فصل: (فرع: التصارف بالذمة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: البيع بدينار معين]

إذا قال: بعني هذا الدينار بهذا الدينار، أو هذه السلعة بهذا الدينار.. صح البيع، وتعين تسليم ذلك الدينار المعين، فلو أراد إبداله بغيره.. لم يكن له ذلك، وإن تلف ذلك الدينار المعين قبل القبض.. بطل البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا تتعين الدنانير والدراهم بالعقد، وإنما يتعينان بالقبض، فإذا اشترى منه بدنانير أو دراهم بأعيانها.. فللمشتري أن يدفع إليه غيرها من مثلها، وإن تلفت قبل القبض.. لم يبطل البيع، بل على المشتري تسليم مثلها).
دليلنا: ما روى عبادةُ بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين». فذكر التعيين، فلولا أنهما يتعينان بالعقد.. لم يكن لذكره فائدة؛ ولأنه ذكر الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح، ثم شرط التعيين فيها على حد واحد، فلما كان البر والشعير والتمر والملح يتعين بالعقد، فكذلك الذهب والورق، ولأنه عوض مشار إليه، فتعين بالعقد كسائر الأعواض.
إذا ثبت هذا: فإن تصارفا دنانير بدنانير، أو دراهم بدراهم، أو دنانير بدراهم، بأعيانها، ثم وجد أحدهما بما صار إليه عيبا، إما قبل التفرق أو بعده:
فإن كان العيب من غير جنسها، مثل: أن يخرج رصاصًا أو نحاسًا.. ففيه وجهان، كمن اشترى بغلا، فخرج حمارًا:
الأولـ الصحيح ـ: أنه باطل.
والثاني: أنه صحيحٌ، ويثبت له الخيار.
وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن خرجت السكة مضطربة، أو خشنة الأصل، فإن وجد العيب في الجميع.. فهو بالخيار: بين أن يرد المعيب، ويسترجع ما دفع، وبين أن يرضى بالمعيب، وليس له مطالبته ببدله سليمًا؛ لأن العقد وقع على عينه، فلم يكن له المطالبة ببدله، كما لو اشترى عبدًا، فوجده معيبًا. وإن وجد العيب في البعض.. نظرت:
فإن كان البيع وقع في دراهم بدنانير.. فهو بالخيار: بين أن يرضى بالمعيب، وبين أن يرد الكل، ويسترجع ما دفع في مقابله. وإن أراد أن يرد المعيب لا غير.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن له ذلك.
وإن قلنا: تفرق.. فله أن يمسك السليم، ويرد المعيب، ويسترجع ما يخصه من الثمن.
فإن أراد أن يرد المعيب، ويمسك السليم بكل الثمن.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجز؛ لأنه سفه؛ لأنه كان يمكنه أن يمسك المعيب والسليم بكل الثمن، أو يردهما، فلا يجوز أن يمسك السليم وحده بكل الثمن.
وإن وقع البيع على دراهم بدراهم بأعيانها، أو دنانير بدنانير بأعيانها، فوجد أحدهما ببعض ما صار إليه عيبًا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وغيره من أصحابنا ـ: أنها كالمسألة قبلها في الجنسين.
والثاني ـ وهو قول ابن الصبّاغ ـ: أن البيع باطل؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل؛ لأنه بالمعيب يأخذ من الثمن أقل مما يأخذ بالسليم، فيكون الباقي متفاضلاً، كمد عجوة ودرهم، بمدَّي عجوة.

.[فرع: التصارف بالذمة]

فأما إذا تصارفا بدراهم أو دنانير في الذمة، مثل: أن كانا في بلد فيه نقد غالب، فقال: بعني دينارًا بدينار.. فإن الإطلاق ينصرف إلى نقد البلد الغالب. وإن كانا في بلد فيه نقود ليس بعضها أغلب من بعض.. فلا يصح ثبوته في الذمة إلا بأن يصفه بما يتميز به عن غيره، ولا يلزم الصرف بينهما حتى يتقابضا قبل التفرق، فإذا تقابضا، ثم وجد أحدهما بما صار إليه عيبًا، فإن وجده قبل التفرق.. فله أن يطالبه بالبدل، سواء كان العيب من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه. وإن وجد العيب بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنسه، بأن وجدها رصاصًا أو نحاسًا.. نظرت:
فإن وجد ذلك في الكل.. بطل العقد؛ لأن التفرق وجد قبل القبض.
وإن وجد ذلك في البعض.. بطل في العقد، وهل يبطل في السليم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: يبطل في السليم.. فلا كلام.
وإذا قلنا: لا يبطل.. فهو بالخيار: بين أن يفسخ العقد ويسترجع ما دفع، وبين أن يمسكه بحصته مما دفع.
وإن وجد العيب من جنسه، بأن خرج النقد مضطرب السكة، أو رديء النوع، فإن وجد العيب بالكل.. فهل له أن يرده، ويطالب بالبدل؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له المطالبة بالبدل، ولكنه بالخيار: بين أن يمسك المعيب، وبين أن يرده ويأخذ ما دفع، وهو اختيار المزني؛ لأنا لو جوّزنا له المطالبة بالبدل.. لأدّى إلى جواز القبض في الصرف بعد التفرق.
والثاني: له المطالبة بالبدل، وبه قال أبو يوسف، ومحمد؛ لأن ما جاز له إبداله قبل التفرق.. جاز بعده، كالمسلم فيه.
وإن وجد العيب بالبعض، فإن قلنا: له أن يستبدل إذا وجد العيب بالجميع.. فله أن يستبدل هاهنا بالمعيب، وليس له رد السليم. وإن قلنا: إذا وجد العيب بالجميع ليس له أن يستبدل.. فهاهنا يكون بالخيار: بين رد السليم والمعيب واسترجاع ما دفع، وبين أن يقر العقد ويرضى بالمعيب.
فإن أراد إمساك السليم ورد المعيب.. ففيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإن بان له العيب بعد القبض والتفرق، وقد تلف المعيب في يده، فإن كان الصرف في الجنس بمثله.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل في البيع، ولكن يفسخ البيع، ويرد مثل الذي قبض إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل، ويسترجع ما دفع. وإن كان الصرف في جنس بجنس آخر.. كان له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى التفاضل.

.[فرع: تماثل الوزن في النقدين]

ولا يجوز أن يشتري شيئًا من الذهب والفضة بجنسهما إلا بمثله وزنًا؛ لأنهما موزونان.
قال الشافعي في (الصرف): (إذا اشترى دينارًا بدينارٍ، وتقابضا، ومضى كل واحدٍ منهما يستعير الدينار الذي قبضه بالوزن.. جاز، وهذا يقتضي أن يكون كل واحد منهما قد عرف وزن الدينار، وصدقه الآخر، وتقابضا على ذلك، وأما إذا جهل وزن الدينار.. لم يجز البيع. فإن وزن أحدهما الدينار الذي أخذه، فنقص.. بطل الصرف؛ لأنه وقع العقد على عوضين متفاضلين).

.[فرع: صارف من له عند وديعة]

قال في (الصرف): (فإن كان له عند رجلٍ ديناران وديعةً، فصارفه فيهما، ولم يقر الذي عنده الديناران أنه استهلكهما حتى يكون ضامنًا لهما، ولا أنّهما في يده حين صارفه.. فلا خير في الصرف؛ لأنه غير مضمون ولا حاضر، ويجوز أن يكون قد هلك في ذلك الوقت، فبطل الصرف).
قال أصحابنا: هذا إذا كان لا يعلم بقاؤهما، فأما إذا علم بقاؤهما.. جاز البيع.
قال الصيدلاني: وهل يحتاج في قبض الوديعة إلى مضي مدة لتكون مقبوضة؟ فيه وجهان.

.[فرع: شراء دراهم مكسرة بصحاح]

إذا كان مع رجل دراهم صحاح، يريد أن يشتري بها مكسرة من جنسها، أكثر وزنًا منها.. لم يجز. فإن باع الصحاح بذهب، ثم قبضه، ثم اشترى بالذهب مكسرة أكثر وزنًا من الصحاح.. جاز ذلك، سواءٌ كان ذلك عادة له أو لم يكن له عادة، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (إن فعل ذلك مرة.. جاز، وإن تكرر ذلك منه.. لم يجز).
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا والله يا رسول الله، إلا أنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيبًا». والجمع من التمر: كل لون لا يعرف اسمه. إذا ثبت هذا: فإن باع الصحاح بالذهب وتقابضا، ثم تفرقا، ثم عاد فاشترى بالذهب مكسرة.. جاز. وكذلك إن تخايرا في البيع الأول، ثم تبايعها. فأما إذا تبايعا قبل التفرق والتخاير: ففيه وجهان:
أحدهما ـ قال ابن سريج ـ: يصح؛ لأن دخولهما في العقد الثاني رضًا بإمضاء الأول، فلزم الأول، وصح الثاني.
والوجه الثاني ـ ذكره ابن القفال في " التقريب " ـ: أنه لا يصح البيع الثاني إلا على القول الذي يقول: الخيار لا يمنع انتقال الملك، فأما إذا قلنا: يمنع.. لم يصح. والأول أصح. فإن اختار أن يقرضه الصحاح، ويقترض منه المكسرة بقيمتها، ثم يبرئ كل واحد منهما صاحبه.. جاز، وكذلك لو وهب كل واحد منهما صاحبه.. صح.
وإن باعه الصحاح بوزنها من المكسرة، ثم وهب له الزائد من المكسرة من غير شرط، ولا جمع بينهما في العقد.. جاز.
قال ابن الصباغ: إلا أن ذلك يكره عندي؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد، أو التصريح به، إذا دخل عليه.. كان مكروهًا.

.[فرع: حيلة في الصرافة للتخلص من الربا]

ذكر ابن الصباغ: إذا كان مع رجل دينارٌ يساوي عشرين درهمًا، ومع آخر عشرة دراهم، وأراد أن يشتري الدينار بعشرين درهمًا.. فإنه يشتري نصفه بعشرة دراهم، ويتقابضان، فيقبض الدينار، ويكون نصفه له، ونصفه أمانة بيده، ويسلم إليه الدراهم، ثم يستقرضها، فيكون في ذمته مثلها، ثم يبتاع بها النصف الآخر الذي في يده، فيحصل له الدينار وعليه عشرة دراهم قرضًا، فإن لم يفعل هكذا، ولكنه اشترى الدينار بعشرين درهمًا، وقبضه وسلّم العشرة التي معه، ثم استقرضها وسلّمها عن العشرة الأخرى.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن القرض يملك بالتصرف، وهذه الدراهم لم يتصرف فيها، وإنما ردّها إليه بحالها، فكان ذلك فسخًا للقرض.
والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن هذه الدراهم دفعها قضاء عمّا عليه من الدين، وذلك تصرف، كما إذا اشترى بها النصف الآخر من الدينار.. فإنه يجوز، ويكون صرفا، فكذلك هاهنا.
وإن كان معه تسعة عشر درهما، فأراد أن يشتري دينارًا بعشرين درهمًا.. فعلى ما ذكرناه من الاقتراض، فإن اشترى الدينار بعشرين درهما، وسلّم تسعة عشر درهمًا، وأقبضه الدينار، فإنه فارقه قبل تسليم الدرهم الآخر.. قال ابن الصبّاغ: بطل العقد في نصف الدينار.
والذي يتبين لي: أنه يبطل البيع في جزء من عشرين جزءًا من الدينار بحصة ما لم يقبض من الدراهم. وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان.
فإن أراد الخلاص من ذلك.. تفاسخا العقد قبل التفرق، ثم تبايعا تسعة عشر جزءًا من عشرين جزءًا من الدينار، بتسعة عشر درهمًا، وسلّم الدينار إليه؛ ليكون الجزء له من الدينار.

.[فرع: ردُّه دنانير أوزن]

إذا كان لرجل على رجل آخر عشرة دنانير، فأعطاه عشرة دنانير عددًا، فوزنها، فكانت أحد عشرة دينارًا.. قال ابن الصبّاغ: كان الدينار الباقي عن دينه المقبوض مشاعًا، ويكون مضمونًا على القابض؛ لأنه قبضه على أن يكون بدلاً عن دينه، وما قبضه على سبيل المعاوضة يكون مضمونًا عليه، فإن شاء مالكه.. طالبه بالدينار، وإن شاء.. أخذ عوضه دراهم، وقبضها قبل التفرق، وإن شاء.. أخذ عنه عينًا، وإن شاء.. أسلمه إليه في موصوف.
وإن كان له عند صيرفي دينار واحد، فأخذ منه دراهم ولم يتبايعا.. كان الدينار له والدراهم عليه، فإن تبارآ.. جاز.
وإن اشترى رجل من آخر عشرين درهمًا نقرة بدينار، فقال له رجل: ولِّني نصفها بنصف الثمن.. قال ابن الصباغ: صح، والتولية بيع.
وإن قال رجل لرجل اشتر عشرين درهمًا نقرة بدينار لنفسك، وولِّني نصفها بنصف دينار.. لم يصح؛ لأن التولية بيع، ولا يصح البيع من الغائب.
وإن قال لصائغ: صغ لي خاتما من فضة، فيه درهم، لأعطيك درهمًا وأجرتك، فصاغه.. فإن هذا ليس بشراء، والخاتم للصائغ؛ لأنه اشترى فضة مجهولة بفضة مجهولة، وتفرقا قبل التقابض، وشرط العمل أيضًا، وذلك كله مفسد للعقد، وله بعد هذا أن يبتاعه بغير جنسه، أو بمثل وزنه من جنسه.

.[فرع: حرمة الربا بين مسلم وحربي]

ويحرم الرّبا في دار الحرب بين المسلم والحربي، كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع المسلم من الحربي درهمًا بدرهمين، ودرهمين بدرهم، وكذلك إذا أسلم رجلان في دار الحرب.. لم يحرم عليهما الربا في دار الحرب).
دليلنا: عموم الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم الربا؛ ولأن ما كان ربا في دار الإسلام.. كان ربا في دار الحرب، كالربا بين المسلمين في دار الإسلام.

.[مسألة: ما يعتبر جنسًا واحدًا]

قد ذكرنا: أن الجنس الواحد من أموال الربا يحرم فيه التفاضل والنّساء.
إذا ثبت هذا: فإن كل شيئين اتّفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة، فهما جنس واحد، كالتمر البرني والتمر المعقلي، والذرة الشريحي والذرة البيضاء. وكل
شيئين اختلفا في الاسم الخاصّ من أصل الخلقة، كالتمر والزبيب، والذرة والحنطة والشعير، فهما جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وحمّاد، واللّيث: (الحنطة والشعير جنس واحد، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً).
دليلنا: ما روي من حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولكن بيعوا البر بالشعير، يدًا بيد، كيف شئتم».
ولأنهما عينان لا يشتركان في الاسم الخاص، فكانا جنسين، كالحنطة والذرة والدخن. فقولنا: (في الاسم الخاص) احترازٌ من الاسم العامّ؛ لأنهما مطعومان، ويجعهما اسم الحب أيضًا.

.[فرع: اعتبار الأصل الربوي]

وأمّا ما اتخذ من أموال الربا، كالدقيق والخبز والعصير والخلول والأدهان.. ففيها طريقان:
الأول: ـ المشهور من المذهب ـ أنها معتبرة بأصولها، فإن كانت أصولها أجناسًا.. فهي أجناس.
فعلى هذا: دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وخبز البر وخبز الشعير جنسان، وكذلك العصير والخل والدهن.
والثاني: من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: هذا، وهو الصحيح.
والثاني: أنّ الأدقة كلّها جنس واحد، وكذلك الأخبار كلها جنس واحد، والأعصار كلها جنس واحد، وكذلك الخلول والأدهان. وليس بشيء؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس حرم فيها الربا، فكان أجناسًا، كأصولها.
فإذا قلنا بهذا: ففي زيت الزيتون وزيت الفجل قولان:
أحدهما: أنها جنس واحد؛ لأن اسم الزيت يجمعهما.
والثاني: أنهما جنسان، وهو الصحيح؛ لأنهما فرعان لأصلين مختلفين؛ لأن الزيت إنما سمِّي: زيتًا؛ لأنه متخذ من الزيتون، وزيت الفجل يخالفه في اللون والطعم والرائحة، وإنما سمي: زيتًا؛ لأنه يصلح لبعض ما يصلح له الزيت، وبهذا القدر لا يكونان جنسًا واحدًا.

.[فرع: بيع أنواع العسل متفاضلاً]

قال الشافعي: (ويجوز بيع عسل الطبرزد وعسل القصب، بعسل النحل متفاضلاً)؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ ولأن إطلاق العسل إنما ينصرف إلى عسل النحل. وإنما سمي عسل الطبرزد وعسل القصب: عسلا؛ لحلاوته، فيقال: رجل معسول: إذا كان طيب الكلام، وامرأة معسولة الوجه: إذا كان حسنًا، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، وأراد به: الجماع الذي يقع به الالتذاذ، مأخوذٌ من العسل.
ولا يجوز بيع عسل الطبرزد، بعسل القصب متفاضلاً؛ لأن أصلهما من القصب، وهل يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً، أو بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان، كالسكر، ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى.
وأما الخضراوات، مثل: الرمان والسفرجل والبقول: إذا قلنا: يحرم فيها الربا.. فهي أجناسٌ، فالسفرجل جنس، والرمان جنس، والهندباء جنس، والنعناع جنس، والجرير جنس، يجوز بيع جنس منها، بجنس آخر متفاضلاً.

.[فرع: بيع اللحمان متفاضلاً]

وأما اللُّحمان: ففيها قولان:
أحدهما: أن الجميع جنس واحد؛ لأنه يشملها اسم خاص حين حدث فيه الربا، فكان جنسًا، كأنواع التمر، وأنواع العنب.
فقولنا: (اسم خاص) احترازٌ من الثمرة، فإنه اسمٌ لجميع الثمار كلها من العنب والرطب، وكذلك أنواع الحبوب.
وقولنا: (حين حدث فيها الربا) احترازٌ من الأخباز والأدمة؛ لأنها أجناس، ولكن لم يجمعها اسم خاص حين حدث فيها الربا؛ لأن الربا كان ثابتًا في أصولها.
فعلى هذا: يكون لحم جميع الأنعام على اختلاف أجناسها، ولحم جميع الصيود البرية جنسًا واحدًا، وهل يدخل فيها لحم السمك؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب، وابن الصبّاغ ـ: أنه يدخل فيها؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم. ولهذا قال الله تعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12].
والثاني ـ وهو اختيار أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد ـ: أنه لا يدخل في جملتها، بل هو جنس وحده؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم، وإنما يسمى سمكًا حيًا وميتًا، ولو قال قائل: أكلت لحم السمك.. كان تعسُّفًا في الكلام، وإنما سماه الله تعالى: لحمًا؛ بالإضافة إلى البحر.
والقول الثاني: أن اللحمان أجناس، وهو اختيار المزني، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الصحيح؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس، فكانت أجناسًا، كالأدقة والأدهان.
فعلى هذا: لحوم الإبل كلها جنس واحد، على اختلاف أنواعها، وكذلك لحم البقر الأهلي، جواميسها وعرابها جنس واحد، ولحم بقر الوحش جنس غيرها، ولحم الضأن والمعز جنس واحد، ولحم الظباء جنس غيرها، وكذلك الطيور والصيود، كل صنف منها جنس، فالعصافير جنس، والوعول جنس، والأرانب جنس، والحمير جنس، والحمام جنس، والفواخت جنس، والقماري جنس.
وقال الربيع: كل ما عب وهدر جنس واحد. وليس بشيء؛ لأن ما انفرد باسم وصفة.. كان جنسًا.
وأما صيد البحر على هذا القول: فقال المسعودي في "الإبانة" [ق\219] فإن قلنا: إن الجميع من صيد البحر يسمى: حوتًا، حتّى يحل أكل كلبه وخنزيره.. فالجميع جنس واحد. إن قلنا: لا يسمى: حوتًا، فهو كصيود البر، أجناسٌ وهذا هو الصحيح.

.[فرع: أنواع اللحم]

اللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس، والألية جنس، والشحم جنس، والكبد جنس، والطحال جنس، والكلية جنس، وكل واحد من هذه الأجناس يجوز بيعه بالجنس الآخر منها متفاضلاً؛ لأنها مختلفة الأسماء والخلق.

.[فرع: أنواع الألبان والبيض]

وأما الألبان: فاختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: هي على قولين، كاللحمان.
ومنهم من قال: هي أجناس، قولاً واحدًا؛ لأنها تتولد من الحيوان، والحيوان أجناسٌ. والأول أصح. وأمّا البيض: فإن قلنا: إن اللحمان أجناس.. فالبيض أجناس. وإن قلنا: اللحمان جنس واحد.. ففي البيض وجهان، حكاهما الصيمري، أصحهما: أنها أجناس.