فصل: (فرع: ضمان معلوم جملة مجهول قدرا)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: لا يضمن مجهول]

ولا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ضمن لك ما تداين فلانا. وبه قال الليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (تصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب).
قال أبو العباس - وهو قول الشافعي في القديم -: (يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة).
وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول. وهذه طريقة الخراسانيين: أنها على قولين.
قال الشيخ أبو حامد: وأبى سائر أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح ضمانهما. قولا واحدا. وما قاله الشافعي في القديم: (يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة).. فإنما أجازه؛ لأن النفقة تجب على هذا بالعقد. فقد ضمن ما وجب.
ولا يصح منها إلا ضمان شيء مقدر، وليس بمجهول.
ودليلنا - على أنه لا يصح ضمانهما -: أنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم. فلم يصح مع جهله، ولا قبل ثبوته، كالثمن في البيع، والمهر في النكاح.
فقولنا: (في الذمة) احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا.
وقولنا: (بعقد) احتراز ممن أتلف على غيره مالا، أو وطئ امرأة بعقد فاسد. فإن ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان لا يعلم قدره.

.[فرع: ضمان معلوم جملة مجهول قدرا]

قال في "الإبانة" [ق \ 283] فلو جهل مقدار الدين، إلا أنه قال: ضمنت لك من درهم إلى عشرة، وقلنا: لا يصح ضمان المجهول.. فهل يصح هذا؟ فيه قولان:
أحدهما: قال، وهو الأشهر -: يصح؛ لأن جملة ما ضمن معلومة.
والثاني - وهو الأقيس -: أنه لا يصح؛ لأن مقدار الحق مجهول.

.[فرع: ضمان ما يعطي الوكيل]

وأما إذا قال الرجل لغيره: ضمنت لك ما تعطي وكيلي، وما يأخذ منك. فإنه يلزمه ذلك؛ لأن ذلك لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد الوكيل يد الموكل.

.[مسألة: تعليق الضمان]

ولا يصح تعليق الضمان على شرط، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد ضمنت لك دينك على فلان.
وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق \ 283] أن أبا حنيفة قال: (يصح).
دليلنا: أنه إيجاب مال لآدمي بعقد، فلم يصح تعليقه على شرط، كالبيع.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
وقولنا: (يعقد) احتراز من وجوب نفقة القريب والزوجة، فإنه متعلق بشروط.

.[فرع: ضمان متاع غير موصوف]

إذا قال رجل لغيره في البحر عند تموجه، وخوف الغرق: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه، فألقاه.. وجب على المستدعي ضمانه.
وقال أبو ثور: (لا يجب)؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
دليلنا: أنه استدعاء إتلاف ملك بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: طلق امرأتك بمائة درهم علي.
وإن قال رجل لغيره: بع عبدك من زيد بألف، وعلي لك خمسمائة. فباعه، قال الصيدلاني: وقاله في العقد.. فهل يصلح البيع؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: يصح البيع، ويستحق البائع على المشتري خمسمائة، وعلى المستدعي للبيع خمسمائة؛ لأنه مال بذله في مقابله إزالة ملكه، فصح، كما لو قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه. أو طلق امرأتك، وعلي لك ألف.
والثاني: لا يصح البيع، ولا يستحق على الباذل شيء؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط أن يكون بعضه على غيره.. لم يصح.
قال صاحب "الفروع" فأما إذا قال: بع عبدك من فلان بألف، على أن أزن منه خمسمائة.. جاز، وينظر: فإن ضمن قبل البيع.. لم يلزمه؛ لأنه ضمان قبل الوجوب، فإن ضمنه بعده.. لزمه.

.[مسألة: صحة ضمان الدين المعجل بمؤجل]

وإن كان لرجل على غيره دين حال، فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم.. صح الضمان، وكان الدين معجلا على المضمون عنه، مؤجلا على الضامن؛ لأن الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين.. كان مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر، وعلى الضامن إلى شهرين.
فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل، فكيف يتأجل هذا على الضامن؟
فالجواب: أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وإنما يثبت عليه مؤجلا، والدين يتأجل في ابتداء ثبوته.
وإن كان الدين على رجل مؤجلا، فضمنه عنه ضامن حالا كان، أو مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين، فضمنه عنه ضامن إلى شهر.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المحاملي، وابن الصباغ:
أحدها: يصح الضمان، ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه؛ لأنه ضمن له دينا بعقد، فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا.
والثاني: لا يصح الضمان؛ لأن الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه.
والثالث: يصح الضمان، ولا يلزمه التعجيل، كأصله.
إذا ثبت هذا: فضمن الحال مؤجلا، فمات الضامن.. حل عليه الدين، ووجب دفع ذلك من تركته، ولم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل الأجل.
وقال زفر: يرجعون عليه في الحال.
دليلنا: أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق الرجوع عليه في الحال.
وإن مات المضمون عنه، وكان الدين مؤجلا عليهما.. حل الدين في تركة المضمون عنه، فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن.. لم يطالبه قبل حلول الأجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه.. كان له ذلك في الحال.

.[مسألة: لا خيار في الضمان]

لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه.. أبطله.
وقال أبو حنيفة: (يصح الضمان، ويبطل الشرط).
دليلنا: أن الخيار يراد لطلب الحظ، والضامن يعلم أنه مغبون من جهة المال، لا من جهة الثواب، ولهذا يقال: الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
وإذا ثبت: أنه لا وجه لشرط الخيار فيه.. قلنا: عقد لا يدخله خيار الشرط، فأبطله، كالصرف والسلم.

.[مسألة: الضمان بشرط فاسد]

ويبطل الضمان بالشروط الفاسدة؛ لأنه عقد يبطل بجهالة المال، فبطل بالشروط الفاسدة، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية.
فإن قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، على أن يضمن لي فلان بها عليك، على أنه بالخيار.. فهذا شرط يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في العبد بذلك؟ فيه قولان، كالقولين فيمن شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد مضى توجيههما في الرهن.

.[مسألة: براءة ذمة المضمون عنه بالضمان]

وإذا ضمن عن غيره دينا.. تعلق الدين بذمة الضامن، ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود، وأبو ثور: (يبرأ المضمون عنه بالضمان، ويتحول الحق إلى ذمة الضامن). واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟»، فقال: نعم». وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك».
ودليلنا: ما «روى جابر في الرجل الذي ضمن عنه أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي أبا قتادة بعد ذلك بيوم، فقال له: «ما فعل الديناران؟»، فقال: إنما مات بالأمس. ثم جاءه أبو قتادة من الغد، وقال: قد قضيتهما يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الآن بردت عليه جلده» فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان.. لكان قد برد جلده بالضمان، ولأن الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة. ويسقط عن الذمة، كالرهن والشهادة.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «والميت منه بريء» يريد به: من الرجوع في تركته، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» أراد به: لامتناعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه لأجل ما عليه من الدين. فلما ضمنهما عنه.. فك رهانه بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن صلاته رحمة.
إذا ثبت هذا: فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون منه.. قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يطالب الضامن، إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه).
دليلنا: أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل واحد منهما كالضامنين.

.[فرع: يصح ضمان الضامن]

فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي.. صح الضمان؛ لأنه دين لازم عليه، فصح كالضمان الأول، وإن ضمن عن الضامن المضمون عنه.. لم يصح ضمانه؛ لأن الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا الضمان؛ لأن الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولأن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، فلا يجوز أن ينقلب الأصل فرعا، والفرع أصلا.

.[مسألة: الضمان من غير إذن]

إذا ضمن عن غيره دينا بغير إذنه.. لم يكن للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته؛ لأنه لم يدخل فيه بإذنه، فلم يلزمه تخليصه. وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق.. كان للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم يطالب المضمون له الضامن.. فهل للضامن أن يطالب المضمون عنه؟ قال الشيخ أبو حامد: نظرت:
فإن قال: أعطني المال الذي ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني المضمون له أعطيته ذلك.. لم يكن له ذلك لأنه لم يغرم.
وإن قال: خلصني من حق المضمون له، وفك ذمتي من حقه كما أوقعتني فيه، فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره، فكان له مطالبته بتخليصه، كما لو استعار عبدا ليرهنه، فرهنه.. فللمعير أن يطالب المستعير بقضاء الدين، وفك العبد.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه إذا لم يطالبه المضمون له.. فلا ضرر عليه في كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق العبد المرهون؛ لأن على المولى ضررا في كون العبد مرهونا.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 285] وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان؟ على قولين، ولهذا خمس فوائد:
إحداهن: هذه المسألة المتقدمة.
الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال الضمانة عوضا عما سيغرم.. فهل يملكه الضامن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يملكه؛ لأن الرجوع يتعلق بسببي الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول.
فعلى هذا: إن قضى الحق.. استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرئ من الدين قبل القضاء.. وجب رد ما أخذ.
والوجه الثاني: أنه لا يملك ما قبض؛ لأنه أخذه بدلا عما يجب في الثاني، فلا يملكه، كما لو دفع إليه شيء عن بيع لم يعقد.
فعلى هذا: يجب رده، وإن تلف.. ضمنه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فضمنه، كالمقبوض بسوم البيع.
المسألة الثالثة: لو أبرأ الضامن المضمون عما سيغرم.. هل يصح؟ على الوجهين.
الرابعة: لو ضمن الضامن من ضامن عن المضمون عنه.. هل يصح؟ فيه وجهان.
وعلى قياس هذا: إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه.. هل يصح؟ على الوجهين.
الخامسة: لو ضمن في الابتداء، بشرط أن يعطيه المضمون عنه ضامنا معينا بما ضمن.. هل يصح؟ على الوجهين.
وعلى قياس هذا: إذا ضمن عنه بإذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما.. هل يصح؟ على الوجهين.

.[مسألة: براءة الضامن إذا قبض المضمون]

إذا قبض المضمون له الحق من المضمون عنه.. برئ الضامن؛ لأن الضمان وثيقة بالحق. فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن الحق من غير الرهن. وإن قبض الحق من الضامن.. برئ المضمون عنه؛ لأنه قبض الحق من الوثيقة، فبرئ من عليه الحق، كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن.
وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه.. برئ المضمون عنه، وبرئ الضامن؛ لأن المضمون عنه أصل، والضامن فرع، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع، وإن أبرأ الضامن.. برئ الضامن، ولم يبرأ المضمون عنه، كالمرتهن إذا أسقط حقه من الرهن.. فإن الراهن لا يبرأ.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 285] وإن قال المضمون له للضامن: وهبت الحق منك، أو تصدقت به عليك.. كان ذلك إبراء منه للضامن.
وقال أبو حنيفة: (يكون كما لو استوفى منه الحق).
دليلنا: أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن، ولم يغرم شيئا.

.[فرع: ضمان الضامن جائز وإن تسلسل]

وإن ضمن عن الضامن ضامن، ثم ضمن عن الضامن الثاني ثالث، ثم رابع عن الثالث.. صح ذلك، فإذا قبض المضمون له حقه من أحدهم.. برئ الجميع منهم؛ لأنه قد استوفى حقه، وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه أولا.. برئوا جميعا، وإن أبرأ أحد الضمناء.. برئ، وبرئ فرعه، وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

.[مسألة: قضاء الضامن الحق]

وإذا قضى الضامن الحق.. فهل يرجع على المضمون عنه؟ فيه أربع مسائل:
إحداهن: إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.. فإنه يرجع عليه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن قال: اضمن عني هذا الدين، أو انقد عني.. رجع عليه وإن قال: اضمن هذا الدين، أو انقده ولم يقل عني: لم يرجع عليه، إلا أن يكون بينهما خلطة، مثل: أن يكون يودع أحدهما الآخر. أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون ذا قرابة منه، أو زوجية، فالاستحسان: أن يرجع عليه).
دليلنا: أنه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال: اضمن عني، أو كان بينهما قرابة.
الثانية: أن يضمن عنه بغير أمره، ويقضي عنه بغير إذنه، فإنه لا يرجع عليه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (له أن يرجع).
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي على من عليه دين). وقد ضمن علي وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إذنهما، فصلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا ضمن بغير إذنه.. لما صلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي قتادة: «الآن بردت عليه جلده». فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع.. لم يبرد عليه جلده.
ولأنه ضمن عنه بغير إذنه، وقضى عنه بغير أمره، فلم يرجع عليه، كما لو علف دوابه، أو أطعم عبيده.
الثالثة: إذا ضمن بغير إذنه، وقضى بإذنه.. فهل يرجع عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه لزمه بغير إذنه، وأمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أدى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو ضمن عنه بإذنه. وأصل هذين الوجهين: من قال لغيره: اقض عني ديني، وقضى عنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه وجهان.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 286]، والصيمري: إلا أن الأصح هاهنا: أن يرجع، والأصح في الأولى: أن لا يرجع، والفرق بينهما: أن في الضمان وجب في ذمته بغير إذنه، وفي القضاء لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء بإذنه.
وإن قال: اقض الدين، ولم يقل عني، فإن قلنا في التي قبلها: لا يرجع عليه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليه. وإن قلنا هناك: يرجع.. فهاهنا فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح أنه لا يرجع.
وإن قال: اقض عني ديني لترجع علي، فقضى عنه.. رجع عليه، وجها واحدا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم».
وإن قال: اقض عن فلان دينه، فقضى عنه.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 286] لم يرجع عليه، وجها واحدا؛ لأنه لا غرض له في ذلك.
المسألة الرابعة: إذا ضمن عنه بأمره، وقضى بغير إذنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه دين لزمه بإذنه، فرجع عليه، كما لو ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه أسقط الدين عنه بغير إذنه، فلم يرجع عليه، كما لو ضمن بغير إذنه، وقضى بغير إذنه.
والثالث - وهو قول أبي إسحاق -: إن كان الضامن مضطرا إلى القضاء، مثل: أن يطالبه المضمون له، والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر. فقضى المضمون له.. رجع الضامن؛ لأنه مضطر إلى القضاء، وإن كان غير مضطر إلى القضاء، مثل: أن كان المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى.. لم يرجع؛ لأنه متطوع بالأداء.
وكل موضع يثبت للضامن الرجوع على المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين، فإنه يرجع على المضمون عنه في المحال؛ لأن الحوالة كالقبض، وإن أحاله على من لا حق له عليه، وقبل المحال عليه، وقلنا: يصح.. برئ الضامن والمضمون عنه، ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشيء في الحال؛ لأنه لم يغرم شيئا، فإن قبض المحتال من المحال عليه، ورجع الحال عليه على الضامن.. رجع الضامن على المضمون عنه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة.. لم يرجع المحال عليه على المحيل، وهو الضامن بشيء، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم واحد منهما شيئا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه، ثم وهبه منه، أو قبض المضمون له الحق من الضامن، ثم وهبه منه.. فهل لهما الرجوع؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول.

.[فرع: القبض من أحد المدينين المتضامنين]

وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه.. فلمن له الدين أن يطالب بالألف من شاء منهما جميعا، فإن قبض من أحدهما ألفا.. برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.
وإن قبض من أحدهما خمسمائة، فإن قال الدافع: خذها عن التي لك علي أصلا.. لم يرجع الدافع على صاحبه بشيء، وإن قال: خذها عن التي ضمنت.. برئا عنها، وكان رجوعه على صاحبه على ما مضى، وإن دفعها إليه وأطلق، فاختلف الدافع والقابض، فقال الدافع: دفعتها وعينتها عن التي ضمنتها، أو نويتها عنها، وقال المضمون له: بل عينتها، أو نويتها عن التي هي أصل عليك.. فالقول قول الدافع مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله ونيته، وإن اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما، ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصرف إليهما نصفين.
والثاني: للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء، وقد مضى دليل الوجهين في الرهن.
وإن أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.. ففي هذه المسائل: القول قول المضمون له، فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه، أو نيته.
وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينصرف إليهما.
والثاني: يعينه المضمون له فيما شاء.

.[فرع: دفع الضامن الصحاح بدل المكسرة]

إذا ضمن عن غيره ألف درهم مكسرة، فدفع إليه ألف درهم صحاحا في موضع ثبت له الرجوع على المضمون عنه.. فإنه لا يرجع عليه بالصحاح؛ لأنه تطوع بتسليمها، وإنما يرجع بالمكسرة.
وإن ضمن عنه ألف درهم صحاحا، فدفع ألفا مكسرة.. لم يرجع إلا بالمكسرة؛ لأنه لم يغرم غيرها.
وإن صالح الضامن عن الألف على ثوب.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المشهور -: أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمة الثوب، أو الألف؛ لأنه إن كان قيمة الثوب أقل.. لم يرجع بما زاد عليه؛ لأنه لم يغرم غير ذلك. وإن كانت قيمة الثوب أكثر من الألف.. لم يرجع بما زاد على الألف؛ لأنه متطوع بالزيادة عليه.
والوجه الثاني - حكاه المسعودي [في "الإبانة" ق \ 286]، والشيخ أبو نصرـ: أنه يرجع بالألف بكل حال، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما لو اشترى شقصا بألف، ثم أعطاه عن الألف ثوبا يساوي خمسمائة.. فإن المشتري يرجع على الشفيع بألف، وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الألف على خمسمائة، وقلنا يصح.. فإن الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الألف، كما لو أخذ بالألف ثوبا يساوي خمسمائة.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 286] ولا يرجع الضامن على المضمون عنه إلا بخمسمائة، وجها واحدا؛ لأنه لم يغرم غيرها.