فصل: (فرع: حكم ما زين بآيات القرآن)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: حكم ما زين بآيات القرآن]

ويجوز للمحدث: أن يمس ثوبا أو بساطا نقش عليه القرآن؛ لأن القصد منه التزين، دون القرآن.
وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز. وليس بشيءٍ.
وهل يجوز للمحدث: أن يقلب أوراق المصحف بين يديه بخشبة من غير أن يحمله، أو يكتب القرآن علي شيء غير حامل له؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. وهو اختيار المسعودي في ["الإبانة" ق\20]؛ لأن ما بيده منسوب إليه، فلم يجز له مس القرآن به، كما لا يجوز له مسه بيده.
والثاني: يجوز. وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأنه غير ماس له، ولا حامل.
وهل يجوز للصبيان حمل الألواح التي فيها القرآن وهم محدثون؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. كما لا يجوز ذلك لغيرهم.
فعلى هذا: على الولي والمعلم أن يأمرهم بالطهارة لذلك، فإن لم يفعل ـ أثم بذلك هو دون الصبي.
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم إلي ذلك كثيرة، وطهارتهم لا تنحفظ، فلو اشترطنا طهارتهم، لأدى ذلك إلى تنفيرهم.
وإن حمل متاعًا وفي جملته مصحف، فهل يجوز؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\20]:
أحدهما: لا يجوز. لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز. وهو قول أصحابنا البغداديين؛ لأن المقصود منه حمل المتاع، فعفي عما فيه من القرآن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى المشركين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64].
وإن حمل كتابا من كتب الفقه، وفيه شيء من القرآن، أو حمل دنانير أو دراهم عليها نقش القرآن، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز؛ لأن المقصود بها غير القرآن، ولأن ذلك يشق.
وهل يجوز للمحدث حمل تفسير القرآن؟
قال الشاشي: اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن كان القرآن أكثر، لم يجز. وإن كان التفسير أكثر، ففيه وجهان، ككتب الفقه التي فيها آيات من القرآن.
ومنهم من قال: إن كان القرآن متميزًا عن التفسير، بأن كتب القرآن صدرا في خط غليظ، وتفسيره تحته بخط أدق منه، لم يجز حمله. وإن لم يتميز عنه في الخط، كره له حمله.
قال الشاشي: وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا لم يترك شيئا من القرآن، فهو مصحف أودع فيه، فلم يجز للمحدث حمله.
وإن كان في موضع من بدنه نجاسة، فمس المصحف بغيره من بدنه وهو متطهر، فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما قال القاضي أبو القاسم الصيمري: لا يجوز، كما لا يجوز للمحدث مس المصحف بظهره.
والثاني: قال عامة أصحابنا: يجوز. وهو الصحيح؛ لأن النجاسة لا تتعدى محلها، بخلاف الحدث. وبالله التوفيق.

.[باب الاستطابة]

إذا أراد قضاء الحاجة، ومعه شيء عليه اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فالمستحب له: أن ينحيه عنه؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل الخلاء، وضع خاتمه». وإنما وضعه؛ لأنه كان مكتوبا عليه: محمد رسول الله. ثلاثة أسطر.
وهل يختص ذلك بالبنيان، أو يشترك فيه البنيان والصحراء؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يختص ذلك بالبنيان.
وقال المحاملي، وصاحب " المذهب ": يشترك فيه البنيان والصحراء.
وقال الشيخ أبو حامد: ومما يختص به البنيان دون الصحراء، إذا أراد دخول الخلاء: أن يقول عند دخوله: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ستر ما بين عورات أمتي، وأعين الجن: بسم الله».
وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا أراد دخول الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث، الرجس النجس الشيطان الرجيم».
قال أبو عبيد: (الخبث): الشر، و (الخبائث): الشياطين، وأما (الخبيث): فهو الخبيث بنفسه، و (المخبث): هو المخبث لغيره.
ويستحب إذا خرج أن يقول: «الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك لي ما ينفعني». لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك). ويستحب أن يقول مع ذلك: «غفرانك، غفرانك». لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك.
ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج رجله اليمنى؛ لأن الدخول أدنى فقدمت فيه اليسار، والخروج أعلى فقدمت فيه اليمنى.
ويستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء أن يبعد في المذهب؛ لما روى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذهب إلى الغائط، أبعد، بحيث لا يراه أحد».
ويستحب أن يستتر عن العيون بشيء؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتي الغائط فليستتر».
«وروى جابر قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى شجرتين بينهما نحو أربعة أزرع، فقال: يا جابر، اذهب إلى تلك الشجرة، فقل لها: قال لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي بصاحبتك؛ فإنه يريد أن يجلس وراءكما، فقلت لها ذلك، فلحقت بصاحبتها، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءهما، فلما قضى حاجته وقام، عادت إلى مكانها».

.[مسألة: حكم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة]

وأما استقبال القبلة بالغائط والبول، فاختلف العلماء في جواز ذلك.
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان، ولا يجوز ذلك في الصحراء، فإن فعل ذلك ذاكرا عالما بتحريمه أثم). وروي ذلك عن العباس بن عبد المطلب، وابن عمر، وبه قال مالك وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة إلى: (أن ذلك لا يجوز في البنيان، ولا في الصحراء). وبه قال أبو أيوب الأنصاري، والنخعي.
وذهب عروة بن الزبير، وربيعة، وداود إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان والصحراء).
دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة لغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار».
ونهى عن الروث والرمة، وهذا دليل على منع ذلك في الصحراء.
وأما الدليل على جواز ذلك في البنيان: فما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: أوقد فعلوا ذلك؟ استقبلوا بمقعدتي إلى القبلة». وكان ذلك في البنيان.
وروى ابن عمر، قال: «اطلعت على إجار ببيت حفصة، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته قاعدا على لبنتين، مستقبل الشام، مستدبرا القبلة». فإن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تلك الحال؟.
قلنا: يحتمل أنه لم يقصد النظر، ولكن فاجأته النظرة، ويحتمل أنه رأى ظهره وأعالي بدنه.
وإذا ثبت هذا: فروى معقل بن أبي معقل الأسدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استقبال القبلتين». فتأول أصحابنا ذلك بتأويلين:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهى عن استقبال بيت المقدس، حين كان قبلة، ثم نهى عن استقبال الكعبة، حين صارت قبلة، فجمع الراوي بينهما.
والثاني أن هذا ورد على أهل المدينة، ومن كان في سمتهم من البلدان؛ لأن من هناك إذا استقبل الكعبة، استدبر بيت المقدس، وإذا استدبر الكعبة، استقبل بيت المقدس. وسمي بيت المقدس قبلة؛ لأنه كان قبلة على عادة العرب في استصحاب الاسم بعد زواله.

.[فرع: حكم استقبال القبلة في الأبنية]

البنيان الذي يجوز فيه استقبال القبلة واستدبارها.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\21] يجب ألا يكون البناء أقل من مؤخرة الرحل، ويشترط أن يكون بقرب البناء، فإن كان بينه وبين البناء أكثر مما بين الصفين، كان كالصحراء.
ولا يشترط البناء والتسقيف، بل لو كان بينه وبين القبلة دابة، أو أرسل ثوبه من خلفه، كان كالبناء؛ لأن ذلك يستره عن القبلة.
فإن كان في وهدة من الأرض، وبينه وبين القبلة شيء يستره من الأرض، أو كان بينهما شجرة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون ذلك كالبنيان، لأنه يقع عليه اسم الصحراء.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكون كالبنيان؛ لأن ذلك يستره عن القبلة، فهو كالبنيان.
ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع ثوبه، حين رآه من فوق سطح بيت حفصة حتى دنا من الأرض».

.[فرع: تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور]

وإذا أراد أن يبول، ارتاد لبوله موضعا لينا؛ لا يترشش عليه البول: إما رملا، أو ترابا لينا، فإن كان الموضع صلبا، دقه بحجر؛ لما «روى أبو موسى الأشعري، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار، فبال فيه، ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتد لبوله، ولا يستقبل الريح؛ فإنها ترده عليه». و (الدمث): الموضع اللين. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتمخر الريح إذا أراد أن يبول».
ويستحب أن يجلس إذا أراد أن يبول، ويكره أن يبول قائما من غير عذر؛ لما روي عن عمر: أنه قال: (ما بلت قائما منذ أسلمت).
وقال ابن مسعود: (من الجفاء أن تبول وأنت قائم). ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه.
وروي عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يبول تفاج؛ حتى إنا لنأوي له».
فإن كان له عذر عن الجلوس، لم يكره له البول قائما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال قائما لعلة بمأبضه» و (المأبض): ما تحت الركبة من كل حيوان.
ويكره أن يبول في جحر من الأرض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الجحر، قيل لقتادة: فما بال الجحر؟ فقال: يقال: إنها مساكن الجن».
وقيل: إن سعد بن عبادة خرج إلى الشام، فسمع أهله هاتفا يهتف في داره ويقول:
نحن قتلنا سيد الخز ** رج سعد بن عباده.

قد رميناه بسهمي ** ن فلم نخط فؤاده.

ففزع أهله من ذلك، وتعارفوا خبره، فكان قد مات في تلك الليلة.
وقيل: إنه قد كان جلس يبول في جحر، فاستلقى ميتا.
ولأنه لا يؤمن أن يخرج من الجحر بالبول شيء يلسعه، أو يرد عليه بوله.
ويكره أن يبول في الماء الراكد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد»؛ لأنه ربما أفسده.
ويكره أن يبول في الظل، والطريق، والموارد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل المقصود».
قال أبو عبيد: فسميت ملاعن؛ لأن من رأى ذلك، قال: من فعل هذا، لعنه الله؟!
ويكره أن يبول في مساقط الثمار؛ لأنه يقع عليه فينجس.
ويكره أن يبول في موضع ويتوضأ فيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه».
ولا بأس أن يبول في الإناء؛ لما روي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدح يبول فيه بالليل يوضع تحت سريره».

.[فرع: كراهة استقبال النيرين]

قال الصيمري: ويكره له استقبال الشمس والقمر، واستدبارهما بفرجه، ولا يحرم.
ويستحب لمن كان في قضاء حاجته أن يقنع رأسه، ولا ينظر إلى فرجه، ولا إلى ما يخرج منه، ولا يرفع بصره إلى السماء، ولا يعبث بيده.
ويكره أن يتكلم على الخلاء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك».
ويكره له أن يرد السلام؛ لما روي: «أن المهاجر بن قنفذ سلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم رد عليه، وقال: كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر».
ويكره أن يحمد الله تعالى إذا عطس، أو يجيب المؤذن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر».
ويستحب أن يتكئ على رجله اليسرى، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد أحدكم لحاجته، فليعتمد على رجله اليسرى». ولأنه أسهل في قضاء الحاجة.
ويستحب له ألا يطيل الجلوس على قضاء الحاجة؛ لما روي عن لقمان أنه قال: (إن طول القعود على الحاجة، تتجع منه الكبد، ويأخذ منه الباسور، فاقعد هوينا واخرج).
وإذا بال، تنحنح ومسح ذكره من مجامع عروقه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم، فلينتر ذكره ثلاث مرات». ولأنه يخرج إن كان هناك بقية.

.[مسألة: حكم الاستنجاء]

الاستنجاء واجب من الغائط، فإن صلى قبل أن يستنجي لم تصح صلاته، وبه قال مالك في إحدى الروايتين، وأحمد، وإسحاق، وداود.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل هو مستحب). وهي الرواية الثانية عن مالك، وحكي ذلك عن المزني. وقدر أبو حنيفة النجاسة التي تصيب البدن والثوب بموضع الاستنجاء، وقال: (لا يجب إزالتها). وقدرها أيضًا بالدرهم الأسود البغلي.
وإنما يعتبر هذا القدر في المساحة دون السمك، فلو علت أيضًا شبرًا أو أكثر، ولم تزد مساحتها على قدر الدرهم لم يجب إزالتها.
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليستنج بثلاثة أحجار». وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالبًا، فلم تصح الصلاة معها، كما لو زادت على قدر الدرهم.
ويجب الاستنجاء من البول، كما يجب من الغائط.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب الاستنجاء منه).
دليلنا: ما روى ابن عباس رضى الله عنهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول». وروي «لا يستبرئ من البول».
وروي أن عبد الله بن عمر خرج في سفر، قال: فدفع بي الطريق إلى مقبرة، فأويت إلى امرأة، فلما جنني الليل سمعت صوتًا من المقبرة وهو يقول: شن وما شن، بول وما بول، فجزعت من ذلك، فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم صائف شديد الحر، فاستسقى ماء، فقال ولدي: قم إلى الشن، فاشرب منه، ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب، فلم ير فيه شيئًا، فوقع فمات، وكان لا يستبرئ من البول، وكنت أنهاه عن ذلك، فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه المقبرة، فكلما جن الليل يصيح: شن وما شن، بول وما بول. فحدث ابن عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فـ: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسافر الرجل وحده».
قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون نهى عن ذلك؛ لأن ابن عمر جزع مما أصابه، ويحتمل أن يكون لأجل ما أصاب الرجل من العطش.

.[فرع: حكم الخارج غير البول والغائط]

قال ابن الصباغ: ولا يجب الاستنجاء من المني، ولا من الريح؛ لأنهما طاهران، فلا يجب منهما الاستنجاء.
وإن خرج منه حصاة أو دودة، عليها رطوبة وجب منها الاستنجاء. وإن كان لا رطوبة عليها، فهل يجب منها الاستنجاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لا بلل معه، فهو كالريح.
والثاني: يجب؛ لأنه لا يخلو من بلل. والأول أصح. قال ابن الصباغ: وإن خرجت منه بعرة، لا بلل عليها، فهي كالدودة والحصاة التي لا رطوبة معها.

.[مسألة: تقديم الاستنجاء على الوضوء]

والمستحب: أن يستنجي أولا، ثم يتوضأ إن كان واجدًا للماء قادرًا على استعماله. وإن كان عاجزًا عن الماء، أو عن استعماله، تيمم بعد الاستنجاء. فإن توضأ ثم استنجى، أو تيمم ثم استنجى، ولم يمس شيئًا من عورته فهل يصح؟ اختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق:
فـالأول: قال أبو علي في "الإفصاح" قولان.
والثاني: قال أبو العباس ابن القاص: يصح الوضوء قولا واحدًا، وفي التيمم قولان.
والثالث قال أكثر أصحابنا: يصح الوضوء، ولا يصح التيمم قولا واحدًا. والفرق بينهما: أن الوضوء يرفع الحدث، وذلك يصح مع بقاء النجاسة. والتيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به فعل الصلاة، فلم يصح مع بقاء النجاسة.
فإذا قلنا: لا يصح تيممه قبل أن يستنجي، فكان على بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء، فتيمم قبل إزالتها فهل يصح تيممه؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص في "الأم" ـ: (أنه لا يصح؛ لما ذكرناه في النجاسة في موضع الاستنجاء).
والثاني ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يصح. والفرق ـ بين النجاسة على موضع الاستنجاء، وبين غيره من البدن ـ: أن خروج النجاسة إلى موضع الاستنجاء توجب الطهارة، فجاز أن يكون بقاؤها فيه يمنع صحة الطهارة. وليس كذلك النجاسة في غير موضع الاستنجاء، فإن خروجها إليه لا يوجب الطهارة، فكان بقاؤها فيه لا يمنع صحة الطهارة.

.[مسألة: أفضلية استعمال الحجر والماء معًا]

وإذا أراد الاستنجاء، وكان الخارج غائطًا أو بولا، ولم يجاوز الموضع المعتاد، فالأفضل أن يستنجي بالأحجار أولا، ثم بالماء بعده.
وحكى ابن المنذر، عن سعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وحذيفة: أنهم كانوا لا يرون استعمال الماء.
وقال سعيد بن المسيب: ما يفعل ذلك إلا النساء. وقال عطاءٌ: غسل الدبر محدث.
وكان الحسن لا يغسل بالماء.
دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: أنه قال: (إن هذه الآية نزلت في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. قال: وكانوا يستنجون بالماء).
وقال جابر، وأنس: لما نزلت هذه الآية دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأنصار، فقال: «إن الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء، فما تصنعون؟ فقالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: هل غير هذا؟ فقالوا: لا، إلا أن أحدنا إذا خرج من الخلاء أحب أن يستنجي بالماء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو ذاك، فعليكم به».
وهذا يدل على: أنهم كانوا يستعملون الحجارة أولا؛ لأنهم لا يخرجون إلا بعد استعمال الحجارة. وقد روي: أنهم قالوا: (نتبع الحجارة الماء).
فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالأفضل: أن يقتصر على الماء؛ لأنه أبلغ في الإنقاء.
وإن أراد الاقتصار على الأحجار جاز، سواء كان الماء موجودًا أو معدومًا.
وقال قوم من الزيدية، والقاسمية: لا يجوز الاقتصار على الأحجار، مع وجود الماء.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار، يستطيب بها، فإنها تجزئ عنه».
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: ما هذا يا عمر؟، فقال: ماء تتوضأ به، فقال: ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت ذلك لكان سنة». وهذا يبطل ما قالوه.

.[فرع: كيفية الإنقاء]

إذا استنجى بالماء لزمه إذهاب الأجزاء، وإذهاب الرائحة، لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء الأجزاء.
وإذا استنجى بالأحجار لزمه أبعد الأمرين من الإنقاء، واستيفاء ثلاثة أحجار، فإن لم ينق بالثالث لزمه أن يزيد رابعًا. فإن أنقى بالرابع أجزأه، ولا يلزمه استيفاء ستة أحجار.
وحكى في "الفروع": أن ابن خيران قال: يلزمه ذلك. وليس بشيء؛ لأن المقصود قد حصل.
وإن أنقى بحجر أو بحجرين لزمه استيفاء الثلاثة.
وقال مالك، وداود: (لا يلزمه ذلك)، وحكي ذلك عن بعض أصحابنا، وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار». وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار».
فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، فمسح بكل حرف مرة، وأنقى أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل، وهو المسح والإنقاء، فصار كما لو مسح بثلاثة أحجار وأنقى.
و (الإنقاء) ـ في الأحجار ـ هو: أن لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء، فيعفى عن ذلك الأثر؛ لأنا قد بينا أن استعمال الماء غير واجب.
قال الصيدلاني: فلو عرق محل النجو وجاوزه، نجسه، ووجب عليه غسله بالماء. وإن لم يجاوزه عفي عنه، على الأصح.
قال الصيمري: وإن بقيت بعد الأحجار بقية يخرجها حجر صغير، أو ما صغرَ من الخزف ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه إخراجها، كما لو بقيت بقية يخرجها حجر كبير.
والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزمه إخراج الأثر اللاصق الذي لا يزيله إلا الماء.