فصل: (فرع: جواز بيع المصحف وكتب الحديث)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: جواز بيع المصحف وكتب الحديث]

ويجوز بيع المصاحف، وكتب الحديث؛ لما روي: أنه سئل ابن عباس عن بيع المصاحف، فقال: (لا بأس، يأخذون أجور أيديهم)، ولأنه طاهر منتفع به، فهو كسائر الأموال.
قال الصيمري: قيل: إن الثمن يتوجّه إلى الدفتين؛ لأن كلاما لله تعالى لا يباع.
وقيل: ذلك بدلٌ من أجرة النسخ. قال: ويكره بيع المصحف. وقيل: يكره البيع، ولا يكره الشراء.
ولا بأس ببيع كتب الطِّب والشعر والنحو.
وبيع كتب الشرك باطل، وإحراقها لازم، ويجوز بيع دود القز، وجهًا واحدًا؛ لأنه طاهر منتفع به، وفي بيع بيضه وبيض ما لا يؤكل لحمه، كالصقر والبازي وجهان، بناءً على الوجهين في طهارة مَنِي ما لا يؤكل لحمه. فإن قلنا: إنه طاهرٌ جاز بيعه، وإن قلنا: إنه نجس.. لم يجز بيعه. والله أعلم بالصواب.

.[باب من نهي عنه من بيع الغرر وغيره]

ولا يجوز بيع المعدوم، بأن يقول: بعتك ثمرة نخلي التي ستخرج عامًا، أو أعوامًا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المعاومة»، وأراد به: بيع ثمرة النخل أعوامًا، وروي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين»، وروي: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر».
وقال الشيخ أبو حامد: و(الغرر): هو ما تردَّد بين السلامة والعطب، وليس أحدهما بأولى من الآخر، أو كان الغالب العطب. وفي بيع الثمرة التي لم تخلق غرر؛ لأنه لا يدري إن خرجت.. أتسلم، أم تعطب؟

.[مسألة: بيع الفضولي]

إذا باع مال غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه، أو اشترى لغيره بغير وكالة، ولا ولاية.. لم يصح، ولم يوقف ذلك على إجازة المالك، ولا على إجازة من اشتري له أو بيع عليه.
وقال أبو حنيفة: (إذا باع مال غيره بغير إذنه.. وقف على إجازة المالك، فإن أجازه.. نفذ، وإن ردّه.. بطل. وأما الشراء: فلا يوقف).
وقال مالك رحمة الله عليه: (يوقف البيع والشراء على إجازة المالك، والمشترى له).
وحكى صاحب "الإبانة" [ق\226] أن ذلك قول الشافعي في القديم. وليس بمشهور.
دليلنا: ما روى حكيم بن حزام: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبع ما ليس عندك».
والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فإن قيل: فدليل الخطاب من الخبر: أنه يجوز بيع ما عنده وإن كان ملكًا لغيره.. قلنا: دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يؤد إلى إسقاط النطق، وهذا يؤدي إليه؛ لأن الناس في هذه المسألة قائلان:
قائلٌ يقول: إن بيع الموقوف لا يجوز، سواءٌ كان المبيع في يد البائع، أو في يد غيره.
وقائل يقول: يجوز، سواء كان غائبا عنه أو في يده.
فمتى قلنا: يجوز بيع مال غيره إذا كان في يده، ويوقف على إجازة مالكه.. اقتضى أن يجوز بيعه وإن كان في يد مالكه؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما، ومتى قلنا بهذا.. سقط النطق، فأسقطنا دليل الخطاب.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق، ولا عتق، ولا بيع قبل الملك».
ولأنه عقد لغيره عقدًا بغير توكيل ولا ولاية، فلم يصح، كالشراء عند أبي حنيفة، أو نقول: لأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه، فلم يصح، كما لو باعه طائرًا في الهواء.

.[مسألة: البيع قبل القبض]

إذا ملك عينًا بعقد معاوضة، فإن كانت ثمنًا، أو مثمنًا في بيع، أو أجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضًا في خلع، فإن كان طعامًا.. لم يجز له بيعه قبل قبضه بلا خلاف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعامًا.. فلا يبعه حتى يستوفيه».
وإن كان غير الطعام.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:
فمذهبنا: أن غير الطعام كالطعام، فلا يجوز بيعه قبل قبضه، فإن باعه.. لم يصحّ، وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: (يجوز بيع ما عدا الطعام قبل القبض).
وقال سعيد بن المسيب، والحسن، وأحمد: (ما كان مكيلا، أو موزونًا، أو معدودًا.. فلا يجوز بيعه قبل القبض، وما عدا ذلك.. يجوز بيعه قبل القبض)، وهو قول عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (ما لا ينقل، ولا يحول، كالدور والعقار والأرضين والأشجار.. يجوز بيعها قبل القبض، وما ينقل ويحول، كالسلع والدراهم والدنانير.. لا يجوز بيعها قبل القبض).
دليلنا: ما «روى حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع بيوعا كثيرة، فما يحل لي منها، وما يحرم؟ فقال: إذا بعت بيعا.. فلا تبعه حتى تستوفيه» وهذا عامٌّ في جميع المبيعات.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عتّاب بن أسيد إلى مكة أميرًا.. قال له: انههم عن بيع ما لم يقبضوا، أو ربح ما لم يضمنوا».
وروي «عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبت.. رآني رجلٌ، فأعطاني ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ، فإذا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تباع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» وهذا عامٌّ في الطعام وغيره.
ولأنه مبيع لم يقبضه المبتاع فلم يجز بيعه، كالطعام.

.[فرع: جواز التصرف قبل القبض]

وأما إنكاح الأمة المبيعة قبل القبض.. فيصح؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان، وهل يصح إجازة البيع قبل قبضه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
ولا يصح كتابة العبد المبيع قبل القبض؛ لأن الكتابة تفتقر إلى تخليته للتصرف، وهل يصح عتقه قبل القبض؟ فيه وجهان:
الأول: قال ابن خيران: لا يصح؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كالبيع.
والثاني ـ المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن للعتق قوة وسراية، بدليل: أنه إذا أعتق شقصًا له في عبدٍ وهو موسر.. عتق الجميع، ولو باع شقصًا له في عبد.. لم ينفذ بيعه في ملك غيره، ولا فيما لم يبع من ملكه فيه.

.[فرع: قبض ثمن المبيع عند تسلمه]

إذا اشترى عينًا بثمن غير مؤجل.. لم يجز للمشتري قبض العين قبل تسليم الثمن؛ لأن العين محبوسة مع البائع إلى أن يستوفي الثمن، فإن خالف المشتري وقبضها بغير إذن البائع.. قال الشيخ أبو حامد: دخلت في ضمان المشتري، ولا يجوز له التصرف فيها؛ لأنه قبض فاسد، وإن اشتراها بثمن مؤجل، أو حال، فسلم الثمن.. فله أن يقبضها بغير إذن البائع، فإذا قبضها.. صح تصرفه بها؛ لأنه لا حق لبائعها فيها.

.[فرع: البيع مقايضة]

لأبي العباس: إذا باع عبدًا بعبد، وقبض أحدهما ما اشترى، ثم باعه قبل أن يقبض صاحبه ما باعه منه.. صح تصرفه في الذي اشتراه؛ لأنه قد قبضه، فإن تلف عبده الذي باعه من صاحبه قبل قبضه.. بطل البيع الأول؛ لتلف المبيع قبل القبض، ولا يبطل الثاني؛ لتعلق حق المشتري الثاني به، ولكن يلزم بائعه قيمته للذي اشتراه منه أولا؛ لأنه تعذر تسليمه إليه، فوجبت قيمته عليه.
فإن اشترى من رجل شقصا من دار بعبد، وقبض المشتري الشقص، فأخذه الشفيع بالشفعة، ثم تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه بائع الشقص.. انفسخ البيع في العبد، ولم تنفسخ الشفعة، ولا يؤخذ الشقص من يد الشفيع، فيجب على المشتري قيمة الشقص للبائع، ويجب على الشفيع للمشتري قيمة العبد.

.[فرع: التصرف بالعين في عقد لا عوض فيه]

إذا ملك عينًا بعقد لا عوض فيه.. نظرت:
فإن كان هبة.. فإنه لا يملكها قبل القبض، فلا يصح بيعه لها، ويأتي حكمها إن شاء الله.
وإن كانت بوصية.. ملك بيعها قبل القبض؛ لأنه لا يخشى انفساخها.
وهكذا: لو ورث شيئًا.. جاز بيعه قبل قبضه؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه.
وإن باع عينًا، وقبضها المشتري، ثم تقايلا في البيع، وأراد البائع بيعها من آخر قبل قبضها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يصح البيع؛ لأنه ملكها بغير عوض.
وأما المسعودي: فقال: في "الإبانة" [ق\229] هل يصح بيعها قبل القبض؟ فيه قولان:
إن قلنا: إن الإقالة فسخ عقد.. جاز بيعها. وإن قلنا: إن الإقالة بيع.. لم يصح بيعها قبل قبضها.

.[فرع: الدين في الذمة]

وأما الدين في الذمة: فعلى ثلاثة أضرب:
الأول: دين مستقر لا يخاف انتقاصه، كأرش الجناية، وبدل المتلف، وبدل القرض، فهذا يجوز بيعه ممن عليه، وهل يجوز بيعه من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما جحده.
والثاني: يجوز، وهو الأصح، كما يجوز بيعه ممن عليه، ولأن ما جاز بيعه ممن عليه.. جاز بيعه من غيره؛ لأن الظاهر: أنه يقدر على تسليمه من غير جحود.
والضرب الثاني: دين غير مستقر، وهو المسلم فيه، فلا يجوز بيعه ممن عليه، ولا من غيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره»، ولأنه غير مستقر؛ لأن العقد قد ينفسخ بعدم المسلم فيه في أحد القولين، وبالفسخ في الآخر، فلم يجز بيعه قبل القبض، كالعين المبيعة قبل القبض.
والضرب الثالث: هو الثمن، أو الأجرة، أو الصداق، أو عوض الخلع في الذمة، فهل يصح بيعه قبل القبض؟ في قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فلم يجز بيعه قبل قبضه، كالمثمن.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: كنت آتي البقيع، فأبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، أو بالدراهم، فآخذ عنها الدنانير، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: «لا بأس، إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء»
ولأن الثمن في الذمة مستقر؛ لأنه لا يخشى انتقاص البيع بهلاكه، فجاز التصرف فيه، كالمبيع بعد القبض.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الثمن والمثمن:
فقال بعضهم: (الثمن): هو الدراهم أو الدنانير، و(المثمن): ما قابله، فإن لم يكن في البيع دراهم ولا دنانير.. فالثمن ما دخلت فيه الباء، والمثمن ما قابله.
ومنهم من قال: الثمن ما دخله الباء بكل حال، والمثمن ما قابله. والأول أصح.

.[فرع: بيع نجوم الكتابة]

وهل يجوز بيع نجوم المكاتب قبل قبضها؟
المنصوص عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (أنه لا يصح).
وقال أبو إسحاق: أومأ الشافعي في القديم إلى: (أنه يصح بيعها).
قال أصحابنا: لم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلا جواز بيع رقبته، وليس إذا جاز بيع رقبته.. جاز بيع نجومه؛ لأن الرقبة ملك للسيد، وإنما سقط حق السيد بأداء المال، وهاهنا يملك العبد إسقاط حقه من المال.
ووجه ما قال أبو إسحاق على القديم: أن السيد يملك المال في ذمة المكاتب، فجاز بيعه، كسائر أمواله.

.[فرع: كيفية القبض]

قد ذكرنا: أنه لا يصح بيع المبيع قبل القبض.
وإذا ثبت هذا: فإن القبض ـ فيما ينقل ـ النقل، فإن كان المبيع عبدًا.. فقبضه: أن يستدعيه فيجيء، وإن كان بهيمة.. فقبضها: أن يسوقها، فإن أمر العبد بعمل لا ينتقل فيه من موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنتقل عن موضعها.. فإن الذي يقتضيه المذهب: أنّه لا يحصل القبض بذلك؛ لأنّه لا يكون بذلك غاصبًا، فكذلك لا يكون بذلك قابضًا في البيع، وإن وطئ الجارية.. فهل يكون قبضًا؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ المشهور ـ: أنه ليس بقبض؛ لأنه لم ينقلها.
والثاني ـ حكاه في " الحاوي " ـ: أنه يحصل به القبض؛ لأن ذلك أبلغ من النقل.
وإن كان المبيع ثيابًا، أو خشبًا، أو طعامًا اشتراه جزافًا.. فقبضه: أن ينقله ويحوله من مكان إلى مكان آخر، وإن كان عقارًا أو شجرًا.. فقبضه: التخلية.
وقال مالك، أبو حنيفة: (قبض جميع الأشياء بالتخلية).
دليلنا: ما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه»
ولأن الشرع ورد بالقبض، وليس له حد في اللغة، ولا قدر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، كما قلنا في الحرز والإحياء. والعرف عند الناس ما ذكرناه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وذكر المسعودي في "الإبانة" [ق\230ـ231] في هذا ثلاث مسائل:
الأولى: إذا اشترى منه ما ينقل، فوضعه البائع بين يدي المشتري.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقوم ذلك مقام القبض، كالوديعة إذا وضعها بين يديه.. فلا يكون قبضًا، حتى إن لم يحفظها إلى أن ضاعت.. لم يضمن.
والثاني ـ قال: وهو الأصح ـ: أنّه يقوم مقام القبض، بخلاف الوديعة؛ لأن قبولها لا يلزم، وليس كذلك في مسألتنا.
المسألة الثانية: إذا اشترى دارًا وأمتعة فيها.. فالتخلية في الدار تكون قبضا، وفي الأمتعة وجهان:
أحدهما: تكون التخلية قبضًا لها تبعًا للدار.
والثاني: يشترط نقلها.
المسألة الثالثة: إذا اشترى شيئًا في دار البائع، ونقله من زاوية إلى زاوية، فإن أذن له البائع في ذلك.. حصل له القبض في ذلك، وكأن البائع أعاره تلك الزاوية، وإن لم يأذن له في ذلك.. لم يحصل القبض.
قال الصيمري: وإن اشترى من رجل صبرة طعام، ثم اشترى العرصة التي تحت الصبرة.. حصل له القبض في الصبرة من غير نقل.

.[فرع: قبض الوديعة بدل الدين]

إذا كان لرجل في ذمة غيره دين مستقر، وعند من له الدين لمن عليه الدين وديعة أو رهن مما ينقل، فباع منه الوديعة أو الرهن بذلك الدين.. فله أن يقبض الوديعة أو الرهن بغير إذن بائعه؛ لأنه قد استحق قبض ذلك، والقبض فيه: هو أن يمضي عليه زمان يمكن فيه القبض، وهل يحتاج إلى نقله من مكانه، أو يكفي فيه مضي الزمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
أحدهما: يحتاج إلى النقل؛ لأنه مما ينقل، ويحول، فلم يحصل قبضه إلا بذلك.
والثاني: أنه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النقل يراد لحصوله في يده، وهو حاصلٌ في يده.
وإن باعه الوديعة أو الرهن بثمن في ذمته، ولم يقبضه الثمن.. لم يكن للمودع نقل الوديعة إلا بإذن البائع، فإن قبضها بغير إذنه.. لم تصر مقبوضة قبضًا يملك به التصرف.

.[فرع: أخذ مثلاً بدلاً عن ثمن]

قال الصيمري: إذا باعه طعامًا بثمن إلى أجل، وحل الثمن.. جاز أن يأخذ بالثمن طعامًا أو تمرًا حاضرًا.
وإن أراد أن يأخذ عن الدين المؤجل عوضًا، إما عرضًا، أو غيره، قبل حلول الدين.. لم يصح، وأما تقديمه: فيجوز؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل محله، فكأنه أخذ البدل عمّا لا يستحقه، وهكذا ذكره الصيدلاني.

.[فرع: بيع الصكوك]

قال الصيمري: ولا يجوز بيع الصكوك قبل قبضها، وهي: أرزاق الجند، إذا صك السلطان على بيت المال.

.[مسألة: بيع ما لا يقدر على تسليمه]

إذا باع طيرًا في الهواء، فإن كان لا يملكه.. لم يصح بيعه لعلتين:
إحداهما: أنه لا يملكه.
والثانية: أنه لا يقدر على تسليمه.
وإن كان يملكه.. لم يصح بيعه، سواء كان يألف الرجوع أو لا يألفه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال.
وإن باعه طيرًا في برج، فإن كان الباب مفتوحًا.. لم يصح بيعه؛ لأن الطير إذا قدر على الطيران لم يقدر على تسليمه في الحال، وإن كان مغلقًا، فإن كان لا يحتاج في أخذه إلى كلفة ومشقة.. جاز بيعه، وإن كان يحتاج إلى ذلك.. لم يجز.
وإن باعه سمكةً في بركة عظيمة، يدخل فيها السمك ويخرج، فإن كان لا يملك البركة.. لم يصح بيعه؛ لأنه لا يملك السمكة، ولأنه لا يقدر على تسليمها، وإن كان في بركة صغيرة، يقدر على أخذها من غير كلفة، وكان الماء صافيًا يشاهد السمكة فيه، وكان قد ملكها.. صح بيعه، وإن كان لا يقدر على أخذها إلا بالاصطياد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح بيعها).
قال الشيخ أبو حامد: وخرج أبو العباس وجهًا آخر: أنه يصح. ولا وجه له.

.[فرع: استئجار برك السمك]

قال في " الإملاء ": (ولا يجوز تقييل برك الحيتان ـ يريد: استئجارها ـ لأخذ السمك منها)؛ لأن العين لا تملك بالإجارة.
فإن استأجر بركة ليحبس بها السمك ويأخذها.. قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، لأن الصيد ينحبس فيها بغيرها.
وقال ابن الصبّاغ: يجوز؛ لأن البركة يمكن الاصطياد بها، فجاز استئجارها لذلك، كالشبكة. قال: وأمّا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز تقييل برك الحيتان) أراد: إذا حصل فيها حيتان، فاستأجرها لأخذ ما قد حصل فيها.. فلا يصح؛ لأن الأعيان لا تملك بالإجارة. وأما إذا لم يكن فيها سمكٌ: فإن العقد على منفعة مقصودة، فجاز العقد عليها.
وإن استأجر أرضًا للزراعة، فدخل فيها السمك، ثم نضب الماء منها، وبقي السمك.. لم يملكه المستأجر، ولكن يكون أحق به؛ لأن غيره لا يملك التخطي في أرضه، فإن تخطى أجنبي، فأخذه.. ملكه بذلك.

.[فرع: بيع النادِّ والفارِّ]

ولا يجوز بيع الجمل الشارد، والفرس العائر؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال، ولا يجوز بيع العبد الآبق، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه باع عبدًا له أبق)، وقال ابن سيرين: إن عرف موضعه.. جاز بيعه، وإن لم يعرف موضعه.. لم يجز بيعه.
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر». وفي بيع الآبق غرر.
ولأنه لا يقدر على تسليمه، فلم يصح بيعه، كالطير في الهواء.
فإن رجع الآبق.. لم ينقلب البيع صحيحًا.
وقال أبو حنيفة: (ينقلب صحيحًا).
دليلنا: أنه وقع باطلاً، فلم ينقلب صحيحًا، كما لو باع طيرًا في الهواء، ثم وقع الطير في يده.

.[فرع: بيع الوديعة والعارية]

فإن باع عينًا له مودعة، أو معارة عند غيره.. صح بيعها، سواء باعها ممن هي في يده أو من غيره؛ لأنها عينٌ يملكها، مقدورٌ على تسليمها، فصحَّ بيعها، كما لو كانت بيده.
وإن كانت له عين مغصوبة عند غيره، فإن باعها من الغاصب.. صح البيع، وإن باعها من غير الغاصب، وقال البائع أو المشتري: أنا قادر على انتزاعها من الغاصب.. صح البيع، فإن قدر على انتزاعها من الغاصب.. نفذ البيع، وإن لم يقدر على انتزاعها.. ثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع، وإن كان البائع أو المشتري غير قادرين على انتزاعها من الغاصب.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، فهو كالطير في الهواء.
ويصح إنكاح الأمة المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها، وممن لا يقدر على انتزاعها؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان. ويصح إعتاقها؛ لما ذكرناه، ولا يصح كتابتها؛ لأن الكتابة تقتضي التصرف، والمغصوبة ممنوعة من التصرف.
ويصح إعتاق العبد الآبق؛ لما ذكرناه.

.[مسألة: بيع غير المعيَّن]

إذا باع عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، أو أكثر.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، بشرط خيار ثلاثة أيام.. صح، وإن باعه عبدًا من أربعة أعبد، أو أكثر.. لم يصح).
وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبيد، أو ثوبًا من ثياب، وكانت كلها متقاربة بالصفة، وشرط الخيار للمشتري.. صحَّ البيع).
دليلنا: أن ذلك مما يختلف فيه الغرض، فلم يصح بيعه من غير تعيين، كما لو باعه عبدًا من أربعة.
وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، فصح بيع بعضها، وإن كان غير معين.