت سفر طويل.
وقال عطاء: إن عاد بعدما خرج من الحرم.. لم يسقط عنه الدم. وإن عاد قبل أن يخرج من الحرم.. سقط عنه الدم.
دليلنا: أن الاعتبار بالقرب والبعد، وذلك يعتبر بما تقصر فيه الصلاة، فلا معنى لاعتبار الحرم.

.[فرع: ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع]

ذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع.
وقال الثوري: إن لم يودع.. فعليه دم.
دليلنا: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم، ولم يأمرها بوداع البيت». فلو كان واجبا.. لأمرها به. ولـ: (أن عليا وابن عمر كانا يعتمران كل يوم مرة مدة مقامهما بمكة ولم ينقل: أنهما كانا يطوفان للوداع).

.[فرع: وداع الحائض]

ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع.
وقال عمر وابن عمر وزيد بن ثابت: (عليها أن تقيم حتى تطهر ثم تطوف للوداع).
فأما ابن عمر وزيد بن ثابت: فقد روي عنهما: (أنهما رجعا).
دليلنا: ما روي: «أن صفية بنت حيي حاضت، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحابستنا هي؟» فقالوا: قد أفاضت، قال: «فلا إذن " ونفر بها، ولم تودع».
فإن نفرت الحائض من غير وداع، ثم طهرت، فإن طهرت قبل أن تفارق بنيان مكة.. عادت واغتسلت وطافت. وإن طهرت بعد أن فارقت بنيان مكة.. لم تعد؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. لم تصر مسافرة، وإذا فارقته.. فقد صارت مسافرة. فإن قيل: هلا اعتبرتم مسافة القصر، كما يعتبر ذلك فيمن ترك طواف الوداع؟
قيل: الفرق بينهما: أن من ترك الوداع.. فقد ترك واجبا عليه، فلا يسقط عنه بمفارقته البنيان. وإذا كان بينهما مسافة القصر.. فلأنه أنشأ سفرا طويلا، فلذلك لم يجب عليه العود، وهاهنا لم يجب عليها. فإذا أمكنها بعد الانفصال.. عليها، كما لا يجب على المسافر إتمام الصلاة بعد الانفصال من البنيان.

.[فرع: لا ينتظر الركب الحائض]

قال الشيخ أبو نصر: لا يحبس الجمال لأجل المرأة الحائض، إذا لم تكن هي طافت طواف الإفاضة، ويقال لها: احملي مكانك مثلك.
وقال مالك: (يحبس أقصى ما يحبسها الدم، ثم تستظهر بستة أيام).
دليلنا: أنه تعذر الركوب بمعنى لا يمكنها رفعه عن نفسها، فلم تحبس الجمال لأجله، كما لو مرضت.

.[فرع: دعاء الخروج من مكة إلى الوطن]

قال الشافعي في (المختصر الصغير): (وإذا فرغ من طواف الوداع.. فالمستحب: أن يقف في الملتزم ـ وهو: ما بين الركن الأسود والباب ـ فيدعو ويقول: اللهم إن البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا بنبيك ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني). وزاد أبو حامد في " جامعه ": واجمع لي خير الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قادر. وما زاد فحسن؛ لأنه روي عن بعض السلف.

.[مسألة:أركان العمرة]

أركان العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي. فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. فإنه يتحلل من عمرته إذا فرغ من السعي، فتكون أفعالها ثلاثة أشياء لا غير.
وإن قلنا: إن الحلق نسك.. فإنه لا يتحلل منها إلا بالحلاق.
فعلى هذا: أفعالها أربعة أشياء.
والدليل ـ على ذلك ـ: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج. فأما من أهل بالعمرة: فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج والعمرة: فلم يحلوا إلا يوم النحر».

.[فرع: الطواف والسعي في القران]

وإن قرن بين الحج والعمرة.. فلا خلاف بين أهل العلم: أنه يكفيه لهما حلاق واحد.
وأما الطواف والسعي: فيكفيه ـ عندنا ـ لهما طواف واحد وسعي واحد، غير أنا نستحب له طوافين وسعيين، وبه قال جابر بن عبد الله. ومن التابعين: عطاء وطاووس، ومجاهد والحسن. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك.
وقال علي وابن مسعود: يجب على القارن طوافان وسعيان، وبه قال أهل
العراق، والنخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وتفصيل مذهب أبي حنيفة، هو أنه يقول: (على القارن أن يطوف ويسعى لعمرته قبل الوقوف بعرفة، ثم يطوف ويسعى لحجه بعد الوقوف، فإن لم يطف ولم يسع لعمرته حتى وقف بعرفة.. انقضت عمرته، وثبت الحج، فإذا قضى عمرته.. كان عليه دم).
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جمع بين الحج والعمرة أجزأه لهما طواف واحد، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا». وروي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك».
ولأنه يكتفى بحلاق واحد، فاكتفي بطواف واحد وسعي واحد، كالمفرد.