فصل: (فرع: المرتهن يحول المساقي)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: المرتهن يحول المساقي]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أراد الراهن تحويل المساقي، فإن كان يضر بالرهن.. لم يكن له ذلك).
قال الشيخ أبو حامد: والمساقي، جمع: مسقى، وهو: الإجانة التي تكون حول النخل، يقف الماء فيها ليشربه النخل، فإذا أراد أن يحولها الراهن من جانب إلى جانب، فإن لم يكن فيه ضرر على النخل.. جاز له ذلك. وإن كان فيه ضرر على النخل.. لم يجز له ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: فأما المرتهن إذا أراد أن يفعل ذلك.. لم يكن له؛ لأنه يتصرف في ملك الراهن، ولا يجوز له التصرف في ملك غيره، وليس هذا كتدهين الجرباء من الماشية بالدهن والقطران؛ لأن في التدهين بذلك منفعة من غير مضرة، فوزانه من النخل: إن احتاج إلى سقي.. فللمرتهن أن يسقي النخل بغير إذن الراهن؛ لأن فيه منفعة من غير مضرة.

.[مسألة: أزال مالك الرهن ملكه عنه]

وإن أزال الراهن ملكه عن الرهن بغير إذن المرتهن.. نظرت:
فإن كان ببيع، أو هبة، وما أشبههما من التصرفات.. لم يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار». وفي هذه التصرفات إضرار على المرتهن، ولأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من الراهن بغير إذن المرتهن، كالفسخ.
فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق.
وقولنا: (يبطل به حق المرتهن من الوثيقة) احتراز من إجارته وإعارته للانتفاع به.
وقولنا: (بغير إذن المرتهن) احتراز منه إذا أذن.
وإن كان الرهن رقيقا، فأعتقه الراهن بغير إذن المرتهن.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم": (إن كان موسرا.. نفذ عتقه، وإن كان معسرا.. فعلى قولين).
وقال في القديم: (قال عطاء: لا ينفذ عتقه، موسرا كان أو معسرا). ولهذا وجه. ثم قال: (قال بعض أصحابنا: ينفذ إن كان موسرا، ولا ينفذ إن كان
معسرا). واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فقال أبو علي الطبري، وابن القطان: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا.
والثاني: لا ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا.
والثالث: إن كان موسرا.. نفذ، وإن كان معسرا.. لم ينفذ. وهذه الطريقة اختيار الشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.
وقال أبو إسحاق المروزي: القولان في الموسر، وأما المعسر: فمرتب على الموسر، فإن قلنا: إن عتق الموسر لا ينفذ.. فالمعسر أولى أن لا ينفذ عتقه. وإن قلنا: عتق الموسر ينفذ.. ففي عتق المعسر قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: في عتق الموسر والمعسر قولان، وما حكاه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الفرق بين الموسر والمعسر.. فإنما حكى قول غيره، ولم يختره لنفسه. قال: وترتيب أبي إسحاق ليس بشيء. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح من القولين في الموسر: أن عتقه ينفذ، والصحيح من القولين في المعسر: أنه لا ينفذ عتقه.
فإذا قلنا: إن عتقه يصح موسرا كان أو معسرا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما.. فوجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق إلا في نكاح، ولا عتق إلا فيما يملكه ابن آدم» وهذا يملكه، ولأن الرهن محبوس على استيفاء حق، فجاز أن يلحقه عتق المالك، كالمشتري إذا أعتق العبد المبيع في يد البائع قبل أن ينقد الثمن، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك، فلم يمنع صحة العتق، كالإجارة والنكاح، وفيه احتراز من البيع والهبة.
فعلى هذا: إن كان موسرا.. أخذت من الراهن قيمة الرهن عند الحكم بعتقه، وجعلت رهنا مكانه، ولا يفتقر إلى تجديد عقد الرهن على القيمة؛ لأنها قائمة مقام الرهن. وإن كان معسرا.. وجبت القيمة في ذمته، فإن أيسر قبل محل الدين.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، إلا أن يختار تعجيل الدين، فله ذلك. وإن لم يؤسر إلا بعد محل الدين.. طولب بقضاء الدين. ومتى يحكم بالعتق؟ فيه طريقان:
الطريق الأول من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتق بلفظ الإعتاق.
والثاني: لا يعتق إلى بدفع القيمة.
والثالث: أنه موقوف، فإن دفع القيمة.. علمنا أنه قد كان عتق بلفظ الإعتاق، وإن لم يدفع القيمة.. علمنا أنه لم يعتق، كما لو أعتق الموسر شقصا له من عبد.. فإن نصيب شريكه يعتق عليه، ومتى يعتق؟ على هذه الأقوال.
والطريق الثاني منهم من قال: يعتق بلفظ العتق، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان كعتق الشقص.. لم ينفذ عتق المعسر، كما لا يعتق نصيب الشريك من المعسر.
وإذا قلنا: لا ينفذ إعتاقه موسرا كان أو معسرا.. فوجهه: أن العتق معنى تبطل به الوثيقة من غير الرهن، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، ولأن حق المرتهن متعلق بمحلين: ذمة الراهن، وعين الرهن. ولو أراد الراهن أن يحول الحق من ذمته إلى ذمة غيره.. لم يصح بغير رضا المرتهن، وكذلك إذا أراد تحويل حقه من عين الرهن إلى غيره.
فعلى هذا: يكون الرهن بحاله. وإذا حل الحق، وبيع العبد في الدين.. صح البيع.
وإن قضى الراهن الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن، أو بيع في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل ينفذ عتقه الأول؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينفذ، وبه قال مالك رحمة الله عليه، لأنا إنما لم نحكم بصحته؛ لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فوجب أن يحكم بصحته، كالإحبال.
والثاني وهو المذهب: أنه لا ينفذ؛ لأنه عتق لم يصح حال الإعتاق، فلم يصح فيما بعد، كالمحجور عليه إذا أعتق عبده، ثم فك عنه الحجر، ويخالف الإحبال فإنه أقوى، ولهذا نفذ إحبال المجنون، ولم ينفذ عتقه.
وإذا قلنا: ينفذ إعتاق الموسر، ولا ينفذ إعتاق المعسر.. فوجهه: أنه عتق في ملكه يبطل به حق الغير، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك، ولأنه لا ضرر على المرتهن في إعتاق الموسر، فصح، وعليه ضرر في إعتاق المعسر، فلم يصح، كما قلنا في العبد المأذون له في التجارة، إذا كان في يده عبد، فأعتقه سيد المأذون، فإن كان لا يدن على المأذون له.. نفذ عتق السيد في العبد، وإن كان عليه دين.. لم ينفذ.
فعلى هذا: إن كان الراهن موسرا.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، وتعتبر القيمة وقت العتق. ومتى يعتق؟ الذي يقتضي المذهب: أنه على الأقوال الثلاثة في عتق نصيب الشريك. وإن كان المعتق معسرا.. فالرهن بحاله، فإن أيسر قبل محل الدين، أو قضى الدين عنه أجنبي، أو أبرأه المرتهن، أو بيع العبد في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل يعتق عليه بإعتاقه الأول؟ ينبغي أن يكون على الوجهين إذ قلنا: لا ينفذ عتقه بحال.

.[مسألة: جواز رهن الجارية الموطوءة]

وإن كان له جارية، فوطئها، ثم رهنها.. صح الرهن؛ لأن الأصل عدم الحمل، فلم يمنع صحة الرهن. وهكذا: لو رهنها، ثم وطئها، ثم أقبضها عن الرهن.. صح الإقباض؛ لأن الرهن قبل القبض غير لازم، فهو كما لو وطئها، ثم رهنها. فإن ولدت بعد الإقباض.. نظرت:
فإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. لم يلحق الولد بالراهن، ولم يبطل الرهن في الأم؛ لأنها لم تصر أم ولد له، وكان الولد مملوكا.
وإن وضعت الولد لستة أشهر من وقت الوطء.. نظرت:
فإن اعترف الراهن عند تسليمها: أنه كان قد وطئها، ولم يستبرئها.. صارت أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ويبطل الرهن فيها؛ لأنه بان أنه رهنها بعد أن صارت أم ولد. وهل يثبت للمرتهن الخيار في البيع إن كان رهنها مشروطا في البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما قال القاضي أبو الطيب: لا خيار له. وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد؛ لأنه قبضها مع الرضا بالوطء، فصار بمنزلة رضاه بالعيب.
والثاني ـ ذكره الشيخ أبو حامد في "التعليق"، وهو قول ابن الصباغ ـ: أن له الخيار؛ لأنه باع بشرط أن يتسلم رهنا صحيحا، ولم يسلم له ذلك، ولأنا إذا جعلنا الأصل عدم الحمل، وصححنا عقد الرهن.. لم يكن رضا المرتهن بقبض الموطوءة رضا بالحمل، فثبت له الخيار.
وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر، ولأربع سنين فما دونها من وقت الوطء.. ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\263-264]:
أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنها كالأولى؛ لأنا نتبين أن الولد كان موجودا وقت الإقباض، فيلحق النسب بالراهن، وتصير أم ولد له، ويبطل الرهن.
والثاني: لا يبطل الرهن؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، ولا يبطل الرهن بالاحتمال.
وإن وضعت الولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء.. لم يلحق نسبه بالراهن، ولم تصر الجارية أم ولد له، ولا يبطل الرهن، لأنا نعلم أن هذا الولد حدث من وطء بعد الرهن.
وإن ولدت لستة أشهر من وقت الإقباض، فقال الراهن عند ذلك: كنت وطئتها قبل الإقباض.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان، كما لو رهن عبدا، وأقبضه، ثم أقر
الراهن: أن العبد كان جنى خطأ على غيره قبل الرهن، وصدقه المقر له، وأنكر المرتهن، ويأتي توجيههما إن شاء الله تعالى.

.[فرع: لا يحل وطء الراهن الجارية إلا بإذن المرتهن]

]. فأما إذا رهن جارية، فأقبضها.. فلا يحل له وطؤها بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه ضررا على المرتهن؛ لأنها ربما حبلت، فتموت منه، أو تنقص قيمتها. فإن خالف، ووطئ.. فلا حد عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، ولا مهر عليه؛ لأن غير الراهن لو وطئها بشبهة، أو أكرهها.. لكان المهر للراهن، فإن وطئها الراهن.. لم يجب عليه مهر لنفسه. فإن أفضاها، أو كانت بكرا، فافتضها.. وجبت عليه قيمتها بالإفضاء، وأرش ما نقصها الافتضاض؛ لأن ذلك بدل عن جزء منها، ويكون الراهن بالخيار: إن شاء.. جعل ذلك قصاصا من الحق إن كان لم يحل، وإن شاء.. جعله رهنا معها إلى أن يحل الحق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أظن أن عاقلا يجعل ذلك رهنا)، فيكون أمانة؛ لأنه يمكنه أن يجعله قصاصا من الحق. وإن حبلت من هذا الوطء.. انعقد الولد حرا، وثبت نسبه من الراهن. وهل تصير الجارية أم ولد، ويبطل الرهن؟
قال عامة أصحابنا: هو كما لو أعتقها الراهن بعد الإقباض بغير إذن المرتهن على الأقوال المذكورة في العتق.
وقال أبو إسحاق المروزي: إن قلنا: ينفذ عتقه.. نفذ إحباله. وإن قلنا: لا ينفذ عتقه.. فهل ينفذ إحباله؟ فيه وجهان؛ لأن الإحبال أقوى؛ لأنه ينفذ من المجنون، ولا ينفذ عتقه. والأول أصح.
فإن قلنا: ينفذ إحباله، وتصير أم ولد.. فالحكم فيه، كالحكم إذا قلنا: يصح عتقه على ما مضى.
وإن قلنا: لا ينفذ إحباله، ولا تصير أم ولد.. فإنما نريد بذلك: أنها لا تصير أم ولد للراهن في حق المرتهن، ولا يبطل به الرهن.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أراد الراهن أن يهبها من المرتهن.. لم تصح الهبة.
فعلى هذا: يكون الولد حرا ثابت النسب من الراهن، فما دامت حاملا لا يجوز بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز بيعها واستثناء الولد عن البيع، كما لا يجوز استثناء بعض أعضائها، ولا يجوز بيعها مع الولد؛ لأن الحر لا يصح بيعه.
فإن ماتت من الولادة.. وجب على الراهن قيمتها؛ لأنها هلكت بسبب من جهته تعدى به، فلزمه ضمانها، كما لو جرحها، فماتت منها، ومتى تعتبر قيمتها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تعتبر قيمتها حين وطئها؛ لأنه حين الجناية، كما لو جرحها، وماتت.. فإن قيمتها تعتبر يوم جرحها.
والثاني: تعتبر قيمتها أكثر ما كانت من حين وطئها إلى أن ماتت، كما لو غصب جارية، وأقامت في يده، ثم ماتت.
والثالث ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أن قيمتها تعتبر حين ماتت؛ لأن التلف حصل به.
وحكي: أن أبا علي ألزم إذا جرحها، فسرى إلى نفسها، فالتزم ذلك، وقال: يجب قيمتها يوم موتها.
قال أصحابنا: وهذا خطأ، بل تعتبر قيمتها يوم الجراحة، وإن لم تمت، ولكن نقصت قيمتها بالولادة.. لزم الراهن أرش النقص، فإن شاء.. جعل ذلك رهنا، وإن شاء.. جعله قصاصا من الحق.
وإن ولدت.. فلا يجوز بيعها قبل أن تسقي الولد اللبأ؛ لأن الولد لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت:
فإن لم توجد له مرضعة.. لم يجز بيعها حتى تفطمه؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه.
وإن وجد من ترضعه غيرها.. جاز بيعها بحق المرتهن.
فإن قيل: كيف جاز التفريق بينها وبين الولد؟ قيل: إنما لا يجوز التفريق بينهما إذا كان يمكن الجمع بينهما في البيع، وهاهنا لا يجوز بيع الولد، فلذلك فرق بينهما.
فإن كان الدين يستغرق قيمتها.. جاز بيع جميعها. وإن كان الدين أقل من قيمتها.. بيع منها بقدر الدين، إلا إن لم يوجد من يشتري بعضها، فتباع جميعها للضرورة، فيدفع إلى المرتهن حقه، والباقي من ثمنها للراهن. وإن بيع بعضها بدين المرتهن. انفك الباقي منها من الرهن، وكان ما بيع منها مملوكا للمشتري، وما انفك أم ولد للراهن. فإن مات الراهن.. عتق عليه ما انفك فيه الرهن، ولم يقوم عليه الباقي وإن كانت له تركة؛ لأنه عتق على الميت، والميت لا مال له؛ لأن بالموت صار ماله لورثته. وإن رجع هذا المبيع إلى الراهن بهبة، أو بيع، أو إرث، أو بيع جميعها، ثم رجعت إليه، أو أبرأه المرتهن عن دينه.. ثبت لها حكم الاستيلاد، وعتقت على الراهن بموته على هذا القول.
وقال المزني: لا يثبت لها حكم الاستيلاد على هذا، كما قلنا فيه: إذا أعتقها، وقلنا: لا ينفذ عتقه، ثم رجعت إليه. وهذا ليس بشيء؛ لأنا إنما حكمنا بأن إحباله لم ينفذ في حق المرتهن لا غير، بدليل: أنه لو وهبها من المرتهن.. لم تصح هبته. فإذا زال حق المرتهن.. ثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو قال رجل: العبد الذي في يد فلان حر.. فإنه لا يعتق على من هو بيده، ثم ملكه الشاهد له بذلك.. لعتق عليه.. ويفارق الإحبال العتق؛ لأن الإحبال فعل له تأثير لا يمكن رفعه إذا وقع، والعتق قول، فإذا بطل في الحال.. لم يصح فيما بعد؛ لأن الإحبال يصح من المجنون والسفيه، ولا يصح عتقهما.

.[مسألة: وقف الرهن بغير إذن المرتهن]

وإن وقف الراهن الرهن بعد القبض بغير إذن المرتهن.. ففيه وجهان، حكاهما في "المهذب":
أحدهما: انه كالعتق، فيكون على الأقوال؛ لأنه حق لله تعالى لا يصح إسقاطه بعد ثبوته، فصار كالعتق.
فقولنا: (لأنه حق لله) احتراز من البيع والهبة.
وقولنا: (لا يصح إسقاطه بعد ثبوته) احتراز من التدبير، فإنه إذا رهن عبدا، وأقبضه، ثم دبره.. لم يحكم ببطلان التدبير.
والوجه الثاني: أن الوقف لا يصح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، والهبة.
فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق.

.[مسألة: إحبال الراهن الجارية بإذن المرتهن]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. خرجت من الرهن). وهذا كما قال: إذا رهنه جارية، وأقبضه إياها، ثم إن المرتهن أذن للراهن بعتقها فأعتقها.. صح ذلك، قولا واحدا، وكذلك: إذا أذن له بوطئها.. جاز له وطؤها؛ لأن المنع من ذلك لحق المرتهن، فإذا أذن له فيه.. زال المنع.
فإن حبلت من الوطء المأذون فيه.. صارت أم ولد للراهن، وخرجت من الرهن، قولا واحدا؛ لأن ذلك ينافي الرهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. صار كما لو أذن له في فسخ الرهن، ولو أذن له في الفسخ، ففسخ.. انفسخ الرهن.
فإن قيل: إنما أذن في الوطء دون الإحبال؟
فالجواب: أنه وإن لم يأذن في الإحبال، إلا أن الإحبال من مقتضى إذنه، مع أن الواطئ لا يقدر على الإحبال، وإنما الإحبال من الله سبحانه وتعالى، ولم يفعل الواطئ أكثر مما أذن له فيه، فإذا أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. لم يجب عليه قيمتها؛ لأن الإتلاف حصل بإذن المرتهن، فصار كما لو أذن له في قتلها، فقتلها.. فإنه لا قيمة للمرتهن على الراهن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم": (وإن أذن المرتهن للراهن في ضرب الجارية المرهونة، فضربها الراهن، فماتت من الضرب.. انفسخ الرهن، ولم يجب على الراهن قيمتها)؛ لأنه أذن له في الضرب إذنا طلقا، فأي ضرب ضربها.. فإنه مأذون
فيه، وما تولد من المأذون فيه.. فلا شيء عليه لأجله.
فإن قيل: أليس قد أذن للإمام في الضرب في التعزير، وللزوج أن يضرب زوجته، وللمعلم أن يضرب الصبي، ثم إذا أدى ضرب واحد منهم إلى التلف.. كان عليه الضمان؟
قلنا: الفرق بين هؤلاء والراهن: أن هؤلاء إنما أبيح لهم الضرب على وجه التأديب بشرط السلامة، فإن أدى ضربهم إلى التلف.. كان عليهم الضمان؛ لأنه غير مأذون فيه، وليس كذلك الراهن، فإن الإذن له وقع مطلقا، فأي ضرب ضربه.. فهو مأذون له فيه.
قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الإذن في تأديبه، أو تضمنه إذنه، فيشترط فيه حينئذ السلامة عندي، كما قلنا في الضرب الشرعي.

.[فرع: اختلاف المتراهنين في إلحاق الولد]

وإذا أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة، فأتت بولد، ثم اختلفا فيه، فقال الراهن: هذا الولد مني، وقال المرتهن: هذا الولد من زوج أو زنا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الراهن).
قال أصحابنا: وأراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول الراهن إذا أقر المرتهن بأربعة أشياء:
أحدها: أن يقر أنه قد أذن له بالوطء.
الثاني: أن يقر أن الراهن قد وطئها.
الثالث: أن يقر أن هذا الولد ولدته هذه الجارية.
الرابع: أن يقر بأنه قد مضى من حين الوطء أقل مدة الوضع.
فإذا أقر المرتهن بهذه الأربعة الأشياء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم": (فالقول قول الراهن بلا يمين؛ لأنه إذا اعترف بوطء جاريته.. صارت فراشا له، فإذا أتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحقه نسبه. ولو ادعى أنه ليس منه.. لم يقبل قوله، فلا معنى لاستحلافه).
وأما إذا قال المرتهن: لم آذن بالوطء. أو قال: أذنت لك به، ولم تُطأ.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ذلك، وبقاء الوثيقة.
وهكذا: لو أنكر مضي مدة الحمل.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها.
وكذلك: إذا قال: هذا الولد لم تلده الجارية.. فعلى الراهن البينة أنها ولدته، فإذا لم تقم بينة على ذلك.. حلف المرتهن؛ لأن الأصل عدم ولادتها له.

.[مسألة: وطء المرتهن الجارية المرهونة]

وأما المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة، فإن كان بغير إذن الراهن، فإن كان عالما بالتحريم.. وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيها؛ لأن عقد الرهن عقد استيثاق بالعين، ولا مدخل لذلك في إباحة الوطء، ولأن الحد لا يسقط بالوطء المحرم إلا لأحد ثلاثة أشياء:
أولها إما لشبهة عقد، بأن يتزوجها بغير ولي أو لا شهود؛ لاختلاف العلماء في صحته.
ثانيها أو لشبهة في الموطوءة، بأن يطأ جارية ابنه، أو الجارية المشتركة بينه وبين غيره.
ثالثها أو لشبهة في الفعل، بأن يطأ امرأة يظنها جاريته أو امرأته.
وليس هاهنا واحد من ذلك. فإن أولدها.. فالولد مملوك للراهن، ولا يثبت نسبه من المرتهن.
وأما المهر: فإن أكرهها على الوطء، أو كانت نائمة، فوطئها.. فعليه المهر؛ لأنه وطء يسقط به الحد عن الموطوءة، فلم يعر من وطئها في نكاح فاسد. وإن طاوعته على الوطء.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه).
ومن أصحابنا من قال: فيه قول مخرج: أنه يجب عليه المهر؛ لأن المهر حق للسيد، فلا يصح بذل الجارية له، كأجرة منافعها. والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي».
و(البغي): الزانية. وهذه زانية.
وإن ادعى الجهالة بتحريمه، فإن لم يحتمل صدقه، بأن يكون ناشئا في أمصار المسلمين.. لم يقبل قوله في ذلك؛ لأن الظاهر ممن نشأ بين المسلمين أنه لا يخفى عليه ذلك، فيكون حكمه حكم الأولى. وإن احتمل صدقه، بأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو كان مسلما ناشئا في بادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات».
وروي: أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه زوج جارية له من راع، فزنت، فأتى بها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال لها عمر: (يا لكعاء زنيت؟ فقال: من مرغوش بدرهمين، فقال أمير المؤمنين عمر لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: ما تقول في هذا؟ فقال: قد اعترفت، عليها الحد. ثم قال لعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أقول: كما قال أخي علي، فقال
لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أراها تستهل به، كأنها لا تعلم، وإنما الحد على من علم. فدرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه عنها الحد).
قال الشيخ أبو حامد: بعض أهل الحديث قالوا: هو مرغوش بالشين. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو بالسين. قال: فسألت عنه جماعة من أهل اللغة، فلم يعرفوه، إلا فلانا قال: هو اسم طير.
وأما المهر: فإن أكرهها المرتهن.. فعليه المهر. وإن طاوعته، فإن كانت جاهلة أيضا.. فعليه المهر. وإن كانت عالمة بالتحريم.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه).
وعلى القول المخرج.. عليه المهر. وإن أولدها.. فالولد حر ثابت النسب من المرتهن، وعليه قيمته يوم يسقط.
وأما إذا وطئها المرتهن بإذن الراهن.. فإن عامة العلماء قالوا: لا يحل له الوطء، إلا عطاء، فإنه قال: يحل له الوطء.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\264 و 265] وهل يكون قول عطاء شبهة يسقط به عنه الحد مع العلم بالتحريم؟ فيه وجهان.
وذكر القاضي أبو الطيب: أن الإذن شبهة في حق العامة يحتمل صدقهم معه في دعوى الجهالة؛ لأن إذن المالك قد يعتقد به قوم جواز الوطء.
وذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق": إذا كان المرتهن عالما بأن إذن الراهن لا يبيح له الوطء.. فالحكم فيه كالحكم فيه إذا وطئها بغير إذن، إلا في شيء واحد، وهو أنه إذا وطئها بغير إذنه، وكانت مكرهة على الوطء، أو نائمة.. وجب هناك المهر، قولا واحدا، وهاهنا على قولين.
وإن كان المرتهن جاهلا لا يعلم أن ذلك لا يجوز.. فلا حد عليه، والولد حر ثابت النسب منه.
وأما المهر: فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنها إذا طاوعته.. فلا مهر عليه، قولا واحدا؛ لأن إذن المالك للمنفعة وجد، فهي كالحرة المطاوعة. وإن كانت مكرهة، أو نائمة.. فهل يجب المهر؟ فيه قولان.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فأطلق القولين:
أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط به الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر وإن حصل به الرضا، كالوطء في النكاح الفاسد بغير مهر.
والثاني: لا يجب، لأن هذا الوطء يتعلق به حق الله تعالى، وحق الآدمي، سقط حق الآدمي بإذنه، كما لو أذن له في قتل عبده، أو أذن له في قتل صيده، وهو محرم. فإنه لا يجب عليه قيمة العبد والصيد وإن وجبت الكفارة والجزاء.
وأما قيمة الولد.. فقد قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: (تجب قيمته يوم خرج حيا).
فمن أصحابنا من قال: في قيمة الولد قولان، كالمهر، وإنما نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحدهما.
ومنهم من قال: تجب قيمة الولد، قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: والفرق بينهما: أن المهر بدل عن الوطء، وقد وقع الإذن في الوطء صريحا، فسقط بدله، وليس كذلك الولد؛ لأنه وإن كان من متضمن الوطء، فليس ببدل عنه؛ لأن الوطء قد يكون ولا ولد منه، ولم يقع الإذن فيه. فلم يسقط بدله.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا الفرق ليس بصحيح؛ لأنه لو أذن له في قطع أصبع منه، فقطعها، فسرت إلى أخرى.. لم يضمن واحدة منهما.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يقال: لأن إذنه لم يفسد حرية الولد، وإنما شبهة الوطء أتلفت رق الولد، فضمنه بقيمته؛ لأن ذلك ليس بمتولد من المأذون فيه.