فصل: (فرع: غصب جارية وباعها فوطئها المشتري)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: غصب جارية وباعها فوطئها المشتري]

وإن غصب رجل جارية، ثم باعها من آخر، وقبضها، ووطئها المشتري.. فالبيع باطل. قال ابن الصباغ: وحكى القاضي أبو حامد: أن الشافعي قال في موضع: (يكون البيع موقوفاً على إذن المغصوب منه). ورجع عنه.
إذا ثبت هذا: فإن المشتري إذا وطئها، وحبلت عنده، وولدت من وطئه، ثم ماتت.. فالحكم في وطئه حكم وطء الغاصب، على ما مضى، إلا أن الغاصب إذا وطئ، وادعى أنه جاهل بالتحريم.. فإنه لا يقبل منه إلا بالشروط التي ذكرناها، وهاهنا المشتري إذا ادعى الجهل بالتحريم.. قبل منه؛ لأنه يعتقد أن الغاصب باع ملكه، وأنه يطأ ملك نفسه، إلا إن علم أنها مغصوبة، وأن وطأها حرام فلا شبهة له مع ذلك.
وكل ما وجب على الغاصب قبل تسليمه الجارية إلى المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص.. يطالب به المالك الغاصب، ولا يطالب به المشتري؛ لأن ذلك وجب على الغاصب دون المشتري، وكل ما وجب على المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص، وقيمة ولد، وقيمة العين إن تلفت.. فالمغصوب منه بالخيار: بين أن يطالب المشتري بذلك؛ لأن يده ثبتت عليه، وبين أن يطالب به الغاصب؛ لأنه هو السبب لثبوت يد المشتري عليها، فإن كان المشتري عالماً بأن الجارية مغصوبة.. لم يرجع بما ضمنه للمغصوب منه على الغاصب، ويرجع الغاصب بما ضمنه للمغصوب منه من ذلك على المشتري؛ لأن المشتري غاصب في الحقيقة، إلا أنه يرجع بالثمن الذي دفعه بكل حال؛ لأن الشراء لم يصح، وإن لم يعلم المشتري بالغصب، واختار المالك تضمين المشتري.. فهل يرجع المشتري بما ضمنه على الغاصب؟ ينظر فيما ضمنه:
فإن التزم ضمانه بالثمن، كقيمة الجارية، وبدل أجزائها إن تلفت، وأرش بكارتها.. فإنه لا يرجع بها المشتري على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل مع الغاصب على أن تكون مضمونة عليه بالثمن، فإذا ضمنها.. لم يرجع بها على غيره.
وإن لم يلتزم ضمانه بالثمن، نظرت:
فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة، بأن ولدت ولداً منه، فلزمه قيمته، أو ولدت ولداً مملوكاً، فمات في يده، أو سمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت صنعة معه، ثم نسيتها، فغرمه المالك ذلك.. فللمشتري أن يرجع بذلك على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه لم يلتزم ضمان ذلك في البيع، ولا حصل له في مقابلته منفعة.
وإن حصل له في مقابلته منفعة، كالمهر، والأجرة.. ففيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (يرجع به عليه؛ لأنه غره، ودخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض).
والثاني: قال في الجديد: (لا يرجع به عليه؛ لأنه حصل له في مقابلته منفعة).
وإن اختار السيد أن يرجع على الغاصب بذلك.. فهل للغاصب أن يرجع به على المشتري؟ فكل ما لا يرجع به المشتري على الغاصب.. فللغاصب أن يرجع به على المشتري إذا ضمنه، وكل ما يرجع به المشتري على الغاصب.. لا يرجع به الغاصب على المشتري.
فعلى هذا: للغاصب أن يرجع على المشتري بقيمة الجارية، وبدل أجزائها، وأرش بكارتها، قولاً واحداً، وليس له أن يرجع عليه بقيمة الولد ونقصان ما حدث في يد المشتري من السمن والصنعة، قولاً واحداً، وهل له أن يرجع عليه بالمهر وبأجرة المنفعة؟ فيه قولان:
أحدهماقوله في القديم: (لا يرجع عليه).
والثاني: قوله في الجديد: (يرجع عليه).

.[فرع: حدوث عيب بمغصوب عند مشتريه]

قال الشيخ أبو حامد: فإن غصب ثوباً، وباعه من آخر، وحدث به عيب عند المشتري.. فإن المالك يأخذ ثوبه، ويرجع بأرش العيب على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع به المشتري على البائع؛ لأنه دخل على أنه مضمون عليه بأجزائه، وإذا ضمن أجزاءه.. لم يرجع به على أحد، وإن رجع به على الغاصب.. رجع به الغاصب على المشتري؛ لما ذكرناه.

.[فرع: باع جارية مغصوبة فوطئها المشتري مراراً]

وإن غصب جارية، وباعها من رجل، ووطئها المشتري مراراً، وهي مكرهة، أو جاهلة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\311] فإن علم بعدما وطئها أنها مغصوبة، ثم عاد إلى وطئها.. لزمه بكل وطء مهر، وإن لم يعلم.. ففيه وجهان:
الأصح: أنه يجب مهر واحد؛ لأن الشبهة واحدة.
والثاني: يجب لكل وطء مهر.

.[فرع: باع داراً مغصوبة فهدمها المشتري وبناها]

وإن غصب داراً، فباعها الغاصب من آخر فنقضها المشتري، وبناها بآلة أخرى.. فللمالك أن يطالب المشتري بنقض بنائه؛ لأن العرصة ملك له، ويجب على المشتري للمالك أرش ما نقصت قيمتها بالنقض، وهو أن تقوم الدار قبل النقض، ثم تقوم العرصة والآلة إن كانت باقية، ويرجع عليه بما بينهما من القيمة. وأما الأجرة: فإنه يطالبه بأجرة مثل داره من حين حصلت في يده إلى أن نقضت، ويطالبه بأجرة العرصة بعد النقض؛ لأن البناء الثاني للمشتري، ولا يطالبه بأجرته، وأما ما يرجع المشتري به على الغاصب إذا لم يعلم بالغصب.. فإنه لا يرجع عليه بأرش النقض؛ لأنه حصل بفعله، وهل يرجع عليه بالأجرة؟ على القولين.
قال الشافعي: (ويرجع بأرش ما نقض من بنيانه الجديد؛ لأنه لم يحصل له في مقابلته عوض، فيرجع به كقيمة الولد).

.[فرع: غصب عيناً وأجرها أو أودعها أو وكل ببيعها فتلفت]

وإن غصب عيناً، وأجرها من غيره، وتلفت عنده، ولم يعلم المستأجر أنها مغصوبة.. فللمالك أن يرجع بقيمتها، وأجرتها من حين حصلت في يد المستأجر على أيهما شاء، كما قلنا في التي قبلها، فإن رجع على المستأجر بالأجرة.. لم يرجع بها المستأجر على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة بالعوض، وإن رجع عليه المالك بقيمتها.. كان للمستأجر أن يرجع بها على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل معه في العقد على أن لا يضمن العين، ولا حصل له في مقابلة ما غرم منفعة.
وإن أودع الغاصب العين المغصوبة، أو دفعها إلى آخر ليبيعها له، فأقامها في يده مدة، وتلفت عنده، ولم يعلم أنها مغصوبة.. فللمغصوب منه أن يرجع على المودع والوكيل بأجرتها وقيمتها. هكذا ذكره ابن الصباغ. ويحتمل وجها آخر: أنه لا يرجع عليهما، ولا على المستأجر؛ لأنهم دخلوا على الأمانة، فإذا رجع على المودع، والوكيل.. فلهما أن يرجعا على الغاصب بذلك؛ لأنهما دخلا على أن لا يضمنا ذلك، ولا حصل لهما منفعة عما ضمنا.

.[فرع: غصب شاة فذبحها]

وإن غصب شاة، فاستدعى قصابا، فذبحها بأجرة، أو بغير أجرة.. فإن المالك يأخذ شاته مذبوحة وما بين قيمتيها مذبوحة وحية، وله أن يطالب بذلك من شاء من الذابح، أو الغاصب، فإن ضمن الغاصب.. لم يرجع الغاصب على الذابح؛ لأن الذابح لم يذبح لنفسه، وإنما ذبحها للغاصب، وإن ضمن المالك الذابح.. رجع الذابح على الغاصب؛ لأن الذبح كان له. هكذا قال عامة أصحابنا. والذي يقتضي المذهب: أنها مفروضة في الذابح إذا لم يعلم أنها مغصوبة، فأما إذا علم أنها مغصوبة ثم ذبحها.. فإنه لا يرجع بما غرم على الغاصب، وللغاصب أن يرجع عليه بما غرم؛ لأنه غاصب في الحقيقة.

.[مسألة: الاستكراه على الوطء]

قال الشافعي: (وإن استكره رجل حرة أو أمة، فوطئها.. وجب عليه الحد والمهر).
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه الحد دون المهر).
دليلنا: أن كل ما كان مضمونا بالبدل في العقد.. جاز أن يكون مضمونا بالبدل في الاستكراه والغصب، كالعين.
قال الطبري: فإن زنا بصبية لا يشتهى مثلها، أو أزال بكارتها بالإصبع. وجب عليه أرش البكارة دون المهر. وقال أبو حنيفة: (يجب المهر فيهما).
ومن أصحابنا من قال - فيمن زنا بصغيرة لا تشتهى -: يجب المهر.
دليلنا: أنه لم يوجد الإيلاج في الفرج، ولا العقد، فأشبه إذا ضرب على ظاهر فرجها، فأزال البكارة.

.[فرع: ادعاء غصب العبد المباع]

وإن اشترى رجل من رجل عبداً، ثم ادعى آخر أن البائع غصب منه العبد:
فإن صدقه البائع والمشتري.. حكم ببطلان البيع، وسلم العبد إليه.
وإن صدقه البائع، وكذبه المشتري.. لم يقبل إقرار البائع في حق المشتري؛ لأن العبد قد صار ملكا له في الظاهر، وللمدعي إحلاف المشتري، فإن كان البائع قد قبض الثمن.. فليس للمشتري المطالبة به؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان لم يقبضه.. لم يكن له قبضه؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وهل يلزم البائع أن يغرم للمدعي قيمة العبد؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو.
ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم، قولا واحداً؛ لأنه قد حصل للبائع عوضه، وهو الثمن.
فإن صدقه المشتري، وكذبه البائع.. لزم المشتري تسليم العبد إلى المقر له؛ لأنه أقر بما في يده، فقبل إقراره، ولا يلزم البائع رد الثمن على المشتري إن كان قد قبضه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه به؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه.
وإن كذباه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، قولاً واحد؛ لأنه لو أقر به قبل إقراره، وأما البائع: فإن قلنا: لو أقر به لزمه أن يغرم قيمته.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر. وإن قلنا: لا يلزمه الغرم.. لم تلزمه اليمين.
وإن كان المشتري قد أعتقه، فإن صدقه البائع والمدعي.. لم يقبل إقرارهما في رق العبد؛ لأنه قد صار حرا في الظاهر، وهكذا: لو صدقه.. العبد أيضاً.. لم يحكم برقه؛ لأن حق الحرية فيه يتعلق بها حق الله تعالى، ولهذا لو شهد شاهدان للعبد بالعتق.. سمعت شهادتهما وإن اتفق السيد والعبد على الرق.
إذا ثبت هذا: فإن للسيد أن يرجع بقيمة عبده على من شاء من البائع أو المشتري، غير أنه إن رجع على البائع.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمة عبده من حين غصبه إلى حين العتق، وإن رجع على المشتري.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمته من حين قبضه إلى أن أعتقه، ولا يرجع المشتري على البائع بما غرم؛ لأنه أتلفه، ويرجع البائع على المشتري بما غرم من قيمته من حين قبضه المشتري إلى أن أعتقه.
وإن مات العبد وفي يده مال، ولا وارث له.. كان المال للذي أقر له برقه؛ لأن قولهما لم يثبت في العتق؛ لثبوت حق الله تعالى، وأما المال: فلا حق لسواهما فيه، فقبل إقرارهما فيه، فإن أقام المدعي بينة.. حكم له برق العبد، وحكم ببطلان العتق.

.[فرع: الإقرار بغصب المبيع في مدة الخيار]

قال ابن الصباغ: إذا باع عبدا بشرط الخيار، ثم أقر البائع في حال الخيار أنه غصبه من رجل، وصدقه المقر له، وكذبه المشتري.. حكم بصحة إقرار البائع؛ لأنه يملك الفسخ، فقبل إقراره بما يفسخ البيع.

.[فرع: ادعى بيع ما لا يملك وأنه ملكه بعد]

إذا باع رجل من رجل عينا، ثم ادعى البائع أنه باع ما لا يملكه، وأنه الآن ملكه، فأقام بينة بما ادعاه.. نظرت:
فإن قال البائع حين البيع: بعتك هذه العين وهي ملكي، أو أقر أنه يملك الثمن.. لم تسمع دعواه، ولا بينته؛ لأنه كذبه بإقراره السابق.
وإن قال: بعتك، وأطلق.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سمعت دعواه وبينته؛ لأنه قد يبيع ملكه وغير ملكه).

.[مسألة: غصب طعاما وأطعمه آخر]

وإن غصب من رجل طعاماً، وأطعمه آخر.. فللمالك أن يضمن الآكل؛ لأنه أتلفه، وله أن يضمن الغاصب؛ لأنه غصبه، ولأنه هو السبب لإتلاف الآكل له. فإن ضمن المالك الآكل.. فإنه يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين أتلفه، وهل للآكل أن يرجع على الغاصب بما ضمنه؟
إن علم الآكل أنه مغصوب بقول الغاصب أو غيره.. لم يرجع عليه بما غرم؛ لأن إتلافه له رضا بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب.. فهل يرجع الآكل بما غرمه عليه؟ فيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (يرجع عليه؛ لأنه غره، وأطعمه إياه على أن لا يضمن).
والثاني: قال في الجديد: (لا يرجع عليه). وهو الأصح؛ لأن التلف حصل بيده، فلم يرجع بما ضمنه على غيره.
فإن اختار المالك تضمين الغاصب.. فإنه يضمنه قيمة الطعام أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، وهل للغاصب أن يرجع على الآكل بقيمة الطعام من حين قبضه إلى أن أتلفه؟
إن علم الآكل أنه مغصوب.. رجع عليه الغاصب، قولا واحداً؛ لأنه رضي بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب، فإن قال الغاصب: كله، فهو لي، أو ملكي.. لم يرجع على الآكل، قولاً واحداً؛ لأنه أقر بأن المدعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه، وإن قدمه إليه وهو ساكت.. فهل يرجع عليه؟ على القولين:
قال في القديم: (لا يرجع عليه). وفي الجديد: (يرجع عليه).
وإن قال ـ لما قدمه إليه ـ: وهبت لك هذا الطعام.. قال الشيخ أبو حامد: لم يرجع عليه، قولاً واحدا؛ لأن تحت قوله: وهبت لك هذا الطعام، أنه ملكه، وأنه يملكه إياه بلا عوض، وأن المدعي له ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وقال ابن الصباغ: هي على قولين، كما لو قدمه إليه، ولم يقل شيئاً.

.[فرع: غصب طعاماً وأطعمه مالكه]

وإن غصب طعاماً، وأطعمه الغاصب المغصوب منه، فإن علم المغصوب منه أنه طعامه، ثم أكله.. برئ الغاصب من ضمانه؛ لأنه أتلف ماله، وإن لم يعلم أنه طعامه.. ففيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
أحدهما: يبرأ الغاصب من ضمانه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أتلف مال نفسه، فهو كما لو علم أنه طعامه.
والثاني: لا يبرأ؛ لأنه لم يرده إليه ردا تاماً؛ لأنه يأكله على أنه لغيره.

.[مسألة: غصب عينا ورهنها المالك فتلفت]

وإن غصب من رجل عيناً، ثم رهنها الغاصب عند المالك، أو أودعه إياها، أو أجرها منه، وتلفت عنده، فإن علم المالك أنها له قبل التلف.. برئ الغاصب من الضمان؛ لأن المالك قد رجع إليه ماله، وإن لم يعلم المالك.. ففيه قولان:
أحدهما: يبرأ الغاصب؛ لأن العين قد رجعت إلى يد مالكها.
والثاني: لا يبرأ؛ لأنها لم ترجع إليه على أنها ملكه.
وإن باعها الغاصب من المالك.. برئ الغاصب من ضمانها، سواء علم المالك أنها له أو لم يعلم؛ لأنه قد رضي بوجوب ضمانها عليه.
وإن وهبها الغاصب من المالك، وسلمها إليه، وأتلفها، ولم يعلم أنها له، فإن قلنا: إن الغاصب يبرأ إذا قدم إليه الطعام، فأكله، ولم يعلم أنه له.. فهاهنا أولى أن يبرأ، وإن قلنا في الطعام: لا يبرأ.. فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يبرأ الغاصب؛ لأنه لا يعلم أنها له، فهو كما لو أباحها له.
والثاني: يبرأ الغاصب؛ لأنه قد سلمها إليه تسليما تاماً، بخلاف الإباحة.

.[فرع: غصب عينا فرهنها المالك عنده]

وإن غصب عيناً، فرهنها المالك عند الغاصب، وأذن له بقبضها، فقبضها.. صارت رهناً، ولا يبرأ الغاصب من ضمانها إلا بتسليمها إلى المالك أو وكيله، وبه قال الثوري.
وقال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والمزني: (يزول عنه الغصب؛ لأنه أذن له في إمساكها، فزال عنه الضمان، كما لو أودعها إياه).
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده». وهذا ليس بردٍّ.
ولأن الرهن لا ينافي الضمان، كما لو رهنه عينا، وتعدى بها المرتهن.
وأما الوديعة، ففيها وجهان، وإن سلمنا.. فلأنها تنافي ضمان الغصب؛ لأنه متى تعدى فيها.. خرجت عن أن تكون وديعة، بخلاف الرهن.

.[فرع: غصب عبدا فقتله سيده أو وقفه]

ولو قتل السيد عبده في يد الغاصب.. برئ الغاصب من ضمانه. ولو قال الغاصب للمغصوب منه: اقتله، فقتله، ولم يعلم أنه عبده.. فهل يبرأ الغاصب من ضمانه؟ فيه وجهان، وهذان الوجهان كما لو قال: اعتقه، فعتقه، ولم يعلم أنه له. ولو أبرأ الغاصب من الضمان.. فهل يبرأ؟ فيه وجهان.
وإن وقفه السيد على أمر عام، كالقناطر، والمساجد.. قال الصيمري: سقط الضمان على الغاصب للسيد، وصار الضمان للقيم.

.[مسألة: حبس حرا فمات]

وإن حبس رجل حراً، ومات عنده من غير أن يمنعه الطعام والشراب.. فلا يجب عليه ضمانه، كبيراً كان أو صغيراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة، فإن استوفى الغاصب منافعه.. وجب عليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه منافعه، فهو كما لو أتلف عليه ماله، وإن لم يستوفها الغاصب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأن ما ضمن بالبدل في العقد الصحيح.. ضمن بالبدل في الغصب، كالمال.
والثاني: لا يجب عليه شيء؛ لأن منافعه تلفت تحت يده.

.[فرع: غصب كلباً منتفعاً به]

وإن غصب كلباً فيه منفعة.. وجب عليه رده إلى مالكه؛ لأنه يجوز الانتفاع به، فإن مات.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في (الغصب): هل تجب أجرته على الغاصب؟ فيه وجهان، بناء على جواز استئجاره. وذكر في (الإجارة): أن منفعته لا تضمن بالغصب. ولم يذكر الشيخ أبو حامد إلا وجهاً واحداً: أنه لا تضمن منفعته بالغصب.

.[مسألة: غصب خمراً أو خنزيرا]

إذا غصب من ذمي خمراً.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه ردها عليه.
وعلى قياس قوله: إذا غصب منه خنزيراً.. لزمه رده عليه؛ لأنه مقر على شرب الخمر، وأكل الخنزير.
وإن غصب الخمر من مسلم.. فهل يلزمه ردها عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ردها إليه؛ لأنه ربما أطفأ بها ناراً أو بل بها تراباً.
والثاني: لا يجب ردها إليه، بل يجب إراقتها؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة بإراقة خمر اليتامى».
وإن تلفت الخمر عنده، أو الخنزير، أو أتلفهما.. لم يجب عليه ضمانهما، سواء كانا لمسلم أو ذمي.
وقال أبو حنيفة: (إن كانا لذمي.. وجب عليه ضمانهما، فإن أتلفهما مسلم.. وجبت عليه قيمتهما، وإن أتلفهما ذمي.. وجب عليه مثل الخمر، وقيمة الخنزير).
دليلنا: أن كل ما لم يكن مضمونا بحق المسلم.. لم يكن مضمونا بحق الذمي، كالميتة، والدم. وعكسه: أن كل ما كان مضموناً في حق الذمي.. كان مضموناً في حق المسلم، كالثياب.
فإن صارت الخمر عند الغاصب خلا.. لزمه رده إلى من غصبه منه؛ لأنه عاد مالاً.

.[فرع: ألقى شاة ميتة فأخذ رجل جلدها]

وذكر الشيخ أبو حامد: إذا ماتت لرجل شاة، فطرحها على المزبلة، فأخذ رجل جلدها، ودبغه.. ملكه، وإن غصبه منه غاصب.. لزمه رده عليه، فإن دبغه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الملك للمغصوب منه، فلا يزول بالتعدي، كما لو غصب منه جرو كلب يريد تعليمه، فعلمه الغاصب.. فإن الملك فيه للمغصوب منه، وهو كما لو غصب منه خمراً، فاستحالت خلا في يد الغاصب.
والثاني: يكون ملكا للغاصب؛ لأن الملك فيه عاد بفعل الغاصب، بخلاف الخمر.

.[مسألة: فصل مزماراً أو صليباً من غير كسر]

وإن فصل رجل مزماراً، أو صليب نصراني من غير كسر.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن تالفه لا قيمة له، فإن كسره، فإن كان يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. وجب عليه ما نقص من قيمته بالكسر؛ لأنه أتلف ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف ما لا منفعة فيه.

.[مسألة: فتح قفص طائر فهرب]

إذا فتح قفصا عن طائر، أو حل رباط دابة، فخرجا.. نظرت:
فإن هيجهما عقيب الفتح والحل حتى خرجا.. ضمنهما؛ لأنه ألجأهما إلى الخروج، وإن لم يهيجهما إلى الخروج، بل وقفا ساعة لم يخرجا، ثم خرجا.. لم يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجب عليه الضمان).
دليلنا: أن الطائر والدابة لهما اختيار، بدليل: أنهما يتوقيان المكاره، وقد وجد منهما مباشرة، ومن الفاتح سبب، فتعلق الضمان بالمباشرة، كما لو حفر رجل بئراً، فطرح رجل نفسه فيها.
وإن لم يهيجهما إلى الخروج، ولا وقفا، بل خرجا عقيب الفتح.. فقد حكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا: إن كان أهاجهما الدنو منهما، أو فتح القفص، أو حل الشكال. وجب عليه الضمان، إذ لا فرق بين أن يهيجهما بنفسه، أو يحصل ذلك بفعله، وإن لم يوجد شيء من ذلك.. فلا ضمان عليه. وأكثر أصحابنا قالوا: هي على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه وجد منه سبب لا يلجئ، فهو كما لو وقفا، ثم خرجا.
والثاني: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك؛ لأن خروجه عقيب حله، فالظاهر أن الحل هو الذي ألجأه إلى الخروج، كما لو هيجه.
وإن فتح رجل باب آخر، أو هدم حائطه، فدخل آخر، فأخذ المال.. وجب الضمان على الآخذ دون الفاتح؛ لأن الفاتح صاحب سبب، والآخذ مباشر، فتعلق الضمان بالمباشر، كما لو حفر رجل بئراً وطرح فيها آخر رجلاً.
وإن فتح رجل باب رجل، فخرجت بهائمه، وأكلت زرع رجل.. لم يجب الضمان على الفاتح؛ لما ذكرناه، وإن كان الفاتح هو المالك للبهائم.. وجب عليه الضمان؛ لأنه يجب عليه حفظ بهائمه عن زرع غيره.