فصل: (فرع: اللبث في المسجد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: اللبث في المسجد]

ولا يجوز للجنب اللبث في المسجد، ويجوز له العبور فيه. وبه قال ابن عباسٍ، وابن مسعودٍ.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز له اللبث فيه، ولا العبور، إلا أن يحتلم في المسجد فيعبر فيه ليخرج).
وقال الثوري: يتيمَّم، ثمَّ يخرج منه.
وقال أحمد، وإسحاق: (إذا توضأ الجنب جاز له اللبث في المسجد).
وقال المزني، وداود: (يجوز له اللبث فيه).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. وأراد به: موضع الصلاة ـ فعبّر بـ (الصَّلاةِ) عن موضعها، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]. والصلوات: لا تهدّم، وإنما أراد به: مواضع الصلوات، وهي المساجد ـ لأن العبور لا يمكن في الصلاة، فثبت أنه أراد موضعها.
وقال جابٌر: (كان أحدنا يمرُّ في المسجد، وهو جنبٌ مجتازًا). ولا يفعلون ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بإذنه.
والدليل ـ على من جوز اللبث ـ: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أحل المسجد لجنب، ولا لحائض».

.[فرع: النوم مع الجنابة]

ويجوز للجنب: أن ينام قبل أن يغتسل؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنَّها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وهو جنبٌ لا يمس ماء».
والمستحبُّ له: أن يتوضَّأ، ثمَّ ينام؛ لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيرقد أحدنا وهو جنبٌ؟ فقال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد».
قال أبو عليّ الطبريُّ: وكذلك يستحبُّ له: أن يتوضأ إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو يطأ ثانيًا؛ لأن هذه الأسباب في معنى النوم. ولا يستحب ذلك للحائض؛ لأن حدثها لا يتخفَّف بالوضوء، بخلاف الجنب.
ولا يكره للجنب: أن يصافح غيره؛ لما روي «عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وهو جنبٌ، قال: (فانخنست) ـ يعنى: تنحَّيت ـ فاغتسلت ثم جئت، فقال: أين كنت؟ قلت: كنت نجسًا، فقال: إن المسلم لا ينجس».
وبالله التوفيق.

.[باب صفة الغُسلِ]

.[مسألة: كيفية الغسل ومستحباته]

ِ إذا أراد أن يغتسل من الجنابة فالمستحبُّ أن يقول: بسم الله، على جهة الذكر، ولا ينوي بذلك التلاوة، وينوي الغسل من الجنابة، أو الغسل لأمر لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، أو الجلوس في المسجد، ثمَّ يغسل كفَّيه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثم يغسل ما على فرجه من الأذى، ثمَّ يصبَّ الماء بيمينه على شماله، فيغسل ما بها من أذى، ثمّ يتمضمض ويستنشق ثلاثًا، ثمّ يتوضأ وضوءه للصّلاة، ثمّ يدخل أصابعه العشر في الماء، ويشرب بها أصول شعر رأسه ولحيته؛ ليكون أسهل لدخول الماء، ثمّ يحثي على رأسه ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ يفيض الماء على سائر جسده، ويدلك ما قدر عليه من بدنه بيديه.
والأصل فيه: ما روي «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وميمونة، وصفتا غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما وصفنا».
وهل يندب إلى غسل الرجلين بعد فراغه من الاغتسال؟
فيه قولان، حكاهما في "الإبانة" [ق\27].
أحدهما: يندب إليه؛ لما روي في حديث ميمونة: «ثمّ تحوَّل عن مكانه، فغسل قدميه».
والثاني: لا يندب، كسائر أعضاء الوضوء.
إذا ثبت هذا: فالواجب منه ثلاثة أشياء: النّيّة، وإزالة النجاسة، وإيصال الماء إلى البشرة الظاهرة وما عليها من الشّعر. وما زاد على ذلك سنّةٌ.
وقال أبو ثورٍ، وداود: (يجب الوضوء).
وقال مالكٌ، والمزنيُّ: (إمرار اليد على ما تناله من البدن واجبٌ).
وقال أبو حنيفة: (المضمضة والاستنشاق في الجنابة، واجبان).
دليلنا: ما روي: «أنّ أمّ سلمة قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغسل من الجنابة؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ تفيضي الماء على سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت».
ولم يأمرها بالوضوء، ولا بالتدليك، ولا بالمضمضة والاستنشاق.
«وروى جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما أنا: فيكفيني أن أصب الماء على رأسي ثلاثًا، ثمّ أفيض الماء بعد ذلك على سائر جسدي».
قال في "الأم" [1/35-36] (ويغسل ظاهر أذنيه وباطنهما؛ لأنهما ظاهرتان، ويدخل الماء فيما ظهر من صماخيه، وليس عليه غسل ما بطن).
قال الصيدلاني: وإن كان داخل عينيه شعرٌ لم يلزمه غسله.

.[فرع: غسل المرأة]

وإن كانت المرأة تغتسل كان غسلها كغسل الرجل. فإن كان لها ضفائر، فإن كان الماء يصل إليها من غير نقضها لم يجب عليها نقضها. وإن كان لا يصل إليها إلا بنقضها وجب عليها نقضها.
وقال النّخعيّ: يجب عليها نقضها بكل حالٍ.
وقال الحسن، وطاووسٌ: يجب عليها نقضها في غسل الجنابة دون الحيض.
دليلنا: ما روي «أنّ أم سلمة، قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للغسل من الجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت».
وإنما لم يأمرها بنقضها، لعلمه أنّ شعرها خفيف يصل الماء إليه من غير نقضٍ؛ لأنّ شعور العرب خفيفةٌ.
فإن كان في رأسها حشوٌ، فإن كان رقيقًا لا يمنع من وصول الماء إلى باطنه لم يلزمها إزالته، ولا اعتبار بأن يصل الماء إلى ما تحته صافيًا؛ لأن تغيّر الماء على العضو غير مؤثرٍ. وإن كان الحشو ثخينًا يمنع من وصول الماء إلى باطنه وجب إزالته ليصل الماء إلى باطن الشعر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحت كل شعرةٍ جنابةٌ».
وإن كان على الرجل شعرٌ فحكمه حكم شعر المرأة.
وإن كانت المرأة تغتسل من الحيض أو النفاس فالمستحبّ: أن تأخذ قطعة من مسكٍ فتتبع بها أثر الدّم؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي فرصةً من مسكٍ فتطهري بها، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: سبحان الله! تطهري بها قالت عائشة: فاجتذبتها، وعرَّفتها الذي أراد، فقلت: تتبعي بها أثر الدّم».
و (الفرصة): القطعة، و (الفرص): القطع.
قال المزني: فإن لم تجد مسكًا فطيبًا غيره، فإن لم تجد فالماء كافٍ.
فمن أصحابنا من صحّف ذلك، وقال: فطينًا بالنون، والصحيح: أنه أراد الطيب، وقد بيَّنه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم" [1/39]، فقال: (وإن لم يكن مسكٌ فطيب ما كان، اتباعا للسنّة).
قال ابن الصبّاغ: فإن تتبعته بالطين فلا بأس.

.[فرع: قدر ماء الغسل]

ويستحبّ: أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مدّ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يَغْتَسِلُ بِصَاعٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِمُدٍّ».
وروي: أنه «سئل جابرٌ عن الغسل؟ فقال:كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصّاع، ويتوضأ بالمدّ. فقال رجلٌ: إنه لا يكفيني، قال جابرٌ: قد كان يكفي من هو خيرٌ منك، وأوفر منك شعرًا».
فإن أسبغ دون ذلك، وأقله: أن يجري الماء على ما أمر بغسله.. أجزأه.
وقال أبو حنيفة ومحمّدٌ: لا يجزئه. وروي ذلك عن عمر في الغسل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. ولم يفرق.
وروى عبد الله بن زيد: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بثلثي مدّ».
ولأن ذلك يختلف باختلاف الأبدان وبالخرق والرّفق.

.[مسألة: وضوء الجماعة من إناء]

ويجوز أن يتوضأ الاثنان والثلاثة من إناء واحد؛ لما روى أنسٌ قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بوضوء في إناء؛ فوضع يده في ذلك الإناء، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وأمر النّاس أن يتوضؤوا، فتوضأ الناس من عند آخرهم، وكانوا نحوا من سبعين رجلاً».
وهذا من معجزات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أبلغ في الإعجاز من انفجار الماء لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصخرة؛ لأن العادة جرت أنّ الماء يخرج من الحجر، ولم تجر العادة أنّ الماء يخرج من اليد.
ويجوز: أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد».
وروى «ابن عمر: قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناءٍ واحدٍ».
ويجوز أن يتوضأ أحدهما، ويغتسل بفضل الآخر في الإناء.
وقال أحمد: يجوز للمرأة أن تتوضأ وتغتسل بفضل الرجل وبفضل المرأة، ولا يجوز للرجل أن يتوضأ أو يغتسل بفضل المرأة، إذا خلت به.
دليلنا: ما روي عن ميمونة: أنها قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل منها، فقلت: إني اغتسلت منه، فقال: إن الماء ليس عليه جنابةٌ واغتسل منه».
ولأن ما جاز للمرأة أن تتوضأ به.. جاز للرجل أن يتوضأ به، كفضل الرّجل، وعكسه الماء النجس.

.[مسألة: ليس في الغسل ترتيب الأعضاء]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما بدأ به الرجل والمرأة في الغسل.. أجزأهما).
وهذا صحيح؛ لأن الترتيب في الغسل ليس بواجب؛ لأنه فعل واحد في جميع البدن فهو كالعضو الواحد في الوضوء، إلا أنّ المستحبّ: أن يبدأ بما قدمناه.
قال في " البويطي ": (وأكره للجنب أن يغتسل في البئر، معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد قليلاً كان أو كثيرا، وكذلك التوضؤ فيه)؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة».
و (الدائم): هو الراكد، و (المعين): السائل.
فإن انغمس في بئر، أو نهر، أو وقف تحت ميزاب ماءٍ أو مطرٍ، فأتى الماء على جميع بشرته الظاهرة، وما عليها من الشعر، ونوى الغسل من الجنابة.. أجزأه، كما لو غسل ذلك بنفسه.

.[فرع: حكم وجود الحائل على الذّكر حال الجماع]

إذا لفّ على ذكره خرقةً، وأولجه في فرج امرأةٍ ولم ينزل.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه لا يجب عليهما الغسل؛ لأن ما أوجب الطهارة من الملامسة من غير حائل لم يوجب الغسل مع الحائل، كالطهارة الصّغرى.
والثاني: يجب عليهما الغسل؛ لأنه يسمّى مولجًا.
والثالث ـ وهو اختيار الصّيمري ـ: إن كانت الخرقة رقيقة..وجب عليهما الغسل؛ لأنّ وجودها كعدمها. وإن كانت صفيقةً.. لم يجب عليهما الغسل.
وإذا قلنا بالوجه الثاني، أو كانت الخرقة رقيقة في الثالث، ولم يباشر بدنه بدنها.. فإنه يكون جنبًا غير محدث.
وإن نظر إلى امرأة وهو على طهارةٍ، فأنزل، أو باشرها من وراء حائل وهو على طهارة، فأنزل، أو نام قاعدًا وهو على طهارة، فاحتلم.. فقد قال الشيخ أبو حامدٍ: إنه يكون جنبًا غير محدثٍ؛ لأنه يقال له: جنبٌ، ولا يقال له: محدثٌ.
وقال القاضي أبو الطيب: هو محدثٌ جنبٌ؛ لأنّ الحدث يحصل بخروج الخارج من أحد السبيلين، والجنابة تحصل بخروج المنيّ، فاجتمع فيه العلتان.
وإن كان الرجل جنبًا غير محدثٍ.. فإنه يجب عليه غسل جميع بدنه مرةً واحدةً من غير ترتيب، ويستبيح به ما يستبيح بالوضوء. وإن كان الرجل جنبًا محدثًا، بأن يولج ذكره في فرجها من غير حائل، أو ينام مضطجعًا فيحتلم، وما أشبه ذلك.. فقد وجب عليه الوضوء والغسل، وفيما يجزئه من ذلك من خمسة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المنصوص عليه ـ: (أنه إذا اغتسل بنية الجنابة، وأمر الماء على أعضاء الطهارة مرّةً واحدة من غير ترتيبٍ.. أجزأه عنهما)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. ولم يفرّق؛ ولأنهما طهارتان فتداخلتا، كغسل الجنابة والحيض.
والوجه الثاني: يجب عليه الوضوء مرتبًا والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان، يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة.
فعلى هذا: يجب عليه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرتين، ويجب عليه الترتيب في أعضاء الطهارة، ويحتمل: أن تجب عليه نيّة الوضوء مع نيّة الجنابة. ولا فرق بين أن يتوضأ أولا ثمّ يغتسل، أو يغتسل أولا ثمّ يتوضأ.
والثالث: يجب عليه الوضوء مرتبًا، ويجب عليه غسل سائر بدنه؛ لأنهما متفقان في الغسل مختلفان في الترتيب، فتداخلا فيما اتفقا فيه.
فعلى هذا: يجزئه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرّة واحدة لهما، ويحتمل: أن تجزئه نيّة الجنابة عن نيّة الوضوء، على هذا.
والرابع: أنه يقتصر على غسل واحد، ولا يجب عليه الترتيب؛ إلاّ أنه يجب عليه أن ينويهما، كما نقول فيمن جمع بين الحج والعمرة.
والخامس ـ حكاه في "الفروع" ـ: إن أحدث ثمّ أجنب، فعليه الوضوء والغسل. وإن أجنب ثمّ أحدث، كفاه الغسل.
فإذا قلنا بالمنصوص: فغسل الجنب جميع بدنه عن الجنابة إلا أعضاء الوضوء، ثمّ أحدث.. لم يلزمه الوضوء؛ لأن حكم الجنابة باقٍ فيها، فلا يؤثر فيها الحدث، ويجزئه غسل أعضاء الطهارة من غير ترتيب.
وإن غسل الجنب أعضاء الوضوء دون بقية بدنه، ثم أحدث.. لزمه أن يتوضأ مرتبًا وجهًا واحدًا؛ لأن حدثه صادف أعضاء الوضوء، وقد زال حكم الجنابة منها، فلزمه الوضوء مرتبًا.
وإن غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، ثمّ أحدث.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو قول ابن الحداد، وهو المشهورـ: أنه لا يتعلق حكم الحدث في الرجلين؛ لوجود حدث الجنابة فيهما، فيغسلهما عن الجنابة، ويغسل باقي أعضاء الطهارة مرتبًا.
قال القاضي أبو الطيب على هذا: فهذا وضوءٌ ليس فيه غسل الرجلين، وإن شئت.. قلت: هذا وضوءٌ يبدأ فيه بغسل الرجلين، ولا نظير له.
والثاني ـ حكاه في "الفروع" ـ وهو: أنه يجب عليه الترتيب في الرجلين؛ تبعًا لوجوب الترتيب في باقي الأعضاء.
والثالث ـ حكاه أيضًا ـ: أنه يسقط الترتيب في باقي الأعضاء أيضًا؛ لسقوطه في الرجلين.
قال القاضي أبو الطيب: فإن كان محدثًا، فاعتقد أنه جنبٌ، فاغتسل من غير ترتيب، فإن قلنا بالمنصوص ـ في الجنب إذا كان محدثًا ـ: أنه يكفيه غسلٌ واحدٌ من غير ترتيب.. فهل يجزئه ها هنا الغسل في أعضاء الوضوء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الغسل يجزئ عن الحدثين معًا وإن لم يرتب، فلأن يجزئ عن الأصغر أولى.
والثاني: لا يجزئه ـ وهو الصحيح ـ لأنه أسقط الواجب بالتطوع، ويخالف إذا كانا واجبين؛ لأن حكم الحدث يسقط مع الجنابة، فكان الحكم لها.

.[فرع: الجنب إذا اغتسل للحدث]

وإن كان جنبًا، فنسي الجنابة واغتسل عن الحدث.. أجزأه ذلك في أعضاء الوضوء دون غيرها.
وكذلك إذا توضأ عن الحدث.. أجزأه ما غسله من أعضاء الطهارة عن الجنابة. وكذلك لو غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، فنسي الجنابة وغسلهما بنيّة الوضوء.. أجزأه عن الجنابة؛ لأن فرض الطهارة في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحدٌ، فأجزأه غسلهما، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ فيمن نسي الجنابة، فتيمّم عن الحدث ـ: (أجزأه؛ لأنه لو ذكر الجنابة.. لم يكن عليه أكثر ممّا فعل). وكما لو توضأ ينوي: أنّ حدثه ريحٌ، فكان بولاً. أو اغتسلت المرأة بنيّة الغسل عن الحيض، وكانت نفساء أو جنبًا.

.[فرع: قطع ما ترك من الشعر بلا غُسلٍ]

ٍإذا غسل الجنب جميع بدنه إلا طرف شعره، فقطع ما بقي من الشعر ممّا لم يغسله.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها:
فمنهم من قال: يجب عليه غسل ما ظهر من الشعر بالقطع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. والقطع لا يسمى غسلا.
ومنهم من قال: لا يجب عليه شيء؛ لأنه زال ما وجب غسله، فهو كما لو توضأ وترك رجله، ثم قطعت من فوق الكعب.. فإنه لا يجب عليه غسل ما ظهر بالقطع عن الحدث. وبالله التوفيق.

.[باب التيمُّم]

الأصل في جواز التيمّم: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
والتيمّم في اللغة: هو القصد، تقول العرب: تيممت فلانًا، أي: قصدته. قال امرؤ القيس:
فلما رأت أنّ الشّريعة همها ** وأنّ البياض من فرائضها دامي.

تيممت العين التي عند ضارج ** يفيء عليها الظل عرمضها طامي.

وكذلك التيمّم في الشرع، هو القصد إلى الصعيد.
وقد اختلف في قدر الممسوح، وعدد المسح:
فذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: أنّ التيمّم هو مسح الوجه واليدين إلى المرفقين، بضربتين أو أكثر. وروي ذلك عن ابن عمر، وجابر وإحدى الروايتين عن عليّ، وهو قول الشعبي، والحسن، ومالكٍ، والثوري، وأبي حنيفة.
وذهب الزهري إلى: أنه يمسح وجهه بضربةٍ، ويمسح يديه بضربةٍ إلى المنكبين.
وقال ابن المسيب، وابن سيرين: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للكفين، وضربة للذراعين.
وقال عطاءٌ، ومكحولٌ، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن جريرٍ: (ضربةٌ واحدةٌ للوجه، واليدين إلى الكفين) وهو اختيار ابن المنذر.
وروي عن علي: أنه قال: (ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين إلى الكفّين).
وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وليس بصحيح؛ وإنما قال في القديم: (والتيمّم: أن تضرب ضربة فتمسح بها وجهك، ثمّ تضرب أخرى فتمسح بها يديك إلى المرفقين، وقد روي فيه شيء لم يثبت، ولم ثبت لم أعده). فخرجوا ذلك قولاً، وليس بشيء.
ودليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمّم فمسح وجهه وذراعيه». وروى ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين». ولأنه بدل يؤتى به في محلّ مبدله، فكان حده فيهما واحدًا، كالوجه.
إذا ثبت هذا: فيجوز التيمّم عن الحدث الأصغر، وهو: حدث الغائط، والبول، والريح، ولمس النساء، ومسّ الفرج. وعن الحدث الأكبر وهو: الجنابة، والحيض، والنّفاس. وبه قال علي، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري. وروي عن عمر، وابن مسعود: أنهما قالا: (لا يجوز للجنب أن يتيمّم). وبه قال النخعي. وقيل: إنهما رجعا عن ذلك.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
قال زيد بن أسلم: وترتيبها: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]ـ يعني: من النوم ـ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى آخر الكلام، ثمّ بيّن حكم الجنب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] يعني: فاغتسلوا، ثمّ بيّن حكم المحدث والجنب معًا، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، فاشتملت الآية عليهما.
«وروى عمّارٌ قال: أجنبت فتمعّكت بالتراب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما كان يكفيك هكذا: وضرب بيديه على الأرض، ومسح بها وجهه وكفيه».
«وروى عمران بن الحصين قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انفتل من الصلاة رأى رجلا لم يصل.. فقال له: لم لم تصل؟ فقال: كنت جنبا، ولم أجد الماء، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:الصعيد يكفيك».
«وروى أبو ذرّ قال: اجتويت المدينة ـ يعني: كرهت المقام فيها ـ فأمر لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذود وبغنم، وقال لي: ابد ابد يعني: اخرج إلى البادية ـ فخرجت بأهلي إلى الربذة، فكنت أعدم الماء الخمسة الأيام والستة وأنا جنب، فأصلي بغير طهور، ثم قدمت المدينة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أبو ذر؟ قلت: نعم، هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟، فقصصت عليه القصّة، وقلت: إني كنت أصلي بغير طهورٍ، فأمر لي بماء، فاستترت براحلته واغتسلت، ثمّ أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا أبا ذرّ، الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته».
فإن وجد الجنب الماء بعد التيمّم.. لزمه استعمال الماء، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لا يلزمه استعمال الماء؛ بل له أن يصلي بتيمّمه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته».
ولا يصح التيمّم عن إزالة النجاسة.
وقال أحمد: (يصح).
دليلنا: أن التيمّم مسح الوجه واليدين، وقد تكون النجاسة في غير الوجه واليدين، فكيف يؤمر بمسح الوجه واليدين عن نجاسة في غيرهما؟! كما لا يجوز أن يغسل وجهه ويديه لنجاسة في غيرهما، ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وذلك لا يزول بالتيمّم.