فصل: (فرع: استدان عنبا أو رطبا فخلطه بمثله ثم أفلس)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: استدان زيتا وخلطه بزيته وأفلس]

وإذا ابتاع شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه، ولم يتميز.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يخلطه بمثله، مثل: أن يشتري صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم، وأفلس المشتري قبل دفع الثمن.. فللبائع أن يرجع في عين ماله؛ لأن عين ماله موجودة من جهة الحكم، فإن طلب البائع قسمة الزيت.. أجبر المفلس والغرماء على القسمة، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم قسمته.. فإنه يقسم، ويجبر الممتنع منهم. وإن طلب البائع بيع الزيت، وقسمة ثمنه.. فهل يجبر المفلس على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على البيع؛ لأن البائع يمكنه الوصول إلى حقه من جهة القسمة، فلم يكن له المطالبة بالبيع، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم البيع، فإن شركاءه لا يجبرون على البيع.
والثاني: يجبر المفلس على البيع؛ لأن بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأكل من زيت المشتري.
المسألة الثانية: إذا خلطه بزيت أجود من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان:
أحدهما: له أن يرجع، وهو اختيار المزني؛ لأنه ليس له فيه أكثر من أنه وجد عين ماله مختلطة بمال المفلس، وذلك لا يمنع الرجوع، كما لو اشترى ثوبا، فصبغه بصبغ من عنده.. فإن لبائع الثوب أن يرجع فيه.
والثاني: ليس له أن يرجع في عين ماله.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أصح، وبه أقول)؛ لأنه لا يجوز له الرجوع بمثل مكيلته؛ لأن ذلك أكثر قيمة من عين ماله، ولا بقيمة صاعه؛ لأن ذلك أنقص من حقه.
فإذا قلنا بهذا: ضرب مع الغرماء بالثمن.
وإذا قلنا بالأول: فكيف يرجع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ. وأما الشيخ أبو حامد: فحكاهما وجهين:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، واختيار ابن الصباغ -: أنه يباع الزيتان، ويأخذ قيمة ثلثي صاع، وهو درهمان؛ لأنا لو قلنا: له الرجوع في ثلثي صاع.. لكان ذلك ربا.
والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، قال: وهو المنصوص -: (أنه يرجع في ثلثي صاع)؛ لأنه ليس ببيع، وإنما وضع ذلك عن مكيله زيتا.
المسألة الثالثة: إذا خلطه بأردأ من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي درهمين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله، قولا واحدا؛ لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم، فإن رضي البائع بأخذ صاع منه.. أجبر المفلس على ذلك؛ لأنه أنقص من حقه، وإن لم يرض البائع بذلك.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: ليس له إلا صاع منه؛ لأنه وجد عين ماله ناقصة، فإذا اختار الرجوع فيه.. لم يكن له غيره، كما لو كان المبيع ثوبا، فلبسه المشتري ونقص.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أن الصاعين يباعان، وتدفع إلى البائع قيمة صاعه، وهو أربعة دراهم، كما قال في المسألة قبلها؛ لأنه إن أخذ مثل كيل زيته.. كان أنقص من حقه، وإن أخذ أكثر من مكيلة زيته.. كان ربا.
والثالث - حكاه ابن المرزبان -: أن له أن يأخذ منه صاعا وثلث صاع بقيمة صاع من زيته، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة قبلها: (أنه يأخذ ثلثي صاع). والأول أصح.

.[فرع: استدان عنبا أو رطبا فخلطه بمثله ثم أفلس]

وإن اشترى عنبا، فخلطه بعنب له، أو رطبا، فخلطه برطب له، ثم أفلس.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن إفراده إلا بالقسمة، وقسمة ذلك بيع، وبيع بعضه ببعض لا يجوز.
والثاني: يجوز؛ لأنه يمكنه إفراز حق ذلك بالوزن والكيل.
قال الشيخ أبو حامد: وعندي: أن هذين القولين مأخوذان من القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟
فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز له الرجوع.
فعلى هذا: يضرب مع الغرماء بالثمن.
وإن قلنا: إنها إفراز حق.. فله الرجوع، وكيفية الرجوع على ما مضى في المسائل الثلاث: إذا خلطه بمثله، أو بأجود منه، أو بأردأ منه.

.[مسألة: إفلاس المسلِم قبل قبض المسلَم]

إذا أسلم رجل إلى غيره في شيء على صفة، ثم أفلس المسلم قبل أن يأخذ المسلم فيه، فإن أراد المسلم أن يأخذ المسلَم فيه بدون الصفة التي أسلَمَ فيها.. لم يجز من غير رضا الغرماء؛ لأن حقوقهم تعلقت بماله، وإن رضي المفلس والغرماء بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهم، ولا يخرج عنهم إلا برضاهم.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين المكاتب إذا أذن له سيده في أن يبرأ عن الدين.. أنه لا يصح إبراؤه في أحد القولين؟
قلنا: الفرق بينهما على هذا القول: أن المفلس كامل الملك إلا أنه منع من التصرف في ماله لتعلق حق الغير في ماله، فإذا أذن له ذلك الغير في التصرف بماله.. صح تصرفه، كالمرتهن إذا أذن للراهن، وليس كذلك المكاتب، فإن المنع لنقصان ملكه، فإذا أذن له سيده.. لم يتكامل ملكه بذلك.
وإن كان المفلس هو المسلم إليه، فحجر عليه قبل أن يقبض المسلم المسلم فيه، فإن كان رأس المال باقيا.. كان للمسلم أن يفسخ عقد السلم، ويرجع في رأس ماله، كما قلنا فيمن باع عينا من رجل، فأفلس المشتري. وإن كان رأس المال تالفا.. فللمسلم أن يضرب مع الغرماء بالمسلم فيه، فإن كان المسلم فيه موجودا في مال المسلم إليه.. أخذ ما يخصه من ماله منه، وإن كان معدوما.. اشترى له بما يخصه من ماله من جنس المسلم فيه؛ لأن أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز.
وقال أبو إسحاق: المسلم بالخيار: بين أن يقيم على العقد، ويضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد، ويضرب مع الغرماء برأس مال السلم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن أسلم في شيء، فانقطع -: (فله أن يفسخ العقد، ويرجع إلى رأس مال السلم). والمنصوص: (أنه لا يملك فسخ العقد، بل يضرب بقدر المسلم فيه، كما أن البائع إذا وجد المبيع تالفا.. ليس له أن يفسخ البيع، ويضرب مع الغرماء بقيمة العين المبيعة). ويفارق إذا انقطع المسلم فيه؛ لأن له غرضا في الفسخ، وهو: أنه يرجع برأس ماله في الحال، وعليه مشقة في التأخير إلى وجود المسلم فيه.
إذا ثبت هذا: فضرب مع الغرماء بقيمة المسلم فيه، وعزل له ما يخصه ليشتري له المسلم فيه، بأن أسلم في مائة ذهب ذرة، وكانت قيمة ذلك عند القسمة عشرين دينارا، فعزل له ذلك، فرخص السعر، حتى صارت المائة قبل الابتياع له تساوي عشرة.. اشترى له مائة ذهب بعشرة، وقسمت العشرة الباقية على باقي الغرماء إن بقي لهم من دينهم شيء، أو ردت على المفلس إن استوفى أصحاب الديون ديونهم. وإن غلا الطعام عند الابتياع، فصارت المائة تساوي أربعين دينارا.. اشترى له بالعشرين المعزولة خمسين ذهبا.
قال الشيخ أبو حامد: ويكون الباقي في ذمة المسلم إليه.
وقال ابن الصباغ: يرجع على الغرماء بما يخصهم من ذلك؛ لأنه قد بان أن حقه ضعف ما حاص به؛ لأن حقه في المسلم فيه دون القيمة.

.[مسألة: اكترى بذمته أرضا فأفلس]

وإن اكترى من رجل أرضا بأجرة في ذمته، فأفلس المتكري بالأجرة قبل دفعها، فإن كان بعد استيفاء مدة الإجارة.. ضرب المكري بالأجرة مع الغرماء. وإن كان قبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالأجرة، ويقر العقد، وبين أن يفسخ عقد الإجارة، ويرجع إلى منفعة أرضه، لأن المنفعة كالعين المبيعة، فجاز له الرجوع إليها. وإن كان بعد مضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يقر العقد، ويضرب مع الغرماء بالأجرة، وبين أن يفسخ عقد الإجارة فيما بقي من المدة، ويضرب مع الغرماء بأجرة ما مضى، كما نقول فيمن باع عبدين بثمن، فتلف أحدهما في يد المشتري، وبقي الآخر.
إذا ثبت هذا: فإن اختار فسخ عقد الإجارة، وفي الأرض زرع، فإن كان قد استحصد.. فله أن يطالب المفلس والغرماء بحصاده، وتفريغ الأرض. وإن كان الزرع لم يستحصد، فإن اتفق المفلس والغرماء على قطعه.. جاز، سواء كانت له قيمة أو لم تكن، ولا يعترض عليهم الحاكم؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه، وبذلوا للمكري أجرة مثل الأرض إلى الحصاد.. لزمه قبول ذلك، ولم تكن له مطالبتهم بقلعه، لأنه ليس بعرق ظالم.
وإن امتنع المفلس والغرماء من بذل الأجرة.. كان للمكري مطالبتهم بقلعه؛ لأنا قد جوزنا له الرجوع إلى عين ماله، وعين ماله هو المنفعة، فلا يجوز تفويتها عليه بغير عوض، بخلاف ما لو باع أرضا وزرعها المشتري، وأفلس، ثم رجع بائع الأرض فيها.. فإنه يلزمه تبقية الزرع فيها إلى الحصاد بغير أجرة؛ لأن المعقود عليه في البيع هو العين، والمنفعة تابعة لا يقابلها عوض، وإنما دخل المشتري في العقد على أن تكون له بغير عوض، وفي الإجارة: المعقود عليه هو المنفعة، فلا يجوز استيفاؤها بغير عوض.
وإن اختلف المفلس والغرماء: فقال بعضهم: يقلع. وقال بعضهم: بل يبقى إلى الحصاد، فإن كان الزرع لا قيمة له، كالزرع أول ما يخرج.. قدم قول من دعا إلى التبقية؛ لأن من دعا إلى القلع.. دعا إلى الإتلاف، فلم يجب إلى ذلك، وإن كان للزرع قيمة، كالقصيل.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحظ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ.
والثاني: قال أكثر أصحابنا: إنه يجاب قول من دعا إلى القلع، وقد مضى دليلهما.
فإن قيل: فما الفرق بين هذا، وبين من ابتاع أرضا وغرسها، ثم أفلس المبتاع، وأخذ البائع عين ماله، وهو الأرض، وصار الغراس للمفلس والغرماء، فقال بعضهم: يقلع، وقال بعضهم: يبقى، فإنه يقدم قول من قال: يبقى؟.
قلنا: الفرق بينهما على هذا الوجه: أن من دعا إلى قلع الغراس.. يريد الإضرار بغيره؛ لأن بيع الغراس في الأرض أكثر لثمنه، فلم يجب قول من دعا إلى قلعه، وليس كذلك في الزرع، فإن من دعا إلى القلع.. فيه منفعة من غير ضرر؛ لأن الزرع إذا بقي قد يسلم، وقد لا يسلم.
إذا ثبت هذا: فإن اتفقوا على تبقية الزرع إلى الحصاد، واحتاج إلى سقي ومؤنة، فإن اتفق الغرماء والمفلس على أن ينفقوا عليه من مال المفلس الذي لم يقسم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينفق منه؛ لأن حصول هذا الزرع مظنون، فلا يتلف عليه مال موجود.
والثاني - وهو المذهب -: أنه ينفق عليه منه؛ لأن ذلك من مصلحة المال، ويقصد به تنمية المال في العادة.
وإن دعا الغرماء المفلس إلى أن ينفق عليه، وأبى المفلس ذلك.. لم يجبر عليه؛ لأنه لا يجب عليه تنمية المال للغرماء. فإن تطوع الغرماء أو بعضهم بالإنفاق عليه من غير إذن المفلس والحاكم.. لم يرجعوا بما أنفقوا عليه، لأنهم متطوعون به. وإن أنفق بعضهم بإذن المفلس والحاكم على أن يرجع على المفلس بما أنفق.. جاز ذلك، وكان له ذلك دينا في ذمة المفلس لا يشارك به الغرماء؛ لأنه وجب عليه بعد الحجر.
وإن أنفق عليه بعض الغرماء، بإذن باقي الغرماء، على أن يرجع عليهم.. رجع عليهم بما أنفق من مالهم.

.[فرع: اكترى مركبا لينقل بضاعة فأفلس]

قال في "الأم" [3/183] (ولو اكترى ظهرا ليحمل له طعاما إلى بلد من البلدان، فحمله، وأفلس المكتري قبل دفع الأجرة.. ضرب المكري مع الغرماء بالأجرة، فإن أفلس قبل أن يصل إلى البلد.. نظرت: فإن كان الموضع الذي بلغ إليه آمنا.. كان له فسخ الإجارة فيما بقي من المسافة، ويضع الطعام عند الحاكم).
قال ابن الصباغ: وإن وضعه على يد عدل بغير إذن الحاكم.. ففيه وجهان، كالمودع إذا أراد السفر، فأودع الوديعة بغير إذن الحاكم.. فهل يضمن؟ فيه وجهان.
وإن كان الموضع مخوفا.. لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذي أكراه لحمله إليه، أو إلى موضع دونه يأمن عليه فيه.
قال في "الأم": (وإن اكترى من رجل ظهرا بعينه ليركبه إلى بلد، فأفلس المكري.. كان المكتري أحق بالظهر؛ لأنه استحق منفعته بعقد الإجارة قبل الحجر).
وإن اكترى منه ظهرا في ذمته، فأفلس المكري.. فإن المكتري يضرب مع الغرماء بقيمة المنفعة إن كان لم يستوف شيئا منها، أو بقيمة ما بقي منها إن استوفى بعضها؛ لأن حقه متعلق بذمته، فهو كما لو باعه عينا بثمن في ذمته.
فإن كان ما يخصه من مال المفلس لا يبلغ ما اكترى به، وكانت الأجرة باقية.. فللمكتري أن يفسخ الإجارة، ويرجع إلى عين ماله إن كان لم يستوف شيئا من المنفعة، أو إلى بعضها إن كان قد استوفى شيئا من المنفعة؛ لأن الأجرة كالعين المبيعة.

.[مسألة: بعد قسم مال المفلس يحجر عليه]

إذا قسم مال المفلس بين غرمائه.. ففي حجره وجهان:
أحدهما: يزول عنه من غير حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه كان لأجل المال، وقد زال المال، فزال الحجر بزواله، كما أن المجنون محجور عليه بالجنون، فإن زال الجنون.. زال الحجر.
والثاني: لا يزول الحجر إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بحكمه، كالحجر على السفيه.

.[مسألة: مات وعليه ديون]

ومن مات وعليه ديون.. تعلقت ديون الغرماء بماله، وبه قال عثمان، وعلي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تتعلق بماله).
دليلنا عليهما: ما ذكرناه في المفلس.
فإن مات وله على غيره دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فإن الدين الذي له إلى أجل لا يحل بموته، وأما الدين الذي عليه إلى أجل.. فإنه يحل عليه بموته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وذهب الحسن البصري، وعمرو بن دينار إلى: أنه لا يحل ما عليه بموته.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فالذي عليه حال، والذي له إلى أجله».
ولأنه لا وجه لبقاء تأجيله؛ لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت، أو في ذمة الورثة، أو متعلقا بأعيان المال، فبطل أن يبقى مؤجلا في ذمة الميت؛ لأن ذمته خربة، وبطل أن يقال: يبقى في ذمة الورثة؛ لأن صاحب الدين لم يرض بذممهم.
ولأنه لو تعلق بذممهم إذا كان للميت مال.. لتعلق بذممهم وإن لم يكن للميت مال، وبطل أن يقال: يبقى مؤجلا متعلقا بأعيان ماله؛ لأن ذلك إضرار بصاحب الدين؛ لأن أعيان المال ربما تلفت، وإضرار بالميت؛ لأن ذمته لا تبرأ حتى يقضى عنه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه». فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا القول بحلوله.

.[فرع: تصرف الوارث قبل قضاء الدين]

فإن تصرف الوارث في التركة أو بعضها قبل قضاء الدين.. فهل يصح تصرفه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، سواء بقي من التركة ما يفي بالدين أو لا يفي؛ لأن مال الميت تعلق به ما عليه من الدين، فلم يصح تصرف الوارث فيه، كالراهن إذا تصرف في عين الرهن قبل قضاء الدين.
والثاني: يصح تصرفه؛ لأنه حق تعلق بالمال من غير رضا المالك، فلم يمنع صحة التصرف، كتصرف المريض في ماله.
فإذا قلنا بهذا: فإن قضى الدين.. نفذ تصرفه، وإن لم يقض الدين.. لم ينفذ تصرفه؛ لأنا إنما صححنا التصرف تصحيحا موقوفا على قضاء الدين، كما صححنا تصرف المريض بماله تصرفا موقوفا.
فإن باع عبدا، ثم مات البائع، ووجد المشتري بالعبد الذي اشتراه عيبا، فرده، فإن كان الثمن باقيا بعينه. استرجعه، وإن كان تالفا.. رجع المشتري بالثمن في تركة الميت، فإن كان الوارث قد تصرف بالتركة قبل ذلك، أو كان حفر الرجل بئرا في طريق المسلمين ومات، وتصرف وارثه بتركته، ثم وقع في تلك البئر بهيمة أو رجل.. وجب ضمان ذلك في تركة الميت، وهل يصح تصرف الوارث قبل ذلك؟
إن قلنا في المسألة قبلها: إنه يصح تصرفه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يصح.. ففي هذه وجهان:
أحدهما: يصح تصرفه؛ لأنه تصرف في مال له، لم يتعلق به حق أحد.
والثاني: لا يصح؛ لأنا تبينا أنه تصرف والدين متعلق بالتركة.

.[فرع: وجد أحد غرماء الميت ماله بعينه]

وإن كان في غرماء الميت من باع منه عينا، ووجد عين ماله، ولم يقبض ثمنها، فإن كانت التركة لا تفي بالدين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرجع فيها، بل يضرب مع الغرماء بدينه).
دليلنا: ما «روى عمر بن خلدة الزرقي قاضي المدينة، قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» وهذا نص في موضع الخلاف.
وإن كان ماله يفي بالدين.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو سعيد الإصطخري: للبائع أن يرجع بعين ماله؛ لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يفرق.
والثاني: ليس له أن يرجع بعين ماله، وهو المذهب؛ لأن ماله يفي بدينه، فلم يكن للبائع الرجوع بعين ماله، كما لو كان حيا، وأما الخبر: فمحمول عليه إذا مات مفلسا، مع أنه قد روى فيه أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإن خلف وفاء.. فهو أسوة الغرماء». فيكون حجة لنا.

.[مسألة: وجد غريم بعد قسم مال الميت أو المفلس]

إذا قسم مال الميت، أو مال المفلس بين غرمائه، ثم ظهر له غريم آخر له دين كان مستحقا دينه قبل الحجر.. رجع الغريم على سائر الغرماء بما يخصه.
وقال مالك: (يرجع غريم الميت، ولا يرجع غريم المفلس).
دليلنا: أن الحاكم إنما فرق في غرمائه، وعنده أنه لا غريم له سواهم، فإذا ظهر غيرهم.. نقض الحكم، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه.
ولأنه لما كان لغريم الميت أن يرجع على الباقين.. كان لغريم المفلس مثله.

.[فرع: فك الحجر عنه وادعى آخرون كسبه مالا بعد الحجر]

وإن فك الحجر عن المفلس، وبقي عليه دين، فادعى غرماؤه أنه قد استفاد مالا بعد الحجر.. سأله الحاكم عن ذلك، فإن أنكر، ولا بينة لهم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العسرة. فإن ثبت له مال إما بالبينة أو بإقراره وطلب الغرماء الحجر عليه.. نظر الحاكم فيه وفيما عليه من الدين، فإن كان يفي بالدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، وإن كان أقل.. حجر عليه، وقسم ماله بين الغرماء.
وإن تجدد عليه دين بعد الحجر الأول، ثم ظهر له مال، فإن بان أن المال كان موجودا قبل فك الحجر الأول عنه.. قال الجويني: اختص به الغرماء الأولون دون الآخرين؛ لأن المال كان موجودا تحت الحجر الأول، وإن اكتسب هذا المال بعد فك الحجر الأول.. اشترك به الغرماء الأولون والآخرون على قدر ديونهم.
وقال مالك: (يختص به الغرماء الآخرون).
دليلنا: أن حقوقهم مستوية في الثبوت في الذمة حال الحجر، فأشبه غرماء الحجر الأول

.[مسألة: المكتري أحق الغرماء بالمنفعة]

وإن أكرى داره أو عبده من رجل مدة، ثم أفلس المكري قبل انقضاء المدة.. فإن المكتري أحق بالمنفعة من الغرماء؛ لأنه قد ملك المنفعة بعقد الإجارة قبل الحجر، فكان أحق بها، كما لو باع شيئا من ماله، ثم أفلس، فإن أراد المكتري فسخ الإجارة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون في الموضع الذي يدخل عليه الضرر ولا يصل إلى كمال حقه، وهاهنا يصل إلى كمال حقه، فلم يكن له الفسخ.
فإن انهدمت الدار، أو مات العبد قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، فإن كانت الأجرة لم تقبض.. سقط منها بقسط ما بقي من المدة، وإن كانت قد قبضت، فإن كانت باقية.. رجع منها بما يخص ما بقي من المدة، وإن كانت تالفة.. تعلق ذلك بذمة المفلس، ثم ينظر فيه:
فإن كان ذلك قبل قسمة مال المفلس.. شاركهم المكتري، وضرب معهم بأجرة ما بقي.
وإن كان ذلك بعد القسمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشاركهم؛ لأن حق المكتري كان متعلقا بالمنفعة، فلما تلفت العين المكراة.. عاد حقه إلى ذمة المفلس بعد القسمة، فلم يشارك الغرماء، كما لو استدان بعد الحجر.
والثاني: يشاركهم، وهو الصحيح؛ لأن سبب وجوبه كان قبل الحجر، فشاركهم، كما لو انهدمت الدار، ومات العبد قبل القسمة، ويخالف إذا استدان بعد الحجر، فإن ذلك لم يستند إلى سبب قبل الحجر، فلذلك لم يشاركهم. والله أعلم

.[باب الحجر]

الحجر - في اللغة -: المنع والحظر والتضييق.
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]، أي: حراما محرما. وقَوْله تَعَالَى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5]، أي: لذي عقل، وسمى العقل: حجرا؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل القبيح، وسمي حجر البيت: حجرا؛ لأنه يمنع من الطواف فيه.
وكذلك هو في الشرع، وإنما سمي: المحجور عليه؛ لأنه ممنوع من التصرف بماله، والمحجور عليهم ثمانية: خمسة حجر عليهم لحق غيرهم، وثلاثة حجر عليهم لحق أنفسهم:
فأما الخمسة المحجور عليهم لحق غيرهم: فالمفلس حجر عليه لحق الغرماء، والمريض لحق الورثة، والعبد القن، والمكاتب لحق السيد، والمرتد لحق المسلمين.
وأما الثلاثة المحجور عليهم لحق أنفسهم: فالصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا موضع ذكرهم.
والأصل في ثبوت الحجر على الصبي: قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]. و(الابتلاء): الاختبار.
قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2]، أي: ليختبركم. و(اليتيم): من مات أبوه، وهو دون البلوغ.
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم».
وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، أراد به: البلوغ، فعبر عنه به؛ لأنه يشتهي عند البلوغ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]. أي: علمتم منهم رشدا، فوضع الإيناس موضع العلم، كما وضع الإيناس موضع الرؤية في قَوْله تَعَالَى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، أي: رأى.
قال الشافعي: (فلما علق الله تعالى دفع المال إلى اليتيم بالبلوغ وإيناس الرشد.. علمنا أنه قبل البلوغ ممنوع من ماله، محجور عليه فيه).
والدليل على ثبوت الحجر على السفيه والصبي والمجنون أيضا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]. والسفيه يجمع المبذر بماله، والمحجور عليه لصغر. والضعيف يجمع الشيخ الكبير الفاني، والصغير والمجنون، فأخبر الله تعالى: أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما لهم وعليهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم.